كشف الغمّة في معرفة الأئمّة - ج ١

أبي الحسن علي بن عيسى بن أبي الفتح الاربلي

كشف الغمّة في معرفة الأئمّة - ج ١

المؤلف:

أبي الحسن علي بن عيسى بن أبي الفتح الاربلي


المحقق: السيد هاشم الرسولي المحلاتي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مكتبة بني هاشمي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٤
الجزء ١ الجزء ٢

وَنَقَلْتُ مِنْ مُسْنَدِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْحَرْثِ قَالَ إِنِّي لَأَسِيرُ مَعَ مُعَاوِيَةَ فِي مُنْصَرَفِهِ مِنْ صِفِّينَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو يَا أَبَةِ أَمَا سَمِعْتَ رَسُولَ اللهِ صلی الله علیه وسلم يَقُولُ لِعَمَّارٍ وَيْحَكَ يَا ابْنَ سُمَيَّةَ تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ قَالَ فَقَالَ عَمْرٌو لِمُعَاوِيَةَ أَلَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ هَذَا فَقَالَ مُعَاوِيَةُ لَا يَزَالُ يَأْتِينَا نُهْبَةٌ أَنَحْنُ قَتَلْنَاهُ إِنَّمَا قَتَلَهُ الَّذِينَ جَاءُوا بِهِ.

وَمِنْ مُسْنَدِ أَحْمَدَ أَيْضاً عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَارَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ مَا زَالَ جَدِّي كَافّاً سِلَاحَهُ يَوْمَ الْجَمَلِ حَتَّى قُتِلَ عَمَّارٌ بِصِفِّينَ فَسَلَّ سَيْفَهُ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ ـ : قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلی الله علیه وسلم يَقُولُ تَقْتُلُ عَمَّاراً الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ.

وَمِنَ الْمُسْنَدِ عَنْ عَلِيٍّ علیهما السلام أَنَّ عَمَّاراً اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ صلی الله علیه وسلم فَقَالَ الطَّيِّبُ الْمُطَيَّبُ ائْذَنْ لَهُ.

وَمِنَ الْمَنَاقِبِ عَنْ عَلْقَمَةَ وَالْأَسْوَدِ قَالا أَتَيْنَا أَبَا أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيَّ فَقُلْنَا يَا أَبَا أَيُّوبَ إِنَّ اللهَ أَكْرَمَكَ بِنَبِيِّهِ إِذْ أَوْحَى إِلَى رَاحِلَتِهِ فَبَرَكَتْ عَلَى بَابِكَ وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلی الله علیه وسلم ضَيْفاً لَكَ فَضِيلَةٌ فَضَّلَكَ اللهُ بِهَا أَخْبِرْنَا عَنْ مَخْرَجِكَ مَعَ عَلِيٍّ قَالَ فَإِنِّي أُقْسِمَ لَكُمَا أَنَّهُ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلی الله علیه وسلم فِي هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَنْتُمَا فِيهِ وَلَيْسَ فِي الْبَيْتِ غَيْرُ رَسُولِ اللهِ وَعَلِيٌّ جَالِسٌ عَنْ يَمِينِهِ وَأَنَا عَنْ يَسَارِهِ وَأَنَسٌ قَائِمٌ بَيْنَ يَدَيْهِ إِذْ تَحَرَّكَ الْبَابُ فَقَالَ عَلِيٌّ انْظُرْ مَنْ فِي الْبَابِ فَخَرَجَ أَنَسٌ وَقَالَ هَذَا عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ فَقَالَ افْتَحْ لِعَمَّارٍ الطَّيِّبِ الْمُطَيَّبِ فَفَتَحَ أَنَسٌ وَدَخَلَ عَمَّارٌ فَسَلَّمَ عَلَى رَسُولِ اللهِ فَرَحَّبَ بِهِ وَقَالَ إِنَّهُ سَيَكُونُ مِنْ بَعْدِي فِي أُمَّتِي هَنَاتٌ حَتَّى يَخْتَلِفُ السَّيْفُ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَحَتَّى يَقْتُلَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً وَحَتَّى يَبْرَأَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ فَإِذَا رَأَيْتَ ذَلِكَ فَعَلَيْكَ بِهَذَا الْأَصْلَعِ عَنْ يَمِينِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَإِنْ سَلَكَ النَّاسُ كُلُّهُمْ وَادِياً فَسَلَكَ عَلِيٌّ وَادِياً فَاسْلُكْ وَادِيَ عَلِيٍّ وَخَلِّ عَنِ النَّاسِ إِنَّ ١ عَلِيّاً لَا يَرُدُّكَ عَنْ هُدًى وَلَا يَدَلُّكَ عَلَى رَدًى يَا عَمَّارُ طَاعَةُ عَلِيٍّ طَاعَتِي وَطَاعَتِي طَاعَةُ اللهِ تَعَالَى.

وَرُوِيَ أَنَّ أُوَيْسَ الْقَرَنِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى قُتِلَ مَعَ عَلِيٍّ علیهما السلام فِي صِفِّينَ وَكَانَ فِي فَضْلِهِ وَشَرَفِهِ مَشْهُوراً.

وَرُوِيَ أَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ صلی الله علیه وسلم حِينَ قَالَ إِنِّي لَأَجِدُ نَفَسَ الرَّحْمَنِ مِنْ قِبَلِ الْيَمَنِ

٢٦١

عَنْهُ وَقِيلَ عَنِ الْأَنْصَارِ.

وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا رَأَى جَيْشَ عَلِيٍّ علیهما السلام قَاصِداً حَرْبَ مُعَاوِيَةَ فَسَأَلَ فَعَرَفَ فَقَالَ حَضَرَ الْجِهَادَ وَلَا يُمْكِنُ التَّخَلُّفَ عَنْهُ فَسَارَ مَعَهُمْ وَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ.

وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلی الله علیه وسلم مُجْتَهِداً فِي الْعِبَادَةِ وَتَزَوَّجَ امْرَأَةً وَاشْتَغَلَ عَنْهَا بِالصِّيَامِ وَالْقِيَامِ فَسَأَلَهَا أَبُوهُ عَنْ حَالِهِ مَعَهَا فَقَالَتْ نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللهِ وَلَكِنَّهُ قَدْ تَرَكَ الدُّنْيَا فَذَكَرَ عَمْرٌو ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صلی الله علیه وسلم فَدَعَا بِهِ وَقَالَ يَا عَبْدَ اللهِ أَتَصُومُ النَّهَارَ قَالَ نَعَمْ قَالَ أَتَقُومُ اللَّيْلَ قَالَ نَعَمْ فَقَالَ صلی الله علیه وسلم لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَقُومُ وَأَنَامُ وَأَمَسُّ النِّسَاءَ يَا عَبْدَ اللهِ إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقّاً وَلِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقّاً وَلِعُرْسِكَ عَلَيْكَ حَقّاً وَلِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقّاً فَأْتِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ.

فَلَمَّا كَانَ حَرْبُ صِفِّينَ حَضَرَهَا مَعَ أَبِيهِ فَأَمَرَهُ بِالْقِتَالِ فَامْتَنَعَ وَقَالَ كَيْفَ أُقَاتِلُ وَقَدْ كَانَ مِنْ عَهْدِ رَسُولِ اللهِ مَا قَدْ عَلِمْتَ فَقَالَ نَشَدْتُكَ اللهَ أَمَا كَانَ آخِرَ عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلی الله علیه وسلم إِلَيْكَ أَنْ قَالَ لَكَ أَطِعْ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ فَقَالَ بَلَى قَالَ فَإِنِّي قَدْ أَمَرْتُكَ أَنْ تُقَاتِلَ فَقَاتَلَ عَبْدُ اللهِ وَرُوِيَ أَنَّهُ قَاتَلَ بِسَيْفَيْنِ وَقَالَ يَصِفُ حَالَهُمْ فِي تِلْكَ الْحَرْبِ مَعَ أَهْلِ الْعِرَاقِ هَذَا

وَلَوْ شَهِدْتُ جُمَلَ مَقَامِي وَمَشْهَدِي

بِصِفِّينَ يَوْماً شَابَ مِنْهُ الذَّوَائِبُ

عَشِيَّةَ جَاءَ أَهْلُ الْعِرَاقِ كَأَنَّهُمْ

سَحَابُ رَبِيعٍ رَفَعَتْهُ الْجَنَائِبُ

وَجِئْنَاهُمْ نُرْدِي كَأَنَّ خُيُولَنَا

مِنَ الْبَحْرِ مَوْجٌ مَدُّهُ مُتَرَاكِبُ

فَدَارَتْ رَحَانَا وَاسْتَدَارَتْ رَحَاهُمْ

سَرَاةَ النَّهَارِ مَا تَوَلَّى الْمَنَاكِبُ

إِذَا قُلْتُ قَدْ وَلُّوا سِرَاعاً بَدَتْ لَنَا

كَتَائِبُ مِنْهُمْ وَارْجَحَنَّتْ كَتَائِبُ

فَقَالُوا لَنَا إِنَّا نَرَى أَنْ تُبَايِعُوا

عَلِيّاً فَقُلْنَا بَلْ نَرَى أَنْ نُضَارِبَ

يقال تردى الفرس بالفتح يردي رديا ورديانا إذا رجم الأرض رجما بين العدو والمشي الشديد وسراة النهار وسطه وارجحن مال واهتز.

قلت وإنما أوردت حديث عبد الله بن عمرو لأوضح لك غلط هؤلاء الأغنام

٢٦٢

في التأويل ودخولهم في الكفر والفسق بالدليل هذا عبد الله كان زاهدا وأمره النبي بطاعة أبيه كما ورد وهو روى أن عمارا تقتله الفئة الباغية وما أحس أن طاعة أبيه إنما يجب اتباعها إذا كانت في خير وطاعة أتراه لم يسمع : لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي عِصْيَانُ الْخَالِقِ وهو كما روي أن أول كلام قاله أبو بكر رضي الله عنه حين ولي الخلافة أولم يسمع قوله تعالى (وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما) الآية إلى آخرها.

وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَحِمَهُ اللهُ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ صلی الله علیه وسلم يَقُولُ سَيَلِي أُمُورَكُمْ مِنْ بَعْدِي رِجَالٌ يُعَرِّفُونَكُمْ مَا تُنْكِرُونَ وَيُنْكِرُونَكُمْ مَا تَعْرِفُونَ فَلَا طَاعَةَ لِمَنْ عَصَى اللهَ تَعَالَى فَلَا تَعْتَلُوا بِرَبِّكُمْ عَزَّ وَجَلَ وكذا حال كل من عاند عليا علیهما السلام فإن منهم من عرف فضله وسابقته وشرفه لكنهم غلبوا حب الدنيا على الآخرة وباعوا نصيبهم منها بعاجل حصل لهم فكانوا من الأخسرين (أَعْمالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) ـ كمعاوية وعمرو بن العاص وأمثالهما ومنهم من أخطأ في التأويل ـ كعبد الله بن عمرو والخوارج ومنهم من قعد عنه شاكا في حروبه ومغازيه وهم جماعة وندموا عند موتهم حين لا ينفع الندم كعبد الله بن عمر وغيره فإنه ندم على تخلفه عن علي علیهما السلام حين لا ينفع الندم كما ورد ونقلته الرواة ومنهم من ظهرته أمارات الحق وأدركه الله برحمته فاستدرك الفارط كما جرى لخزيمة بن ثابت فإنه ما زال شاكا معتزلا الحرب في الجمل وفي بعض أيام صفين فلما قتل عمار رحمه‌الله أصلت سيفه وقاتل حتى قتل ولا أكاد أعذر أحدا ممن تخلف عنه صلی الله علیه وسلم ولا أنسب ذلك منهم إلا إلى بله وقلة تمييز وعدم تعقل وغباوة عظيمة فإن دخول علي في أمر ما دليل على حقية ذلك الأمر وصحته وثباته ووجوب العمل به لفضله وعلمه في نفسه ولِقَوْلِ النَّبِيِّ صلی الله علیه وسلم فِي حَقِّهِ أَقْضَاكُمْ عَلِيٌّ أَدِرِ الْحَقَّ مَعَ عَلِيٍّ لَا يُحِبُّكَ إِلَّا مُؤْمِنٌ وَلَا يُبْغِضُكَ إِلَّا مُنَافِقٌ في أمثال لذلك كثيرة ولكن التوفيق عزيز والله يهدي (لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ).

وأنشدني بعض الأصحاب هذه الأبيات وقال إنها وجدت مكتوبة على باب

٢٦٣

مشهد بصفين

رضيت بأن ألقى القيامة خائضا

دماء نفوس حاربتك جسومها

أبا حسن إن كان حبك مدخلي

جحيما فإن الفوز عندي جحيمها

وكيف يخاف النار من بات موقنا

بأنك مولاه وأنت قسيمها

وانتشر أمر الخوارج وقاموا على سوقهم في مخالفة ملة الإسلام واعتلوا بكلمة حق يراد بها باطل كما قَالَ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامُ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَ نُفُوسِهِمْ فَمَرَقُوا مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السِّهَامِ فتجرد أمير المؤمنين لاستئصالهم بسيوف الانتقام وصدقهم الحملة بعزيمته التي لا تني دون إدراك القصد ونيل المرام.

وتلخيص حالهم كما أورده ابن طلحة رحمه‌الله وإن كانت هذه الوقائع مسطورة مبسوطة في كتب المؤرخين والأخباريين ـ أَنَّ عَلِيّاً علیهما السلام لَمَّا عَادَ مِنْ صِفِّينَ إِلَى الْكُوفَةِ بَعْدَ إِقَامَةِ الْحَكَمَيْنِ أَقَامَ يَنْتَظِرُ انْقِضَاءَ الْمُدَّةِ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُعَاوِيَةَ لِيَرْجِعَ إِلَى الْمُقَاتَلَةِ وَالْمُحَارَبَةِ إِذِ انْخَزَلَتْ طَائِفَةٌ مِنْ خَاصَّةِ أَصْحَابِهِ فِي أَرْبَعَةِ آلَافِ فَارِسٍ وَهُمُ الْعُبَّادُ وَالنُّسَّاكُ فَخَرَجُوا مِنَ الْكُوفَةِ وَخَالَفُوا عَلِيّاً علیهما السلام وَقَالُوا لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ وَلَا طَاعَةَ لِمَنْ عَصَى اللهَ وَانْحَازَ إِلَيْهِمْ نَيِّفٌ عَنْ ثَمَانِيَةِ آلَافٍ مِمَّنْ يَرَى رَأْيَهُمْ فَصَارُوا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفاً وَسَارُوا إِلَى أَنْ نَزَلُوا بِحَرُورَاءَ وَأَمَّرُوا عَلَيْهِمْ عَبْدَ اللهِ بْنَ الْكَوَّاءِ فَدَعَا عَلِيٌّ علیهما السلام عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا فَأَرْسَلَهُ إِلَيْهِمْ فَحَادَثَهُمْ وَأَطَالَ فَلَمْ يَرْتَدِعُوا وَقَالُوا لِيَخْرُجْ إِلَيْنَا عَلِيٌّ بِنَفْسِهِ لِنَسْمَعَ كَلَامَهُ عَسَى أَنْ يَزُولَ مَا بِأَنْفُسِنَا إِذَا سَمِعْنَاهُ فَرَجَعَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَأَخْبَرَهُ فَرَكِبَ فِي جَمَاعَةٍ وَمَضَى إِلَيْهِمْ فَرَكِبَ ابْنُ الْكَوَّاءِ فِي جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ فَوَاقَفَهُ ـ : فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ علیهما السلام يَا ابْنَ الْكَوَّاءِ إِنَّ الْكَلَامَ كَثِيرٌ فَأَبْرِزْ إِلَيَّ مِنْ أَصْحَابِكَ لِأُكَلِّمَكَ فَقَالَ وَأَنَا آمَنُ مِنْ سَيْفِكَ فَقَالَ نَعَمْ فَخَرَجَ إِلَيْهِ فِي عَشَرَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ لَهُ علیهما السلام عَنِ الْحَرْبِ مَعَ مُعَاوِيَةَ وَذَكَرَ لَهُ رَفْعَ الْمَصَاحِفِ عَلَى الرِّمَاحِ وَأَمْرَ الْحَكَمَيْنِ وَقَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنَّ أَهْلَ الشَّامِ يَخْدَعُونَكُمْ بِهَا فَإِنَّ الْحَرْبَ قَدْ عَضَّتْهُمْ فَذَرُونِي أُنَاجِزْهُمْ فَأَبَيْتُمْ أَلَمْ أُرِدْ أَنْ أَنْصَبَ ابْنَ عَمِّي حَكَماً وَقُلْتُ إِنَّهُ لَا يَنْخَدِعُ فَأَبَيْتُمْ إِلَّا أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ وَقُلْتُمْ رَضِينَا بِهِ حَكَماً فَأَجَبْتُكُمْ كَارِهاً وَلَوْ وَجَدْتُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَعْوَاناً غَيْرَكُمْ لَمَا

٢٦٤

أَجَبْتُكُمْ وَشَرَطْتُ عَلَى الْحَكَمَيْنِ بِحُضُورِكُمْ أَنْ يَحْكُمَا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ فَاتِحَتِهِ إِلَى خَاتِمَتِهِ وَالسُّنَّةِ الْجَامِعَةِ وَأَنَّهُمَا إِنْ لَمْ يَفْعَلَا فَلَا طَاعَةَ لَهُمَا عَلَيَّ كَانَ ذَلِكَ أَوَلَمْ يَكُنْ قَالَ ابْنُ الْكَوَّاءِ صَدَقْتَ قَدْ كَانَ هَذَا كُلُّهُ فَلِمَ لَا تَرْجِعُ الْآنَ إِلَى مُحَارَبَةِ الْقَوْمِ فَقَالَ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْمُدَّةُ الَّتِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ قَالَ ابْنُ الْكَوَّاءِ وَأَنْتَ مُجْمِعٌ عَلَى ذَلِكَ قَالَ نَعَمْ وَلَا يَسَعُنِي غَيْرُهُ فَعَادَ ابْنُ الْكَوَّاءِ وَالْعَشَرَةُ الَّذِينَ مَعَهُ إِلَى أَصْحَابِ عَلِيٍّ علیهما السلام رَاجِعِينَ عَنْ دِينِ الْخَوَارِجِ وَتَفَرَّقَ الْبَاقُونَ وَهُمْ يَقُولُونَ لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ.

وَأَمَّرُوا عَلَيْهِمْ عَبْدَ اللهِ بْنَ وَهْبٍ الرَّاسِبِيَّ وَحُرْقُوصَ بْنَ زُهَيْرٍ الْبَجَلِيَّ الْمَعْرُوفَ بِذِي الثُّدَيَّةِ وَعَسْكَرُوا بِالنَّهْرَوَانِ وَخَرَجَ عَلِيٌّ فَسَارَ حَتَّى بَقِيَ عَلَى فَرْسَخَيْنِ مِنْهُمْ وَكَاتَبَهُمْ وَرَاسَلَهُمْ فَلَمْ يَرْتَدِعُوا فَأَرْكَبَ إِلَيْهِمْ ابْنَ عَبَّاسٍ وَقَالَ سَلْهُمْ مَا الَّذِي نَقَمُوا وَأَنَا أُرْدِفُكَ فَلَا تَخَفْ مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاءَهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ مَا الَّذِي نَقَمْتُمْ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ قَالُوا نَقَمْنَا أَشْيَاءَ لَوْ كَانَ حَاضِراً لَكَفَّرْنَاهُ بِهَا وَعَلِيٌّ علیهما السلام وَرَاءَهُ يَسْمَعُ ذَلِكَ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ سَمِعْتَ كَلَامَهُمْ وَأَنْتَ أَحَقُّ بِالْجَوَابِ.

فَتَقَدَّمَ وَقَالَ : أَيُّهَا النَّاسُ أَنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَتَكَلَّمُوا بِمَا نَقَمْتُمْ عَلَيَّ قَالُوا نَقَمْنَا عَلَيْكَ أَوَّلاً أَنَّا قَاتَلْنَا بَيْنَ يَدَيْكَ بِالْبَصْرَةِ فَلَمَّا أَظْفَرَكَ اللهُ بِهِمْ أَبَحْتَنَا مَا فِي عَسْكَرِهِمْ وَمَنَعْتَنَا النِّسَاءَ وَالذُّرِّيَّةَ فَكَيْفَ حَلَّ لَنَا مَا فِي الْعَسْكَرِ وَلَمْ يَحِلَّ لَنَا النِّسَاءُ فَقَالَ لَهُمْ عَلِيٌّ علیهما السلام يَا هَؤُلَاءِ إِنَّ أَهْلَ الْبَصْرَةِ قَاتَلُونَا وَبَدَءُونَا بِالْقِتَالِ فَلَمَّا ظَفِرْتُمْ اقْتَسَمْتُمْ سَلَبَ مَنْ قَاتَلَكُمْ وَمَنَعْتُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ فَإِنَّ النِّسَاءَ لَمْ يُقَاتِلْنَ وَالذُّرِّيَّةَ وُلِدُوا عَلَى الْفِطْرَةِ وَلَمْ يَنْكُثُوا وَلَا ذَنْبَ لَهُمْ وَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلی الله علیه وسلم مَنَّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَلَا تَعْجَبُوا إِنْ مَنَنْتُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَلَمْ أَسْبِ نِسَاءَهُمْ وَلَا ذُرِّيَّتَهُمْ.

وَقَالُوا نَقَمْنَا عَلَيْكَ يَوْمَ صِفِّينَ كَوْنَكَ مَحَوْتَ اسْمَكَ مِنْ إِمْرَةِ الْمُؤْمِنِينَ فَإِذَا لَمْ تَكُنْ أَمِيرَنَا فَلَا نُطِيعُكَ وَلَسْتَ أَمِيراً لَنَا فَقَالَ يَا هَؤُلَاءِ إِنَّمَا اقْتَدَيْتُ بِرَسُولِ

٢٦٥

اللهِ حِينَ صَالَحَ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو وَقَدْ تَقَدَّمَتْ قِصَّتُهُ.

قَالُوا فَإِنَّا نَقَمْنَا عَلَيْكَ أَنَّكَ قُلْتَ لِلْحَكَمَيْنِ انْظُرَا كِتَابَ اللهِ فَإِنْ كُنْتَ أَفْضَلَ مِنْ مُعَاوِيَةَ فَأَثْبِتَانِي فِي الْخِلَافَةِ فَإِذَا كُنْتَ شَاكّاً فِي نَفْسِكَ فَنَحْنُ فِيكَ أَشَدُّ وَأَعْظَمُ شَكّاً فَقَالَ علیهما السلام فَإِنَّمَا أَرَدْتُ بِذَلِكَ النَّصَفَةَ فَإِنِّي لَوْ قُلْتُ احْكُمَا لِي وَذَرَا مُعَاوِيَةَ لَمْ يَرْضَ وَلَمْ يَقْبَلْ وَلَوْ قَالَ النَّبِيُّ صلی الله علیه وسلم لِنَصَارَى نَجْرَانَ لَمَّا قَدِمُوا عَلَيْهِ تَعَالَوْا حَتَّى نَبْتَهِلَ وَأَجْعَلَ لَعْنَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ لَمْ يَرْضَوْا وَلَكِنْ أَنْصَفَهُمْ مِنْ نَفْسِهِ كَمَا أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى فَقَالَ (فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ) فَأَنْصَفَهُمْ مِنْ نَفْسِهِ فَكَذَلِكَ فَعَلْتُ أَنَا وَلَمْ أَعْلَمْ بِمَا أَرَادَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ مِنْ خَدْعِهِ أَبَا مُوسَى.

قَالُوا فَإِنَّا نَقَمْنَا عَلَيْكَ أَنَّكَ حَكَّمْتَ حَكَماً فِي حَقٍّ هُوَ لَكَ فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللهِ حَكَّمَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ وَلَوْ شَاءَ لَمْ يَفْعَلْ وَأَنَا اقْتَدَيْتُ بِهِ فَهَلْ بَقِيَ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ فَسَكَتُوا وَصَاحَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ التَّوْبَةَ التَّوْبَةَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَاسْتَأْمَنَ إِلَيْهِ ثَمَانِيَةُ آلَافٍ وَبَقِيَ عَلَى حَرْبِهِ أَرْبَعَةُ آلَافٍ فَأَمَرَ علیهما السلام الْمُسْتَأْمِنِينَ بِالاعْتِزَالِ عَنْهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَتَقَدَّمَ بِأَصْحَابِهِ حَتَّى دَنَا مِنْهُمْ وَتَقَدَّمَ عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ وَذُو الثَّدْيَةِ حُرْقُوصٌ وَقَالا مَا نُرِيدُ بِقِتَالِنَا إِيَّاكَ إِلَّا وَجْهَ اللهِ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَقَالَ عَلِيٌّ علیهما السلام (هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً).

ثُمَّ الْتَحَمَ الْقِتَالُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ وَاسْتَعَرَّتِ الْحَرْبُ بِلَظَاهَا وَأَسْفَرَتْ عَنْ زُرْقَةِ صُبْحِهَا وَحُمْرَةِ ضُحَاهَا فَتَجَادَلُوا وَتَجَالَدُوا بِأَلْسِنَةِ رِمَاحِهَا وَحِدَادِ ظُبَاهَا فَحَمَلَ فَارِسٌ مِنَ الْخَوَارِجِ يُقَالُ لَهُ الْأَخْنَسُ الطَّائِيُّ وَكَانَ شَهِدَ صِفِّينَ مَعَ عَلِيٍّ علیهما السلام فَحَمَلَ وَشَقَّ الصُّفُوفَ يَطْلُبُ عَلِيّاً علیهما السلام فَبَدَرَهُ عَلِيٌّ بِضَرْبَةٍ فَقَتَلَهُ فَحَمَلَ ذُو الثَّدْيَةُ لِيَضْرِبَ عَلِيّاً فَسَبَقَهُ عَلِيٌّ علیهما السلام وَضَرَبَهُ فَفَلَقَ الْبَيْضَةَ وَرَأْسَهُ فَحَمَلَهُ فَرَسُهُ وَهُوَ لِمَا بِهِ فَأَلْقَاهُ فِي آخِرِ الْمَعْرَكَةِ فِي جُرُفٍ دَالِيَةٍ عَلَى (١) شَطِّ النَّهْرَوَانِ.

________________

(١) الجرف ـ بضمتين ـ : الجانب الذي أكله الماء من حاشية النهر كل ساعة يسقط بعض منه.

٢٦٦

وَخَرَجَ مِنْ بَعْدِهِ ابْنُ عَمِّهِ مَالِكُ بْنُ الْوَضَّاحِ وَحَمَلَ عَلَى عَلِيٍّ فَضَرَبَهُ عَلِيٌّ فَقَتَلَهُ وَتَقَدَّمَ عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ الرَّاسِبِيُّ فَصَاحَ يَا ابْنَ أَبِي طَالِبٍ وَاللهِ لَا نَبْرَحُ مِنْ هَذِهِ الْمَعْرَكَةِ أَوْ تَأْتِيَ عَلَى أَنْفُسِنَا أَوْ نَأْتِيَ عَلَى نَفْسِكَ فَابْرُزْ إِلَيَّ وَأَبْرُزُ إِلَيْكَ وَذَرِ النَّاسَ جَانِباً فَلَمَّا سَمِعَ عَلِيٌّ علیهما السلام كَلَامَهُ تَبَسَّمَ وَقَالَ قَاتَلَهُ اللهُ مِنْ رَجُلٍ مَا أَقَلَّ حَيَاؤُهُ أَمَا إِنَّهُ لَيَعْلَمُ أَنِّي حَلِيفُ السَّيْفِ وَخَدِينُ الرُّمْحِ (١) وَلَكِنَّهُ قَدْ يَئِسَ مِنَ الْحَيَاةِ وَإِنَّهُ لَيَطْمَعُ طَمَعاً كَاذِباً ثُمَّ حَمَلَ عَلَى عَلِيٍّ علیهما السلام فَضَرَبَهُ عَلِيٌّ وَقَتَلَهُ وَأَلْحَقَهُ بِأَصْحَابِهِ الْقَتْلَى وَاخْتَلَطُوا فَلَمْ يَكُنْ إِلَّا سَاعَةٌ حَتَّى قُتِلُوا بِأَجْمَعِهِمْ وَكَانُوا أَرْبَعَةَ آلَافٍ.

فَمَا أَفْلَتَ مِنْهُمْ إِلَّا تِسْعَةُ أَنْفُسٍ رَجُلَانِ هَرَبا إِلَى خُرَاسَانَ إِلَى أَرْضِ سِجِسْتَانَ وَبِهَا نَسْلُهُمَا وَرَجُلَانِ صَارَا إِلَى بِلَادِ عُمَانَ وَبِهَا نَسْلُهُمَا وَرَجُلَانِ صَارَا إِلَى الْيَمَنِ وَبِهَا نَسْلُهُمَا وَهُمُ الْإِبَاضَيَّةُ وَرَجُلَانِ صَارَا إِلَى بِلَادِ الْجَزِيرَةِ إِلَى مَوْضِعٍ يُعْرَفُ بِالسِّنِّ وَالْبَوَازِيجِ وَإِلَى شَاطِئِ الْفُرَاتِ وَصَارَ آخَرُ إِلَى تَلِّ مَوْزَنَ.

وَغَنِمَ أَصْحَابُ عَلِيٍّ علیهما السلام غَنَائِمَ كَثِيرَةً وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِ عَلِيٍّ علیهما السلام تِسْعَةٌ بِعَدَدِ مَنْ سَلِمَ مِنَ الْخَوَارِجِ وَهِيَ مِنْ جُمْلَةِ كَرَامَاتِ عَلِيٍّ علیهما السلام فَإِنَّهُ قَالَ نَقْتُلُهُمْ وَلَا يُقْتَلُ مِنَّا عَشَرَةٌ وَلَا يَسْلَمُ مِنْهُمْ عَشْرَةٌ فَلَمَّا قُتِلُوا قَالَ عَلِيٌّ علیهما السلام الْتَمِسُوا الْمُخْدَجَ (٢) فَالْتَمَسُوهُ فَلَمْ يَجِدُوهُ فَقَامَ عَلِيٌّ علیهما السلام بِنَفْسِهِ حَتَّى أَتَى نَاساً قَدْ قُتِلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فَقَالَ أَخِّرُوهُمْ فَوَجَدُوهُ مِمَّا يَلِي الْأَرْضَ فَكَبَّرَ عَلِيٌّ علیهما السلام وَقَالَ صَدَقَ اللهُ وَبَلَّغَ رَسُولُهُ قَالَ أَبُو الرَّضِيِّ فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ حَبَشِيٌّ عَلَيْهِ قُرَيْطَقُ (٣) أَحَدِ ثَدْيَيْهِ مِثْلُ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ عَلَيْهَا شَعَرَاتٌ مِثْلُ شَعَرَاتِ ذَنَبِ الْيَرْبُوعِ.

وهذا أبو الرضي هو عباد بن نسيب القيسي تابعي يروي عنه هذا القول أبو داود في سننه كما قال.

فهذا تلخيص مواقفه علیهما السلام في منازلة الطوائف المتبعة تضليل أهوائها ومقاتلة

________________

(١) الخدين : الصاحب. الرفيق. الصديق.

(٢) المخدج : الناقص الخلقة وهو لقب حرقوص بن زهير وكان ناقص اليد وقد مر أيضا في مواضع شتّى من الكتاب.

(٣) قريطق ـ تصغير قرطق ـ : قباء ذو طاق واحد.

٢٦٧

الناكثين والقاسطين والمارقين في مقاتلها بأعبائها وذكر كيفية قذفه بحقه لإزهاق باطلها وكف غلوائها وإرهاق عصيها صعود بوار قاض عليه بشقائها وقد تضمن هذا الفصل من وقائعه المذكورة ومواقفه المأثورة ما فيه غنية كافية وكفاية مغنية في أنه قد ملك عصم الشجاعة وأنه من أكفاء أكفائها ومن تأمل إقدامه علیهما السلام في مأزق وقائعه ومضايق مواقفه ومعارك كره على الأبطال وهجومه على الأقران وافتراس نفوس أخصامه ببأسه قاطا بحسامه رقاب الهمام مفلقا بشباه مفارق الرءوس قادا بحده أوساط المارقين وشاهد غلظته على أعداء الله تعالى واستئصال شأفتهم وتفصيل أوصالهم وتفريق جموعهم وتمزيقهم كل ممزق غير ثان عنان عزمه وأعمال بطشه عن الإقدام على الصفوف المرصوصة والكتائب المرصوفة والكراديس المصفوفة مبددا شمل اجتماعها مشمرا عن ساق شجاعته لها موغلا في غمرات القتال مولغا صارمه في دماء الطلى والأحشاء تحقق واستيقن أن هجيراه علیهما السلام مكابدة الحروب وإدارة رحاها وأن إليه في جميع الأحوال مردها ومنتهاها وأنه منها قدوة شيخها وكهلها وفتاها وعلم علما لا يعترضه شك أن الله عز وعلا قد أتاه علیهما السلام خصائص تكاد توصف بالتضادد وحلاه بلطائف تجمع أشتات التعاند إذ أين هذه الشدة والبطش والغلظة والبأس والقد والقط وشق الهام وخفة الإقدام وتجديل الحجاج وإذلال الكماة وإلصاق معاطسها الأبية بالرغام من خشوعه وخضوعه راغبا راهبا وتدرعه من الزهادة والعبادة بسربال سابغ ورداء سابل واتصافه علیهما السلام برقة قلب وهموع طرف وانسكاب دمع وتأوه حزين وإخبات منيب وشغف عيشة وجشب غذاء وتقلل قوت وخشونة لباس وتطليق الدنيا وزهرتها ومواصلة الأوراد واستغراق الأوقات بها والإشفاق على الضعيف والرحمة للمسكين والتحلي بخلال خير لا يتأنى إلا لمنقطع في كن جبل لا يصحب إنسا ولا يسمع من البشر حسا مع المبالغة في معاتبة نفسه على التقصير في الطاعة وهو مطيل في العبادة هذا إلى فصاحة ألفاظه وبلاغة معانيه وكلامه المتين في الزهد والحث على الإعراض عن الدنيا ومبالغته في مواعظه الزاجرة وزواجره الواعظة وتذكيره القلوب الغافلة وإيقاظه الهمم الراقدة مطلقا في إيراد أنواع ذلك لسانا لا يفل عضبه ولا يكل

٢٦٨

حده ولا يسأم سامعه جنا حكمه ولا ألفاظ بدائعه ولا يمل عند إطالته لاستحلائه واستعذابه بل يفتح السمع إليه مقفل أبوابه ويرفع له مسبل حجابه

صفات أمير المؤمنين من اقتفى  

 

مدارجها أقنته ثوب ثوابه (١)  

صفات جلال ما اغتدى بلبانها  

 

سواه ولا حلت بغير جنابه  

تفوقها طفلا وكهلا فأينعت  

 

معاني المعالي فهي ملأ إهابه (٢)  

مناقب من قامت به شهدت له  

 

بإزلافه من ربه واقترابه (٣)  

مناقب لطف الله أنزلها له  

 

وشرف ذكراه بها في كتابه  

هذا آخر كلام كمال الدين بن طلحة ـ.

قال الشيخ المفيد رحمه‌الله ومن آيات الله الخارقة للعادة في أمير المؤمنين علیهما السلام أنه لم يعهد لأحد من مبارزة الأقران ومنازلة الأبطال مثل ما عرف لأمير المؤمنين من كثرة ذلك على مر الزمان ثم لم يوجد في ممارسي الحروب إلا من عرته بشر ونيل منه بجراح أو شين إلا أمير المؤمنين علیهما السلام فإنه لم ينله مع طول مدة زمان حربه جراح من عدوه ولا وصل إليه أحد منهم بسوء حتى كان من أمره مع ابن ملجم لعنه الله على اغتياله إياه ما كان وهذه أعجوبة أفرده الله تعالى فيها بالآية وخصه بالعلم الباهر في معناها ودل بذلك على مكانه منه وتخصصه بكرامته التي بان بفضلها من كافة الأنام.

ومن آيات الله فيه علیهما السلام أنه لا يذكر ممارس للحروب لقي فيها عدوا إلا وهو ظافر به حينا وغير ظافر به حينا ولا نال أحد منهم خصمه بجراح إلا وقضى منها وقتا وعوفي منها وقتا ولم يعهد من لم يفلت منه قرن في الحرب ولا نجا من ضربته أحد فصلح منها إلا أمير المؤمنين علیهما السلام فإنه لا مرية في ظفره بكل قرن بارزه وإهلاكه كل بطل نازله وهذا أيضا مما انفرد به علیهما السلام من كافة الأنام وخرق الله به العادة في كل حين وزمان وهو من دلائله الواضحة.

________________

(١) أقناه : أغناه وأرضاه وأعطاه ما يقتنى.

(٢) أينع بمعنى أدرك. والإهاب : الجلد.

(٣) الازلاف : التقرب.

٢٦٩

ومن آيات الله تعالى أيضا فيه مع طول ملاقاته الحروب وملابسته إياها وكثرة من مني به فيها من شجعان الأعداء وصناديدهم وتجمعهم عليه واحتيالهم في الفتك (١) به وبذل الجهد في ذلك ما ولى قط عن أحد منهم ظهره ولا انهزم عن أحد منهم ولا تزحزح عن مكانه ولا هاب أحدا من أقرانه ولم يلق أحد سواه خصما له في حرب إلا ثبت له حينا وانحرف عنه حينا وأقدم عليه وقتا وأحجم عنه زمانا وإذا كان الأمر على ما وصفناه ثبت ما ذكرناه من انفراده بالآية الباهرة والمعجزة الظاهرة وخرق العادة فيه بما دل الله وكشف به عن فرض طاعته وأبانه بذلك من كافة خليقته.

وقلت أمدحه علیهما السلام من قصيدة طويلة وأنشدتها بحضرته في مشهده المقدس صلوات الله على الحال به :

وإلى أمير المؤمنين بعثتها

مثل السفائن عمن في تيار (٢)

تحكي السهام إذا قطعن مفازة

وكأنها في دقة الأوتار

تنجو بمقصدها أغر شأي الورى

بزكاء أعراق وطيب نجار (٣)

حمال أثقال ومسعف طالب

وملاذ ملحوف وموئل جار (٤)

شرف أقر به الحسود وسؤدد

شاد العلاء ليعرب ونزار (٥)

وسماحة كالماء طاب لوارد

ظام إليه وسطوة كالنار

ومآثر شهد العدو بفضلها

والحق أبلج والسيوف عواري (٧)

________________

(١) الفتك : أن يأتي الرجل صاحبه وهو غافل حتّى يشد عليه فيقتله.

(٢) التيار : موج البحر الهائج. وفي كتاب الغدير «غمن بالتيار» بالغين وهو من غم الشيء : غطاه.

(٣) شأى القوم : سبقهم. والنجار : الأصل والحسب.

(٤) الموئل : الملجأ.

(٥) شاد بمعنى رفع.

(٦) الأبلج : الواضح من كل شيء.

٢٧٠

سل عنه بدرا إذ جلا هبواتها

بشباة خطي وحد غرار (١)

حيث الأسنة كالنجوم منيرة

تخفى وتبدو في سماء غبار

واسأل بخيبر إن عرتك جهالة

بصحائح الأخبار والآثار

واسأل جموع هوازن عن حيدر

وحذار من أسد العرين حذار (٢)

واسأل بخم عن علاه فإنها

تقضي بمجد واعتلاء منار

بولائه يرجو النجاة مقصر

وتحط عنه عظائم الأوزار

منها

يا راكبا يفلي الفلاة بجسرة

زيافة كالكوكب السيار (٣)

حرف براها السير حتى أصبحت

كيراعة أنحى عليها الباري (٤)

عرج على أرض الغري وقف به

والثم ثراه وزره خير مزار

واخلع بمشهده الشريف معظما

تعظيم بيت الله ذي الأستار

وقل السلام عليك يا خير الورى

وأبا الهداة السادة الأبرار

يا آل طه الأكرمين ألية

بكم وما دهري يمين فجار

إني منحتكم المودة راجيا

نيلي المنى في الخمسة الأشبار

فعليكم مني السلام فأنتم

أقصى رجاي ومنتهى إيثاري

وقلت أمدحه علیهما السلام وأنشدتها في حضرته من قصيدة

________________

(١) الهبوات جمع الهبوة : الغبار. والشباة من السيف : قدر ما يقطع به. حد كل شيء. والغرار : حد لسيف.

(٢) العرين : مأوى الأسد.

(٣) الجسرة ـ مؤنث الجسر ـ : العظيم من الإبل. الزيافة مؤنث الزياف :

المتبختر.

(٤) الحرف (صفة الجسرة في البيت السابق) : الناقة الضامرة الصلبة ، شبهت بحرف الجبل في شدتها وصلابتها. برى السهم : نحتها. والحيوان : هزلها وأذهب لحمها. والباري : ناحت السهم. وأنحى على فلان : أقبل. ويراعة بمعنى القصب.

٢٧١

سل عن علي مقامات عرفن به

شدت عرى الدين في حل ومرتحل

بدرا وأحدا وسل عنه هوازن في

أوطاس واسأل به في وقعة الجمل (١)

واسأل به إذ أتى الأحزاب يقدمهم

عمرو وصفين سل إن كنت لم تسل

مآثر صافحت شهب النجوم علا

مشيدة قد سمت قدرا على زحل

وسنة شرعت سبل الهدى وندى

أقام للطالب الجدوى على السبل

كم من يدلك فينا يا أبا حسن

يفوق نائلها صوب الحيا الهطل (٢)

وكم كشفت عن الإسلام فادحة

أبدت لتفرس عن أنيابها العضل

وكم نصرت رسول الله منصلتا

كالسيف عري متناه من الخلل (٣)

ورب يوم كظل الرمح ما سكنت

نفس الشجاع به من شدة الوهل (٤)

ومأزق الحرب ضنك لا مجال به (٥)

ومنهل الموت لا يغني على النهل

والنقع قد ملأ الأرجاء عثيره (٦)

فصار كالجبل الموفى على الجبل

جلوته بشبا البيض القواضب و

الجرد السلاهب والعسالة الذبل (٧)

________________

(١) أوطاس : واد بديار هوازن وهي من النوادر التي جاءت بلفظ الجمع للواحد

(٢) الهطل : المطر المتتابع العظيم القطر.

(٣) الفادحة : النازلة. وفرس الشيء : قطعه. وأفرس الشيء : اخذه وترك منه بقية. والعضل جمع العضلة.

(٤) الوهل : الفزع.

(٥) المأزق ـ كمجلس ـ : موضع الحرب.

(٦) النقع : الغبار. وعثير ـ بكسر العين وسكون الياء وفتحها ـ : التراب والعجاج.

(٧) البيض : السيف. القواضب جمع قاضب يقال : سيف قاضب : شديد القطع. رجل قضابة : قطاع للأمور مقتدر عليها. والجرد : الترس. والسلاهب جمع السلهب : الطويل. والعسالة من الرمح : ما يهتز لينا. والذبل جمع الذابل : الدقيق. المهزول. توصف بها الرماح.

٢٧٢

بذلت نفسك في نصر النبي ولم

تبخل وما كنت في حال أخا بخل

وقمت منفردا كالرمح منتصبا

لنصره غير هياب ولا وكل (١)

تردي الجيوش بعزم لو صدمت به

صم الصفا لهوى من شامخ القلل

يا أشرف الناس من عرب ومن عجم

وأفضل الناس في قول وفي عمل

يا من به عرف الناس الهدى وبه

ترجى السلامة عند الحادث الجلل

يا من أعاد رسوم العدل جالية

وطالما سترتها وحشة العطل

يا فارس الخيل والأبطال خاضعة

يا من له كل خلق الله كالخول (٢)

يا سيد الناس يا من لا مثيل له

يا من مناقبه تسري سرى المثل

خذ من مديحي ما أسطيعه كرما

فإن عجزت فإن العجز من قبلي

وسوف أهدي لكم مدحا أحبره

إن كنت ذا قدرة أو مد في أجلي

فصل

في ذكر كراماته وما جرى على لسانه من إخباره بالمغيبات

قال ابن طلحة رحمه‌الله اعلم أكرمك الله بالهداية إليه أن الكرامة عبارة عن حالة تصدر لذي التكليف خارقة للعادة لا يؤمر بإظهارها وبهذا القيد يظهر الفرق بينها وبين المعجز فإن المعجزة مأمور بإظهارها لكونها دليل صدق النبي في دعواه النبوة فالمعجزة مختصة بالنبي لازمة له إذ لا بد له منها فلا نبي إلا وله معجزة والكرامة مختصة بالولي إكراما له لكن ليست لازمة له إذ توجد الولاية من غير كرامة فكم من ولي لم يصدف عنه شيء من الخوارق إذا عرفت هذه المقدمة فقد كان علي علیهما السلام من أولياء الله تعالى وكان له علیهما السلام كرامات صدرت خارقة للعادة أكرمه الله بها.

فمنها إخباره علیهما السلام بحال الخوارج المارقين وأن الله تعالى أطلعه على أمرهم

________________

(١) الهياب : الخائف. والوكل : الجبان. العاجز.

(٢) الخول : العبيد والإماء.

٢٧٣

فأخبر به قبل وقوعه وخرق به العادة وكان كرامة له علیهما السلام وذلك أَنَّهُمْ لَمَّا اجْتَمَعُوا وَأَجْمَعُوا عَلَى قِتَالِهِ وَرَكِبَ إِلَيْهِمْ لَقِيَهُ فَارِسٌ يَرْكُضُ فَقَالَ لَهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّهُمْ سَمِعُوا بِمَكَانِكَ فَعَبَرُوا النَّهْرَوَانَ مُنْهَزِمِينَ فَقَالَ لَهُ علیهما السلام أَنْتَ رَأَيْتَهُمْ عَبَرُوا فَقَالَ نَعَمْ فَقَالَ علیهما السلام وَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّداً صلی الله علیه وسلم لَا يَعْبُرُونَ وَلَا يَبْلُغُونَ قَصْرَ بِنْتِ كِسْرَى حَتَّى تُقْتَلَ مُقَاتِلَتُهُمْ عَلَى يَدِي فَلَا يَبْقَى مِنْهُمْ إِلَّا أَقَلُّ مِنْ عَشَرَةٍ وَلَا يُقْتَلُ مِنْ أَصْحَابِي إِلَّا أَقَلُّ مِنْ عَشَرَةٍ وركب وقاتلهم كما تقدم وجرى الأمر على ما أخبر في الجميع ولم يعبروا النهر وهي مسطورة في كراماته نقلها صاحب تاريخ فتوح الشام.

ومنها مَا أَوْرَدَهُ ابْنُ شَهْرَآشُوبَ فِي كِتَابِهِ أَنَّ عَلِيّاً علیهما السلام لَمَّا قَدِمَ الْكُوفَةَ وَفَدَ عَلَيْهِ النَّاسُ وَكَانَ فِيهِمْ فَتًى فَصَارَ مِنْ شِيعَتِهِ يُقَاتِلُ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي مَوَاقِفِهِ فَخَطَبَ امْرَأَةً مِنْ قَوْمٍ فَزَوَّجُوهُ فَصَلَّى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ علیهما السلام يَوْماً الصُّبْحَ وَقَالَ لِبَعْضِ مَنْ عِنْدَهُ اذْهَبْ إِلَى مَوْضِعِ كَذَا تَجِدْ مَسْجِداً إِلَى جَانِبِهِ بَيْتٌ فِيهِ صَوْتُ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ يَتَشَاجَرَانِ فَأَحْضِرْهُمَا إِلَيَّ فَمَضَى وَعَادَ وَهُمَا مَعَهُ فَقَالَ لَهُمَا فِيمَ طَالَ تَشَاجُرُكُمَا اللَّيْلَةَ فَقَالَ الْفَتَى يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ خَطَبْتُهَا وَتَزَوَّجْتُهَا فَلَمَّا خَلَوْتُ بِهَا وَجَدْتُ فِي نَفْسِي مِنْهَا نِفْرَةً مَنَعَتْنِي أَنْ أَلُمَّ بِهَا وَلَوِ اسْتَطَعْتُ إِخْرَاجَهَا لَيْلاً لَأَخْرَجْتُهَا قَبْلَ النَّهَارِ فَنَقَمْتُ عَلَى ذَلِكَ وَتَشَاجَرْنَا إِلَى أَنْ وَرَدَ أَمْرُكَ فَصِرْنَا إِلَيْكَ فَقَالَ علیهما السلام لِمَنْ حَضَرَهُ رُبَّ حَدِيثٍ لَا يُؤْثِرُ مَنْ يُخَاطَبُ بِهِ أَنْ يَسْمَعَهُ غَيْرُهُ فَقَامَ مَنْ كَانَ حَاضِراً وَلَمْ يَبْقَ عِنْدَهُ غَيْرُهُمَا فَقَالَ لَهَا عَلِيٌّ علیهما السلام أَتَعْرِفِينَ هَذَا الْفَتَى فَقَالَتْ لَا فَقَالَ علیهما السلام إِذَا أَنَا أَخْبَرْتُكَ بِحَالَةٍ تَعْلَمِينَهَا فَلَا تُنْكِرِيهَا قَالَتْ لَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ أَلَسْتِ فُلَانَةَ بِنْتَ فُلَانٍ قَالَتْ بَلَى قَالَ علیهما السلام أَلَمْ يَكُنْ لَكِ ابْنُ عَمٍّ وَكُلٌّ مِنْكُمَا رَاغِبٌ فِي صَاحِبِهِ قَالَتْ بَلَى قَالَ أَلَيْسَ أَنَّ أَبَاكِ مَنَعَكِ عَنْهُ وَمَنَعَهُ عَنْكِ وَلَمْ يُزَوِّجْهُ بِكِ وَأَخْرَجَهُ مِنْ جِوَارِهِ لِذَلِكِ قَالَتْ بَلَى قَالَ أَلَيْسَ قَدْ خَرَجْتِ لَيْلَةً لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ فَاغْتَالَكِ وَأَكْرَهَكِ وَوَطِئَكِ فَحَمَلْتِ وَكَتَمْتِ أَمْرِكِ عَنْ أَبِيكِ وَأَعْلَمْتِ أُمَّكِ فَلَمَّا آنَ الْوَضْعُ أَخْرَجَتْكِ أُمُّكِ لَيْلاً فَوَضَعْتِ وَلَداً

٢٧٤

فَلَفَّفْتِهِ فِي خِرْقَةٍ وَأَلْقَيْتِهِ مِنْ خَارِجِ الْجُدْرَانِ حَيْثُ قَضَاءُ الْحَوَائِجِ فَجَاءَ كَلْبٌ يَشَمُّهُ فَخَشِيتِ أَنْ يَأْكُلَهُ فَرَمَيْتِهِ بِحَجَرٍ فَوَقَعَتْ فِي رَأْسِهِ فَشَجَّتْهُ فَعُدْتِ إِلَيْهِ أَنْتِ وَأُمُّكِ فَشَدَّتْ رَأْسَهُ أُمُّكِ بِخِرْقَةٍ مِنْ جَانِبِ مِرْطِهَا (١) ثُمَّ تَرَكْتُمَاهُ وَمَضَيْتُمَا وَلَمْ تَعْلَمَا حَالَهُ فَسَكَتَتْ فَقَالَ لَهَا تَكَلَّمِي بِحَقٍّ فَقَالَتْ بَلَى وَاللهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ مَا عَلِمَهُ مِنِّي غَيْرُ أُمِّي فَقَالَ قَدْ أَطْلَعَنِي اللهُ عَلَيْهِ فَأَصْبَحَ فَأَخَذَهُ بَنُو فُلَانٍ فَرُبِّيَ فِيهِمْ إِلَى أَنْ كَبِرَ وَقَدِمَ مَعَهُمْ الْكُوفَةَ وَخَطَبَكِ وَهُوَ ابْنُكِ ثُمَّ قَالَ لِلْفَتَى اكْشِفْ رَأْسَكِ فَكَشَفَهُ فَوَجَدَ أَثَرَ الشَّجَّةِ فَقَالَ علیهما السلام هَذَا ابْنُكِ قَدْ عَصَمَهُ اللهُ تَعَالَى مِمَّا حَرَّمَهُ عَلَيْهِ فَخُذِي وَلَدَكِ وَانْصَرِفِي فَلَا نِكَاحَ بَيْنَكُمَا

وله في هذه الواقعة علیهما السلام ما يقضي بولايته ويسجل بكرامته.

وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ الْحَسَنُ بْنُ ذكردان الْفَارِسِيُّ قَالَ كُنْتُ مَعَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَقَدْ شَكَا إِلَيْهِ النَّاسُ وَأَنَا زِيَادَةَ الْفُرَاتِ وَأَنَّهَا قَدْ أَهْلَكَتْ مَزَارِعَهُمْ وَتُحِبُّ أَنْ تَسْأَلَ اللهَ أَنْ يَنْقُصَهُ عَنَّا فَقَامَ وَدَخَلَ بَيْتَهُ وَالنَّاسُ مُجْتَمِعُونَ يَنْتَظِرُونَهُ فَخَرَجَ وَعَلَيْهِ جُبَّةُ رَسُولِ اللهِ صلی الله علیه وسلم وَعِمَامَتُهُ وَبُرْدُهُ وَفِي يَدِهِ قَضِيبُهُ فَدَعَا بِفَرَسِهِ فَرَكِبَهَا وَمَشَى وَمَعَهُ أَوْلَادُهُ وَالنَّاسُ وَأَنَا مَعَهُمْ رَجَّالَةً حَتَّى وَقَفَ عَلَى الْفُرَاتِ فَنَزَلَ عَنْ فَرَسِهِ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ ثُمَّ قَامَ وَأَخَذَ الْقَضِيبَ بِيَدِهِ وَمَشَى عَلَى الْجِسْرِ وَلَيْسَ مَعَهُ سِوَى وَلَدَيْهِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ علیهما السلام وَأَنَا فَأَهْوَى إِلَى الْمَاءِ بِالْقَضِيبِ فَنَقَصَ ذِرَاعاً فَقَالَ أَيَكْفِيكُمْ فَقَالُوا لَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَامَ وَأَوْمَأَ بِالْقَضِيبِ وَأَهْوَى بِهِ إِلَى الْمَاءِ فَنَقَصَتِ الْفُرَاتُ ذِرَاعاً آخَرَ هَكَذَا إِلَى أَنْ نَقَصَتْ ثَلَاثَةُ أَذْرُعٍ فَقَالُوا حَسْبُنَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَرَكِبَ علیهما السلام فَرَسَهُ وَعَادَ إِلَى مَنْزِلِهِ

وهذه كرامة عظيمة ونعمة من الله جسيمة قلت فكان هو علیهما السلام أولى وأحق بقول القائل :

لو قلت للسيل دع طريقك و

الموج عليه كالهضب يعتلج (٢)

________________

(١) المرط ـ بالكسر ـ : كساء من خز أو صوف أو كتان يؤتزر به ، وربما تلقيه المرأة على رأسها.

(٢) الهضب : الجبل خلق من صخرة واحدة. واعتاج الموج : التطم.

٢٧٥

لارتد أو ساخ أو لكان له

في جانب الأرض عنك منعرج (١)

ومنها إخباره علیهما السلام بقصة قتله وذلك

أَنَّهُ لَمَّا فَرَغَ مِنْ قِتَالِ الْخَوَارِجِ عَادَ إِلَى الْكُوفَةِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فَأَمَّ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَخَطَبَ خُطْبَةً حَسْنَاءَ ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى ابْنِهِ الْحَسَنِ فَقَالَ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ كَمْ مَضَى مِنْ شَهْرِنَا هَذَا فَقَالَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ثُمَّ سَأَلَ الْحُسَيْنَ علیهما السلام فَقَالَ يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ كَمْ بَقِيَ مِنْ شَهْرِنَا يَعْنِي رَمَضَانَ هَذَا فَقَالَ سَبْعَ عَشْرَةَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَضَرَبَ يَدَهُ إِلَى لِحْيَتِهِ وَهِيَ يَوْمَئِذٍ بَيْضَاءُ فَقَالَ لِيَخْضِبَنَّهَا بِدَمِهَا إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا ثُمَّ قَالَ

أُرِيدُ حِبَاءَهُ وَيُرِيدُ قَتْلِي

خَلِيلِي مِنْ عَذِيرِي مِنْ مُرَادٍ (٢)

وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُلْجَمٍ الْمُرَادِيُّ لَعَنَهُ اللهُ يَسْمَعُ فَوَقَعَ فِي قَلْبِهِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ فَجَاءَ حَتَّى وَقَفَ بَيْنَ يَدَيْ عَلِيٍّ علیهما السلام وَقَالَ أُعِيذُكَ بِاللهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَذِهِ يَمِينِي وَشِمَالِي بَيْنَ يَدَيْكَ فَاقْطَعْهُمَا أَوْ فَاقْتُلْنِي فَقَالَ عَلِيٌّ علیهما السلام وَكَيْفَ أَقْتُلُكَ وَلَا ذَنْبَ لَكَ وَلَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ قَاتِلِي لَمْ أَقْتُلْكَ وَلَكِنْ هَلْ كَانَتْ لَكَ حَاضِنَةٌ يَهُودِيَّةٌ فَقَالَتْ لَكَ يَوْماً مِنَ الْأَيَّامِ يَا شَقِيقَ عَاقِرِ نَاقَةِ ثَمُودَ قَالَ قَدْ كَانَ ذَلِكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَسَكَتَ عَلِيٌّ علیهما السلام فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ مِنَ الشَّهْرِ (٣) قَامَ لِيَخْرُجَ مِنْ دَارِهِ إِلَى الْمَسْجِدِ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ وَقَالَ إِنَّ قَلْبِي يَشْهَدُ بِأَنِّي مَقْتُولٌ فِي هَذَا الشَّهْرِ فَفَتَحَ الْبَابَ فَتَعَلَّقَ الْبَابُ بِمِئْزَرِهِ (٤) فَجَعَلَ يُنْشِدُ

اشْدُدْ حَيَازِيمَكَ لِلْمَوْتِ فَإِنَّ الْمَوْتَ لَاقِيكَ

وَلَا تَجْزَعْ مِنَ الْمَوْتِ إِذَا حَلَّ بِنَادِيكَ (٥)

________________

(١) انعرج عن الطريق : مال.

(٢) ويروى : عذيرك من خليلك من مراد. والحباء : العطية وعذير فعيل بمعنى فاعل اي هات من يعذرك فيه. والشعر من الأمثال ويأتي الكلام فيه في موضعه إنشاء اللّه.

(٣) وهذا يخالف ما هو المشهور بين الشيعة من أن هذه الواقعة كانت في ليلة التاسعة عشر وسيأتي الخلاف في ذلك في تاريخ شهادته عليه السلام.

(٤) المئزر : الإزار.

(٥) الحيازيم جمع الحيزوم : وسط الصدر وما يضم عليه الحزام وشد الحيازيم : كناية عن الصبر. والنادي : المجلس.

٢٧٦

فَخَرَجَ فَقُتِلَ صلوات الله عليه.

قال ابن طلحة رحمه‌الله وهذه من جملة الكرامات المضافة إليه ولم أصرف الهمة إلى تتبع ما ينسب إليه من كراماته وما أكرمه الله به من خوارق عاداته لكثرة غيرها من مزاياه وتعدد مناقب مقاماته

إذا ما الكرامات اعتلى قدر ربها

وحل بها أعلى ذرى عرفاته

فإن عليا ذا المناقب والنهى

كراماته العليا أقل صفاته

هذا آخر كلام ابن طلحة رحمه‌الله تعالى.

وَرُوِيَ عَنْ جُنْدَبِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْأَزْدِيِّ قَالَ شَهِدْتُ مَعَ عَلِيٍّ الْجَمَلَ وَصِفِّينَ وَلَا أَشُكُّ فِي قِتَالِهِمْ حَتَّى نَزَلْنَا النَّهْرَوَانَ فَدَخَلَنِي شَكٌّ وَقُلْتُ قُرَّاؤُنَا وَخِيَارُنَا نَقْتُلُهُمْ إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ عَظِيمٌ فَخَرَجْتُ غُدْوَةً أَمْشِي وَمَعِي إِدَاوَةٌ (١) حَتَّى بَرَزْتُ عَنِ الصُّفُوفِ فَرَكَزْتُ رُمْحِي وَوَضَعْتُ تُرْسِي إِلَيْهِ وَاسْتَتَرْتُ مِنَ الشَّمْسِ فَإِنِّي لَجَالِسٌ إِذْ وَرَدَ عَلَيَّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ علیهما السلام فَقَالَ يَا أَخَا الْأَزْدِ مَعَكَ طَهُورٌ قُلْتُ نَعَمْ فَنَاوَلْتُهُ الْإِدَاوَةَ فَمَضَى حَتَّى لَمْ أَرَهُ وَأَقْبَلَ وَقَدْ تَطَهَّرَ فَجَلَسَ فِي ظِلِّ التُّرْسِ فَإِذَا فَارِسٌ يَسْأَلُ عَنْهُ فَقُلْتُ هَذَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَارِسٌ يُرِيدُكَ قَالَ فَأَشِرْ إِلَيْهِ فَأَشَرْتُ إِلَيْهِ فَجَاءَ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَبَرَ الْقَوْمُ وَقَدْ قَطَعُوا النَّهَرَ فَقَالَ كَلَّا مَا عَبَرُوا قَالَ بَلَى وَاللهِ لَقَدْ فَعَلُوا قَالَ كَلَّا مَا فَعَلُوا قَالَ فَإِنَّهُ لَكَذَلِكَ إِذْ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَبَرَ الْقَوْمُ قَالَ كَلَّا مَا عَبَرُوا قَالَ وَاللهِ مَا جِئْتُ حَتَّى رَأَيْتُ الرَّايَاتِ فِي ذَلِكَ الْجَانِبِ وَالْأَثْقَالَ قَالَ وَاللهِ مَا فَعَلُوا وَإِنَّهُ لَمَصْرَعُهُمْ وَمُهَرَاقُ دِمَائِهِمْ ثُمَّ نَهَضَ وَنَهَضْتُ مَعَهُ فَقُلْتُ فِي نَفْسِي الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بَصَّرَنِي هَذَا الرَّجُلُ وَعَرَّفَنِي أَمْرَهُ هَذَا أَحَدُ رَجُلَيْنِ إِمَّا كَذَّابٌ جَرِيءٌ أَوْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ أَمْرِهِ وَعَهْدٍ مِنْ نَبِيِّهِ اللهُمَّ إِنِّي أُعْطِيكَ عَهْداً تَسْأَلُنِي عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنْ أَنَا وَجَدْتُ الْقَوْمَ قَدْ عَبَرُوا أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ يُقَاتِلُهُ وَأَوَّلَ مَنْ يَطْعُنُ بِالرُّمْحِ فِي عَيْنِهِ وَإِنْ كَانُوا لَمْ يَعْبُرُوا لَمْ آثِمْ عَلَى الْمُنَاجَزَةِ وَالْقِتَالِ

________________

(١) الإداوة ـ بالكسر ـ : اناء صغير من جلد.

٢٧٧

فَدَفَعْنَا إِلَى الصُّفُوفِ فَوَجَدْنَا الرَّايَاتِ وَالْأَثْقَالَ بِحَالِهَا فَأَخَذَ بِقَفَايَ وَدَفَعَنِي وَقَالَ يَا أَخَا الْأَزْدِ أَتَبِينُ لَكَ الْأَمْرُ قُلْتُ أَجَلْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ فَشَأْنَكَ بِعَدُوِّكَ فَقَتَلْتُ رَجُلاً ثُمَّ قَتَلْتُ آخَرَ ثُمَّ اخْتَلَفْتُ أَنَا وَرَجُلٌ آخَرُ يَضْرِبُنِي وَأَضْرِبُهُ فَوَقَعْنَا جَمِيعاً فَاحْتَمَلَنِي أَصْحَابِي فَمَا أَفَقْتُ حَتَّى فَرَغَ مِنَ الْقَوْمِ وهذا خبر شائع مستفيض قد نقله الجماء الغفير وفيه إخبار بالغيب وإبانة عن علم الضمير ومعرفة بما في النفوس والآية فيه باهرة لا يعادلها إلا ما ساواها في معناها من عظيم المعجز وجليل البرهان.

ومن ذلك حديث ميثم التمار وإخباره إياه بحاله وصلبه وموضعه والنخلة التي يصلب عليها والقصة مشهورة ومن ذلك أَنَّ الْحَجَّاجَ طَلَبَ كُمَيْلَ بْنَ زِيَادٍ فَهَرَبَ مِنْهُ فَقَطَعَ عَطَاءَ قَوْمِهِ فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَالَ إِنِّي أَنَا شَيْخٌ كَبِيرٌ قَدْ نَفِدَ عُمُرِي فَلَا يَنْبَغِي أَنْ أُحْرَمَ قَوْمِي أَعْطِيَاتِهِمْ فَخَرَجَ إِلَى الْحَجَّاجِ فَقَالَ قَدْ كُنْتُ أُحِبُّ أَنْ أَجِدَ عَلَيْكَ سَبِيلاً فَقَالَ لَهُ كُمَيْلٌ لَا تَصْرِفْ عَلَيَّ أَنْيَابَكَ فَمَا بَقِيَ مِنْ عُمُرِي إِلَّا الْقَلِيلُ (فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ) فَإِنَّ الْمَوْعِدَ لِلَّهِ وَبَعْدَ الْقَتْلِ الْحِسَابَ وَلَقَدْ أَخْبَرَنِي أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ علیهما السلام أَنَّكَ قَاتِلِي فَضَرَبَ عُنُقَهُ وهذا نقله العامة والخاصة وهو من البراهين الواضحة والمعجزات الباهرة.

ومن ذلك أَنَّ الْحَجَّاجَ قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ أُحِبُّ أَنْ أُصِيبَ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِ أَبِي تُرَابٍ فَأَتَقَرَّبُ إِلَى اللهِ بِدَمِهِ فَقِيلَ لَهُ مَا نَعْلَمُ أَحَداً أَطْوَلَ صُحْبَةً لِأَبِي تُرَابٍ مِنْ قَنْبَرٍ مَوْلَاهُ فَطَلَبَهُ فَأُتِيَ بِهِ فَقَالَ أَنْتَ قَنْبَرٌ قَالَ نَعَمْ قَالَ مَوْلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ اللهُ مَوْلَايَ وَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ وَلِيُّ نِعْمَتِي قَالَ ابْرَأْ مِنْ دِينِهِ قَالَ دُلَّنِي عَلَى دِينٍ أَفْضَلَ مِنْهُ قَالَ إِنِّي قَاتِلُكَ فَاخْتَرْ أَيُّ قِتْلَةٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ قَدْ صَيَّرْتُ ذَلِكَ إِلَيْكَ قَالَ لِمَ قَالَ لَا تَقْتُلُنِي قِتْلَةً إِلَّا قَتَلْتُكَ مِثْلَهَا وَلَقَدْ خَبَّرَنِي أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ علیهما السلام أَنَّ مَنِيَّتِي تَكُونُ ذَبْحاً ظُلْماً بِغَيْرِ حَقٍّ فَأَمَرَ بِهِ فَذُبِحَ وهذا أيضا من الأخبار التي صحت عن أمير المؤمنين ودخلت في باب المعجز القاهر والدليل

٢٧٨

الباهر والعلم الذي خص الله به حججه من أنبيائه ورسله وأوصيائه علیهما السلام وهو لاحق بما قدمناه.

وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ لِلْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ ـ يَا بَرَاءُ يُقْتَلُ وَلَدِيَ الْحُسَيْنُ علیهما السلام وَأَنْتَ حَيٌّ فَلَا تَنْصُرُهُ فَلَمَّا قُتِلَ الْحُسَيْنُ علیهما السلام قَالَ الْبَرَاءُ صَدَقَ عَلِيٌّ علیهما السلام قُتِلَ الْحُسَيْنُ وَلَمْ أَنْصُرْهُ وَأَظْهَرَ الْحَسْرَةَ عَلَى ذَلِكَ وَالنَّدَمَ

وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ وَقَفَ فِي كَرْبَلَاءَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ نَاحِيَةً مِنْ عَسْكَرِهِ فَنَظَرَ يَمِيناً وَشِمَالاً وَاسْتَعْبَرَ بَاكِياً ثُمَّ قَالَ هَذَا وَاللهِ مُنَاخُ رِكَابِهِمْ وَمَوْضِعُ مَنِيَّتِهِمْ فَقُلْنَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا هَذَا الْمَوْضِعُ قَالَ هَذِهِ كَرْبَلَاءُ يُقْتَلُ فِيهِ قَوْمٌ (يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) ... (بِغَيْرِ حِسابٍ) ثُمَّ سَارَ وَلَمْ يَعْرِفِ النَّاسُ تَأْوِيلَ قَوْلِهِ حَتَّى كَانَ مِنْ أَمْرِ الْحُسَيْنِ علیهما السلام مَا كَانَ

وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ النَّاسُ أَنَّهُ لَمَّا تَوَجَّهَ علیهما السلام إِلَى صِفِّينَ وَاحْتَاجَ أَصْحَابُهُ إِلَى الْمَاءِ فَالْتَمَسُوهُ يَمِيناً وَشِمَالاً فَلَمْ يَجِدُوهُ.

فَعَدَلَ بِهِمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ علیهما السلام عَنِ الْجَادَّةِ قَلِيلاً فَلَاحَ لَهُمْ دَيْرٌ فِي الْبَرِّيَّةِ فَسَارَ وَسَأَلَ مَنْ فِيهِ عَنِ الْمَاءِ فَقَالَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمَاءِ فَرْسَخَانِ وَمَا هُنَا مِنْهُ شَيْءٌ وَإِنَّمَا يُجْلَبُ لِي مِنْ بُعْدٍ وَأَسْتَعْمِلُهُ عَلَى التَّقْتِيرِ وَلَوْ لَا ذَلِكَ لَمِتُّ عَطْشَاناً فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ اسْمَعُوا مَا يَقُولُ الرَّاهِبُ فَقَالُوا تَأْمُرُنَا أَنْ نَسِيرَ إِلَى حَيْثُ أَوْمَأَ إِلَيْنَا لَعَلَّنَا نُدْرِكُ الْمَاءَ وَبِنَا قُوَّةٌ فَقَالَ علیهما السلام لَا حَاجَةَ بِكُمْ إِلَى ذَلِكَ وَلَوَّى عُنُقَ بَغْلَتِهِ نَحْوَ الْقِبْلَةِ وَأَشَارَ إِلَى مَكَانٍ بِقُرْبِ الدَّيْرِ أَنِ اكْشِفُوهُ فَكَشَفُوهُ فَظَهَرَتْ لَهُمْ صَخْرَةٌ عَظِيمَةٌ تَلْمَعُ فَقَالُوا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هُنَا صَخْرَةٌ لَا تَعْمَلُ فِيهَا الْمَسَاحِي فَقَالَ هَذِهِ الصَّخْرَةُ عَلَى الْمَاءِ فَاجْتَهِدُوا فِي قَلْعِهَا فَإِنْ زَالَتْ عَنْ مَوْضِعِهَا وَجَدْتُمُ الْمَاءَ فَاجْتَمَعَ الْقَوْمُ وَرَامُوا تَحْرِيكَهَا فَلَمْ يَجِدُوا إِلَى ذَلِكَ سَبِيلاً وَاسْتَصْعَبَتْ عَلَيْهِمْ فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ لَوَّى رِجْلَهُ عَنْ سَرْجِهِ وَحَسَرَ عَنْ سَاعِدِهِ وَوَضَعَ أَصَابِعَهُ تَحْتَ جَانِبِ الصَّخْرَةِ فَحَرَّكَهَا وَقَلَعَهَا بِيَدِهِ وَدَحَا بِهَا أَذْرُعاً كَثِيرَةً فَظَهَرَ لَهُمُ الْمَاءُ فَبَادَرُوهُ وَشَرِبُوا فَكَانَ أَعْذَبَ مَاءٍ شَرِبُوهُ فِي سَفَرِهِمْ وَأَبْرَدِهِ وَأَصْفَاهُ فَقَالَ تَزَوَّدُوا وَارْتَوُوا فَفَعَلُوا ثُمَّ جَاءَ إِلَى

٢٧٩

الصَّخْرَةِ فَتَنَاوَلَهَا بِيَدِهِ وَوَضَعَهَا حَيْثُ كَانَتْ وَأَمَرَ أَنْ يُعْفَى أَثَرُهَا بِالتُّرَابِ وَالرَّاهِبُ يَنْظُرُ مِنْ فَوْقِ دَيْرِهِ.

فَنَادَى يَا قَوْمُ أَنْزِلُونِي فَأَنْزَلُوهُ فَوَقَفَ بَيْنَ يَدَيْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ علیهما السلام فَقَالَ يَا هَذَا أَنْتَ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ قَالَ لَا قَالَ فَمَلَكٌ مُقَرَّبٌ قَالَ لَا قَالَ فَمَنْ أَنْتَ قَالَ أَنَا وَصِيُّ رَسُولِ اللهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ قَالَ ابْسُطْ يَدَكَ عَلَى يَدِي أُسْلِمْ عَلَى يَدِكَ فَبَسَطَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يَدَهُ وَقَالَ لَهُ اشْهَدِ الشَّهَادَتَيْنِ فَقَالَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ وَأَشْهَدُ أَنَّكَ وَصِيُّ رَسُولِ اللهِ وَأَحَقُّ النَّاسِ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ فَأَخَذَ عَلَيْهِ شَرَائِطَ الْإِسْلَامِ وَقَالَ لَهُ مَا الَّذِي دَعَاكَ إِلَى الْإِسْلَامِ بَعْدَ إِقَامَتِكَ عَلَى دِينِكَ طُولَ الْمُدَّةِ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ هَذَا الدَّيْرَ بُنِيَ عَلَى طَلَبِ قَالِعِ هَذِهِ الصَّخْرَةِ وَمَخْرَجِ الْمَاءِ مِنْ تَحْتِهَا وَقَدْ مَضَى عَلَى ذَلِكَ عَالَمٌ قَبْلِي لَمْ يُدْرِكُوا ذَلِكَ فَرَزَقَنِيهِ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ.

إِنَّا نَجِدُ فِي كُتُبِنَا وَنَأْثِرُ عَلَى عُلَمَائِنَا أَنَّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عَيْناً عَلَيْهَا صَخْرَةٌ عَظِيمَةٌ لَا يَعْرِفُهَا إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ وَصِيُّ نَبِيٍّ وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ وَلِيِّ اللهِ يَدْعُو إِلَى الْحَقِّ آيَتُهُ مَعْرِفَةُ مَكَانِ هَذِهِ الصَّخْرَةِ وَقُدْرَتُهُ عَلَى قَلْعِهَا وَلَمَّا رَأَيْتُكَ قَدْ فَعَلْتَ ذَلِكَ تَحَقَّقْتَ مَا كُنَّا نَنْتَظِرُهُ وَبَلَغْتُ الْأُمْنِيَّةَ وَأَنَا الْيَوْمَ مُسْلِمٌ عَلَى يَدِكَ وَمُؤْمِنٌ بِحَقِّكَ وَمَوْلَاكَ فَلَمَّا سَمِعَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ذَلِكَ بَكَى حَتَّى اخْضَلَّتْ لِحْيَتُهُ مِنَ الدُّمُوعِ وَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ أَكُنْ عِنْدَهُ مَنْسِيّاً الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كُنْتُ فِي كُتُبِهِ مَذْكُوراً ثُمَّ دَعَا النَّاسَ فَقَالَ اسْمَعُوا مَا يَقُولُ أَخُوكُمُ الْمُسْلِمُ فَسَمِعُوا وَحَمِدُوا اللهَ وَشَكَرُوهُ إِذْ أَلْهَمَهُمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ علیهما السلام وَسَارَ وَالرَّاهِبُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَقَاتَلَ مَعَهُ أَهْلَ الشَّامِ وَاسْتُشْهِدَ فَتَوَلَّى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ وَدَفْنَهُ وَأَكْثَرَ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ لَهُ وَكَانَ إِذَا ذَكَرَهُ يَقُولُ ذَاكَ مَوْلَايَ.

وفي هذا الخبر ضروب من المعجز أحدها علم الغيب والقوة التي خرق بها العادة وتميزه بخصوصيتها من الأنام مع ما فيه من ثبوت البشارة به في كتب الله الأولى وفي ذلك يقول إسماعيل بن محمد الحميري المعروف بالسيد في قصيدته البائية

٢٨٠