مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، وأفضل الصلاة وأتم السلام على سيدنا ونبينا
محمد وآله الطيبين الطاهرين .
هل يكون الطفل نبياً ! حدثَ ذلك عندما جاءت مريم عليهاالسلام تحمل طفلها ، فثارت في وجهها نساء بني إسرائيل ورجالهم ، واتهموها ووبخوها : فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا . قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا . فأنطقه الله تعالى بلسان فصيح وقول بليغ ، فبُهِتَ المفترون وأسقط في أيديهم !
وبعد عيسى عليهالسلام بمدة وجيزة ، صار طفلٌ آخر نبياً ، هو يحيى بن زكريا عليهالسلام !
وقبل عيسى ويحيى عليهماالسلام جعل الله سليمان نبياً ورسولاً ، وحاكماً بعد أبيه داود عليهماالسلام وهو ابن عشر سنين ! فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاً آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا .
ثم حدث ذلك في عترة النبي صلىاللهعليهوآله فكان محمدُ الجواد
بن الإمام الرضا عليهماالسلام
طفلاً وظهرت منه علائم الإمامة ، فآمن به المأمون وتحدى بشخصيته وعلمه العباسيين وفقهاء الخلافة ! قال لهم المأمون : « ويحكم إن أهل هذا البيت خِلْوٌ من
هذا الخلق ! أوَمَا علمتم أن رسول الله بايع الحسن والحسين وهما صبيَّان غير بالغين ، ولم يبايع طفلاً غيرهما ! أَوَمَا علمتم أن علياً آمن بالنبي وهو ابن عشر
سنين ، فقبل الله ورسوله منه إيمانه ، ولم يقبل من طفل غيره ، ولادعا النبي طفلاً
غيره إلى الإيمان ! أوَمَا علمتم أنها ذرية بعضها من بعض ، يجري لآخرهم ما يجري لأولهم » ! « الإختصاص / ٩٨ » .
فكان الإمام الجواد أول إمام من أهل البيت يتحمل أعباء الإمامة في السابعة ، أما علي والحسنان عليهمالسلام فكانوا أئمة وهم صغار ، لكنهم كانوا في ظل النبي صلىاللهعليهوآله .
وبعد الإمام الجواد تحمل الإمامة ابنه علي الهادي عليهالسلام وكان عمره نحوسبع سنين أيضاً ، فكان الإمام الثاني صغير السن .
أما الثالث فهوالإمام المهدي الموعود عليهالسلام الذي توفي أبوه وعمره خمس سنين ، فكان أصغر الأئمة سناً ، ولكنه سيكون أكبرهم أثراً في الحياة ، كما أخبر جده المصطفى صلىاللهعليهوآله فقال : يملأ الأرض قسطاً وعدلاً ، بعد أن ملئت ظلماً وجوراً !
وهذا الكتاب في سيرة الإمام علي الهادي عليهالسلام ، الطفل المعجزة ، والإمام الرباني ، وسترى فيه تصديق قوله تعالى : لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ .
كتبه بقم المشرفة جمادى الأولى ١٤٣٤
علي الكَوْراني العاملي عامله الله بلطفه
الفصل الأول :
الإمام الهادي عليهالسلام في عهد المأمون والمعتصم والواثق
الطفل المعجزة افتخر به المأمون وأنكره المعتصم !
كان المأمون معجباً بالإمام الجواد عليهالسلام فعقد زواجه على ابنته أم الفضل وكان عمره عليهالسلام تسع سنين . ثم تركه يعود الى المدينة ، وكانت الشيعة ترجع اليه من أنحاء البلاد ، كما شرحنا ذلك في سيرته عليهالسلام .
وعاش الإمام الجواد عليهالسلام في المدينة ، وفي سن الثامنة عشرة تزوج جارية مغربية مؤمنة ، هي السيدة سمانة رضي الله عنها ، متناسياً زوجته بنت المأمون .
وبعد سنة أي سنة ٢١٢ ، رزقه الله منها ابنه علياً الهادي عليهالسلام ، ثم ابنه موسى ، وثلاث بنات : خديجة ، وحكيمة ، وأم كلثوم . « دلائل الإمامة / ٣٩٧ » .
روى الطبري في دلائل الإمامة / ٤١٠ ، عن محمد بن الفرج ، عن السيد عليهالسلام أنه قال : « أمي عارفة بحقي وهي من أهل الجنة ، لايقربها شيطانٌ مارد ٌ ، ولا ينالها كيدُ جبارٍ عنيد ، وهي مكلوءة بعين الله التي لا تنام ، ولا تتخلف عن أمهات الصديقين والصالحين » .
ومات المأمون في آخر سنة ٢١٨
، وحكم بعده أخوه المعتصم ثمان سنوات ، الى سنة ٢٢٧ . وكان القاضي أحمد
بن أبي دؤاد مستشار المعتصم ومدبِّر أموره ،
فهو الذي دَبَّر له الخلافة أصلاً ، وأجبر العباس بن المأمون على خلع نفسه وبيعة عمه المعتصم ، ثم سجنه القاضي وقتله !
وقد أقنع ابن دؤاد المعتصمَ بأن لا يقع في خطأ المأمون في الإمام الجواد فيعترف بإمامة ابنه الهادي عليهماالسلام ، بل عليه أن ينكر إمامته ويعمل للتخلص منه !
الإمام الهادي عليهالسلام عرف بشهادة أبيه في بغداد
أحضر المعتصم الإمام الجواد عليهالسلام سنة ٢٢٠ ، الى بغداد ، وسَمَّهُ بواسطة زوجته بنت المأمون ! وكان الإمام الهادي في المدينة ، فَعَرَفَ بقتل أبيه وعمره سبع سنين وأخبر أهله وأمرهم بإقامة المأتم ، وذهب بنحو الإعجاز الرباني الى بغداد لتجهيز جنازة أبيه والصلاة عليه ، ورجع الى المدينة في ذلك اليوم !
روى في الكافي « ١ / ٣٨١ » : « عن هارون بن الفضل قال : رأيت أبا الحسن علي بن محمد في اليوم الذي توفي فيه أبوجعفر عليهالسلام فقال : إنا لله وإنا إليه راجعون ، مضى أبو جعفر ! فقيل له : وكيف عرفت ؟ قال : لأنه تداخلني ذِلَّةٌ للهِ لم أكن أعرفها » .
وفي إثبات الإمامة / ٢٢١ : « بينا أبوالحسن جالسٌ مع مؤدِّب له يكنى أبا زكريا ، وأبوجعفر عندنا أنه ببغداد ، وأبوالحسن يقرأ من اللوح إلى مؤدبه ، إذ بكى بكاءً شديداً فسأله المؤدب : ممَّ بكاؤك ؟ فلم يجبه . فقال : إئذن لي بالدخول فأذن له ، فارتفع الصِّياح والبكاء من منزله ، ثم خرج إلينا فسألنا عن البكاء ، فقال : إن أبي قد توفي الساعة ! فقلنا : بما علمت ؟ قال : دخلني من إجلال الله ما لم أكن أعرفه قبل ذلك ، فعلمت أنه قد مضى .
فتعرفنا ذلك الوقت من اليوم والشهر ، فإذا هوقد مضى في ذلك الوقت » .
وفي عيون المعجزات / ١١٩ : « عن الحسن بن علي الوشاء قال : جاء المولى أبوالحسن علي بن محمد عليهالسلام مذعوراً حتى جلس عند أم موسى عمة أبيه فقالت له : مالك ؟ فقال لها : مات أبي والله الساعة ، فقالت : لا تقل هذا ، فقال : هووالله كما أقول لك ، فكتب الوقت واليوم ، فجاء بعد أيام خبر وفاته عليهالسلام وكان كما قال عليهالسلام » .
وانتشر خبر شهادة الإمام الجواد عليهالسلام في المدينة ، وكان كثيرٌ من أهلها يحبونه لمكانته من رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وإحسانه اليهم .
فرضوا عليه الإقامة الجبرية وهو طفل !
بعد قتله الإمام الجواد عليهالسلام نفذ المعتصم سياسته مع ابنه الهادي عليهالسلام فأنكر أن يكون إماماً أوتيَ العلم صبياً كأبيه ، وقرر أن يعامله على أنه صبيٌّ صغير ، حتى لا يُفْتَن به الناس كما فُتنوا بأبيه . وأوفد وزيره عمر بن الفرج الرخجي الى المدينة ليرتب حبس الإمام الهادي عليهالسلام عن الناس ، بحجة كفالته وتعليمه !
وقام الرُّخَّجي بالمهمة ، وحبس الهادي عليهالسلام في بيت جده الكاظم عليهماالسلام ، الذي يقع خارج المدينة ، ليمنعه من الإتصال بشيعته ، وعين له الجنيدي « ليعلمه » العربية والأدب بزعمه ، وأمر والي المدينة أن ينفذ أوامره ، ويقدم له كل ما يحتاج !
روى
المسعودي في دلائل الإمامة /
٢٣٠
، عن محمد بن سعيد ، قال :
« قدم عمر بن الفرج الرُّخَّجي المدينة حاجاً بعد مضي أبي جعفر الجواد عليهالسلام فأحضر جماعة من أهل المدينة والمخالفين المعادين لأهل بيت رسول الله صلىاللهعليهوآله
فقال لهم : أُبْغُوا لي
رجلاً من أهل الأدب والقرآن والعلم ، لا يوالي أهل هذا البيت ، لأضمه إلى هذا الغلام وأُوكله بتعليمه ، وأتقدم إليه بأن يمنع منه الرافضة الذين يقصدونه !
فأسمَوْا له رجلاً من أهل الأدب يكنَّى أبا عبد الله ويعرف بالجنيدي ، وكان متقدماً عند أهل المدينة في الأدب والفهم ، ظاهر الغضب والعداوة « لأهل البيت » ! فأحضره عمر بن الفرج وأسنى له الجاري من مال السلطان ، وتقدم إليه بما أراد وعرفه أن السلطان « المعتصم » أمره باختيار مثله ، وتوكيله بهذا الغلام .
قال : فكان الجنيدي يلزم أبا الحسن عليهالسلام في القصر بِصِرْيَا « بيت الإمام في مزرعة صريا بضاحية المدينة » فإذا كان الليل أغلق الباب وأقفله ، وأخذ المفاتيح إليه ! فمكث على هذا مدة ، وانقطعت الشيعة عنه وعن الإستماع منه والقراءة عليه .
ثم إني لقيته في يوم جمعة فسلمت عليه وقلت له : ما حال هذا الغلام الهاشمي الذي تؤدبه ؟ فقال منكراً عليَّ : تقول الغلام ، ولا تقول الشيخ الهاشمي ! أُنشدك الله هل تعلم بالمدينة أعلم مني ؟ قلت : لا . قال : فإني والله أذكر له الحزب من الأدب ، أظن أني قد بالغت فيه ، فيملي عليَّ بما فيه أستفيده منه ، ويظن الناس أني أُعلمه ، وأنا والله أتعلم منه !
قال : فتجاوزت عن كلامه هذا كأني ما
سمعته منه ، ثم لقيته بعد ذلك فسلمت عليه وسألته عن خبره وحاله ، ثم قلت : ما حال الفتى الهاشمي ؟ فقال لي : دع هذا القول عنك ، هذا والله خير أهل الأرض ، وأفضل من خلق الله تعالى ، وإنه لربما همَّ بالدخول فأقول له : تَنَظَّرْ حتى تقرأ عُشْرَك فيقول لي : أيَّ السور
تحب أن أقرأها ؟ وأنا أذكر له من السور الطوال ما لم يبلغ إليه ، فيهذُّهَا بقراءة لم
أسمع أصح منها من أحد قط ، بأطيب من مزامير داود النبي عليهالسلام
، التي بها من قراءته
يضرب المثل ! قال ثم قال : هذا مات أبوه بالعراق وهو صغيرٌ بالمدينة ، ونشأ بين هذه الجواري السود ، فمن أين عَلِمَ هذا ؟ قال : ثم ما مرَّت به الأيام والليالي حتى لقيته فوجدته قد قال بإمامته ، وعرف الحق وقال به » !
دلالة فرض الإقامة الجبرية على الإمام عليهالسلام ؟
يعطينا النص المتقدم أضواءً كافية على خطة المعتصم ضد الإمام الهادي عليهالسلام وكيف كانت متقنةً ، لكنها فشلت من أساسها ، لأن الشخص الذي انتدبه لهذه المهمة انبهر بالإمام عليهالسلام وآمن به !
كما يدل النص على أن شخصية الإمام عليهالسلام وشعبيته ، كانت في نظر المعتصم خطراً على خلافته . ومن حقه أن يفكر كذلك ، لأن القوة الحقيقية كانت بيد قادة الجيش الأتراك ، وعددهم لا يتجاوز أصابع اليد ، فهم الذين خلعوا ابن أخيه العباس بن المأمون وبايعوه ، فصار خليفة . فمن الممكن أن يقتنعوا يوماً بالإمام الهادي عليهالسلام ويبايعوه ويخلعوا المعتصم ويفرضوا ذلك على بني العباس وغيرهم ، خاصة أن العلويين أبناء فاطمة الزهراء عليهاالسلام أقرب الى النبي صلىاللهعليهوآله من بني العباس . فهم عترة النبي صلىاللهعليهوآله الذين شهد لهم وأوصى الأمة باتباعهم .
كان المعتصم يرى أن أخاه المأمون أخطأ في إظهار اعتقاده بإمامة الرضا والجواد وإعلانه للناس أن علياً وأبناءه عليهمالسلام مميزون بأن علمهم من الله ، فلا يحتاجون الى تعليم معلم ، وأن صغارهم كبار .
فقد أعطاهم بذلك مقاماً فوق مقام بني العباس ، بل نزع الشرعية عن بني العباس ودعواهم أنهم يستحقون الخلافة بقرابتهم بالنبي صلىاللهعليهوآله بعمه العباس ، وأنهم أولى من أولاد علي وفاطمة عليهاالسلام .
ولذلك اختار المعتصم سياسة أبيه الرشيد ، فقتل الإمام الجواد عليهالسلام وأنكر أن يكون ابنه الهادي عليهالسلام مثله ، أوتي العلم والحكمة صبياً .
وفي نفس الوقت أظهر أنه يحفظ حق الرحم مع النبي صلىاللهعليهوآله في عترته ، فأمر أن يكون الإمام الهادي عليهالسلام في بيتهم خارج المدينة ، ووكل به والي المدينة ، واختار له الجنيدي كمعلم في الظاهر ، وأعطاه المفتاح ليغلق الباب يومياً على الإمام عليهالسلام فلا يصل اليه شيعته القائلون بإمامته !
استبصر « معلمه » الجنيدي وثبت على الإيمان
راوي خبر الجنيدي ، هو محمد بن سعيد ، وهو ابن غزوان الأزدي ، روى عنه الكليني والصدوق والمسعودي وغيرهم ، وذكره النجاشي / ٣٧٢ في مصنفي الشيعة ، قال : « محمد بن سعيد بن غزوان : له كتاب . قال ابن نوح : أخبرنا محمد بن أحمد بن داود قال : حدثنا محمد بن عيسى بن عثمان الآجري ، عن غزوان بن محمد الأزدي ، عن أبيه محمد بن سعيد بن غزوان بكتابه » .
وهذا كاف في توثيقه ، كما قال الميرزا جواد التبريزي « تنقيح مباني العروة : ٧ / ٢٦٢ » .
وأبوعبد الله الجنيدي الذي عينه المعتصم معلماً للإمام الهادي عليهالسلام غير الفقيه المعروف محمد بن أحمد بن الجنيد ، وغير الجنيد بن محمد البغدادي الصوفي المشهور ، وغير الجنيدي الذي ترجم له السمعاني « ٢ / ٩٩ » ، فقال : « وأبوعبد الله بن الجنيد الإسكاف كان يتكلم بكلام الجنيد بن محمد البغدادي كثيراً فلقب به » . فالجنيد والجنيدي متعددٌ في مصادر التاريخ والرواة .
والظاهر أن الجنيدي هذا قد تشيع على يد
الإمام الهادي عليهالسلام
، وثبت على تشيعه وسكن بغداد ، وأنه هو الذي ذكره الصدوق في كمال الدين /
٤٤٢ ، فيمن رأى
الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف ، قال : « ورآه من الوكلاء ببغداد: العمري وابنه ، وحاجز ، والبلالي ، والعطار . ومن الكوفة : العاصمي . ومن أهل الأهواز : محمد بن إبراهيم بن مهزيار . ومن أهل قم : أحمد بن إسحاق . ومن أهل همدان : محمد بن صالح . ومن أهل الري : البسامي والأسدي يعني نفسه . ومن أهل آذربيجان : القاسم بن العلاء . ومن أهل نيسابور : محمد بن شاذان .
ومن غير الوكلاء من أهل بغداد : أبوالقاسم بن أبي حليس ، وأبوعبد الله الكندي ، وأبوعبد الله الجنيدي ، وهارون القزاز .. الخ . » .
صَرْيا مزرعة الإمام موسى بن جعفر عليهالسلام
صَرْيَا : إسم مصدر بمعنى الفصل في الحكم . وهو إسم قرية قرب المدينة أنشأها الإمام موسى بن جعفر عليهالسلام .
قال الخليل « ٤ / ٤٠٢ » : « يوم بِغَاث : وقعة كانت بين الأوس والخزرج . ويقال : هو بِغاث على ميل من المدينة ، قريب من صَرْيَا . وهو موضع اتخذه موسى بن جعفر أبوالرضا . وصَرْيا معمورة بهم اليوم » .
وقال ابن السكيت / ٣١٠ : « يقال : اختصمنا إلى الحاكم فقطع ما بيننا وفصل ما بيننا ، وصرى ما بيننا وهو يصري صَرْياً » .
وقال ابن منظور « ١٤ / ٤٥٧ » : « وصَرَى ما بينَنا يَصْري صَرْياً : أَصْلَحَ » .
ويظهر من أخبارها أن مساحتها واسعة وفيها زرع ونخيل .
وكان يتواجد فيها الأئمة من أبناء الكاظم وهم الرضا والجواد والهادي عليهمالسلام ، وقد ولد فيها الإمام الهادي عليهالسلام سنة ٢١٢ ، وعاش فيها مدةً من عمره الشريف .
لذلك رأى الرُّخجي مبعوث المعتصم أنها مكانٌ مناسبٌ لفرض الإقامة الجبرية على الإمام الهادي عليهالسلام لحفظ احترامه في الظاهر ، وقطعه عن جمهوره من البلاد .
فشلت خطة المعتصم في محاصرة الإمام عليهالسلام
الأخبار قليلة عن المرحلة التي كان فيها الإمام الهادي عليهالسلام تحت الإقامة الجبرية وماذا جرى بينه وبين الجنيدي ، وكم طالت مدتها ، وكيف كان برنامج الإمام في زيارة قبر جده النبي صلىاللهعليهوآله ، ولقاء شيعته ؟ لكن المؤكد أن التغيرات السياسية وتسديد الله تعالى لوليه عليهالسلام ، قد أفشلا خطة المعتصم .
ويدل عليه أن الجنيدي المسؤول عن حصاره ، انبهر بعلمه عليهالسلام وشخصيته ، وآمن بأنه حجة الله على أرضه . فمن الطبيعي أن يُسهِّلَ ذلك على شيعته وعامة الناس ، أن يكسروا محاصرته ، خاصةً في موسم الحج .
* *
كان الواثق ليناً مع العلويين ومعجباً بالإمام الهادي عليهالسلام
لما مات المأمون كان الإمام الهادي (ع) طفلاً في السادسة من عمره في ظل أبيه الإمام الجواد عليهالسلام . ولما مات المعتصم سنة ٢٢٧ ، انتهى قراره بمحاصرة الإمام الهادي عليهالسلام وكان الإمام يومها في السادسة عشرة . ثم حكم الواثق نحو ست سنين ومات سنة ٢٣٢ ، وكان عمر الإمام عليهالسلام يومها نحو ٢١ سنة .
وقد ترجمنا للواثق في سيرة الإمام الجواد عليهالسلام ، وذكرنا أنه رغم استغراقه في شهواته ، كان ليناً مع الطالبيين فلم يقتل منهم أحداً ، مع أن كبار شخصياتهم كانوا عنده في سامراء ، تحت الإقامة الجبرية .
قال أبو الفرج في مقاتل الطالبيين / ٣٩٤ : « لا نعلم أحداً قُتل في أيامه « يقصد من الطالبيين » إلا أن علي بن محمد بن حمزة ، ذكر أن عمرو بن منيع قتل علي بن محمد بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين ، ولم يذكر السبب في ذلك ، فحكيناه عنه على ما ذكره ، فقتل في الواقعة التي كانت بين محمد بن مكيال ومحمد بن جعفر . هذا بالري . وكان آل أبي طالب مجتمعين بسر من رأى في أيامه ، تُدَرُّ الأرزاق عليهم ، حتى تفرقوا في أيام المتوكل » .
وكان الواثق معجباً بالإمام الهادي عليهالسلام وربما أظهر ذلك ، بخلاف أبيه المعتصم ، فقد طَرَحَ يوماً سؤالاً على الفقهاء فعجزوا عنه ، فقال لهم : أنا آتيكم بمن يعرف الجواب ، وأحضر الإمام الهادي عليهالسلام !
روى في تاريخ بغداد « ١٢ / ٥٦ » : « قال يحيى بن أكثم في مجلس الواثق والفقهاء بحضرته : مَن حَلَقَ رأسَ آدم حين حجَّ ؟ فتعايى القوم عن الجواب فقال الواثق : أنا أحضركم من ينبؤكم بالخبر ! فبعث إلى علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، فأحضر فقال : يا أبا الحسن ، مَن حلق رأس آدم ؟ فقال : سألتك بالله يا أمير المؤمنين إلا أعفيتني . قال : أقسمت عليك لتقولن . قال : أما إذا أبيت فإن أبي حدثني عن جدي ، عن أبيه ، عن جده قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : أمر جبريل أن ينزل بياقوتة من الجنة ، فهبط بها فمسح بها رأس آدم فتناثر الشعر منه ، فحيث بلغ نورها صار حرماً » .
وكان هذا السؤال مطروحاً قبل الواثق ، وعجز علماء السلطة عن جوابه ، ففي تاريخ بغداد « ١٣ / ١٦٧ » : « قال مقاتل بن سليمان بمكة : سلوني ما دون العرش ! فقام قيس القيَّاس فقال : من حلق رأس آدم في حجته ؟ فبقي ! » .
والظاهر أن هذه القصة كانت في موسم الحج ، في مكة أو المدينة ، لأن الإمام الهادي عليهالسلام لم يذهب الى سامراء في زمن الواثق . وقد حج الواثق مرة واحدة قبل وفاته سنة ٢٣١ ، ومعناه أن الإمام الهادي عليهالسلام كان يومها في سن العشرين .
قال ابن تغري في مورد اللطافة « ١ / ١٥٣ » : « وحج الواثق مرة ، ففرق بالحرمين أموالاً عظيمة ، حتى لم يبق بالحرمين فقير » . واليعقوبي : ٢ / ٤٨٣ .
المتوكل يضطهد الإمام الهادي عليهالسلام
عاش الإمام الهادي عليهالسلام في خلافة المتوكل وابنه المنتصر ، ثم في خلافة المستعين والمعتز ، الذي ارتكب جريمة قَتْل الإمام عليهالسلام بالسم ، وذلك في الثالث من رجب سنة ٢٥٤ ، هجرية .
وقد ضيق المعتصم على الإمام عليهالسلام ، ثم شدَّد عليه المتوكل في أول خلافته وأحضره الى سامراء ، وحاول قتله فلم يجد حجة ، فعاد الإمام عليهالسلام الى المدينة .
ثم أحضره المتوكل ثانيةً ، وفرض عليه الإقامة في سامراء ، واضطهد كل بني هاشم ، وأفقرهم ، وقتلهم ، وشردهم . وهدم قبر الحسين عليهالسلام ومنع من زيارته . فنقم عليه المسلمون ، حتى كتبوا شتمه على جدران البيوت في بغداد . وثار عليه الأتراك وقتلوه ، وولوا ابنه المنتصر فحكم شهوراً ، ثم قتله الأتراك .
ومن يومها صار الأتراك القوة الأولى التي تنصب الخليفة وتعزله ! حتى جاء البويهوين الفرس بعد نحو قرن ، وحلوا محلهم !
قال
اليعقوبي في البلدان «
١ / ١٦ »
يصف حكم خمسة خلفاء عباسيين في بضع سنوات :
« مات المنتصر بسر من رأى في شهر ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين ومائتين . ووليَ المستعين أحمد بن محمد بن المعتصم ، فأقام بسر من رأى سنتين وثمانية أشهر ، حتى اضطربت أموره فانحدر إلى بغداد في المحرم سنة إحدى وخمسين ومائتين ، فأقام بها يحارب أصحاب المعتز سنة كاملة ، والمعتز بسر من رأى معه الأتراك وسائر الموالي . ثم خُلع المستعين ووليَ المعتز ، فأقام بها حتى قتل ثلاث سنين
وسبعة أشهر بعد خلع المستعين ، وبويع محمد المهتدي بن الواثق في رجب سنة خمس وخمسين ومائتن ، فأقام حولاً كاملاً ينزل الجوسق حتى قُتل .
وولي أحمد المعتمد بن المتوكل فأقام بسر من رأى في الجوسق وقصور الخلافة ، ثم انتقل إلى الجانب الشرقي بسر من رأى ، فبنى قصراً موصوفاً بالحسن سماه المعشوق فنزله فأقام به حتى اضطربت الأمور فانتقل إلى بغداد ، ثم إلى المدائن » .
أقول : في هذه المرحلة غضب الله تعالى على العباسيين ، فاضطرب نظام الخلافة .
فقد قتل المتوكل وقصرت أعمار الخلفاء ، ووقع الصراع بينهم ، وبينهم وبين قادة جيشهم الأتراك ، وبين الأتراك أنفسهم .
وفي هذه الصراعات كانوا يقتلون الخليفة الذي لا يعجبهم ، ويختارون عباسياً غيره . وكانت طريقة قتل الخليفة غالباً بعصر خصيتيه !
* *
الفصل الثاني :
من مفردات صحيفة المتوكل
الهوية الشخصية
هو جعفر بن المعتصم ، بن هارون ، بن المهدي ، بن المنصور العباسي . ولد سنة ٢٠٥ ، وحكم سنة ٢٣٢ ، وقتل سنة ٤٧ ، فمدة حكمه نحوخمسة عشرة سنة .
قالوا في صفته : « كان أسمرَ ، جميلاً ، مليح العينين ، نحيف الجسم ، خفيف العارضين ، مربوعاً ، وأمه أمةٌ قفقازية إسمها شجاع . وكانت له جُمَّةٌ إلى شحمة أذنيه » . « سير الذهبي : ١٢ / ٣٠ ، ومآثر الإنافة : ١ / ٢٢٨ » .
وقال محمد بن أبي الدنيا : « رأيت المتوكل أسمر حسن العينين ، نحيف الجسم ، خفيف العارضين وكان إلى القِصر أقرب ، ويكنى أبا الفضل » . « تاريخ بغداد « ٧ / ١٨١ » .
وقال المسعودي في مروج الذهب « ٤ / ٣ » : « فلما كان في اليوم الثاني لقبه أحمد بن أبي دؤاد : المتوكل على الله . وذلك في اليوم الذي مات فيه الواثق أخوه ، وهو يوم الأربعاء لست بقين من ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائتين ، ويكنى بأبي الفضل ، وبويع له وهو ابن سبع وعشرين سنة وأشهر ، وقتل وهو ابن إحدى وأربعين سنة ، فكانت خلافته أربع عشرة سنة وتسعة أشهر وتسع ليال ، وأمه أم ولد خوَارزمية يقال لها شجاع ، وقتل ليلة الأربعاء لثلاث خلون من شوال سنة سبع وأربعين ومائتين » .
وفي المحبر لابن حبيب / ٤٤ : « قال أبو العباس بن الواثق : أم المتوكل تركية ، وهي خالة موسى بن بغا ، ويقال لها شجاع . وإسم أختها أم موسى بن بغا : حُسْن » .
كان حضرة الخليفة مخنثاً يطلب الرجال !
قال الطبري « ٧ / ٣٤٣ » : « وكان الواثق قد غضب على أخيه جعفر المتوكل لبعض الأمور ، فوكل عليه عمر بن فرج الرخجي ، ومحمد بن العلاء الخادم ، فكانا يحفظانه « من التخنث » ويكتبان بأخباره في كل وقت !
فصار جعفر إلى محمد بن عبد الملك يسأله أن يكلم له أخاه الواثق ليرضى عنه ، فلما دخل عليه مكث واقفاً بين يديه ملياً لا يكلمه ، ثم أشار إليه أن يقعد فقعد ، فلما فرغ من نظره في الكتب التفت إليه كالمتهدد له فقال : ما جاء بك ؟ قال : جئت لتسأل أمير المؤمنين الرضا عني . فقال لمن حوله : أنظروا إلى هذا يُغضب أخاه ، ويسألني أن أسترضيه له ! إذهب فإنك إذا صلحتَ « تركت التخنث » رضي عنك .
فقام جعفر كئيباً حزيناً لما لقيه به من
قبح اللقاء والتقصير به ، فخرج من عنده فأتى عمر بن فرج ليسأله أن يختم له صكه ليقبض أرزاقه ، فلقيه عمر بن فرج بالخيبة ، وأخذ الصك فرمى به إلى صحن المسجد ، وكان عمر يجلس في مسجد وكان أبو الوزير أحمد بن خالد حاضراً ، فقام لينصرف فقام معه جعفر فقال : يا أبا الوزير ، أرأيت ما صنع بي عمر بن فرج ! قال : جعلت فداك ، أنا زمامٌ عليه وليس يختم صكي بأرزاق إلا بالطلب والترفق به ، فابعث إلى بوكيلك فبعث جعفر بوكيله فدفع إليه عشرين ألفاً ، وقال : أنفق هذا حتى يهيئ الله أمرك
فأخذها ، ثم أعاد إلى أبي الوزير رسوله بعد شهر يسأله إعانته ، فبعث إليه بعشرة آلاف درهم . ثم صار جعفر من فوره حين خرج من عند عمر إلى أحمد بن أبي دؤاد ، فدخل عليه فقام له أحمد واستقبله على باب البيت وقبَّله والتزمه ، وقال : ما جاء بك جعلت فداك ؟ قال : قد جئت لتسترضي لي أمير المؤمنين . قال : أفعلُ ونِعْمَةُ عَيْنٍ وكرامة ، فكلم أحمد بن أبي دؤاد الواثق فيه فوعده ولم يرض عنه ، فلما كان يوم الحلبة كلم أحمد بن أبي دؤاد الواثق ، وقال معروفُ المعتصمِ عندي معروفٌ ، وجعفرُ ابنه ، فقد كلمتك فيه ووعدتَ الرضا ، فبحق المعتصم يا أمير المؤمنين إلا رضيتَ عنه ، فرضي عنه من ساعته وكساه . وانصرف الواثق وقد قلد أحمد بن أبي دؤاد جعفراً بكلامه حتى رضيَ عنه أخوه شكراً ، فأحظاه ذلك عنده حين مَلَك .
وذكر أن محمد بن عبد الملك كان كتب إلى الواثق حين خرج جعفر من عنده : يا أمير المؤمنين ، أتاني جعفر بن المعتصم يسألني أن أسأل أمير المؤمنين الرضا عنه ، في زي المخنثين له شَعْرُ قَفَا ! فكتب إليه الواثق : إبعث إليه فأحضره ومُرْ من يَجُزُّ شعر قفاه ، ثم مُرْ من يأخذ من شعره ويضرب به وجهه ، واصرفه إلى منزله !
فذُكِرَ عن المتوكل أنه قال : لما أتاني رسوله لبست سواداً لي جديداً وأتيته رجاءَ أن يكون قد أتاه الرضا عني ، فأتيته فقال : يا غلام أدع لي حَجَّاماً فدعا به ، فقال : خذ شعره واجمعه ، فأخذه على السواد الجديد ولم يأته بمنديل ، فأخذ شعره وشعر قفاه وضرب به وجهه !
قال المتوكل : فما دخلني من الجزع على شئ مثل ما دخلني حين أخذني على السواد الجديد ، وقد جئته فيه طامعاً في الرضا . فأخذ شعري عليه » .
أقول : يتضح بذلك أن سبب غضب الواثق على المتوكل أنه كان مخنثاً شاذاً ، أطال شعره كما يفعل المخنثون ، الذين يتشبهون بالنساء ، ويطلبون الرجال !
وكان على المخنث الغني أن يعطي الشاب التركي أجرة لواطه به ، كما فعل عبَّادة المخنث ! « خرج عَبَّادة يوماً في السحر إلى الحمام ، فلقي غلاماً من أولاد الأتراك فأعطاه عشرة دراهم وقال : إقطع أمر عمك .. » !
وأتوا به من سجن المخانيث الى كرسي الخلافة !
أوصى الواثق بالخلافة الى ابنه محمد ، لكن كبار أركان الدولة استصغروه ، فجاؤوا بالمتوكل من سجنه ، ونصبوه خليفة .
قال
الطبري « ٧ / ٢٤١ » :
« لما توفيَ حضر الدار أحمد بن أبي دؤاد ، وإيتاخ ، ووصيف وعمر بن فرج ، وابن الزيات ، وأحمد بن خالد أبوالوزير ، فعزموا على البيعة لمحمد بن الواثق ، وهوغلام أمرد فألبسوه دراعة سوداء وقلنسوة رصافية ، فإذا هو قصير ، فقال لهم وصيف « القائد التركي »
: أما تتقون الله تولون مثل هذا الخلافة ، وهو لا يجوز معه الصلاة ! قال فتناظروا فيمن يولونها فذكروا عدةً ، فذُكر عن بعض من حضر الدار مع هؤلاء أنه قال : خرجت من الموضع الذي كنت فيه فمررت بجعفر المتوكل فإذا هو في قميص وسروال قاعد مع أبناء الأتراك ، فقال لي : ما الخبر ؟ فقلت : لم ينقطع أمرهم . ثم دعوا به ، فأخبره بغا الشرابي الخبر ،