سعة ، لا ترى مثله ! فسقط المتوكل لوجهه ، وسقط السيف من يده ، وأنا أسمعه يقول : يا مولاي ويا ابن عمي ، أقلني أقالك الله ، وأنا أشهد أنك على كل شئ قدير ! فأشار مولاي بيده إلى الثعبان فغاب ، ونهض وقال : ويلك ذلك الله رب العالمين . فحمدنا الله وشكرناه » .
٩. لقد فاخرتنا من قريش عصابةٌ :
« دخل عليهالسلام يوماً على المتوكل فقال : يا أبا الحسن من أشعر الناس ، وكان قد سأل قبله ابن الجهم فذكر شعراء الجاهلية وشعراء الإسلام ، فلما سأل الإمام عليهالسلام قال : فلان بن فلان العلوي . قال ابن الفحام : وأحسبه الحماني قال : حيث يقول :
لقد فَاخَرَتْنَا من قريشٍ عُصَابَةٌ |
|
بِمَطِّ خُدُودٍ وامتدادِ أصابعِ |
فلما تنازعنا القضاءَ قضى لنا |
|
عليهم بما نهوى نداءُ الصوامع |
قال : وما نداء الصوامع ، يا أبا الحسن ؟ قال : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، جدي أم جدك ؟فضحك المتوكل ثم قال : هو جدك لاندفعك عنه » .
« أمالي الطوسي / ٢٨٧ ، ومناقب آل أبي طالب : ٣ / ٥١٠ ، والمحاسن والمساوئ للبيهقي : ١ / ٤٦ ، وفي طبعة / ٧٨ ، والمحاسن والأضداد للجاحظ : ١ / ١٤٧ ، ومصادر أخرى » .
قال السيد الأمين في أعيان الشيعة « ١ / ١٨٥ » : « وَالحِمَّاني : علي بن محمد بن جعفر بن محمد بن زيد بن علي بن الحسين عليهالسلام الذي كان يقول : أنا شاعر وأبي شاعر وجدي شاعر إلى أبي طالب . والذي شهد له الهادي عليهالسلام أمام المتوكل بأنه أشعر الناس لقوله من أبيات .. فلما تنازعنا الحديث قضى لنا ...
وقال في أعيان الشيعة « ٨ / ٣١٦ » : « علي بن محمد بن جعفر بن محمد بن زيد بن علي بن الحسين عليهالسلام المعروف بالحِمَّاني ، نسبة إلى حِمَّان بكسر الحاء وتشديد الميم قبيلة بالكوفة نزلها . توفي سنة ٢٦٠ ، كما قال ابن الأثير ، كان فاضلاً أديباً شاعراً وشهد له الإمام أبوالحسن عليهالسلام الثالث في التفضيل في الشعر . وذكر تتمة البيتين :
وإنا سكوتٌ والشهيدُ بفضلنا |
|
عليهم جهيرُ الصوت في كل جامع |
فإنَّ رسولَ الله أحمدُ جدُّنا |
|
ونحنُ بنوهُ كالنجوم الطوالع |
وقال : قوله وأنشد له المرتضى في الفصول المختارة من كتاب المجالس ، وكتاب العيون والمحاسن للمفيد :
يا آلَ حم الذين بحبهمْ |
|
حَكَمَ الكتابُ مُنزلاً تنزيلا |
كان المديحُ حُلَى الملوك وكنتمُ |
|
حُلَلَ المدائح عِزَّةً وجُمولا |
بيتٌ إذا عَدَّ المآثرَ أهلُها |
|
عَدُّوا النبيَّ وثانياً جبريلا |
قومٌ إذا اعتدلوا الحمايلَ أصبحوا |
|
متقسمين خَلَيفةً ورسولا |
نشأوا بآيات الكتاب فما انثنوا |
|
حتى صدرنَ كُهولةً وكُهولا |
ثقلانِ لن يتفرقا أو يُطْفِيَا |
|
بالحوض من ظمإِ الصدورِ غليلا |
وخليفتان على الأنام بقوله |
|
بالحق أصدقُ من تكلم قيلا |
فاقوا أكفَّ الآيسين فأصبحوا |
|
لايعدلون سوى الكتاب عديلا » . |
ورواها في مناقب آل أبي طالب « ٢ / ٣٣٩ » وأنشد له ابن عنبة في عمدة الطالب / ٣٠١ :
« لنا من هاشمٍ هَضَبَاتُ عِزٍّ |
|
مُطَنَّبَةٌ بأبراجِ السماءِ |
تُطيفُ بنا الملائكُ كلَّ يَوْمٍ |
|
ونُكفَلُ في حُجُورِ الأنبياء |
ويَهتزُّ المقامُ لنا ارتياحاً |
|
ويلقانا صَفَاهُ بالصَّفاء » . |
١٠. هيأ له المعتز علوجاً ليقتلوه فهابوه وسجدوا له :
روى في الثاقب في المناقب / ٥٥٦ : « عن أبي العباس فضل بن أحمد بن إسرائيل الكاتب قال : كنا مع المعتز ، وكان أبي كاتبه ، فدخلنا الدار والمتوكل على سريره قاعد ، فسلم المعتز ووقف ووقف خلفه ، وكان عهدي به إذا دخل عليه رحب به وأمره بالقعود ، ونظرت إلى وجهه يتغير ساعة بعد ساعة ، ويقبل على الفتح بن خاقان ويقول : هذا الذي يقول فيه ما يقول ، ويرد عليه القول ، والفتح مقبل عليه يسكنه ويقول : مكذوب عليه يا أمير المؤمنين . وهو يتلظى ويقول : والله لأقتلن هذا المرائي الزنديق ، وهو الذي يدعي الكذب ، ويطعن في دولتي .
ثم قال : جئني بأربعة من الخزر وأجلاف لا يفقهون ، فجئ بهم ودفع إليهم أربعة أسياف ، وأمرهم أن يرطنوا بألسنتهم إذا دخل أبوالحسن ، وأن يقبلوا عليه بأسيافهم فيخبطوه ويقتلوه ، وهو يقول : والله لأحرقنه بعد القتل ، وأنا منتصب قائمٌ خلفه من وراء الستر ، فما علمت إلا بأبي الحسن عليهالسلام قد دخل ، وقد بادر الناس قدامه فقالوا : جاء ! والتفتُّ ورائي وهو غير مكترث ولا جازع ، فلما بصر به المتوكل رمى بنفسه من السرير إليه وهو بسيفه فانكب عليه يقبل بين عينيه ، واحتمل يده بيده وهو يقول : يا سيدي ، يا ابن رسول الله ، ويا خير خلق الله يا ابن عمي يا مولاي ، يا أبا الحسن ، وأبوالحسن يقول : أعيذك بالله يا أمير المؤمنين من هذا ! فقال : ما جاء بك يا سيدي في هذا الوقت ؟ قال : جاءني رسولك ، فقال المتوكل : كذب ابن الفاعلة ، إرجع يا سيدي من حيث جئت .
يا فتح ، يا عبد الله ، يا معتز ، شيعوا سيدي وسيدكم . فلما بصر به الخزر خروا سجداً مذعنين ، فلما خرج دعاهم المتوكل ، ثم أمر الترجمان أن يخبره بما يقولون ، ثم قال لهم : لم لا تفعلوا ما أمرتكم به ؟ قالوا : لشدة هيبته ، ورأينا حوله أكثر من مائة سيف لم نقدر أن ننالهم ، فمنعنا ذلك عما أمرنا به ، وامتلأت قلوبنا رعباً من ذلك . فقال المتوكل : هذا صاحبكم ، وضحك في وجه الفتح ، وضحك الفتح في وجهه وقال : الحمد لله الذي بيض وجهه ، وأنار حجته » .
رووا أن الإمام عليهالسلام مدح العباس :
قال الذهبي في سيره « ١٢ / ٣٨ » : « قال المبرد : قال المتوكل لعلي بن محمد بن الرضا : ما يقول ولد أبيك في العباس ؟ قال : ما تقول يا أمير المؤمنين في رجل فرض الله طاعته على نبيه صلىاللهعليهوآله وذكر حكاية طويلة ، وبكى المتوكل ، وقال له : يا أبا الحسن لينت منا قلوباً قاسية ، أعليك دين ؟ قال : نعم ، أربعة آلاف دينار ، فأمر له بها » .
أقول : إذا صح ذلك فهو تقية جائزة للتخلص من قرار المتوكل بقتله عليهالسلام ، ويكون معنى : فرض طاعته على نبيه صلىاللهعليهوآله ، أي طاعة الله تعالى لا طاعة العباس .
* *
الفصل الرابع :
إحضار المتوكل للإمام الهادي عليهالسلام الى سامراء
أحضر المتوكل الإمام عليهالسلام الى سامراء ثلاث مرات
١. حكم المتوكل أربع عشرة سنة « ٢٣٢ ـ ٢٤٧ » وحكم بعده ابنه المنتصر نحو سبعة أشهر ، ثم حكم المستعين وهو أحمد بن محمد بن المعتصم ، سنتين وتسعة أشهر ، ثم حكم المعتز وهو الزبير بن المتوكل ، ثماني سنين وستة أشهر ، وهو الذي ارتكب جريمة قتل الإمام الهادي عليهالسلام .
وكان المتوكل على خط أسلافه خلفاء بني عباس في عدائهم للأئمة من عترة النبي صلىاللهعليهوآله ، لأنهم يعرفون أنهم أئمة ربانيون ينجذب اليهم الناس ، ويقيسون بهم الخليفة العباسي . فهم برأي الخلفاء خطرٌ على حكمهم .
وبسبب هذا العداء أرسل المتوكل القائد عَتَّاب بن أبي عتاب في أول خلافته لإحضار الإمام الهادي عليهالسلام ، ثم أرسل القائد يحيى بن هرثمة أكثر من مرة . وروت المصادر نص رسالة المتوكل الى الإمام عليهالسلام مع ابن هرثمة سنة ٢٤٣ . كما روت أنه حبسه في إحدى إحضاراته وحفر له قبراً في السجن ! ويظهر أن ذلك كان في مطلع خلافته سنة ٢٣٣ ، فبقي الإمام عليهالسلام مدة في سامراء ، ثم تخلص ورجع الى المدينة ، أو رجع في موسم الحج وبقي في المدينة .
ثم أحضره ثانية قبل سنة ٢٣٥ ، فتخلص أيضاً وعاد الى المدينة ، ثم أحضره سنة ٢٤٣ ، وألزمه بالبقاء في سامراء .
وقلنا ثلاث مرات على الأقل ، لأنهم رووا أن المتوكل مرض في أول خلافته ، ونذر إن عوفي أن يتصدق بدنانير كثيرة ، ولم يعرف الفقهاء مقدارها ، وأرسل الى الإمام الهادي عليهالسلام وكان في سامراء ، فسأله .
ورووا أن يحيى بن هرثمة مرَّ به في مجيئه على بغداد ، وزاره القائد إسحاق بن إبراهيم الطاهري ، وقد توفي الطاهري سنة ٢٣٥ ، فلا بد أن يكون ذلك غير إحضاره مع القائد عَتَّاب بن أبي عتاب .
كما أن المتوكل حبس الإمام عليهالسلام في هذا الإحضار ، وأراد قتله . أما في الإحضار الأخير فلم يحبسه وأظهر احترامه وألزمه بالإقامة في سامراء ، فاشترى الإمام داراً من نصراني وسكن فيها ، ثم أضاف اليها داراً أو دوراً أخرى .
أما محاولة المتوكل إهانة الإمام عليهالسلام وإنزاله في خان الصعاليك ، وتأخير مقابلته له يوماً ، فلا يبعد أن تكون في إحضاره الأخير .
٢. وبهذا تعرف أن سبب تفاوت كلام المؤرخين في أن الإمام الهادي عليهالسلام أقام في سامراء عشرين سنة ، أو عشر سنين ، هو الإحضارات المتعددة له ، والتي ختمت بفرض الإقامة الجبرية عليه حتى هلاك المتوكل .
ثم جاء المستعين والمعتز فواصلا فرض الإقامة الجبرية عليه ، حتى ارتكب المعتز وهو الزبير بن المتوكل ، جريمة قتله عليهالسلام .
الإحضار الأول للإمام عليهالسلام الى سامراء
قال في مناقب آل أبي طالب « ٣ / ٥١٥ » : « وَجَّهَ المتوكل عَتَّابَ بن أبي عتاب إلى المدينة ليحمل علي بن محمد عليهالسلام إلى سر من رأى ، وكان الشيعة يتحدثون أنه يعلم الغيب ، فكان في نفس عتاب من هذا شئ ، فلما فصل من المدينة رآه وقد لبس لَبَّادة والسماء صاحية ، فما كان أسرع من أن تغيمت وأمطرت ، فقال عتاب : هذا واحد . ثم لما وافى شط القاطون رآه مُقْلَقَ القلب فقال له : مالك يا أبا أحمد ؟ فقال : قلبي مُقلق بحوايج التمستها من أمير المؤمنين . قال له : فإن حوائجك قد قضيت ، فما كان بأسرع من أن جاءته البشارات بقضاء حوائجه . قال : الناس يقولون إنك تعلم الغيب . وقد تبينتُ من ذلك خَلَّتين » .
عتَّاب بن أبي عتاب قائد عباسي فارسي
قال في تاريخ دمشق « ٣٨ / ٢٢٦ » : « عتَّاب بن عتاب بن سالم بن سليمان النسائي ، أحد قواد المتوكل ، قدم معه دمشق سنة ثلاث وأربعين ومائتين ، فيما قرأته بخط أبي محمد عبد الله بن محمد الخطابي ، ثم ولاه حجابته مع الحسين بن إسماعيل » .
وذكره الطبري في مواضع وهو مطيعٌ لخلفاء بني عباس .
منها « ٧ / ٣٧٣ » لما وثب أهل حمص على واليهم فأرسل لهم المتوكل عتَّاباً : « وأمره أن يقول لهم إن أمير المؤمنين قد أبدلكم رجلاً مكان رجل .. فرضوا بمحمد بن عبدويه فولاه عليهم ، فعمل فيهم الأعاجيب » .
ومنها : أن المعتز ظفر جيشه بعلوي ثار عليه في الكوفة ، « الطبري : ٧ / ٥١١ » : « فورد الكتاب بحمله مع عتاب بن عتاب ، وحمل هؤلاء الطالبيين فحملوا جميعاً » .
ومنها : دور عَتَّاب بعد المتوكل حتى قتل مع المهتدي سنة ٢٥٦ ، وذلك لما اختلف المهتدي مع القادة الأتراك ، فخدعه القائد التركي بايكباك بأنه معه ضد موسى بن بغا ، ودخل قصر المهتدي ومهد لدخول ابن بغا لقتله . ولما اكتشف المهتدي مؤامرة بايكباك ، قَتَلَهُ وأمر عتاب بن عتاب أن يرميهم برأسه فرماههم به ، فأطبقوا على المهتدي وجيشه : « شد رجل منهم على عتاب فقتله .. فحمل عليهم طغوتيا أخو بايكباك حملة ثائر حَرَّان موتور ، فنقض تعبيتهم وهزمهم وأكثر فيهم القتل وولوا منهزمين ، ومضى المهتدي يركض منهزماً والسيف في يده مشهور وهو ينادي : يا معشر الناس أنصروا خليفتكم ! حتى صار إلى دار ابن جميل فبادرهم ليصعد فرُمِي بسهم وبُعِج بالسيف ، ثم حمله أحمد بن خاقان على دابة أو بغل وأردف خلفه سائساً حتى صار به إلى داره ، فدخلوا عليه فجعلوا يصفعونه ويبزقون في وجهه ، وسألوه عن ثمن ما باع من المتاع والخُرْثي « الأثاث » فأقر لهم بست مائة ألف قد أودعها .. فأخذوا رقعته بست مائة ألف دينار ، ودفعوه إلى رجل فوطئ على خصييه حتى قتله » . « الطبري « ٧ / ٥٨٢ »
ثم
وصف الطبري انتخاب الأتراك للخليفة الجديد فقال « ٧ / ٥٨٧ » :
« كان يارجوخ بعد انهزام الناس صار إلى الدار ، فأخرج من ولد المتوكل جماعة فصار بهم إلى داره ، فبايعوا أحمد بن المتوكل المعروف بابن فتيان ، يوم الثلاثاء لثلاث عشرة
خلت من رجب وسميَ المعتمد على الله ، وأشهد يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب على وفاة المهتدى محمد بن الواثق ، وأنه سليم ما به إلا الجراحتان اللتان نالتاه يوم الأحد في الوقعة » .
وهذا يدل على أن عتاباً كان فارسياً وليس تركياً ، وأنه قتل مع المهتدي . ومن المستبعد أن يكون استبصر لما رأى معجزات الإمام عليهالسلام في مرافقته من المدينة ، رغم أنه اقتنع بأنه ولي الله ، وأن الله تعالى يظهره على بعض غيبه .
فقد بقي عتاب مخلصاً للمتوكل ، والخلفاء من بعده ، وكانوا يكلفونه بمهمات قذرة ، من القمع والقتل ، حتى قُتل في سبيلهم !
إحضار الإمام الى سامراء بعد هدم قبر الحسين عليهالسلام
ارتكب المتوكل جريمة هدم قبر الحسين عليهالسلام سنة ٢٣٦ ، واتفق المؤرخون على أنه أثار على نفسه نقمةً عامة من كل الفئات ، حتى كتب المسلمون شعار شتمه على جدران بغداد ، ولم يرووا أن أحداً كان يمحوه !
وقد رافق ذلك تزايد تعاطف المسلمين مع الإمام الهادي عليهالسلام خاصة في بغداد والحجاز ، وقد وصل هذا التعاطف الى بعض وزراء الخليفة ، وأفراد أسرته !
ويظهر أن بعض الأوساط لهجوا بالثورة على المتوكل .
وفي ذلك الظرف كتب اليه والي مكة والمدينة : إن كانت لك حاجة في الحجاز ، فأخرج منه علي بن محمد . أي قبل أن يدعوهم للثورة عليك فيستجيبون له !
قال المسعودي في إثبات الوصية « ١ / ٢٣٢ » : « وكتب بُرَيْحَة العباسي صاحب الصلاة بالحرمين الى المتوكل : إن كان لك في الحرمين حاجة ، فأخرج علي بن محمد منهما فإنه قد دعا الى نفسه واتبعه خلق كثير . وتابع بُريحة الكتب في هذا المعنى ، فوجه المتوكل بيحيى بن هرثمة وكتب معه الى أبي الحسن عليهالسلام كتاباً جميلاً يعرفه أنه قد اشتاقه ، ويسأله القدوم عليه . وأمر يحيى بالمسير معه كما يحبُّ ، وكتب الى بريحة يعرفه ذلك . فقدم يحيى بن هرثمة المدينة فأوصل الكتاب الى بريحة ، وركبا جميعاً الى أبي الحسن عليهالسلام فأوصلا إليه كتاب المتوكل ، فاستأجلهما ثلاثاً .
فلما كان بعد ثلاث عاد الى داره فوجد الدواب مُسْرَجة ، والأثقال مشدودة قد فُرغ منها . وخرج صلى الله عليه متوجهاً نحو العراق ، واتَّبعه بريحة مشيعاً ، فلما صار في بعض الطريق قال له بريحة : قد علمت وقوفك على أني كنت السبب في حملك ، وعليَّ حلفٌ بأيمان مغلظة لئن شكوتني الى أمير المؤمنين ، أوالى أحد من خاصته وأبنائه ، لَأُجَمِّرَنَّ نخلك ، ولأقتلن مواليك ، ولأُعُوِّرَنَّ عيون ضيعتك ، ولأفعلن ولأصنعن . فالتفت إليه أبوالحسن عليهالسلام فقال له : إن أقرب عَرْضِي إياك على الله البارحة . وما كنت لأعرضنك عليه ، ثم أشكونك الى غيره من خلقه . قال : فانكب عليه بريحة وضرع إليه واستعفاه . فقال له : قد عفوت عنك » .
ملاحظة
بريحة هو تُرُنْجَة ، وقد يكون تصحيفاً
له ، ففي شفاء الغرام للفاسي «
٢ / ٢١٩ » : « ثم وليها « مكة »
محمد بن داود عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن
عباس العباسي ، الملقب تُرُنْجَة ، في سنة اثنين وعشرين ومائتين ، ولعل ولايته دامت إلى أثناء خلافة المتوكل » .
وقال في صبح الأعشى « ٤ / ٢٧١ » : « ثم وليها محمد بن عيسى ، ثم عزله المتوكل سنة ثلاث وثلاثين ومائتين ، وولَّى مكانه ابنه المنتصر بن المتوكل . ثم وليها علي بن عيسى بن جعفر بن المنصور ، ثم عزله المتوكل سنة سبع وثلاثين ومائتين وولَّى مكانه عبد الله بن محمد بن داود بن عيسى بن موسى . ثم عزله المتوكل سنة ثنتين وأربعين ومائتين ، وولَّى مكانه عبد الصمد بن موسى بن محمد بن إبراهيم الإمام . ثم توالت عليها العمال من قبل خلفاء بني العباس » .
وفي رسالة المتوكل الى الإمام الهادي عليهالسلام أنه عزل بريحة لأنه أساء اليه ، وذلك سنة ٢٤٣ . ومعناه أنه عزل ثم نصب على الصلاة في الحرمين .
وسماه في الإرشاد « ٢ / ٣٢٥ » : تُرنجة ، وقال في هامشه : وهو عبد الله بن محمد بن داود الهاشمي بن أترجة من ندماء المتوكل ، والمشهور بالنصب والبغض لعلي بن أبي طالب عليهالسلام ، وقد قتل بيد عيسى بن جعفر ، وعلي بن زيد الحسنيين بالكوفة قبل موت المعتز بأيام . أنظر : الكامل لابن الأثير : ٧ / ٥٦ ، تاريخ الطبري : ٩ / ٣٨٨ .
وورد خبر قتله في الكافي « ١ / ٥٠٦ » : « قال : كتب أبومحمد عليهالسلام إلى أبي القاسم إسحاق بن جعفر الزبيري قبل موت المعتز بنحو عشرين يوماً : إلزم بيتك حتى يحدث الحادث ، فلما قتل بُريحة كتب إليه قد حدث الحادث فما تأمرني ؟ فكتب : ليس هذا الحادث ، الحادث الآخر . فكان من أمر المعتز ما كان .
وعنه قال : كتبت عليهالسلام إلى رجل آخر : يُقتل ابن محمد بن داود عبد الله قبل قتله « المعتز » بعشرة أيام ، فلما كان في اليوم العاشر ، قُتل » .
وكان قَتل المعتز سنة ٢٥٥ « الثقات لابن حبان : ٢ / ٣٣١ » بعد شهادة الإمام عليهالسلام كما يأتي .
أمر المتوكل قائده أن يفتش بيت الإمام عليهالسلام
وقد نص على ذلك المحدثون والمؤرخون ، وقالوا إن بريحة العباسي كتب الى المتوكل أن الإمام الهادي عليهالسلام يجمع السلاح ، وأن شيعته من قم أمَدُّوهُ بالأموال .
قال المسعودي في مروج الذهب « ٤ / ٨٤ » : « حدثني يحيى بن هرثمة ، قال : وَجَّهني المتوكل الى المدينة لإشخاص علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر لشئ بلغه عنه ، فلما صرت إليها ضجَّ أهلها وعَجُّوا ضجيجاً وعجيجاً ما سمعتُ مثله ، فجعلت أُسَكِّنُهم وأحلف لهم أني لم أؤمر فيه بمكروه ، وفتشت بيته فلم أجد فيه إلا مصحفاً ودعاءً ، وما أشبه ذلك ، فأشخصته وتوليت خدمته وأحسنت عشرته . فبينا أنا نائم يوماً من الأيام والسماء صاحية والشمس طالعة ، إذ ركب وعليه مِمْطَرٌ ، وقد عقد ذَنَب دابته ، فعجبت من فعله ، فلم يكن بعد ذلك إلا هنيهة حتى جاءت سحابة فأرخت عزَاليَها ، ونالنا من المطر أمرٌ عظيم جداً . فالتفت إليَّ ، وقال : أنا أعلم أنك أنكرت ما رأيتَ ، وتوهمتَ أني علمت من الأمر ما لا تعلمه ، وليس ذلك كما ظننتَ ، ولكن نشأتُ بالبادية ، فأنا أعرف الرياح التي يكون في عقبها المطر ، فلما اصبحت هبَّتْ ريح لا تخلف وشممت منها رائحة المطر ، فتأهبتُ لذلك !
فلما قدمت مدينة السلام بدأت بإسحاق ابن إبراهيم الطاهري ، وكان على بغداد فقال لي : يا يحيى ، إن هذا الرجل قد ولده رسول الله ، والمتوكل من تعلم ، وإن حَرَّضته على قتله كان رسول الله خصمك ! فقلت : والله ما وقفت له إلا على كل أمر جميل . فصرت الى سامرا ، فبدأتُ بوصيف التركي وكنت من أصحابه فقال : والله لئن سقطت من رأس هذا الرجل شعرة لا يكون المطالب بها غيري ! فعجبت من قولهما ، وعرَّفت المتوكل ما وقفت عليه ، وما سمعته من الثناء عليه فأحسن جائزته ، وأظهر بِرَّهُ وتكرمته » .
أقول : في هذا النص دلالات عديدة ، منها شعبية الإمام الواسعة في المدينة ، بحيث ضجَّ أهلها لما جاءت سرية المتوكل لأخذه !
أما إسحاق بن إبراهيم الطاهري فهو منسوبٌ إلى عمه طاهر بن الحسين ، قائد جيش المأمون الذي دخل إلى بغداد وقتل الأمين . وكان إسحاق حاكم بغداد من قبل المتوكل ، ويدل كلامه على أن عامة أهل بغداد كانوا ينظرون الى الإمام الهادي عليهالسلام نظرة تقديس ، فكان يخاف من غضب الناس إذا قتلته السلطة .
وكذلك وصيف التركي ، وهو من كبار قادة الجيش التركي في سامراء ، وكان كفيل المستعين ، الذي صار خليفة . « تاريخ الطبري : ٧ / ٤٣٣ » .
أما قول الإمام الهادي عليهالسلام : نشأتُ بالبادية فأنا أعرف الرياح التي يكون في عقبها المطر ، فهو صحيح ، لكنه عن مصدر واحد لعلمه بالمطر عليهالسلام ، ومصادر علمه أوسع .
نص كتاب المتوكل الى الإمام الهادي عليهالسلام
قال المفيد في الإرشاد « ٢ / ٣٠٩ » : « وكان سبب شخوص أبي الحسن عليهالسلام إلى سُرَّ من رأى أن عبد الله بن محمد كان يتولى الحرب والصلاة في مدينة الرسول ، فسعى بأبي الحسن عليهالسلام إلى المتوكل ، وكان يقصده بالأذى ، وبلغ أبا الحسن سعايته به ، فكتب إلى المتوكل يذكر تحامل عبد الله بن محمد ، ويكذبه فيما سعى به ، فتقدم المتوكل بإجابته عن كتابه ودعائه فيه إلى حضور العسكر ، على جميل من الفعل والقول ، فخرجت نسخة الكتاب وهي :
بسم الله الرحمن الرحيم . أما بعد فإن أمير المؤمنين عارفٌ بقدرك ، راعٍ لقرابتك موجبٌ لحقك ، مؤثرٌ من الأمور فيك وفي أهل بيتك ، ما يصلح الله به حالك وحالهم ، ويثبت به عزَّك وعزهم ، ويدخل الأمن عليك وعليهم ، يبتغي بذلك رضا ربه ، وأداء ما افترض عليه فيك وفيهم .
وقد رأى أمير المؤمنين صرف عبد الله بن محمد عما كان يتولاه من الحرب والصلاة بمدينة الرسول ، إذ كان على ما ذكرت من جهالته بحقك واستخفافه بقدرك ، وعندما قرفك به ونسبك إليه من الأمر الذي علم أمير المؤمنين براءتك منه ، وصدق نيتك في برك وقولك ، وأنك لم تؤهل نفسك لما قرفت بطلبه .
وقد ولى أمير المؤمنين ما كان يلي من ذلك محمد بن الفضل ، وأمره بإكرامك وتبجيلك ، والإنتهاء إلى أمرك ورأيك والتقرب إلى الله وإلى أمير المؤمنين بذلك .
وأمير المؤمنين مشتاقٌ إليك ، يُحب إحداث العهد بك والنظر إليك ، فإن نشطتَ لزيارته والمقام قبله ما أحببت ، شخصتَ ومن اخترتَ من أهل بيتك ومواليك وحشمك ، على مُهْلَةٍ وطُمأنينة ، ترحل إذا شئت وتنزل إذا شئت ، وتسير كيف شئت . وإن أحببت أن يكون يحيى بن هرثمة مولى أمير المؤمنين ومن معه من الجند ، يرتحلون برحيلك ويسيرون بسيرك ، فالأمر في ذلك إليك ، وقد تقدمنا إليه بطاعتك ، فاستخر الله حتى توافي أمير المؤمنين ، فما أحد من إخوته وولده وأهل بيته وخاصته ألطف منه منزلة ، ولا أحمد له أثرةً ، ولا هو لهم أنظر وعليهم أشفق وبهم أبرُّ ، وإليهم أسكن منه إليك . والسلام عليك ورحمة الله وبركاته . وكتب إبراهيم بن العباس ، في شهر كذا من سنة ثلاث وأربعين ومائتين .
فلما وصل الكتاب إلى أبي الحسن عليهالسلام تجهز للرحيل ، وخرج معه يحيى بن هرثمة حتى وصل إلى سر من رأى . فلما وصل إليها تقدم المتوكل بأن يحُجب عنه في يومه ! فنزل في خان يعرف بخان الصعاليك ، وأقام فيه يومه ، ثم تقدم المتوكل بإفراد دار له فانتقل إليها .
ثم
روى المفيد رحمهالله :
عن صالح بن سعيد قال : دخلت على أبي الحسن عليهالسلام
يوم وروده فقلت له : جعلت فداك ، في كل الأمور أرادوا إطفاء نورك والتقصير بك ، حتى أنزلوك هذا الخان الأشنع خان الصعاليك . فقال : هاهنا أنت يا ابن سعيد ! ثم أوما بيده فإذا بروضات أنفات ، وأنهار جاريات ، وجنان فيها خيرات
عطرات ، وولدان كأنهن اللؤلؤ المكنون ، فحار بصري وكثر تعجبي ، فقال لي : حيث كنا فهذا لنا يا ابن سعيد ، لسنا في خان الصعاليك !
وأقام أبوالحسن عليهالسلام مدة مقامه بسر من رأى ، مكرماً في ظاهر حاله ، يجتهد المتوكل في إيقاع حيلة به ، فلا يتمكن من ذلك .
وله معه أحاديث يطول بذكرها الكتاب ، فيها آيات له وبينات ، إن قصدنا لإيراد ذلك خرجنا عن الغرض فيما نَحَوْنَاه » . راجع الكافي : ١ / ٤٩٨ .
وقال راوي الرسالة كما في الكافي « ١ / ٥٠١ » : « أخذت نسخة كتاب المتوكل إلى أبي الحسن الثالث عليهالسلام من يحيى بن هرثمة في سنة ثلاث وأربعين ومائتين » .
وفي الإرشاد « ٢ / ٣١٠ » وروضة الواعظين / ٢٤٥ ، وغيرهما : « وكتب إبراهيم بن العباس في شهر كذا ، من سنة ثلاث وأربعين ومئتين » .
وفي الفصول المهمة لابن الصباغ / ٢٦٥ ، والبحار « ٥٠ / ٢٠١ » وغيرهما : « وكان المتوكل قد أشخصه من المدينة النبوية إلى سر من رأى مع يحيى بن هرثمة بن أعيَن ، في جمادى الأخرى سنة ثلاث وأربعين ومائتين » .
لكن قال الطبري « ٧ / ٣٤٨ » : « وفيها « سنة ٢٣٣ » قدم يحيى بن هرثمة ، وهو والي طريق مكة ، بعلي بن محمد بن علي الرضا ، بن موسى بن جعفر من المدينة » .
ونحوه في النجوم الزاهرة « ٢ / ٢٧١ » ، وفيه : « وكان قد بلغ المتوكل عنه شئ » .
وفي
فرق الشيعة للنوبختي «
١ / ٩١ »
: « وكان المتوكل أشخصه من المدينة مع
يحيى بن هرثمة بن أعين .. وكان قدومه إلى سر من رأى يوم الثلاثاء لسبع ليال بقين من
شهر رمضان سنة ثلاث وثلاثين ومأتين . وكان مولده يوم الثلاثاء لثلاث عشرة ليلة مضت من رجب ، سنة أربع عشرة ومأتين ، وأقام بسر من رأى داره إلى أن توفي : عشرين سنة وتسعة أشهر وعشرة أيام . وكانت إمامته ثلاثاً وثلاثين سنة وسبعة أشهر » .
وفي تذكرة الخواص لابن الجوزي الحنبلي « ١ / ٣٢٢ » : « وكنيته أبوالحسن العسكري وإنما نسب الى العسكري ، لأن جعفر المتوكل أشخصه من المدينة الى بغداد الى سر من رأى ، فأقام بها عشرين سنة وتسعة أشهر . قال علماء السير : وإنما أشخصه المتوكل من مدينة رسول الله الى بغداد لأن المتوكل كان يبغض علياً وذريته ، فبلغه مقام علي بالمدينة وميل الناس اليه فخاف منه ، فدعا يحيى بن هرثمة وقال : إذهب الى المدينة وانظر في حاله وأشخصه الينا .
قال يحيى : فذهبت الى المدينة فلما دخلتها ضج أهلها ضجيجاً عظيماً ، ما سَمِع الناس بمثله خوفاً على عليٍّ ، وقامت الدنيا على ساق لأنه كان محسناً اليهم ملازماً للمسجد ، لم يكن عنده ميل الى الدنيا .
قال يحيى : فجعلت أسكِّنُهم وأحلف لهم
أني لم أؤمر فيه بمكروه ، وأنه لا بأس عليه ، ثم فتشت منزله فلم أجد فيه إلا مصاحف وأدعية وكتب العلم ، فعظم في عيني وتوليت خدمته بنفسي وأحسنت عشرته . فلما قدمت به بغداد بدأت بإسحاق بن إبراهيم الطاهري وكان والياً على بغداد ، فقال لي : يا يحيى إن هذا الرجل قد ولده رسول الله والمتوكل من تَعلم ، فإن حرضته عليه قتله وكان
رسول الله خصمك يوم القيامة ! فقلت له : والله ما وقعت منه إلا على كل أمر جميل ، ثم صرت به الى سر من رأى فبدأت بوصيف التركي فأخبرته بوصوله فقال : والله لئن سقط منه شعرة لا يطالب بها سواك . « وهو من جند وصيف » .
قال : فعجبت كيف وافق قوله قول إسحاق ! فلما دخلت على المتوكل سألني عنه فأخبرته بحسن سيرته وسلامة طريقته وورعه وزهادته ، وأني فتشت داره فلم أجد فيها غير المصاحف وكتب العلم ، وأن أهل المدينة خافوا عليه . فأكرمه المتوكل وأحسن جايزته ، وأجزل بره ، وأنزله معه سر من رأى .
قال يحيى بن هرثمة : فاتفق مرض المتوكل بعد ذلك بمدة ، فنذر إن عوفي ليتصدقن بدراهم كثيرة ، فعوفي فسأل الفقهاء عن ذلك فلم يجد عندهم فرجاً فبعث الى علي فسأله فقال : يتصدق بثلاثة وثمانين ديناراً . فقال المتوكل : من أين لك هذا ؟ فقال من قوله تعالى : لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ . والمواطن الكثيرة هي هذه الجملة ، وذلك لأن النبي صلىاللهعليهوآله غزى سبعاً وعشرين غزاة ، وبعث خمساً وستين سرية ، وآخر غزواته يوم حنين .
فعجب المتوكل والفقهاء من هذا الجواب ، وبعث اليه بمال كثير فقال : علي هذا الواجب ، فتصدق أنت بما أحببت » .
ملاحظات
١. يتضح بما تقدم أن إحضار المتوكل
للإمام عليهالسلام
كان بإرساله القائد عتاب بن أبي عتاب في أول خلافته سنة ٢٣٣
، وأن الإمام عليهالسلام
بقي فترة في سامراء ، ثم عاد
الى المدينة وبقي فيها . أما إرسال المتوكل ليحيى بن هرثمة فكان بعد بضع سنوات ، فأحضره وألزمه بالبقاء حتى استشهد عليهالسلام على يد المعتمد .
٢. يظهر من نص رسالة المتوكل الى الإمام عليهالسلام أنه يخاطب شخصية له نفوذه في المسلمين ، وله قداسة عندهم ، فالمتوكل النمرود يراعي الأدب معه ، وفي نفس الوقت يحتم عليه الحضور الى سامراء ، لأنه اشتاق اليه !
وكل هدفه أن يكون في قبضته في سامراء ، ويأمن من ثورته عليه ، لأنه إذا دعا المسلمين الى بيعته ، استجاب له منهم قسم كبير .
٣. يدل تعمد المتوكل تأخير استقباله يوماً ، وإنزاله في خان ينزل فيه عادة الصعاليك وسواد الناس ، أن المقصود إهانته ليذل في نفسه ويخضع للمتوكل كغيره من الشخصيات الذين يُحضرهم ، لكن الإمام الهادي شخصيةٌ ربانيةٌ لايقاس بها الأرضيون ، ومن بيت لا يقاس بهم أحد ، صلوات الله عليهم !
خافت السلطة من ثورة البغداديين !
في
تاريخ اليعقوبي « ٢ / ٤٨٤ » :
« وكتب المتوكل إلى علي بن محمد بن علي الرضا بن موسى بن جعفر بن محمد ، في الشخوص من المدينة ، وكان عبد الله بن محمد بن داود الهاشمي قد كتب يذكر أن قوماً يقولون إنه الإمام ، فشخص عن المدينة ، وشخص يحيى بن هرثمة معه حتى صار إلى بغداد ، فلما كان بموضع يقال له الياسرية نزل هناك ، وركب إسحاق بن إبراهيم لتلقيه ، فرأى تشوق الناس إليه
واجتماعهم لرؤيته ، فأقام إلى الليل ، ودخل به في الليل ، فأقام ببغداد بعض تلك الليلة ، ثم نفذ إلى سر من رأى » .
أقول : هذا النص يدل على الشعبية العميقة للإمام عليهالسلام في بغداد والعراق ، وأن السلطة خافت أن يدخل الى بغداد ، فأنزلوه خارجها في الياسرية ، وهي على بعد ميلين من بغداد ، على ضفة نهر عيسى ، وتقع اليوم قرب مطار بغداد القديم .
لكن شيعة الإمام عليهالسلام ومحبيه كانوا يتتبعون حركته ، وعرفوا بموعد وصوله الى بغداد ، فخرجوا الى ضاحيتها لملاقاته ، وازدحموا عليه حتى أن والي بغداد أراد أن يزوره فوجد ازدحام الناس ، فانتظر الى الليل فزاره !
ويدلك على تعاظم شعبيته أنهم خافوا من بقائه في ضاحية بغداد ولو ليلة واحدة ، فقرروا أن يمضوا به الى سامراء في الليل !
كما يدلك على شعبيته وصية والي بغداد ليحيى به ، وتخوفه أن يقتله المتوكل فيفتح باب الثورة على السلطة !
* *