تفسير آيات الأحكام

المؤلف:

الشيخ محمّد علي السايس


المحقق: ناجي إبراهيم سويدان
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المكتبة العصريّة للطباعة والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-435-84-7
الصفحات: ٨٣١

وروي عن ابن عباس وشريح أنه إن عاد لم يحكم عليه بكفارة ، حتى إنهما كانا يسألان المستفتي هل أصبت شيئا قبله؟ فإن قال : نعم ، لم يحكم عليه ، وإن قال : لا ، حكم عليه. وهم في هذا الذي ذهبوا إليه يتمسكون بظاهر الآية.

والجمهور يقولون : إن عذابه والانتقام منه في الآخرة لا ينافي وجوب الجزاء عليه ، وإنما لم ينصّ عليه لعلمه مما تقدم.

قال الله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩٦)) أي أحل لكم أيها المحرمون ما يصاد من الماء بحرا كان أو نهرا ، أو غيره ، والمراد به الحيوان الذي يكون توالده ومثواه في الماء ، سواء أكان مأكولا ، أم غير مأكول.

وقد قيل : إنّ هذا الترخيص خاصّ بالسمك ، أما طير البحر فلا يتناوله الترخيص (وَطَعامُهُ) المراد منه ما يطعم منه ويحل أكله ، فهو من عطف الخاص على العام ، ويكون الحل الواقع على الصيد المراد منه حل الانتفاع مطلقا ، ثم عطف عليه ما يفيد حل الأكل خاصة امتنانا بالإنعام بما هو قوام الحياة ، وهو الأكل.

ولا شكّ أنّ الصيد من البحر قد يقصد لمنافع أخرى غير الأكل ، كأخذ زيته ، وما يحويه بعض حيوان البحر من العظم والسن والعنبر وغير ذلك.

وذهب ابن أبي ليلى إلى أنّ المراد من الصيد والطعام المعنى المصدري ، فكأنه قيل : أحل لكم الاصطياد من البحر ، وأن تطعموا ما صدتموه ، ومن أجل ذلك ذهب هو إلى أنّ جميع حيوان البحر مأكول.

وقيل : بل المراد بصيد البحر ما أخذ بحيلة ، وبطعامه ما ألقاه البحر أو جزر عنه الماء.

غير أنّ هذا ربما يعكّر على الحنفية الذين يقولون بحرمة ما طفا على وجه الماء من السمك الميت ، وإن كان لهم أن يقولوا في الجواب : إن ما طفا ليس مما ألقاه البحر ، بل هو ميت لعلة أخرى غير الصيد وغير إلقاء البحر ؛ وانحسار الماء عنه ، وهو حينئذ ميتة يشملها قول الله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) [المائدة : ٣] وقد تقدّم الكلام فيه في سورة البقرة.

وقيل : المراد بصيد البحر السمك الطري : وبطعامه السمك المملوح ، وسميّ طعاما لأنه يدّخر للاقتيات؟ قالوا : وهذا بعيد ، لأنه داخل تحت قوله : (صَيْدُ الْبَحْرِ) لأنّه قبل أن يملّح كان طريا.

(مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ) أي أحللنا لكم ذلك لتتمتعوا به مقيمين ومسافرين ، ولا

٤٠١

شكّ أنّ صيود البحر فيها متعة ومنفعة في السفر والحضر ، سواء بالأكل أو بالادخار ، أو بما يخرج منه مما ينتفع به.

ويرى بعضهم أنّ التمتع به على التوزيع ، فالطريّ منه للمقيمين ، والقديد للمسافرين. (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ) هو ما يكون توالده ومثواه في البر مما هو متوحش بأصل خلقته ، والتحريم هنا إما منصبّ على ذات المصيد ، أو على الفعل ، فإن كان الثاني فالآية إنما تدل على حرمة الاصطياد فقط ، وأما الأكل منه بأن ما يصيده حلال فلا تدل الآية على منعه ، فمن يرى منعه فليلتمس له دليلا من غير الآية. وأما إذا كان التحريم منصبا على ذات المصيد فهو يقتضي تحريم جميع وجوه الانتفاع بالصيد ، إلا ما يخرجه الدليل على ما تقرّر في الأصول ، فيشمل تحريم الصيد والأكل وغيرهما ، وقد عرفت أن قتل الصيد يخرج منه أشياء كالكلب العقور والذئب والسبع الضاري ، لأنها من الخمس الفواسق :

أما الذئب فلأنه عدّ نصا في بعض الروايات من الخمس الفواسق ، وفي بعضها قيل : إنّه المراد من الكلب العقور ، وأما السبع الضاري فلضراوته ، والشافعي يخرج هذه الثلاثة ، لأنها ليست بصيد ، لأنّ الصيد عنده ما يؤكل على ما تقدّم.

(ما دُمْتُمْ حُرُماً) أي محرمين ، وظاهر الآية تحريم كلّ الصيد على المحرم ، سواء أصاده هو أم محرم آخر أم حلال ، سواء كان للمحرم دخل في صيده ، أم لم يكن له دخل.

والمسألة خلافية عند السلف ، فمذهب ابن عباس وابن عمر وجماعة أنّ الصيد مطلقا حرام على المحرم عملا بظاهر الآية ، وأيضا فقد أخرج مسلم (١) عن الصعب بن جثامة الليثي أنه أهدى لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حمارا وحشيا ، أو بعضه ، أو بعض لحمه ، أو عضوا من لحم صيد على اختلاف في الروايات ، وهو عليه الصلاة والسلام بالأبواء أو بودان ، فردّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : فلما رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما في وجهي قال : «إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم».

ويرى أبو هريرة وعطاء ومجاهد وابن جبير وعمر وطلحة وعائشة أنه يحل له أكل ما صاده الحلال ، وإن صاده لأجله ما دام لم يدل عليه ، ولم يشر إليه ، ولم يأمره بصيده (٢) ، وهو رواية الطحاوي عن أبي حنيفة ، ووجهه أنّ الخطاب للمحرمين ، فكأنه قيل : وحرم عليكم ما صدتم ، والمراد ما يصيدونه حقيقة أو حكما بأن يدلّوا عليه ، أو يشيروا إليه ، أو يأمروا به.

__________________

(١) رواه مسلم في الصحيح (٢ / ٨٥٠) ، ١٥ ـ كتاب الحج ، ٨ ـ باب تحريم الصيد حديث رقم (١١٩٣).

(٢) سبق تخريجه.

٤٠٢

وقد روى محمد عن أبي حنيفة عن ابن المنكدر عن طلحة بن عبيد الله تذاكرنا لحم الصيد يأكله المحرم والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نائم ، فارتفعت أصواتنا ، فاستيقظ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «فيم تتنازعون».

فقلنا : في لحم الصيد يأكله المحرم ، فأمرنا بأكله.

وروى مسلم عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه قال : خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حاجا ، وخرجنا معه ، فصرف نفرا من أصحابه فيهم أبو قتادة ، فقال : «خذوا ساحل البحر حتى تلقوني». قال : فأخذوا ساحل البحر ، فلما انصرفوا قبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحرموا كلهم إلا أبا قتادة ، فإنّه لم يحرم ، فبينما هم يسيرون إذ رأوا حمر وحش ، فحمل عليها أبو قتادة ، فأصاب منها أتانا ، فنزلوا فأكلوا من لحمها قال : فقالوا : أكلنا لحما ونحن محرمون إلخ القصة ، وفيها أنهم استفتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «هل معكم أحد أمره أو أشار عليه بشيء». قالوا : لا ، قال : «فكلوا» (١).

وعن مالك والشافعي وأحمد وداود رحمهم‌الله أنه لا يباح ما صيد له لما رواه أبو داود والترمذي والنسائي عن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صيد البر لكم حلال وأنتم محرمون ، ما لم تصيدوه ، أو يصاد لكم» (٢).

(وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) اتقوه فيما نهاكم عنه من الصيد وفي جميع المعاصي فإنكم ستعرضون عليه يوم الحشر ، ويحاسبكم حسابا عسيرا.

قال الله تعالى : (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٩٧))

سمّي البيت الحرام كعبة لعلوّه ، وارتفاع شأنه ، ومن ذلك الكعبان ، للعظمين الناتئين بجانبي القدمين ، ويقال : كعب ثدي المرأة إذا نتأ وبرز (الْبَيْتَ الْحَرامَ) بيان الكعبة على جهة التمدح ، فإنّه معظّم عندهم منذ القدم ، لحرمته و (قِياماً لِلنَّاسِ) مفعول جعل الثاني ، ومعنى كون البيت الحرام قياما للناس أنّ به قوامهم في صلاح أمورهم دينا ودنيا. حيث جعله الله مثابة للناس وأمنا ، فيه يأمن الخائف ، وينجو اللاجئ ، وبه يطعم البائس الفقير ، مما جعل الله في الحج من مناسك بها عمارة واد غير ذي زرع ،

__________________

(١) رواه مسلم في الصحيح (٢ / ٨٥٣) ، ١٥ ـ كتاب الحج ، ٨ ـ باب تحريم الصيد للمحرم ، حديث رقم (٥٩ / ١١٩٦).

(٢) رواه أبو داود في السنن (٢ / ١١٣) ، كتاب المناسك ، باب لحم الصيد حديث رقم (١٨٥١) ، والترمذي في الجامع الصحيح (٣ / ٢٠٤) ، كتاب الحج ، باب ما جاء في أكل الصيد حديث رقم (٨٤٦) ، والنسائي في السنن (٥ ـ ٦ / ٢٠٥) ، كتاب الحج ، باب إذا أشار إلى الصيد حديث رقم (٢٨٢٦).

٤٠٣

ولو لا ما فرض الله من الحج والنّسك ما استطاع أحد أن يقيم فيه ، وقد جعل الله الدعاء فيه مقبولا ، والحسنات فيه مضاعفة ، لتشتد رغبة الناس فيه ، فيزيد الخير ، وتعم البركة. هذا إلى ما في اجتماع الناس ومجيئهم من البلاد النائية ، والأقطار المختلفة من منافع دونها منافع المؤتمرات التي يلجأ إليها الناس اليوم لتعرّف وجوه مصلحة المجتمع ، انظر كيف قال الله تعالى : (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (٢٧) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ) [الحج : ٢٧ ، ٢٨] ولا تنس ما في أعمال الحج من منافع ، حيث يتجرد الناس عن أمور الدنيا ، لا يحملهم شيء على هذا التجرد إلّا تقوى الله ، والمبادرة إلى امتثال أمره. يتذكرون باجتماعهم وتجرّدهم هول المحشر ، والوقوف بين يدي ربهم ، فتشتد خشيتهم ، ويعظم خوفهم ، فيتجنبون الموبقات والآثام.

قال سعيد بن جبير : من أتى هذا البيت يريد شيئا للدنيا والآخرة أصابه.

وأخرج ابن جرير (١) عن ابن زيد قال : كان الناس كلهم فيهم ملوك يدفع بعضهم عن بعض ، ولم يكن في العرب ملوك كذلك. فجعل الله لهم البيت الحرام قياما يدفع به بعضهم عن بعض. فلو لقي الرجل قاتل أبيه أو ابنه عنده ما قتله.

وتعظيم البيت وجعله أمنا للخائف وملجأ للعائذ ، أمر أودعه الله في قلوب الناس منذ القدم ، وليس هناك ما يمنع الناس من الاعتداء غير ما أودعه الله في القلوب من الهيبة والجلال ، وتعظيم البيت. وقد طبع الناس على الشر ، فلا يكبح جماحهم في نفوسهم إلا امتثال أمر الله. وبذلك أمكن أن يعيش الناس في هذه الأرض الجرداء. فسبحان المدبر الحكيم.

(وَالشَّهْرَ الْحَرامَ) معطوف على الكعبة ، والمعنى وجعل الشهر الحرام قياما للناس ، والمراد منه الشهر الذي يؤدّى فيه الحج ، أو الجنس فيشمل الأشهر الأربعة ، وقد عرفت أنّ المراد من القيام الصلاح في الدنيا والآخرة. ولا شكّ أنّ الشهر الحرام كذلك حيث يقوم فيها الحاج ممتثلا أمر ربه ، ويقدم النسك ، فينتفع ، وينتفع الناس ، ويأمن الخائف ، حيث إنهم كانوا يأمنون فيها ، ويتصرفون في معايشهم ، فهو قيام للناس أيضا (وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ) معطوف على ما قبله أيضا (وَالْهَدْيَ) ما يهدى إلى الحرم ولا شك أنّه قيام للناس ، به يقيم الفقر صلبه (وَالْقَلائِدَ) جمع قلادة والمراد بها ما يقلّد به البعير ، وما كانوا يفعلونه من تقليد أنفسهم ومطيّهم بلحاء الشجر ، حتى لا يتعرض لهم أحد بسوء ، وقيل : بل المراد من القلائد ذوات القلائد ، وخصت بالذكر لأنّ بها يعرف كون الهدي هديا ، فلا يتعرّض له أحد بسوء حتى يبلغ محلّه ، فيؤدي الغرض

__________________

(١) في تفسيره جامع البيان المشهور بتفسير الطبري (٧ / ٥٠).

٤٠٤

الذي من أجله شرع (ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) فإنّ شرع الحج وما فيه من مناسك ومنافع يقتضي حكمة وتدبيرا يستلزمان العلم بتفاضل الأشياء ، وما ينطوي عليه من الأسرار ، (وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) وذكر العامّ بعد الخاصّ ليكون الخاصّ كالدليل على العام.

قال الله تعالى : (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٠٣))

(البحيرة) : فعيلة بمعنى مبحورة ، أي مشقوقة ، قال الزجاج : كان أهل الجاهلية إذا نتجت الناقة خمسة أبطن آخرها ذكر بحروا أذنيها ، وشقوها ، وامتنعوا من نحرها ، ولا تطرد من ماء ولا مرعى ، وقيل فيها غير ذلك.

و (السائبة) : فاعلة من سيبته فساب ، إذا تركته فهو سائب ، روي عن ابن عباس أنها التي تسيّب للأصنام ، فتعطى للسدنة ، وقيل غير ذلك.

و (الوصيلة) : قال الزجاج : هي الشاة إذا ولدت ذكرا كان لآلهتهم ، وإذا ولدت أنثى كانت لهم ، وإن ولدت ذكرا وأنثى قيل وصلت أخاها فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم ، وقيل غير ذلك.

و (الحامي) : قال أبو عبيدة والزجاج : إنه الفحل يضرب في مال صاحبه عشر سنين ، وقيل غير ذلك.

والمعنى : ما شرع الله هذه الأشياء (وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) حيث كانوا يفعلون ما يفعلون وينسبونه إلى شرع الله ، وهم لا يعقلون أنّ ذلك افتراء على الله ، وهو تنديد بهم لتعطيلهم العقل والنظر ، إذ لو نظروا لعلموا أنّ هذه وثنية وشرك. والله لا يأمر بالكفر ، ولا يرضاه لعباده.

قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (١٠٦) فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٧) ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (١٠٨))

(شَهادَةُ بَيْنِكُمْ) : يجوز أن يكون مبتدأ وخبره اثنان ، على حذف مضاف أي شهادة بينكم شهادة اثنين ، ويجوز أن يكون خبر المبتدأ محذوفا ، أي فيما أمرتم أن

٤٠٥

يشهدوا اثنان ، ويكون اثنان فاعلا بالشهادة ، وقرئ (شَهادَةُ) بالنصب والتنوين ، أي ليقم شهادة بينكم اثنان ، وعلى القراءة الأولى تكون إضافة شهادة إلى الظرف ، وهو بينكم على التوسع.

و (إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) : شارفه ، وظهرت أمارته ، وهو ظرف متعلّق بشهادة و (حِينَ الْوَصِيَّةِ) بدل منه ، وفي هذا الإبدال تنبيه على أنّ الوصية لا ينبغي أن نتهاون فيها.

(ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) صفتان لاثنان (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) عطف على اثنان ، وظاهر الآية أنّ المراد اثنان من المؤمنين ، أو آخران من غير المؤمنين ، لأنّ الله وجّه الخطاب للمؤمنين جميعا ، فإذا قال : (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) فهما من غير المؤمنين.

وقال بعضهم : (مِنْكُمْ) أي من قبيلتكم ، ومن غيركم ، أي من غير قبيلتكم (إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) أي سافرتم فيها (فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ) أي قاربتم الأجل ، فليس المراد الموت بالفعل ، وإنما المراد مشارفته ، والعرب قد تعبّر بالفعل عن مقاربته ومشارفته (تَحْبِسُونَهُما) تقفونهما ، وتصبرونهما ، للحلف (مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ) صلاة العصر ، وإنما فهمت صلاة العصر مع أن الصلاة مطلقة ، لأنّها كانت معهودة للحلف عندها ، وكان أهل الحجاز يقعدون للحكومة بعدها ، وقيل : أي صلاة كانت ، وقوله :

(إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) جوابه محذوف دلّ عليه ما قبله ، أي إن أنتم ضربتم في الأرض فآخران من غيركم ، وجملة الشرط وجوابه اعتراضية ، فائدتها التنبيه على أنّ شهادة اثنين من غير المسلمين إنما هي عند الضرورة ، وقوله : (تَحْبِسُونَهُما) إما صفة لآخران ، أو مستأنفة جواب سؤال مقدّر ، كأنه قيل : ماذا نفعل بهما ، فقال : تحبسونهما من بعد الصلاة.

(فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ) أي شككتم في أمرهما ، وجوابه محذوف علم مما قبله ، أي فحلّفوهما (لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً) الضمير في به يرجع إلى القسم المفهوم من (فَيُقْسِمانِ) والمعنى لا نشتري بصحة القسم ثمنا (وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) أي لو كان المقسم له ذا قربى ، قال الزمخشري (١) : أي لا نحلف بالله كاذبين لأجل المال ، ولو كان المقسم له قريبا على معنى أنّ هذه عادتهم في صدقهم وأمانتهم أبدا ، وأنهم داخلون تحت قوله تعالى : (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) [النساء : ١٣٥].

(وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ) لا نكتم شهادة الله ، أي الشهادة التي أمر الله بحفظها.

__________________

(١) انظر تفسير الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل للإمام الرازي (١ / ٦٨٨).

٤٠٦

وروي عن الشعبي أنه وقف على (شَهادَةُ) وابتدأ (اللهِ) بمد الهمزة وتأويلها أنه حذف حرف القسم ، وعوّض عنه همزة الاستفهام ، والمعنى على القسم. وقرئ (اللهِ) بدون مد على القسم أيضا ، وقد ذكر سيبويه أن من العرب من يطرح حرف القسم ولا يعوض منه حرف الاستفهام ، فيقول : الله لقد كان كذا.

(فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً) أي اطّلع على أنهما فعلا ما أوجب إثما ، واستوجبا أن يقال : إنهما من الآثمين.

(فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ) قرئ استحقّ على البناء للمفعول ، والمعنى فشاهدان آخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الإثم ، أي من الذين جني عليهم ، وهم أهل الميت وعشيرته ، و (الْأَوْلَيانِ) خبر لمبتدأ محذوف. أي هما (الْأَوْلَيانِ) كأنّه قيل : من هما؟ فقيل : (الْأَوْلَيانِ) أو بدل من الضمير في يقومان ، ومعنى (الْأَوْلَيانِ) الأحقان بالشهادة لقرابتهما ومعرفتهما بأحوال الميت ، ويجوز أن يكون (الْأَوْلَيانِ) نائب فاعل (اسْتَحَقَ) على حذف مضاف ، أي استحق عليهم انتداب الأولين.

وقرئ على البناء للفاعل والمعنى من الذين استحق عليهم الأوليان أو يجرّد وهما للشهادة ، ويقدموهما لها ، ويظهروا بهما كذب الكاذبين (فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) أي ما اعتدينا في طلب هذا المال وفي نسبتهما إلى الخيانة ، إنا إذا اعتدينا وخوّناهما وهما ليسا خائنين لمن الظالمين!.

(ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ) أي ما تقدم من الحكم أقرب أن يأتي الشهداء على نحو تلك الحادثة بالشهادة على وجهها الذي تحمّلوها عليه خوفا من عذاب الله ، وهذه حكمة شرعية التحليف بالتغليظ المتقدم.

وقوله تعالى : (أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ) بيان لحكمة ردّ اليمين على الورثة ، وهو معطوف على مقدّر ينبئ عنه المقام ، كأنه قيل : ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها ويخافوا عذاب الآخرة ، أو يخافوا أن تردّ أيمان على الورثة بعد أيمانهم ، فيظهر كذبهم على رؤوس الأشهاد ، فيكون ذلك الخوف داعيا إلى أن ينزجروا عن الخيانة التي تؤدي إليه ، فأي الخوفين كان وجد المطلوب ، وهو تأدية الشهادة دون تحريف ولا تبديل.

(وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا) سمع إجابة (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ).

يؤخذ من الآية أنّ الله طلب أن يشهد الموصي على وصيته اثنين عدلين من المؤمنين فإن كان في سفر ، وأشرف على الموت ، ولم يجد من المؤمنين ، أشهد من غير المؤمنين على وصيته ، فإذا أديا الشهادة ، وارتاب ورثة الميت في شهادتهما حلف

٤٠٧

الشاهدان بعد صلاة العصر على أنهما صادقان فيما شهدا به. فإن اطّلع على خيانة من هذين الشاهدين ، فليقم اثنان من ورثة الميت الموصي ، ويقسمان بالله على كذبهما ، وهذا الحكم أقرب إلى أن يؤتى بالشهادة على وجهها ، خوفا من الله ، أو خوفا من العار.

سبب نزول هاتين الآيتين أنّ تميم بن أوس الداري وعدي بن زيد خرجا إلى الشام للتجارة ، وكانا حينئذ نصرانيين ، ومعهما بديل بن أبي مريم مولى عمرو بن العاص ، وكان مسلما مهاجرا ، فلما قدموا الشام مرض بديل ، فكتب كتابا فيه جميع ما معه ، وطرحه في متاعه ، ولم يخبرهما بذلك ، وأوصى إليهما بأن يدفعا متاعه إلى أهله ، ومات ، ففتشاه ، فوجدا فيه إناء من فضة منقوشا بالذهب ، فأخفياه ، ودفعا المتاع إلى أهله ، فأصابوا فيه الكتاب ، فطلبوا منهما الإناء ، فقالا : ما ندري ، إنما أوصى إلينا بشيء ، وأمرنا أن ندفعه إليكم ، ففعلنا ، وما لنا بالإناء من علم ، فرفعوهما إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزل (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) الآية ، واستحلفهما بعد صلاة العصر عند المنبر بالله الذي لا إله إلا هو أنهما لم يأخذا شيئا مما دفع إليهما ، ولا كتما ، فحلفا على ذلك ، فخلّى عليه الصلاة والسلام سبيلهما ، ثم إنّ الإناء وجد بمكة ، فقال من بيده الإناء : اشتريته من تميم وعدي ، وقيل لما طالت المدة أظهراه ، فبلغ ذلك بني سهم فطلبوه منهما ، فقالا : كما اشتريناه من بديل. فقالوا : ألم نقل لكما هل باع صاحبنا من متاعه شيئا؟ فقلتما : لا. قالا : ما كان لنا بينة فكرهنا أن نقرّ به ، فرفعوهما إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزل قوله عزوجل : (فَإِنْ عُثِرَ) الآية ، فقام عمرو بن العاص والمطلب بن أبي وداعة السهميان فحلفا بالله بعد العصر أنهما كذبا وخانا فدفع الإناء إليهما (١) ، وفي الآية سؤالات :

أ ـ يؤخذ من ظاهر الآية أنّ غير المسلم تجوز شهادته على المسلم.

(اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) والآيات الأخرى تدلّ بعمومها على عدم صحة شهادة غير المسلمين. (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) [الطلاق : ٢](مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) [البقرة : ٢٨٢] وغير المسلمين ليسوا بعدول. ولمكان هذا السؤال اختلف العلماء في الجواب عنه ، فذهب بعضهم إلى أنّ المراد ذوا عدل منكم ، أو آخران من غيركم من غير قبيلتكم ، ويبين فساد هذا الجواب أنّ الله خاطب المؤمنين عامّة في أول الآية. فإذا قال : (مِنْكُمْ) أو (مِنْ غَيْرِكُمْ) كان الظاهر من المؤمنين أو من غير المؤمنين.

وذهب آخرون إلى أنّ هذه الآية قد نسخت وبطل حكمها ، ويبعد هذا الجواب

__________________

(١) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (٥ / ٢٤٠) ، كتاب التفسير باب ومن سورة المائدة حديث رقم (٣٠٥٩).

٤٠٨

أن دعوى النسخ لا تقبل إلا بحجة ، وليس مع القائلين بالنسخ إلا مجرّد الدعوى ، كيف وقد عمل بها أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعده.

روي أنه شهد رجلان من أهل دقوقا على وصية مسلم فاستحلفهما أبو موسى بعد العصر ما اشترينا به ثمنا ولا كتمنا شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين ، ثم قال : إن هذه القضية ما قضي بها من زمان رسول الله إلى اليوم.

وقد قالت السيدة عائشة رضي الله عنها : إنه لا منسوخ في المائدة.

وروي أيضا : المائدة من آخر القرآن نزولا ، فأحلّوا حلالها ، وحرّموا حرامها.

وذهب آخرون إلى أن المراد من الشهادة أيمان الأوصياء للورثة ، فما في الآية ليس شهادة ، بل هو وصية ، ويذهب إلى أنّ الأيمان قد سميت شهادة في القرآن (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ) [النور : ٦].

وهذا الجواب أيضا بعيد عن ظاهر الآية لأنه قال : (اثْنانِ) ، واليمين لا تختص بالاثنين ، وقال : (ذَوا عَدْلٍ) واليمين لا يشترط فيها ذلك ، وقال : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) [النساء : ١٠١] هو ليس شرطا أيضا في اليمين.

وأحسن الأجوبة عن ذلك ما ذهب إليه علماء الحديث ، وقاله الإمام أحمد : من أنه أجيزت شهادة الكفار في السفر للضرورة ، قال صالح بن أحمد قال أبي : لا تجوز شهادة أهل الذمة إلا في مواضع : في السفر الذي قال الله تعالى : (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) فأجازها أبو موسى الأشعري.

وقد روي عن ابن عباس (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) من أهل الكتاب ، وهذا موضع ضرورة لأنّه في سفر ، ولا نجد من يشهد من المسلمين ، وإنما جاءت في هذا المعنى وهو مذهب شريح ، وقول سعيد بن المسيب ، وحكاه عن ابن عباس.

وبقي في المسألة بحث ، وهو أتجوز شهادتهم عند أحمد في كل ضرورة أم لا تجوز إلا في ضرورة السفر؟ قال ابن تيمية : وقول الإمام أحمد في قبول شهادتهم في هذا الموضوع هو ضرورة يقتضي هذا التعبير قبولها في كل ضرورة حضرا وسفرا ، ولو قيل : تقبل شهادتهم مع أيمانهم في كل شيء عدم فيه المسلمون لكان له وجه.

هذا في شهادة الكفار على المسلمين ، وأما شهادة بعضهم على بعض فذهب كثير من العلماء إلى منعها ، واحتجوا بظواهر من القرآن مثل قوله : (فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) [النساء : ١٥] وقوله : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) [الطلاق : ٢] وقوله : (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) [البقرة : ٢٨٢].

وذهب آخرون إلى جوازها ، وأجابوا عن هذه الآيات بأنّ هذا إنما هو في الحكم بين المسلمين ، فإنّ السياق كله في ذلك ، فإن الله تعالى قال : (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ

٤٠٩

مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) إلى قوله : (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ) فلا تعرض في شيء من ذلك لحكم أهل الكتاب البتة.

واحتجوا بقوله تعالى : (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) [آل عمران : ٧٥] فأخبر أنّ منهم الأمين على مثل هذا القدر من المال ، فكونه أمينا على قرابته وأهل ملته أولى ، وبقوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) [الأنفال : ٧٣] فأثبت لهم الولاية بعضهم على بعض. وهي أعلى رتبة من الشهادة وغاية الشهادة أن تشبّه بها ، فإذا كان له أن يزوّج ابنته وأخته ، ويلي مال ولده : فقبول شهادته عليه أولى وأحرى.

واحتجوا أيضا بما روي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنّ اليهود جاؤوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم برجل منهم وامرأة زنيا فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ائتوني بأربعة منكم يشهدون» وبما ثبت في «الصحيح» (١) : مرّ على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيهودي وقد حمم فقال : «ما شأن هذا»؟ فقالوا : زنى ، فقال : «ما تجدون في كتابكم» إلخ.

فأقام الحد بقولهم ، ولم يسأل اليهودي واليهودية ، ولا طلب اعترافهما ، وهذا هو الفقه. فإنّ أهل الذمة يتعاملون فيما بينهم بالبيع والإجارة والمداينة ، وتقع بينهم الجنايات ، ويتعدّى بعضهم على بعض ، ولا يكون لهم شهداء إلا من أنفسهم ، ويتخاصمون إلى قضاء المسلمين ، فإذا لم يحكموا بينهم بشهودهم المرضيين عندهم ضاعت حقوقهم ، وأدّى ذلك إلى الظلم والفساد ، فالحاجة ماسّة إلى قبول شهادة بعضهم على بعض ، وقد يكون بينهم الصادق الذي يتحرّى الصدق في أخباره ، فيطمئن القاضي إلى قبول قوله.

وإذا كان القصد من الشهادة الحكم بينهم بالعدل ، ورفع التظالم ، وإيصال كل ذي حق منهم إلى حقه : فكل شهادة منهم أوقعت في نفس القاضي ظنّا بصدقها وجب العمل بها للعدل والحق.

ب ـ إنّ هذه الآية تجيز شهادة المدعين لأنفسهم واستحقاقهم بمجرد أيمانهم ، وهذا يخالف ما علم من الشريعة من أنّ «البينة على من ادعى واليمين على من أنكر» (٢) وما علم من الشريعة هو محض العدل ، لأنه «لو يعطى الناس بدعواهم لادّعى قوم دماء قوم وأموالهم» (٣) أما جواب الجمهور عن هذا فمعروف وهو أن هذه الآية منسوخ حكمها.

__________________

(١) رواه مسلم في الصحيح (٣ / ١٣٢٧) ، ٢٩ ـ كتاب الحدود ، ٦ ـ باب رجم اليهود حديث رقم (٢٨ / ١٧٠٠).

(٢ و ٣) رواه مسلم في الصحيح (٣ / ١٣٣٦) ، ٣٠ ـ كتاب الأقضية ، باب اليمين على المدعى عليه حديث رقم (١ / ١٧١١).

٤١٠

وأما على ما ارتضيناه من أنه لا نسخ فيها فالجواب هو ما يأتي : إنّ اليمين جعلت في جانب المدّعى عليه بقوة جانبه ، بأن الأصل يشهد له ، فإذا قوي جانب المدّعي بشاهد حلف معه فاليمين تكون بجانب أقوى المتداعيين شبهة. وهنا قد قوي جانب المدعي بالعثور على أنهما استحقا إثما ، فلا جرم كانت اليمين في جانبهم ، فليس هذا مخالفا للأصول ، وإنما هو متفق معها ، فقوة جانبهم بالعثور على الخيانة ، كقوة جانب المدعي بالشاهد ، وقوة جانبه بنكول خصمه عن اليمين ، وقوة جانبه باللوث ، وقوة جانبه بشهادة العرف في تداعي الزوجين وغير ذلك.

ج ـ هذه الآية تقتضي بتحليف الشاهد ، والشاهد لا يحلف (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ) [البقرة : ٢٨٢] والجواب أنّ هذه الشهادة بدل عن شهادة المسلم للضرورة ، فطلب الاحتياط فيها.

على أنّ بعض السلف ذهب إلى تحليف الشاهد المسلم إذا ارتاب فيه الحاكم ، وقد حلّف ابن عباس المرأة التي شهدت بالرضاع.

٤١١

من سورة الأنعام

قال الله تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (١١٨) وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (١١٩))

لما قال المشركون : يا محمد أخبرنا عن الشاة إذا ماتت من قتلها؟ فقال عليه الصلاة والسلام : «الله قتلها» ، قالوا : فتزعم أنّ ما قتلت أنت وأصحابك حلال ، وما قتل الصقر والكلب حلال ، وما قتله الله حرام فأنزل الله قوله تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) إلخ.

وجمهور المفسّرين على أنّ في الآية الأولى حصرا مستفادا من عدم اتباع المضلين المشار إليه بقوله تعالى قبل هذه الآية : (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) ومستفاد أيضا من الشرط (إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ) فيكون المعنى : اجعلوا أكلكم مقصورا على ما ذكر اسم الله عليه ، ولا تتعدوه إلى الميتة ، ولولا هذا القصر لم يلاق الجواب الاعتراض ، ويكون الكلام متعرضا لما لا يحتاج إليه ، وساكتا عما يحتاج إليه.

(وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) إنكار لأن يكون لهم شيء يدعوهم إلى ترك الأكل مما ذكر اسم الله عليه من البحائر والسوائب ونحوها. وفي ذلك إشارة إلى أنه لا ينبغي أن يعولوا على عوائد الجاهلية في تحريم ما لم يحرّمه الله ، ولا أن يعولوا على اعتراضاتهم وشبههم الواهية.

وقوله : (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) حال مؤكدة للإنكار ، أي أنه ليس هناك سبب يمنعكم من أن تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه ، والحال أنه قد بيّن المحرّم عليكم في قوله تعالى : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى) إلخ فبقي ما عدا ذلك على الحل. وقوله تعالى : (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) معناه لكن الذي اضطررتم إلى أكله مما هو محرّم عليكم حلال لكم حال الضرورة.

(وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ) معناه أن كثيرا من الكفار ليضلون الناس بتحريم الحلال وتحليل الحرام كما حرموا البحيرة والسائبة ،

٤١٢

وأحلوا الميتة بأهوائهم وشهواتهم الباطلة ، وبغير علم أصلا ، إنما هو محض الهوى ، وسيجازيهم الله على هذا الاعتداء لا محالة.

قال الله تعالى : (وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (١٢٠))

قيل : المراد اتركوا جميع المعاصي ما أعلنتم وما أسررتم. وقيل : ما عملتم وما نويتم. وقيل : (ظاهِرَ الْإِثْمِ) أفعال الجوارح (وَباطِنَهُ) أفعال القلوب.

وقيل : اتركوا الزنى في الحوانيت واتخاذ الأخدان.

وقد روي أنّ أهل الجاهلية كانوا يرون أنّ الزنى إذا ظهر كان إثما ، وإذا استتر فلا إثم فيه. ثم أخبر الله أنه لا بدّ سيجازي مرتكبي المعاصي على عصيانهم.

قال الله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (١٢١))

المتبادر من المقام تخصيص ما لم يذكر اسم الله عليه بالحيوان ، فيكون ذلك نهيا عن الأكل من الحيوان الذي لم يذكر اسم الله عليه ، فتحرم الميتة وما ذكر عليه اسم غير الله ومتروك التسمية عمدا كان تركها أم سهوا ، وإلى ذلك ذهب داود ، وروي عن الحسن وابن سيرين.

وقال الشافعي : متروك التسمية حلال مطلقا ، وهو رواية عن مالك.

وذهب الحنفية إلى التفرقة بين العمد والنسيان ، فحرموا متروك التسمية عمدا ، وأحلّوا متروك التسمية نسيانا. وهذا هو الصحيح من مذهب مالك. وعن أحمد ثلاث روايات أصحها عندهم وهي المشهورة عنه : أن التسمية شرط للإباحة ، فإن تركها عمدا أو سهوا في صيد فهو ميتة ، وفي الذبيحة إن تركها سهوا حلّت ، وإن تركها عمدا فعنه روايتان.

وحجة داود ومن قال بقوله هذه الآية الكريمة ، وهي ظاهرة في ذلك.

وللحنفية في تقرير مذهبهم من الآية طريقان :

الأول : أن ظاهر الآية يقتضي شمولها لمتروك التسمية نسيانا ، إلا أنّ الشارع جعل الناسي ذاكرا ، لعذر من جهته ، وفي ذلك رفع للحرج ، فإنّ الإنسان كثير النسيان ، فيكون متروك التسمية سهوا مخصوصا من حكم الآية.

والثاني : أنّ الناسي ليس بتارك التسمية ، بل هي في قلبه على ما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «تسمية الله على كل مسلم» وحينئذ يكون متروك التسمية عمدا أو سهوا بقوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ) [المائدة : ٣] إلى قوله تعالى : (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ)

٤١٣

[المائدة : ٣] فأباح المذكى ، ولم يذكر التسمية ، وليست التسمية جزءا من مفهوم الذكاة ، فإنّ الذكاة لغة الشق والفتح وقد وجدا. وبحديث البخاري وأبي داود والنسائي وابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها قالت : إنهم قالوا : يا رسول الله إن قومنا حديثو عهد بالجاهلية يأتون بلحمان لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لم يذكروا أفنأكل منها؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سموا وكلوا» (١) قال أصحاب الشافعي هذه التسمية المستحبة عند أكل كل طعام ، وشرب كل شراب.

وأجابوا عن هذه الآية بأنّ المراد فيها ما ذبح للأصنام ، يدل على ذلك وجوه :

الأول : أنّ من أكل متروك التسمية ليس بفاسق ، وقد قال الله : (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ).

والثاني : أن قوله تعالى : (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) يدل على أن المراد ما ذبح على اسم الأصنام ، فإن معناه إنّكم لو رضيتم بهذه الذبيحة التي ذبحت على اسم الأصنام فقد رضيتم بألوهيتها ، وذلك يوجب الشرك.

والثالث : أن قوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) لا يجوز أن يكون معطوفا على النهي قبله ، لأنّ عطف الخبر على الإنشاء ضعيف إن لم يكن ممنوعا ، فكان قوله : (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) قيدا في النهي ، فصار هذا النهي مخصوصا بما إذا كان الأكل فسقا ، ثم طلبنا في كتاب الله تعالى أنه متى يكون الأكل فسقا فوجدناه مفسّرا في آية أخرى ، وهي قوله تعالى : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ) إلى أن قال : (رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) فصار الفسق في هذه الآية مفسّرا بما أهلّ به لغير الله ، وإذا كان كذلك كان قوله : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) مخصوصا بما أهلّ به لغير الله.

وأجاب بعض الشافعية بجواب آخر وهو حمل النهي على كراهة التنزيه جمعا بين الأدلة. ومع هذا فالأولى بالمسلم أن يجتنب متروك التسمية ، لأنّ ظاهر هذا النص قوي.

(وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ) أي وإن إبليس وجنوده ليوسوسون إلى أوليائهم من المشركين ليجادلوا محمدا وأصحابه في أكل الميتة ، كما سبق.

وقال عكرمة : المراد بالشياطين مردة المجوس من أهل فارس ، وكانوا قد كتبوا إلى قريش أنّ محمدا وأصحابه يزعمون أنهم يتّبعون أمر الله ، ثم يزعمون أن ما يذبحونه حلال ، وما يذبحه الله حرام ، فوقع في أنفس المسلمين من ذلك شيء فأنزل الله هذه الآية (٢).

__________________

(١) رواه البخاري في الصحيح (٦ / ٢٨١) ، ٧٢ ـ كتاب الذبائح ، ٢١ ـ باب ذبيحة الأعراب حديث رقم (٥٥٠٧) ، وأبو داود في السنن (٣ / ١٩) ، كتاب الأضاحي ، باب ما جاء في أكل اللحم حديث رقم (٢٨٢٩) ، والنسائي في السنن (٧ ـ ٨ / ٢٧٢) ، كتاب الضحايا ، باب ذبيحة من لم يعرف حديث رقم (٤٤٤٨) ، وابن ماجه في السنن (٢ / ١٠٥٩) ، كتاب الذبائح ، باب التسمية حديث رقم (٣١٧٤).

(٢) رواه ابن جرير الطبري في تفسيره جامع البيان (٨ / ١٢).

٤١٤

وقوله تعالى : (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) يعني (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ) في تحليل الميتة ، أو في تحليل ما أهلّ به لغير الله (إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) وفيه دليل على أنّ من استحل الحرام واتبع غير الله في دينه كان كافرا ، لأنه أشرك بالله غيره ، بل آثر حكمه على حكم الله. وهذا الكلام على تقدير القسم وحذف اللام الموطئة ، أي ولئن أطعتموهم إنّكم جواب القسم أغنى عن جواب الشرط ، وأجاز المبرّد أن يكون الجواب للشرط بلفظ الماضي.

قال الله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (١٤١))

المعروشات من الكرم : ما يحمل على العريش ، وهو عيدان تصنع كهيئة السقف ، ويوضع الكرم عليها.

وغير المعروشات : الملقيات على وجه الأرض من الكرم أيضا. وقيل المعروش ما يحتاج إلى عريش يحمل عليه من الكرم وما يجري مجراه. وغير المعروش : الشجر المستغني باستوائه على سوقه عن التعريش. والأكل : الثمر المأكول.

والحصاد : حصد الزرع إذا انتهى وجاء زمانه.

سيقت هذه الآية هي ومثيلتها السابقة في قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ) الآية لإقامة الدلائل على تقرير التوحيد.

المعنى : أنّ الله وحده هو الذي خلق وأظهر هذه الجنات من غير أن يكون معه شريك.

وقوله : (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ) أمر إباحة ، وفائدة التقييد بقوله : (إِذا أَثْمَرَ) الترخيص للمالك في الأكل منه قبل أداء حقّ الله تعالى.

واختلف العلماء في الحق الواجب في الثمر المفهوم من قوله تعالى : (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) فعن ابن عباس أنه الزكاة الواجبة ، وهي العشر ، أو نصفه. وفي رواية أخرى على الخبر أيضا أنه ما كان يتصدق به يوم الحصاد بطريق الوجوب من غير تعيين المقدار ، ثم نسخ بالزكاة ، واختار هذه الرواية بعض العلماء ، لأنّ الزكاة فرضت بالمدينة ، وهذه السورة مكية.

وأجاب الإمام الرازي (١) عن ذلك بأنّا لا نسلّم أنّ الزكاة لم تكن واجبة بمكة ، وكون آيتها مدنية لا يدلّ على ذلك. على أنه قد قيل : إنّ هذه الآية من سورة الأنعام مدنية. (وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ).

__________________

(١) انظر تفسير مفاتيح الغيب للإمام الرازي (١٣ / ٢١٣).

٤١٥

لما أباح الله للمالك أن يأكل من الثمر قبل أداء حق الله تعالى فيه نهى عن الإسراف في الأكل المرخّص فيه قبل الحصاد ، كيلا يؤدي إلى بخس حق الفقراء ، وقال الزهري : المعنى لا تنفقوا في معصية الله ، ويروى نحوه عن مجاهد ، فقد أخرج ابن أبي حاتم عنه أنه قال : لو كان أبو قبيس ذهبا فأنفقه رجل في طاعة الله تعالى لم يكن مسرفا ، ولو أنفق درهما في معصية الله تعالى كان مسرفا.

ومن هنا قال بعض الحكماء : لا سرف في الخير ، ولا خير في السرف. وقال مقاتل : لا تشركوا الأصنام في الحرث والأنعام «إنّ الله لا يحب المسرفين» بل يبغضهم من حيث إسرافهم ويعذّبهم عليه إن شاء.

قال الله تعالى : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤٥))

روي عن طاوس أنّ أهل الجاهلية كانوا يستحلّون أشياء ، ويحرمون أشياء ، فأنزل الله تعالى هذه الآية (١).

وقد ذكر الله قبل هذه الآية ما كانوا يحرمون من الأنعام ، وذمّهم على تحريم ما أحله ، وعنّفهم ، وأبان عن جهلهم ، لأنّهم حرّموا بغير وحي من الله ، ثم أتبع ذلك البيان الصحيح فقال : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ) إلخ فبيّن بذلك أنّ التحليل والتحريم لا يثبت كلّ منهما إلا بالوحي.

وإذ ليس في الوحي محرّم غير أربعة أشياء : الميتة ، والدم المسفوح ، ولحم الخنزير ، والفسق الذي أهل لغير الله به : ثبت أنه لا يحرم إلا هذه الأربعة.

واستشكلت هذه الآية بأنها حصرت المحرمات في هذه الأربعة ، ولا شك أنها أكثر من ذلك. وأجيب عن ذلك بأجوبة :

الأول : أن المعنى لا أجد محرّما مما كان أهل الجاهلية يحرّمونه من البحائر والسوائب كما يشير إلى ذلك سبب النزول والآيات السابقة على هذه الآية. وعلى هذا المعنى يكون الاستثناء منقطعا ، أي لا أجد ما حرّموه ، لكن أجد الأربعة محرّمة ، والاستثناء المنقطع ليس كالمتصل في إفادة الحصر ، كما نبهوا على ذلك.

والجواب الثاني : أن المعنى لا أجد إلى الآن محرّما على طاعم يطعمه إلا الأربعة ، ولم يرتض الإمام الرازي (٢) هذين الجوابين ، لأنّه ورد في القرآن الكريم غير

__________________

(١) رواه ابن جرير الطبري في تفسيره جامع البيان (٨ / ٥٠).

(٢) انظر تفسير مفاتيح الغيب للإمام الرازي (١٣ / ٢١٩).

٤١٦

هذه الآية ثلاث آيات كلّها تفيد حصر المحرمات في هذه الأربعة ففي سورة النحل قوله تعالى : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) [النحل : ١١٥] وفي سورة البقرة قوله تعالى : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) [البقرة : ١٧٣] وإنما تفيد الحصر ، فالآيتان تفيدان الحصر وفي سورة المائدة قوله تعالى : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) [المائدة : ٢] وهذه جملة حاصرة ، وأجمع المفسرون على أنّ مراد الله بما يتلى هو قوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) [المائدة : ٣] إلخ. وليس فيه إلا الأربعة ، وأما المنخنقة وما معها فإنما هي من أقسام الميتة ، وخصّت بالذكر لأنّهم كانوا يستحلّونها ، وإذ كانت الآيات الثلاث تدل على حصر المحرم في الأربعة وجب القول بدلالة الآية التي معنا على الحصر ، لتطابق الآيات التي ذكرنا ، لأنّها كلها في موضوع واحد ، وإن من هذه الآيات ما نزل بعد استقرار الشريعة ، فآية البقرة مدنية ، وليس قبلها ذكر ما كانوا يحرّمون من البحائر والسوائب ، وكذلك آية المائدة مدنية ، وهي من آخر القرآن نزولا ، ولا شيء قبلها يقتضي تقييدها ، والأصل عدم التقييد ، فيدل ذلك على أنّ الحكم الثابت في الشريعة من أولها إلى آخرها ليس إلا حصر المحرمات في هذه الأشياء.

والجواب الثالث : وهو المرضي أنّ الآية وإن دلت على الحصر مخصوصة بالآيات والأخبار الدالّة على تحريم ما حرّم من غير الأربعة ، مثل قوله تعالى : (وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) [الأعراف : ١٥٧] فذلك يقتضي تحريم كلّ الخبائث المستقذرة ، كالنجاسات وهوام الأرض ، ومثل ما رواه البخاري ومسلم في «صحيحيهما» عن جابر رضي الله عنه قال : نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية (١). وما روياه (٢) عن أبي ثعلبة الخشني أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع.

وفي رواية ابن عباس : وأكل كل ذي مخلب من الطير (٣). وما روياه (٤) عن عائشة وحفصة وابن عمر من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خمس من الدواب كلّهن فاسق يقتلن في

__________________

(١) رواه البخاري في الصحيح (٦ / ٢٨٥) ، ٧٢ ـ كتاب الذبائح ، ٢٧ ـ باب لحوم الخيل ، حديث رقم (٥٥٢٤) ، ومسلم في الصحيح (٣ / ١٥٤١) ، ٣٤ ـ كتاب الصيد ، ٦ ـ باب في أكل لحوم الخيل حديث رقم (٣٦ / ١٩٤١).

(٢) رواه البخاري في الصحيح (٦ / ٢٨٦) ، ٧٢ ـ كتاب الذبائح ، ٢٩ ـ باب أكل كل ذي ناب حديث رقم (٥٥٣٠) ، ومسلم في الصحيح (٣ / ١٥٣٣) ، ٣٤ ـ كتاب الصيد ، ٣ ـ باب تحريم أكل كل ذي ناب حديث رقم (١٢ / ١٩٣٢).

(٣) رواه مسلم في الصحيح (٣ / ١٥٣٤) ، ٣٤ ـ كتاب الصيد ، ٣ ـ باب تحريم أكل ذي ناب حديث رقم (١٦ / ١٩٣٤).

(٤) سبق تخريجه.

٤١٧

الحرم : الغراب ، والحدأة ، والعقرب والفأر ، والكلب العقور» ففي الأمر بقتلهنّ دلالة على تحريم أكلهنّ ، لأنّها لو كانت مما يؤكل لأمر بالتوصل إلى دفع أذاها بذكاتها ، فلما أمر بقتلها ، والقتل إنما يكون لا على وجه الذكاة ، ثبت أنها غير مأكولة.

وكذلك ما نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قتله ، لأنّ ما يؤكل لا ينهى عن قتله. والشافعية يخصّصونها أيضا بما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : ما استخبثته العرب فهو حرام.

وشنع عليهم الإمام الرازي (١) في ذلك ، ولكن كلامه لا يخلو عن وهن ، ورأي الشافعية في ذلك أن الحيوان الذي لم يرد فيه بخصوصه نصّ بالتحليل أو بالتحريم ، ولم يؤمر بقتله ، ولم ينه عن قتله ، فإن استطابته العرب فهو حلال ، وإن استخبثته فهو حرام. ومعتمدهم في ذلك قوله تعالى : (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) [الأعراف : ١٥٧] وقوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) [المائدة : ٤] قالوا : وليس المراد بالطيب هنا الحلال ، لأنّه لو كان المراد الحلال لكان تقديره أحل لكم الحلال ، وليس فيه بيان ، وإنما المراد بالطيبات ما يستطيبه العرب ، وبالخبائث ما يستخبثونه ، قالوا : ولا يرجع في ذلك إلى طبقات الناس ، وينزل كل قوم على عادتهم في الاستطياب والاستخباث ، لأنه يؤدي إلى اختلاف الأحكام في الحلال والحرام واضطرابها ، وذلك يخالف قواعد الشرع ، فيجب اعتبار العرب ، فهم أولى الأمم بأن يؤخذ باستطيابهم واستخباثهم ، لأنهم المخاطبون أولا ، وهم جيل معتدل لا يغلب فيهم الانهماك على المستقذرات ، ولا العفافة المتولدة من التنعم.

قالوا : وإنما يرجع إلى العرب الذين هم سكان القرى والريف ، دون سكان البوادي الذين يأكلون ما دب ودرج من غير تمييز ، وتعتبر عادة أهل اليسار والثروة ، وحال الخصب والرفاهية.

وبعد فقد احتجّ بظاهر الآية : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ) إلخ كثير من السلف فأباحوا ما عدا المذكور فيها.

فقد أخرج أبو داود عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سئل عن أكل القنفذ فقرأ الآية.

وأخرج ابن أبي حاتم وغيره بسند صحيح عن عائشة أنها كانت إذا سئلت عن كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير قالت : (قُلْ لا أَجِدُ) إلخ.

وعن ابن عباس أنه قال : ليس من الدواب شيء حرام إلا ما حرّم الله تعالى في كتابه : (قُلْ لا أَجِدُ) الآية.

هذا واستدل بقوله سبحانه : (عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ) على أنه إنما حرّم من الميتة ما

__________________

(١) انظر كتاب أحكام القرآن للإمام الرازي (٣ / ٢١).

٤١٨

يتأتى فيه الأكل منها ، فلم يتناول الجلد المدبوغ والشعر ونحوه ، وقد فهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من النظم الكريم ذلك.

أخرج أحمد (١) وغيره عن ابن عباس قال : ماتت شاة لسودة بنت زمعة ـ وفي بعض الروايات أنها كانت لميمونة ـ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو أخذتم مسكها» فقالت : نأخذ مسك شاة قد ماتت! فقال عليه الصلاة والسلام : «إنما قال الله تعالى : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً) وإنكم لا تطعمونه ، إن تدبغوه تنتفعوا به».

وقوله تعالى : (أَوْ دَماً مَسْفُوحاً) يدلّ على أنّ المحرم من الدم ما كان سائلا. قال ابن عباس : يريد ما خرج من الأنعام وهي أحياء ، وما يخرج من الأوداج عند الذبح ، فلا يدخل فيه الكبد والطحال لجمودهما ، ولا الدم المختلط باللحم في المذبح ، ولا ما يبقى في العروق من أجزاء الدم ، فإنّ ذلك كله ليس بسائل.

واستدل الشافعية بقوله سبحانه : (فَإِنَّهُ رِجْسٌ) على نجاسة الخنزير بناء على عود الضمير على خنزير ، لأنّه أقرب مذكور.

__________________

(١) في المسند (٦ / ٣٣٤) ، والنسائي في السنن (٧ ـ ٨ / ١٩٣) ، حديث رقم (٤٢٤٥ / ٠٠٠).

٤١٩

من سورة الأعراف

قال الله تعالى : (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٢٠٤))

أي إذا قرأ أيّ قارئ غيركم فاستمعوا له سماع تدبر وتذكر.

واللام في قوله (لَهُ) قيل : إنها لام الأجل ، وقيل : إنّها صلة ، والمعنى فاستمعوه ، وقيل : إنّها بمعنى (إلى).

والإنصات السكوت يقال : نصت وأنصت إذا سكت (وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي لكي تفوزوا بالرحمة التي هي أقصى ما تبتغون.

وقد وردت الآية هكذا عامة في وجوب الاستماع والإنصات عند قراءة القرآن في كل الأحوال ، وعلى جميع الأوضاع خارج الصلاة وداخلها ، كلّ ذلك يجب فيه الاستماع والإنصات للقرآن الكريم إذا قرئ.

وقد اختلف العلماء في الحكم إذا كان الناس خلف الإمام هل يجب عليهم الاستماع والإنصات ، ويسقط عنهم فرض القراءة ، أم لا يجب عليهم؟ بل عليهم أن يقرؤوا سواء في ذلك جهريّة الإمام وسرّيته ، أو ذلك خاص بالسرية دون الجهرية.

ذهب الحنفية إلى أنّ المأموم لا يقرأ خلف الإمام مطلقا جهرا كان يقرأ الإمام أو سرا.

وذهب جماعة إلى أنّ المأموم يقرأ إذا أسرّ الإمام ، ولا يقرأ إذا جهر ، وهو قول عروة بن الزبير والقاسم بن محمد والزهري ومالك وابن المبارك وأحمد.

وذهب الشافعي رضي الله عنه فيما رواه المزني عنه إلى أن المأموم يقرأ مطلقا أسرّ الإمام أو جهر ، وروى البويطي عنه أنّه يقرأ في السرية أمّ القرآن ، ويضم السورة ، وفي الجهرية أمّ القرآن فقط.

قال الآلوسي : والمشهور عند الشافعي أنّه لا سورة للمأموم الذي يسمع الإمام في جهرية ، بل يستمع ، فإن بعد بأن لم يسمع ، أو سمع صوتا لا يميز حرفه ، أو كانت سرّيّة قرأ في الأصح.

تلك هي آراء العلماء في قراءة المأموم خلف الإمام ، والحنفية يحتجون بظاهر

٤٢٠