الشيخ الحسن بن أبي الحسن الديلمي
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ٢
ISBN: 4-5503-75-2
الصفحات: ٥٣٢
من كلام أمير المؤمنين عليه السلام
« ألا إن اللسان بضعة من الأنسان ، فلا يسعده القول إذا امتنع ، ولا يمهله النطق إذا اتسع ، وإنا لأمراء الكلام ، وفينا تنشبت (١) عروقه ، وعلينا تهدّلت غصونه. فاعلموا ـ رحمكم الله ـ أنكم في زمانٍ القائل فيه بالحق قليل ، واللسان عن الصدق كليل ، واللازم للحق ذليل ، أهله معتكفون على العصيان ، مصطلحون على الإدهان ، فتاهم عارم ، وشائبهم آثم ، وعالمهم منافق ، وقارئهم مماذق (٢) ، لا يعظّم صغيرهم كبيرهم ، ولا يعول غنيهم فقيرهم ».
وروى عليهالسلام قال : « قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : للمسلم على أخيه المسلم ثلاثون حقاً ، لا براءة له منها إلا بالأداء والعفو :
يغفر زلته ، ويرحم عبرته ، ويستر عورته ، ويقيل عثرته ، ويقبل معذرته ، ويرد غيبته ، ويديم نصيحته ، ويحفظ خلّته ، ويرعى ذمته ، ويعود مرضته ، ويشهد ميتته ، ويجيب دعوته ، ويقبل هديته ، ويكافئ صلته ، ويشكر نعمته ، ويحسن نصرته ، ويحفظ حليلته ، ويقضي حاجته ، ويشفع مسألته ، ويسمت عطسته ، ويرشد ضالّته ، ويرد سلامه ، ويطيب كلامه ، ويبر إنعامه ، ويصدق أقسامه ، ويوالي وليه ولا يعاديه ، وينصره ظالماً ومظلوماً ، فأمّا نصره ظالما فيردّه عن ظلمه ، وأما نصره مظلوماً فيعينه على أخذ حقه ، ولا يسلمه ، ولا يخذله ، ويحب له من الخير ما يحبه لنفسه ، ويكره له من الشر ما يكرهه لنفسه ».
ثم قال عليهالسلام : « سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآله يقول : إن أحدكم ليدع من حقوق أخيه شيئاً فيطالبه به يوم القيامة ، فيقضى له عليه » (٣).
وقال أمير المؤمنين عليهالسلام : « العفاف زينة الفقر ، والشكر زينة الغنى ، الصبر زينة البلاء ، التواضع زينة الحسب ، الفصاحة زينة الكلام ، العدل زينة الإمارة ، السكينة زينة العباد ، الحفظ زينة الرواية ، خفض الجناح زينة الحلم ، بذل المجهود زينة
__________________
١ ـ نشب الشيء في الشيء نشوباً أي علق فيه ونبت « الصحاح ـ نشب ـ ١ : ٢٢٤ ».
٢ ـ مماذق : غير مخلص « الصحاح ـ مذق ـ ٤ : ١٥٥٣ ».
٣ ـ كنز الفوائد : ١٤١.
المعروف ، الخشوع زينة الصلاة ، الإيثار زينة الزهد ، حسن الأدب زينة العقل ، بسط الوجه زينة الحكم ، ترك مالا يعني زينة الورع » (١).
وقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : « أعبد الناس من أقام الفرائض ، وأزهد الناس من اجتنب المحارم ، وأسخى الناس من أدى زكاة ماله ، وأتقى الناس من قال الحق فيما له وعليه ، وأعدل الناس من رضي للناس ما يرضى لنفسه وكره لهم ما يكره لنفسه ، وأكيس الناس من كان اشد الناس ذكراً للموت ، وأغبط الناس من كان في التراب في أمن من العذاب يرجو الثواب ، وأغفل الناس من لم يتّعظ بتغيّر الدنيا من حال إلى حال ، وأعظم الناس في الدنيا خطراً من لم يجعل للدنيا عنده خطراً ، وأعلم الناس من جمع علم الناس إلى علمه ، وأشجع الناس من غلب هواه ، وأكثر الناس قيمة أغزرهم علماً ، وأقل [ الناس ] (٢) لذة الحسود ، وأقل الناس راحة البخيل ، وأبخل الناس من بخل بما افترض الله عز وجل عليه ، وأولى الناس بالحق أعلمهم به ، وأقل الناس حرمة الفاسق ، وأقل الناس وفاءً الملوك ، وأفقر الناس الطَمِعُ ، وأغنى الناس من لم يكن للحرص أسيراً ، وأكرم الناس أتقاهم ، وأعظم الناس قدراً من ترك ما لا يعنيه ، وأورع الناس من ترك المراء وإن كان محقاً ، وأقلّ الناس مروءة من كان كاذباً ، وأمقت الناس المتكبّر ، وأشد الناس اجتهاداً من ترك الذنوب ، وأسعد الناس من خالط كرام الناس ، وأغفل الناس أشدّهم تهمة للناس ، وأولى الناس بالتهمة من جالس أهل التهمة ، وأظلم الناس من قتل غير قاتله أوضرب غير ضاربه ، وأولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة ، وأحقّ الناس بالذم السفيه المغتاب ، وأذلّ الناس من أهان الناس ، وأحزم الناس أكظمهم للغيض ، وأصلح الناس أصلحهم للناس ، وخير الناس من انتفع به الناس » (٣).
__________________
١ ـ كنز الفوائد : ١٣٨.
٢ ـ أثبتناه من كنز الفوائد.
٣ ـ كنز الفوائد : ١٣٨ ، وفيه : جاء في الحديث عن الأمام جعفر بن محمد الصادق عن أبيه ، عن جده ، عن أمير المؤمنين صلوات الله عليهم أجمعين أن رسول الله صلىاللهعليهوآله قال : أعبد الناس من أقام الفرائض ...
روي أن هذه الأبيات لأمير المؤمنين عليهالسلام
تخذتكم درعاً حصيناً لتمنعوا (١) |
|
سهام العدى عنّي فكنتم نصالها |
فإن أنتم لم تحفظوا لمودتي |
|
ذماماً فكونوا لا عليها ولا لها |
قفوا موقف المعذور عنّي بجانب |
|
وخلوا نبالي للعدى ونبالها (٢) |
* * *
__________________
١ ـ في كنز الفوائد : لتدفعوا
٢ ـ كنز الفوائد : ١٣٩.
من كلام رسول الله صلى الله عليه وآله
أنه خرج على أصحابه فقال : « أيها الناس ، اتقوا الله وارتحضوا (١) واستقيموا إليه ، فإن الإستقامة درجة بها كمال الأمور ونظامها ، وبوجودها حصول الخيرات وتمامها ، ومن لم يكن مستقيماً في حالته ضلّ سعيه وخاب جهده ، قال الله تعالى : واستقيموا إلى ربكم (٢) وقال سبحانه : ( ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً ) (٣) وقال سبحانه : ( ولا تتخذوا أيمانكم دخلاً بينكم فتزلّ قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء ) (٤) واعلموا ـ عباد الله ـ انه من لم يكن مستقيماً في صفته ، لم يرتق من حاله إلى غيرها ، ولم يتبين سلوكه على صحته ».
وقال بعض آل محمد عليهمالسلام : « أيّها الناس ، لا تخرجوا من عز التقوى إلى ذل المعصية ، ولا من أنس الطاعة إلى وحشة الخطيئة ، ولا تسروا لإخوانكم غشاً ، فإنه من أسرّ لأخيه المؤمن غشاً ، أظهره الله في صفحات وجهه وفلتات لسانه ، فأورثه الله الخزي في الدنيا ، والعذاب والندامة في الآخرة ، فأصبح من الأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ».
ولقد أحسن من قال :
العين تعلم من عيني محدثها |
|
إن كان من حزبها أو من معاديها |
وقال آخر :
إذا القوم أخفوك الذي في صدورهم |
|
من الغلّ أنبتك الوجوه العوابس |
وقال آخر أبياتاً موعظة :
أيابن آدم لا تلهيك عافية |
|
عليك مشمولة فالعمر معدود |
ما أنت إلا كزرع عند حضرته |
|
بكل شيء من الآفات مقصود |
فإن سلمت من الآفات أجمعها |
|
فأنت عند أوان الزرع محصود |
__________________
١ ـ رحض الثوب : غسله « القاموس المحيط ـ رحض ـ ٢ : ٣٣١ ».
٢ ـ كذا والظاهر أن المراد مضمون الآية ٦ من سورة فصلت : « انما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه ».
٣ ـ النحل ١٦ : ٩٢.
٤ ـ النحل ١٦ : ٩٤.
لا يعجبنك ملكهم إذ مُلِكُوا |
|
فالملك يفنى والنعيم يبيد |
وإذا رأيت جنازة محمولة |
|
فاعلم بأنك بعدها مفقود |
روى عن أويس القرني ـ رحمة الله عليه ـ قال لرجل سأله : كيف حالك؟فقال : كيف يكون حال من يصبح يقول : لا أمسي ، ويمسي يقول : لا أصبح ، يبشر بالجنة ولا يعمل عملها ، ويحذر النار ولا يترك ما يوجبها ، والله إن الموت وغصصه وكرباته ، وذكر هول المطلع ، وأهوال يوم القيامة ، لم تدع للمؤمن في الدنيا فرحاً ، وإن حقوق الله لم تبق لنا ذهباً ولا فضة ، وإن قيام المؤمن بالحق في الناس لم يدع له صديقاً ، نأمرهم بالمعروف وننهاهم عن المنكر ، فيشتمون أعراضنا ويرمونا بالجرائم والمعائب والعظائم ، ويجدون على ذلك أعواناً من الفاسقين إنه والله لا يمنعنا ذلك أن نقوم فيهم بحق الله.
ولقد صدق رحمهالله في قوله ، فإنه كان ولياً لله ، ولا تصح ولاية الله ورضى الناس ، فإن وليّ الله لا يداهن ولا ينافق ولا يراقب ولا تأخذه في الله لومة لائم ، وقل أن يبقى مع هذا له صديق ، بل لا أهل ولا ولد.
يقول العبد الفقير إلى رحمة ربه ورضوانه ، الحسن بن أبي الحسن الديلمي ، أعانه الله على طاعته ، وتغمده برأفته ورحمته ، ممل هذا الكلام المقدم : إن أعظم عرى الإيمان وأوثقها الموالاة في الله تعالى ، والمعاداة فيه جل وعز ، دلّ على ذلك قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تُلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق ) (١).
وقال سبحانه : ( ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما اُنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ) (٢).
وقال سبحانه : ( يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوماً غضب الله عليهم ) (٣).
وقال سبحانه : ( لاتجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حادّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أوعشيرتهم ... أولئك حزب الله الا ان حزب الله هم المفلحون ) (٤)
__________________
١ ـ الممتحنة ١٣ : ٦٠.
٢ ـ المائدة ٥ : ٨١ ، وقد كُررت هذه الآية بشكل مصحف بعد الآية ٢٢ من سورة المجادلة الآتية.
٣ ـ الممتحنة ٦٠ : ١٣.
٤ ـ المجادلة ٥٨ : ٢٢.
يقسم بالله ـ جل جلاله ـ مملي هذا الكتاب : إن أوثق وأنجح ما توخيته فيما بيني وبين الله عز وجل ، بعد المعرفة والولاية هذا المعنى ، ولقد فعل الله تعالى معي به كل خير ، وإن كان أكسبني العداوة من الناس ، فقد ألبسني ثوب الولاية لله تعالى ، لأن الله تعالى علم مني مراعاة هذا الأمر صغيراً وكبيراً ، وما عرّفني به معرفة صحيحة غير والدي رحمهالله فإنه قال لي يوماً من الأيام : يا ولدي ، أنت تريد الأشياء بيضاء نقية خالية من الغش من كل الناس ، وهذا أمر ما صحّ منهم لله ، ولا لرسوله ، ولا لأمير المؤمنين ، ولا لأولاده الأئمة عليهمالسلام ، ولا لأولياء الله كافة عليه وعليهم السلام ، فإذاً تعيش فريداً وحيداً غريباً فقيراً ، وكان الأمر كما قال ، ولست بحمد الله بندمان على ما فات ، حيث كان في ذلك حفاظ جنب الله تعالى ، وكفى به حسيباً ونصيراً.
* * *
وصية لقمان لولده
قال له : يا بني ، أقم الصلاة ، فإنما مثلها في دين الله كمثل عمود الفسطاط ، فإن العمود استقام نفعت الأطناب والأوتاد والظلال ، وإن لم يستقم لم ينفع وتد ولاطنب ولا ظلال.
أي بني ، صاحب العلماء ، وجالسهم وزُرهم في بيوتهم ، لعلك أن تشبههم فتكون منهم.
إعلم يا بني ، إني قد ذقت الصبر وأنواع المر ، فلم أجد أمرّ من الفقر ، فإذا افتقرت يوماً فاجعل فقرك بينك وبين الله ، ولا تحدث الناس بفقرك فتهون عليهم ، ثمسل في الناس : هل من أحد وثق بالله فلم ينجه!؟
يا بني ، توكل على الله ، ثم سل في الناس : من ذا الذي توكل على الله فلم يكفه!؟
يا بني ، أحسن الظن بالله ، ثم سل في الناس : من ذا الذي أحسن الظن بالله فلم يكن عند حسن ظنه به!؟
يا بني ، من يرد رضوان الله يسخط نفسه كثيراً ، ومن لا يسخط نفسه لا يرضي ربه ، ومن لا يكظم غيضه يشمت عدوه.
يا بني ، تعلّم الحكمة تشرف بها ، فإن الحكمة تدلّ على الدّين ، وتشرّف العبد على الحر ، وترفع المسكين على الغنيّ ، وتقدم الصغير على الكبير ، وتجلس المسكين مجالس الملوك ، وتزيد الشريف (١) شرفاً ، والسيد سؤوداً ، والغني مجداً ، وكيف يظن ابن آدم أن يتهيّأ له أمر دينه ومعيشته بغير حكمة؟ ولن يهيّىء (٢) الله عز وجل أمر الدنيا والآخرة إلا بالحكمة ، ومثل الحكمة بغير طاعة مثل الجسد بغير نفس ، ومثل الصعيد بغير ماء ، ولا صلاح للجسد بغير نفس ، ولا للصعيد بغير ماء ، ولا للحكمة بغير طاعة (٣).
قال كعب الأحبار : مكتوب في التوراة :
__________________
١ ـ في الأصل : الشرف ، وما أثبتناه من البحار.
٢ ـ في الأصل : يهنى ، وما أثبتناه من البحار.
٣ ـ رواه الكراجكي في كنز الفوائد : ٢١٤ ، وأخرجه المجلسي في البحار ٧٨ : ٤٥٨ / ٢٧ عن أعلام الدين.
يا موسى ، من أحبني لم ينسني ، ومن رجا معروفي ألَحَّ في مسألتي.
يا موسى ، إني لست بغافل عن خلتي ، ولكن أحب أن تسمع ملائكتي ضجيج الدعاء من عبادي ، وترى حفظتي تقرب بني آدم إليَّ ، بما أنا مقويهم عليه ومسببه لهم.
يا موسى ، قل لبني إسرائيل : لا تبطر بكم النعمة فيعاجلكم السلب ، ولا تغفلوا عن الشكر فينازعكم الذل ، وألحوا في الدعاء تشملكم الرحمة بالإجابة وتهنئكم العافية.
وروي في زبور داود يقول الله تعالى : يابن آدم ، تسألني فأمنعك لعلمي بما ينفعك ، ثم تلح علي بالمسألة فأعطيك ما سألت ، فتستعين به على معصيتي ، فأهم بهتك سترك فتدعوني أستر عليك ، فكم من جميل أصنع معك ، وكم قبيح تصنع معي؟ ويوشك أن أغضب عليك غضبة لا أرضى بعدها أبداً.
ومن الإنجيل : لا تدينوا وأنتم خطاة ، فيدان منكم بالعذاب.
لا تحكموا بالجور فيحكم عليكم بالعذاب ، بالمكيال الذي تكيلون يكال لكم ، بالحكم الذي تحكمون يحكم عليكم.
ومن الإنجيل أيضاً : إحذروا الكذابة الذين يأتونكم بلباس الحملان (١) ، وهم في الحقيقة ذئاب خاطفة ، من ثمارهم تعرفونهم ، لا يمكن الشجرة الطيبة أن تثمر ثماراً رديئة ، ولا الشجرة الرديئة أن تثمر ثماراً صالحة.
وروي عن علي بن الحسين : أنه دخل المسجد الحرام ، فرأى الحسن البصري وحوله جماعة من الناس وهو يعظهم ، وكان يعرف منه أن يرى رأي المعتزلة في تخليد من يعمل ذنباً كبيراً في النار ، فقال له علي بن الحسين : « يا هذا ، أنت على حال ترضى لنفسك معها الموت؟ »
فقال له : لا
فقال : « فأنت على ثقة من البقاء لوقت تدرك فيه التوبة؟ »
فقال : لا.
فقال له : « أفعند الموت نظرة؟ »
فقال له : لا
__________________
١ ـ الحملان : جمع حمل ، وهو الجذع من أولاد الضأن « القاموس المحيط ـ حمل ـ ٣ : ٣٦٢ ».
فقال له : « أفبعد الموت عمل؟ »
فقال : لا
فقال : « فعظ نفسك ، ودع الناس يطوفوا بهذا البيت الذي قد جاؤوا إليه من كل فج عميق ».
وقال رجل لعبد الملك بن مروان : اُناظرك وأنا آمن؟ قال : نعم ، فقال له : أخبرني عن هذا الأمر الذي صار إليك ، أبنص من الله ورسوله؟ قال : لا.
قال : فاجتمعت الأمة فتراضوا بك؟ فقال : لا
قال : فكانت لك بيعة في أعناقهم فوفوا بها؟ قال : لا
قال : فاختارك أهل الشورى؟ قال : لا
قال : أفليس قد قهرتهم على أمرهم ، واستأثرت بفيئهم دونهم؟ قال : بلى
قال : فبأي شيء سميت أمير المؤمنين ، ولم يؤمرك الله ولا رسوله ولا المسلمون؟
قال له : اُخرج عن بلادي وإلا قتلتك.
قال : ليس هذا جواب أهل العدل والإنصاف ، ثم خرج.
وروي أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عامله بخراسان : أن أوفد إليَّ من علماء بلادك مائة رجل ، أسألهم عن سيرتك ، فجمعهم وقال لهم ذلك ، فاعتذروا وقالوا : إن لنا عيالاً وأشغالاً لا يمكننا مفارقتها (١) ، وعدله لا يقتضي إجبارنا ، ولكن قد أجمعنا على رجل منا ، يكون عوضنا عنده ، ولساننا لديه ، فقوله قولنا ، ورأيه رأينا ، فأوفد به العامل إليه.
فلما دخل عليه سالم وجلس ، فقال له : أخلِ لي المجلس ، فقال له : ولم ذلك؟ وأنت لا تخلو أن تقول حقاً فيصدقوك ، أو تقول باطلاً فيردوك ، فقال له : ليس من أجلي اُريد خلو المجلس ولكن من أجلك ، فإنّي أخاف أن يدور بيننا كلام تكره سماعه.
فأمر بإخراج أهل المجلس ثم قال له : قل ، فقال : أخبرني عن هذا الأمر من أين صار إليك؟ فسكت طويلاً فقال له : ألا تقول؟ فقال : لا ، فقال : ولم؟ فقال له : إنقلت : بنص من الله ورسوله كان كذباً ، وإن قلت : باجماع من المسلمين قلتَ : فنحن أهل بلاد المشرق ، ولم نعلم بذلك ولم نجمع عليه ، وإن قلت : بالميراث من آبائي ،
__________________
١ ـ في الأصل : مفارقته ، وما أثبتناه هو الصواب.
قلتَ : بنو أبيك كثير ، فلم تفردت أنت به دونهم؟
فقال له : الحمد لله على اعترافك على نفسك بالحق لغيرك ، فأرجع إلى بلادي فقال : لا ، فو الله إنك لواعظ فظ. فقال له : فقل ما عندك بعد ذلك ، فقال له : رأيت أن من تقدمني ظلم وغشم وجار واستأثر بفيء المسلمين ، وعلمت من نفسي أني لا أستحل ذلك ، وأن المؤونة بولايتي تكون أنقص وأخف عليهم فوليت ، فقال له : أخبرني ، لو لمتلي هذا الأمر ، ووليه غيرك وفعل ما فعل من كان قبله ، اكان يلزمك من إثمه شيء؟
فقال : لا ، فقال له : فأراك قد شريت راحة غيرك بتعبك ، وسلامته بخطرك ، فقال له : والله إنك لواعظ فظ ، فقام ليخرج ثم قال له : والله ، لقد هلك أولنا بأولكم ، وأوسطنا بأوسطكم ، وسيهلك اخرنا بآخركم ، والله المستعان عليكم ، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
* * *
يقول العبد الفقير إلى رحمة ربه ورضوانه ، الحسن بن أبي الحسن الديلمي ، أعانه الله على طاعته ، وتغمده برأفته ورحمته : إنني حيث سمعت عن النبي صلىاللهعليهوآله يقول : « من حفظ عني أربعين حديثاً حشره الله مع النبيين؟ الصديقين والشهداء والصالحين وحسن اُولئك رفيقا » رغبني ذاك أن أحفظ مائة وأربعين حديثاً ، أولها الأربعون حديثاً التي رواها ابن ودعان (١) ، بحذف الإسناد المذكور في كتب الأحاديث.
الحديث الأول عن أنس بن مالك قال : خطبنا رسول الله صلىاللهعليهوآله على ناقته العضباء فقال :
« أيها الناس ، كأنّ الموت فيها على غيرنا كتب ، وكأنّ الحق على غيرنا وجب ، وكأن الذين نشيع من الأموات سفر عمّا قليل إلينا راجعون ، نبوئهم أجداثهم ونأكل تراثهم ، كأنا مخلّدون بعدهم ، قد نسينا كلّ واعظة ، وأمِنّا كل جائحة (٢) ، طوبى لمن أنفق ما اكتسبه من غير معصية ، وجالس أهل الفقه والحكمة ، وخالط (٣) أهل الذلة والمسكنة ، طوبى لمن ذلت نفسه ، وحسنت خليقته ، وصلحت سريرته ، وعزل عن الناس شره ، طوبى لمن أنفق الفضل من ماله ، وأمسك الفضل من قوله ، ووسعته السنّة ولم تستهوه البدعة » (٤).
الثاني : عن خليفة (٥) بن الحصين قال : سمعت قيس بن عاصم المنقري يقول : قدمت على رسول الله صلىاللهعليهوآله ، في وفد من جماعة بني تميم ، فقال لي :
__________________
١ ـ هو محمد بن علي بن عبيد الله بن أحمد بن صالح بن سليمان بن ودعان الموصلي ، أبو نصر قاضي الموصل. ولد في ليلة النصف من شعبان من سنة ٤٠١ هـ وتوفي سنة ٤٩٤ هـ عقب رجوعه من بغداد. اُنظر « ميزان الاعتدال ٣ : ٦٥٧ ، لسان الميزان ٥ : ٣٠٥ ، أعلام الزركلي ٦ : ٢٧٧ ، كشف الظنون ١ : ٦٠ ».
٢ ـ الجائحة : الآفة التي تهلك الثمار وتستأصلها ، وكل مصيبة عظيمة وفتنة مبيرة جائحة « مجمع البحرين ـ ٢ : ٣٤٧ ».
٣ ـ في الأصل : خالف ، وما أثبتناه من البحار.
٤ ـ البحار ٧٧ : ١٧٥ / ١٠ عن أعلام الدين.
٥ ـ في الأصل والبحار : علقمة ، تصحيف صحته ما في المتن ، وهو خلفية بن حصين بن قيس بن عاصم الميمي المنقري ، روى عن أبيه حصين بن قيس وجده قيس بن عاصم وعلي بن أبي طالب عليهالسلام اُنظر « تهذيب التهذيب ٣ : ١٥٩ ».
« اغتسل بماء وسدر » ففعلت ثم عدت إليه ، وقلت : يا رسول الله عظنا عظة ننتفع بها. فقال : « يا قيس ، إن مع العز ذلاً ، وإن مع الحياة موتاً ، وإن مع الدنيا آخرة ، وان لكلّ شيء حسيباً ، وعلى كل شيء رقيباً ، وإن لكل حسنة ثواباً ، ولكلّ سيئة عقابا ، وإن لكل أجل كتاباً.
وإنه ـ يا قيس ـ لابد لك من قرين ، يدفن معك وهو حيُّ وتدفن معه وأنت ميت ، فإن كان كريماً أكرمك ، وإن كان لئيماً أسلمك ، ثم لا يجشر إلا معك ، ولا تحشر إلا معه ، ولا تسأل إلا عنه ، ولا تبعث إلا معه ، فلا تجعله إلا صالحاً ، فإنه [ إن ] (١) كان صالحاً لم تأنس إلا به ، وإن كان فاحشاً لم تستوحش إلا منه وهو عملك ».
فقال قيس : يا رسول الله ، لو نظم هذا شراً لا فتخرنا به على من يلينا من العرب ، فقال رجل من أصحابه ، يقال له الصلصال (٢) : قد حضر فيه شيء يا رسول الله ، أفتأذن لي بإنشاده ، فقال : « نعم » فأنشأ يقول :
تخير قريناَ من فعالك إنما |
|
قرين الفتى في القبر ما كان يفعلُ |
فلابدّ للأنسان من أن يعدّه |
|
ليوم ينادي المرء فيه فيقبلُ |
فإن كنت مشغولاً بشيء فلاتكن |
|
بغير الذي تُرضي به الله تشغلُ |
فما يصحب الإنسان من بعد موته |
|
ومن قبله إلا الذي كان يعل |
ألا إنما الإنسان ضيف لأهله |
|
يقيم قليلاً عندهم ثم يرحل (٣) |
وقال العبد الفقير إلى رحمة ربه ورضوانه ، الحسن بن أبي الحسن الديلمي ، أعانه الله على طاعته ، وتغمده برأفته ورحمته ، مُملّ هذه الأحاديث النبوية في المعنى :
تخير قريناً من فعالك صالحاً |
|
يعنك على هول القيامة والقبر |
ويسعى به نوراً لديك ورحمة |
|
تعمّك يوم الروع في عرصة الحشر |
وتأتي به يوم التغابن آمناً |
|
أمانك في يمناك من روعة النشر |
فما يصحب الإنسان من جلّ ماله |
|
سوى صالح الأعمال أوخالص البر |
__________________
١ ـ أثبتناه من البحار.
٢ ـ هو الصلصال بن الدلهمس بن جندلة بن المحتجب بن الأعز ، أبو الغضنفر ، قال ابن حبان : له صحبة ، وذكر ابن الجزري ما في المتن من انشاده الشعر في حضرة رسول الله (ص) اُنظر « الإصابة في تمييز الصحابة ٢ : ١٩٣ ، اُسد الغابة ٣ : ٢٨ ».
٣ ـ البحار ١٧٥ : ٧٧ عن أعلام الدين.
بهذا أتى التنزيل في كل سورة |
|
يفصّلها رب الخلائق في الذكر |
وفي سنّة المبعوث للناس رحمة |
|
سلام عليه بالعشي وفي الفجر |
حديث رواه ابن الحصين خليفة |
|
يحدثه قيس بن عاصم ذو الوفر |
يجوز في النحو عند الكوفيين ترك صرف مالا ينصرف ذو الوفر (١).
الحديث الثالث : عن أبي الدرداء قال : خطبنا رسول الله صلىاللهعليهوآله يوم جمعة ، فقال : « يا أيها الناس ، توبوا إلى الله قبل أن تموتوا ، وبادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تشتغلوا ، وأصلحوا الذي بينكم وبين ربكم تسعدوا ، وأكثروا من الصدقة ترزقوا ، وَأمروا بالمعروف تحصّنوا ، وانهوا عن المنكر تنصروا.
يا أيها الناس ، إن أكيسكم أكثركم ذكراً للموت ، وإن أحزمكم أحسنكم استعداداً له ، ألا وإن من علامات العقل التجافي عن دار الغرور ، والإنابة إلى دارالخلود ، والتزوّد لسكنى القبور ، والتأهب ليوم النشور » (٢).
الرابع : عن ابن عباس رضياللهعنه قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآله ، يقول في خطبته : « أيها الناس ، إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم ، وإنّ لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم ، إنّ المؤمن بين مخافتين : يوم قد مضى لا يدري ما الله قاض فيه ، ويوم قد بقى لا يدري ما الله صانع به ، فليأخذ العبد لنفسه من نفسه ، ومن دنياه لآخرته ، ومنشبابه لهرمه ، ومن صحّته لسقمه ، ومن حياته لوفاته ، فو الذي نفسي بيده ، ما بعد الموتمن مستعتب ، ولا بعد الدنيا من دار إلا الجنة أوالنار » (٣).
الحديث الخامس : عن أبي سعيد الخدري قال : خطبنا رسول الله صلىاللهعليهوآله قال في خطبته : « لا عيش إلا لعالم ناطق ، أومستمع واع.
أيها الناس ، إنكم في زمان هدنة ، وإن السير بكم سريع ، وقد رأيتم الليل والنهار ، كيف يبليان كل جديد! ويقربان كل بعيد! ويأتيان بكل موعود! »
فقال له المقداد : يا نبي الله ، وما الهدنة؟
فقال : « دار بلاء وانقطاع ، فإذا التبست عليكم الاُمور كقطع الليل المظلم ، فعليكم بالقرآن ، فإنه شافع مشفع ، وصادق مصدّق ، من جعله أمامه قاده إلى الجنة ،
__________________
١ ـ كذا في الأصل.
٢ ـ البحار ٧٧ : ١٦٧ عن أعلام الدين.
٣ ـ البحار ٧٧ : ١٧٧ عن أعلام الدين.
ومن جعله خلفه ساقه إلى النار ، وهو أوضح دليل إلى خير سبيل ، من قال به صدق ، ومن عمل به أجر ، ومن حكم به عدل » (١).
الحديث السادس : عن نافع ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : « لا يكمل عبد الإيمان بالله حتى تكون فيه خمس خصال : التوكل على الله ، والتفويض إلى الله ، والتسليم لأمر الله ، والرضا بقضاء الله ، والصبر على بلاء الله ، إنه من أحبّ في الله ، وأبغض في الله ، وأعطى لله ، ومنع لله ، فقد استكمل الإيمان » (٢).
الحديث السابع : عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآله يقول في خطبته : « أيها الناس ، إن العبد لا يكتب من المسلمين حتى يسلم الناس من يده ولسانه ولا ينال درجة المؤمنين حتى يأمن أخوه بوائقه (٣) ، وجاره بوادره (٤) ، ولا يعدّ من المتقين حتى يدع مالا بأس به حذار ما به الباس (٥).
أيها الناس ، إنه من خاف البيات (٦) أدلج (٧) ، ومن أدلج المسير وصل ، وإنّما تعرفون عواقب أعمالكم لو قد طويت صحائف آجالكم.
أيها الناس ، إن نية المؤمن خير من عمله ، ونية الفاسق شر من عمله » (٨).
الحديث الثامن : عن ابن عباس رضياللهعنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : « من انقطع إلى الله كفاه كل مؤونة ، ومن انقطع إلى الدنيا وكله الله إليها ، ومن حاول أمراً بمعصية الله كان أبعد له ممّا رجا وأقرب مما أبقى ، ومن طلب محامد الناس بمعاصي الله عاد حامده منهم ذاماً ، ومن أرضى الناس بسخط الله وكله الله إليهم ، ومن أرضى الله بسخط الناس كفاه الله شرهم ، ومن أحسن ما بينه وبين الله كفاه الله ما بينه وبين الناس ، ومن أحسن سريرته أصلح الله علانيته ، ومن عمل لآخرته كفاه
__________________
١ ـ البحار ٧٧ : ١٧٧ عن أعلام الدين.
٢ ـ البحار ٧٧ : ١٧٧ عن أعلام الدين.
٣ ـ البوائق : جمع بائقة ، وهي الداهية والشر (القاموس المحيط ـ بوق ـ ٣ : ٢١٥).
٤ ـ البوادر : جمع بادرة ، وهي ما يصدر عن الإنسان في حدة الغضب من قول أوفعل (القاموس المحيط ـ بدر ـ ١ : ٣٦٩).
٥ ـ في ألأصل : الناس ، وما أثبتناه من البحار.
٦ ـ البيات : الشر الذي يقع في الليل (القاموس ـ بيت ـ ١ : ١٤٤).
٧ ـ أدلج : سار أول الليل (القاموس ـ دلج ـ ١ : ١٨٩).
٨ ـ البحار ٧٧ : ١٧٧ عن أعلام الدين.
الله أمر دنياه » (١).
التاسع : عن نافع ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : رحم الله عبداً تكلم فغنم ، أو سكت فسلم ، إنّ اللسان أملك شيء للانسان ، ألا وإن كلام العبد كله عليه ، إلا ذكر الله تعالى ، أو أمر بمعروف ، أو نهى عن منكر ، أو إصلاح بين مؤمنين ».
فقال له معاذ بن جبل : يا رسول الله ، أنؤاخذ بما نتكلم به؟
فقال : « وهل تكب الناس على مناخرهم فى النار إلا حصائد ألسنتهم! فمن أراد السلامة فليحفظ ما جرى به لسانه ، ويحرس ما انطوى عليه جنانه ، ويحسن عمله ، وليقصر أمله ».
ثم لم يمض إلا أيام حتى نزلت هذه الآية ( لا خير في كثير من نجواهم الا مَن أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ) (٢) (٣).
الحديث العاشر : عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : « لا تسبوا الدنيا فنعمت مطية المؤمن ، فعليها يبلغ الخير ، وبها ينجو من الشر ، إنه إذا قال العبد : لعن الله الدنيا ، قالت الدنيا : لعن الله أعصانا لربه ».
فأخذ الشريف الرضي هذا المعنى فنظمه بيتاً :
يقولون الزمان به (٤) فساد |
|
فهم فسدوا وما فسد الزمان (٥) |
الحديث الحادي عشر : عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله « أكثروا من ذكر هادم اللذات ، فإنكم إن كنتم في ضيق وسعه عليكم ، فرضيتم به فأجرتم ، وإن كنتم في غنىً بغضه إليكم فجدتم به فأثبتم ، إن المنايا قاطعات الآمال ، والليالي مدنيات الآجال ..... (٦) لا يدري لعله لا يصل إليه ، إن العبد عند خروج نفسه وحلول رمسه ، يرى جزاء ما قدم ، وقلّة غناء ما خلف ، ولعله من حق منعه ، ومن
__________________
١ ـ البحار ٧٧ : ١٧٨ عن أعلام الدين.
٢ ـ النساء ٤ : ١١٤.
٣ ـ البحار ٧٧ : ١٧٨ عن أعلام الدين.
٤ ـ في الأصل : بهم ، وما أثبتناه من البحار.
٥ ـ بحار الأنوار ٧٧ : ١٧٨ عن أعلام الدين.
٦ ـ في المخطوطة عبارة غير مقروءة ذهب بها المقص.
باطل جمعه » (١).
الحديث الثاني عشر : عن ابن عباس رضياللهعنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : « أيها الناس ، إن الرزق مقسوم ، لن يعدوا امرؤ ما قسم له ، فأجملوا في الطلب ، وإنّ العمر محدود ، لن يتجاوز أحد ما قدّر له ، فبادروا قبل نفاذ الأجل ، والأعمال محصية » (٣).
قال السيد : الوجه في محصاة لن يهمل منها صغيرة ولا كبيرة ، فأكثروا من صالح العمل.
« أيها الناس ، إن في القنوع لسعة ، وإن في الإقتصاد لبلغة ، وإن في الزهد لراحة ، وإن لكل عمل جزاء ، وكل آت قريب ».
الحديث الثالث عشر : عن أنس بن مالك قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول في بعض خطبه أو مواعظه : « أما رأيتم المأخوذين على الغرّة ، والمزعجين بعد الطمأنينة!؟ الذين أقاموا على الشبهات ، وجنحوا إلى الشهوات ، حتى أتتهم رسل ربهم ، فلا ما كانوا أضلوا أدركوا ، ولا إلى ما فاتهم رجعوا ، قدموا على ما عملوا ، وندموا على ما خلفوا ، ولن يغني الندم ، وقد جفّ القلم ، فرحم الله امرءاً قدّم خيراً ، وأنفق قصداً ، وقال صدقاً ، وملك دواعي شهوته ولم تملكه ، وعصى أمر نفسه فلم تهلكه (٣) » (٤).
الحديث الرابع عشر : عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : « أيها الناس ، لا تعطوا الحكمة غير أهلها فتظلموها ، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم ، ولا تعاقبوا ظالماً فيبطل فضلكم ، ولا تراؤا الناس فيحبط عملكم ، ولا تمنعوا الموجود فيقلّ خيركم.
أيها الناس ، إنّ الأشياء ثلاثة : أمر استبان رشده فاتّبعوه ، وأمر استبان غيّه فاجتنبوه ، وأمر اختلف عليكم فردّوه إلى الله.
أيها الناس ، ألا اُنبئكم بأمرين ، خفيف مؤنتهما ، عظيم أجرهما ، لم يلق الله
__________________
١ ـ ذكره المصنف في ارشاد القلوب : ٤٨ ، وأخرجه المجلسي في البحار ٧٧ : ١٧٩ عن أعلام الدين ، وفيهما مثل ما في المتن من نقص.
٢ ـ البحار ٧٧ : ١٧٩ عن أعلام الدين.
٣ ـ في البحار : فلم تملكه.
٤ ـ أخرجه المجلسي في البحار ٧٧ : ١٧٩ عن أعلام الدين.
بمثلهما : طول الصمت ، وحسن الخلق » (١).
الحديث الخامس عشر : عن ابن عمر قال : خطبنا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم خطبة ، ذرفت منها العيون ، ووجلت منها القلوب ، فكان ممّا ضبطت منها :
« أيها الناس ، إن أفضل الناس من تواضع عن رفعة ، وزهد عن غُنية ، وأنصف عن قوة ، وحلم عن قدرة ، ألا وإن أفضل الناس عبد أخذ من الدنيا الكفاف ، وصاحب فيها العفاف ، وتزوّد للرحيلَ ، وتأهب للمسير ، ألا وإنّ أعقل الناس عبد عرف ربه فأطاعه ، وعرف عدوه فعصاه ، وعرف دار إقامته فأصلحها ، وعرف سرعة رحيله فتزوّد لها ، ألا وإنّ خير الزاد ما صحبه التقوى ، وخير العمل ما تقدّمته النية ، وأعلى الناس منزلة عند الله أخوفهم منه » (٢).
الحديث السادس عشر : عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : « إنما يؤتى الناس يوم القيامة من إحدى ثلاث : إما من شبهة في الدين ارتكبوها ، أو لشهوة للذة آثروها ، أوعصبية لِحَمِيَّةٍ أعملوها ، فإذا لاحت لكم شبهة في الدين فاجلوها باليقين ، وإذا عرضت لكم شهوة فاقمعوها بالزهد ، وإذا عَنَّت لكم غضبة فادروها بالعفو ، إنه ينادي مناد يوم القيامة : من كان له على الله أجر فليقم ، فلا يقوم إلا العافون ، ألم تسمعوا قوله تعالى ( فمن عفا وأصلح فأجره على الله ) (٣) » (٤).
السابع عشر : قال عبد الله بن مسعود : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : « قال الله تعالى : ابن آدم ، يؤتى كل يوم برزقك وأنت تحزن ، وينقص كل يوم من عمرك وأنت تفرح ، أنت فيما يكفيك ، وتطلب ما يطغيك (٥) ، لا بقليل تقنع ، ولا من كثير تشبع » (٦).
الحديث الثامن عشر : عن أبي هريرة قال : بينا رسول الله صلىاللهعليهوآله جالس ، إذ رأيناه ضاحكاً حتى بدت ثناياه ، فقلنا : يا رسول الله ، ممّا ضحكت؟
__________________
١ ـ البحار ٧٧ : ١٧٩ عن أعلام الدين.
٢ ـ البحار ٧٧ : ١٧٩ عن أعلام الدين.
٣ ـ الشورى ٤٢ : ٤٠.
٤ ـ البحار ٧٧ : ١٨٠ عن أعلام الدين.
٥ ـ في الأصل : ما يطيعك ، وما أثبتناه من البحار.
٦ ـ البحار ٧٧ : ١٨٠ عن أعلام الدين.
فقال : « رجلان من أمتي ، جثيا بين يدي ربي ، فقال أحدهما : يا رب ، خذلي بمظلمتي من أخي. فقال الله تعالى : أعط أخاك مظلمته ، فقال : يا رب ، لم يبق من حسناتي شيء ، فقال : يا رب ، فليحمل عنّي (١) من أوزاري ».
ثم فاضت عينا رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وقال : « إن ذلك اليوم ليوم يحتاج الناس فيه إلى من يحمل عنهم من أوزارهم.
ثم قال الله تعالى للطالب بحقه : ارفع بصرك إلى الجنة ، فانظر ماذا ترى؟ فرفع رأسه ، فرأى ما أعجبه من الخير والنعمة ، فقال : يا رب ، لمن هذا؟ فقال : لمن أعطاني ثمنه ، فقال : يا رب ، ومن يملك ثمن ذلك؟ فقال : أنت ، فقال : كيف لي بذلك؟فقال : بعفوك عن أخيك. فقال : يا رب ، قد عفوت فقال الله تعالى : فخذ بيد أخيك فادخلا الجنة. ثم قال رسول الله : فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم » (٢).
التاسع عشر : عن أنس بن مالك قال : قالوا : يا رسول الله صلىاللهعليهوآله من أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولاهم يحزنون؟ فقال : « الذين نظروا إلى باطن الدنيا ، حين نظر الناس إلى ظاهرها ، فاهتمّوا بآجلها حين اهتم الناس بعاجلها ، فأماتوا منها ما خشوا أن يميتهم ، وتركوا منها ما علموا أن سيتركهم ، فما عرض لهم منها عارض إلا رفضوه ، ولا خادعهم من رفعتها خادع إلا وضعوه ، أخلقت الدنيا عندهم فما يجدّدونها ، وخربت بينهم فما يعمرونها ، وماتت في صدورهم فما يحيونها ، بل يهدمونها فيبنون بها آخرتهم ، ويبيعونها فيشترون بها ما يبقى لهم ، نظروا إلى أهلها صرعى قد حلّتبهم المثلات ، فما يرون أماناً دون ما يرجون ، ولا خوفاً دون ما يجدون » (٣).
الحديث العشرون : عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآله ، يقول « إنما انتم خلفُ ماضين ، وبقية متقدمين ، كانوا اكثر منكم بسطة ، وأعظم سطوة ، فازعجوا عنها أسكن ما كانوا إليها ، وغدرت بهم وأُخرجوا منها أوثق ما كانوا بها ، فلم يمنعهم قوة عشيرة ، ولا قُبل منهم بذل فدية ، فارحلوا انفسكم بزاد مبلّغ قبل أن تؤخذوا على فجأة وقد غفلتم عن الإستعداد » (٤).
__________________
١ ـ ليس في البحار.
٢ ـ البحار ٧٧ : ١٨٠ عن أعلام الدين.
٣ ـ البحار ٧٧ : ١٨١ عن أعلام الدين.
٤ ـ البحار ٧٧ : ١٨١ عن أعلام الدين.
الحادي والعشرون : عن سالم بن عبد الله ، عن ابن عمر قال : قال لي رسول الله صلىاللهعليهوآله : « كن في الدنيا كأنك غريب أوعابر سبيل ، واعدد نفسك في الموتى ، وإذا أصبحت فلا تحدّث نفسك بالمساء ، وإذا أمسيت فلا تحدّث نفسك بالصباح ، وخذمن صحتك لسقمك ، ومن شبابك لهرمك ، ومن حياتك لوفاتك ، فإنك لا تدري ما اسمك غداً » (١).
الثاني والعشرون : عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في بعض خطبه أو مواعظه : « أيها الناس ، لا تشغلنكم دنياكم عن آخرتكم ، فلا تؤثروا أهواءكم على طاعة ربكم ، ولا تجعلوا إيمانكم ذريعة إلى معاصيكم ، وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، ومهّدوا لها قبل أن تعذّبوا ، وتزودوا للرحيل قبل أن تزعجوا ، فإنما هوموقف عدل ، واقتضاء حق ، وسؤال عن واجب ، وقد أبلغ في الإعذار من تقدّم بالإنذار » (٢).
الثالث والعشرون : عن أبي سعيد الخدري قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول ـ عند منصرفه من اُحد ، والناس محدقون به ، وقد أسند ظهره ، إلى طلحة ـ : « أيها الناس ، أقبلوا على ما كلّفتموه (٣) من إصلاح اخرتكم ، واعرضوا عمّا (٤) ضمن لكم من دنياكم ، ولا تستعملوا جوارحاً غُذّيت بنعمته في التعرض لسخطه بمعصيته (٥) ، واجعلوا شغلكم في التماس مغفرته ، واصرفوا همتكم بالتقرب إلى طاعته ، إنهمن بدأ بنصيبه من الدنيا فاته نصيبه من الآخرة ، ولم يدرك منها ما يريد ، ومن بدأ بنصيبه من الآخرة وصل إليه من الدنيا » (٦).
الرابع والعشرون : عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : « إياكم وفضول المطعم ، فإنه يسم القلب بالقسوة ، ويبطئ بالجوارح عن الطاعة ، ويصم الهمم عن سماع الموعظة ، وإياكم وفضول النظر ، فإنه يبذر الهوى ،
__________________
١ ، ٢ ـ البحار ١٨١ : ٧٧ عن أعلام الدين.
٣ ـ في الأصل كلفتموه ، وما أثبتناه من البحار.
٤ ـ في الأصل : عمن ، وما أثبتناه من البحار.
٥ ـ في البحار : بنقمته.
٦ ـ البحار ٧٧ : ١٨٢ عن أعلام الدين.
ويولد الغفلة ، وإياكم واستشعار الطمع ، فإنه يشوب القلب شدّة الحرص ، ويختم على القلوب بطبائع حب الدنيا ، وهو مفتاح كل سيئة ، ورأس كل خطيئة ، وسبب إحباط كل حسنة » (١).
الخامس والعشرون : عن عبد الله بن عمر قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول : « إنما هو خير يرجى ، أو شر يتقى ، أو باطل عُرف فاجتنب ، أو حق تيقن فطلب ، وآخرة أظلّ إقبالها فسُعي لها ، ودنيا عرف نفادها فأعرض عنها ، وكيف يعمل للآخرة ، من لا تنقطع من الدنيا رغبته ، ولا تنقضي فيها شهوته ، إن العجب كل العجب لمن صدّق بدار البقاء ، وهو يسعى لدار الفناء! وعرف أنّ رضى الله في طاعته ، وهو يسعى في مخالفته! » (٢).
السادس والعشرون : عن أبي أيوب الأنصاري قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول : « حَلّوا أنفسكم الطاعة ، وألبسوها قناع المخافة ، واجعلوا آخرتكم لأنفسكم ، وسعيكم لمستقركم ، واعلموا أنكم عن قليل راحلون ، وإلى الله صائرون ، ولا يغني عنكم هنالك إلا صالح عمل قدمتموه ، وحسن ثواب أحرزتموه ، فإنكم إنما تقدمون على ما قدّمتم ، وتجازون على ما أسلفتم ، فلا تخد عنّكم زخارف دنيا دنية ، عن مراتب جنات عَلِيّة ، فكأن قد انكشف القناع ، وارتفع الإرتياب ، ولاقىّ كل أمريء مستقره ، وعرف مثواه ومنقلبه » (٣).
السابع والعشرون : عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ في خطبة ـ : « لا تكونوا ممن خدعته العاجلة ، وغرته الاُمنية ، فاستهوته الخدعة ، فركن إلى دار سوء ، سريعة الزوال وشيكة الانتقال ، إنه لم يبق من دنياكم هذه في جنب ما مضى إلا كإناخة راكب ، أو صّر حالب (٤) ، فعلام تعرجون ، وماذا تنتظرون ، فكأنكم ـ والله ـ وما أصبحتم فيه من الدنيا لم يكن ، وما تصيرون إليه من الآخرة لم يزل ، فخذوا الاُهبة لأزوف (٥) النقلة ، وأعدّوا الزاد لقرب الرحلة ، واعلموا أنّ كل
__________________
١ ـ البحار ٧٧ : ١٨٢ عن أعلام الدين.
٢ ـ أخرجه المجلسي في البحار ٧٧ : ١٨٢ عن أعلام الدين.
٣ ـ البحار ٧٧ : ١٨٢ عن أعلام الدين.
٤ ـ صر الحالب الناقة : عادة عندهم يصرّون ضرع الناقة الحلوب إذا أرسلوها إلى المرعى فإذا راحت إليهم عشياً حلوا الصرار وحلبوها. « لسان العرب ـ صرر ـ ٤ : ٤٥١ ».
٥ ـ يقال ازِفَ شخوص فلان أزفاً وأزوفاً : أي قرب « مجمع البحرين ـ أزف ـ ٥ : ٢٣ ».