تفسير آيات الأحكام

المؤلف:

الشيخ محمّد علي السايس


المحقق: ناجي إبراهيم سويدان
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المكتبة العصريّة للطباعة والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-435-84-7
الصفحات: ٨٣١

يترتب على البر باليمين ، وهو أن يأخذ الضغث فيضرب به ، فلا يتأذّى المضروب ، فيكون قد برّ بيمينه ، وابتعد من الحنث ، وتجنّب إيقاع الأذى بالغير.

وقد جعل المفسرون يعيّنون من كان سيلحقه الأذى ، ويذكرون السبب الذي انبنى عليه عزم إيقاع الأذى ، وأخذوا يصوّرون الذي كان من أيوب تارة على أنه كان يمينا ، وتارة على أنه كان نذرا ، وقد ذكروا في كل ذلك روايات لم تثبت صحتها ، فرووا أنّ امرأة أيوب هي المحلوف عليها ، وقالوا في سبب الحلف إنّها كانت تخدمه ، وضجرت من طول مرضه ، فتمثّل لها الشيطان طبيبا ، فقالت له : هل لك أن تشفي هذا المريض؟ فقال : بشرط أن يقول كلمة واحدة هي : أني شفيته : فقالت لأيوب : كلمة واحدة تقولها ، وتشفى ، ثم تستغفر الله ، فحلف أو نذر لئن شفي ليضربنّها مئة جلدة.

وقيل بل كانت تأتي له بالطّعام ، فأتت يوما بطعام أكثر من المعتاد ، وكانت قد باعت ذوائبها ، فارتاب في أمرها ، فحلف أو نذر.

وقيل : بل طلبت إليه أن يسأل ربّه أن يشفيه ، فظنّ ذلك منافيا للصبر فحلف.

وقالوا في الضر الذي أصابه أقوالا كثيرة ينافي ما ثبت للأنبياء من العصمة من المنفّرات.

وقد فهمت قبلا أنّ القرآن يدلّ على أنّ الضرّ حسي تناول البدن بإشارة (مسّني الضّرّ) و (مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ) وبإشارة (فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ) وبإشارة (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ) إذ هو ظاهر في أنّه إنما أمر بذلك كطريق من طرق العلاج ، وكذلك قول الله (هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ) فهو ظاهر في أنّ المراد أن يغتسل من المغتسل ، وأن يشرب من الشراب فيشفى.

وكذلك يدلّ القرآن على أنّه قد أصيب في أهله بغير تعيين لنوع الإصابة ، أكانت بالموت أم بالمرض ، أم بهما معا ، فكشف عنه هذا الضر ، فآتاه أهله ومثلهم معهم ، والله يعلم كيف كان هذا الإيتاء ، أبإحياء من مات؟ أم بمباركة من بقي وزيادة نسله؟

وقد كان منه حلف بضرب كان من الخير ألا يفعله ، فنهاه عن الحنث ، وأوجد له المخرج من شرّ الأذى ، فأمره بأخذ الضّغث والضرب به. ذلك كلّ ما يدل عليه القرآن الكريم ، وهو ليس في حاجة إلى ما جاء في الإسرائيليات ، ولو علم الله في البيان أكثر من هذا خيرا لبيّنه.

ثم قال الله تعالى : (إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) صبر على ما أصابه من أذى في بدنه وأهله وماله ، والأواب : كثير التأويب والرجوع إلى الله في كلّ أموره.

فأنت ترى أنّ أيوب كان قد حلف على ضرب يتكرّر مرارا ، وذلك يؤذي

٦٨١

المضروب ، فأوجد له تحلّة القسم ، وذلك بالضرب بالضغث ، ويظهر أنّه لم يكن عنده كفارة اليمين.

وبناء على رأي بعض الأصوليين الذين يقولون : إنّ شرع من قبلنا شرع لنا قال الحنفية : إنّ من حلف ليضرب مئة ضربة ، فأخذ حزمة من حطب عدد عيدانها مئة ، فضرب بها برّ بيمينه ، ولا كفارة عليه ، لأنّ الله قد رخّص لأيوب هذا ، وجعله غير حانث به ، وما دام غير حانث فهو بار ، لأنّه لا واسطة بين الحنث والبر ، ومن أجل أنّه برّ لا تجب الكفارة ، لأن الكفارة في شريعتنا إنّما تجب عند الحنث.

والمالكية ـ وإن كانوا يقولون بهذه القاعدة الأصولية ـ ويقولون : هي رخصة خاصة بأيوب ، بدليل توجيه الخطاب له ، وبما ذكر للترخيص من العلة. ويقول ابن العربي (١) : إنّما انفرد مالك عن القاعدة لتأويل بديع هو أنّ مجرى الأيمان عند مالك في سبيل النية والقصد أولى ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّما الأعمال بالنيات» (٢) ، وقصة أيوب عليه‌السلام ولم يصح فيها شيء يبيّن كيفية اليمين حتى نلتزم شريعته فيها. انتهى ملخصا فلا معنى لترك ما دلت عليه شريعتنا لشيء لا نعرف ما هو ، وشريعتنا تقضي بحمل الأيمان على اللغة ، أو على العرف ، واللغة لا تجعل الضارب مرة بسوط ذي شعب ضاربا مرات بعدد الشعب ، وكذا العرف ، فوجب أن نجري على ما هو الحكم عندنا بموجب العرف واللغة.

ولذلك لا يجوز هذا فيمن وجب عليه الحد إذا كان صحيحا ، وأما إذا كان مريضا فهذه رخصة في حدّ المريض خاصّة ، وإن شئت فقل : إنّها حدّ المريض إذا كان لا يقوى على احتمال الحد ، ولذلك نرى أنّ الأولى الأخذ برأي مالك في المسألة خصوصا وأنّ الكفارة شرعت عند إرادة العدول عن مقتضى اليمين إلى ما هو خير ، بل لقد قال بعضهم : إنّ المخالفة إلى الخير كفارة.

بقي أنّ بعض العلماء يريد أن يأخذ من هذه الآية مشروعية الحيلة ، وسنسمعك شيئا من حججهم ، وشيئا من ردّ ابن القيم في كتابه «أعلام الموقعين» عليهم ، ونوصيك بقراءته في هذا الموضوع ، فهو نفيس.

وقبل أن ننقل لك عن ابن القيم نقول : إنّ الحيلة ـ كما هو ظاهر من اسمها ـ ما يقصد به الاحتيال لدفع شيء عن وجهه الذي هو عليه ، أو جلبه من غير وجهه الذي

__________________

(١) انظر أحكام القرآن للإمام ابن العربي (٤ / ١٦٤٠).

(٢) رواه مسلم في الصحيح (٣ / ١٥١٥) ، ٣٣ ـ كتاب الإمارة ، ٤٥ ـ باب قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنما الأعمال» حديث رقم (١٥٥ / ١٩٠٧) ، والبخاري في الصحيح (١ / ٣) ، ١ ـ كتاب الوحي ، ١ ـ باب كيف بدء الوحي حديث رقم (١).

٦٨٢

هو عليه ، كأولئك الذين يتظاهرون أنّهم يؤدون الزكاة ، فيجيئون بفقير يعطونه شيئا من المال ، وقد تواضعوا على أن يهبه لهم ، ثم وثم ، حتى ينتهي ما عليهم من الزكاة ، عدّا على الفقير ، وهبة من الفقير لهم.

ومثل آخر ذلك الذي أسماه الحنفية إسقاط الصلاة ، وقاسوها على الحج عن الغير ، وعلى فدية الصوم ، ولسنا نريد أن نقول لهم شيئا في القياس والجامع والفارق ، وإنما هو شيء أوجدوه ، قصدوا منه الإحسان إلى الفقراء ، ثم أجازوا الحيلة في إسقاط ما يسقط الصلاة ، فقالوا : يعطى الفقير نصف صاع ، ثم يهبه ، وتتكرّر العملية بعدد الصلوات المتروكة ، أو بعدد الأيام المتروكة ، فيكونون قد أحسنوا إلى الفقراء ، وتسقط الصلاة عن ميتهم.

وهناك أمثلة كثيرة ، فقد أدخلوا الحيلة في كلّ شيء : أدخلوها في التحليل في المطلق ثلاثا ، وأدخلوها في الزكاة ، وفي الاستبراء ، وفي كفارة الصيام. وما ندري لما ذا شرعت الأحكام بعد إذ جاءت الحيل ، وانفتح بابها لعدم التزام الأحكام ، وللعلماء آراء في مشروعية الحيلة ، فبعضهم يمنعها مطلقا ، وبعضهم يجيزها مطلقا ، وبعضهم يقول : إن عطلت مصلحة شرعية كالتحيّل في الزكاة لا تقبل ، وإلا قبلت. ونحن ننقل لك طرفا من أدلة المجيزين وأدلة المانعين عن العلّامة ابن القيم رحمه‌الله قال : قال أرباب الحيل : قد أكثرتم من ذمّ الحيل ، وأجلبتم بخيل الأدلة ورجلها ، وسمينها ومهزولها ، فاستمعوا الآن تقريرها ، واشتقاقها من الكتاب والسنة ، وأقوال الصحابة وأئمة الإسلام ، وأنّه لا يمكن لأحد إنكارها.

قال الله تعالى لنبيه أيوب : (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ) فأذن لنبيه أيوب أن يتحلّل من يمينه بالضرب بالضّغث ، وقد كان نذر أن يضربها ضربات معدودة. وهي في المتعارف الظاهر إنما تكون متفرقة ، فأرشده تعالى إلى الحيلة في خروجه من اليمين ، فنقيس عليه سائر الباب ، ونسميه وجوه المخارج من المضائق ولا نسميه بالحيل التي ينفر الناس من اسمها.

وأخبر تعالى عن نبيه يوسف عليه‌السلام أنّه جعل صواعه (١) في رحل أخيه ، ليتوصل بذلك إلى أخذه من إخوته ، ومدحه بذلك ، وأخبر أنّه برضاه وإذنه ، كما قال : (كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) [يوسف : ٧٦].

__________________

(١) إناء يشرب فيه ، انظر لسان العرب لابن منظور (٨ / ٢١٥) مادة صوع.

٦٨٣

وقال تعالى : (وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٠)) [النمل : ٥٠] فأخبر الله أنّه مكر بمن مكر بأنبيائه ورسله.

وكثير من الحيل هذا شأنها ، يمكر بها على الظالم والفاجر ، ومن يعسر تخليص الحق منه ، فتكون وسيلة إلى نصر مظلوم ، وقهر ظالم ، ونصر حق ، وإبطال باطل ، والله تعالى قادر على أخذهم بغير وجه المكر الحسن ، ولكن جازاهم بجنس عملهم ، وليعلّم عباده أنّ المكر الذي يتوصّل به إلى إظهار الحق ، ويكون عقوبة للماكر ، ليس قبيحا.

وقد ساق ابن القيم بعد ذلك آثارا ، عن الصحابة ، وأحاديث من السنة ، وأقوالا عن السلف والأئمة ، يتمسك بها القائلون بمشروعية الحيلة ، يطول المقام بذكرها ، فنحيلك على «أعلام الموقعين» (١) إن أردتها.

ثم أخذ يرد على هذا الذي تمسّك به القوم ، فأطال في إبداع ، ونحن نذكر هنا طرفا منه.

قال : ونحن نذكر ما تمسكتم به في تقرير الحيل والعمل بها ، ونبيّن ما فيه ، متحرّين العدل والإنصاف ، منزّهين لشريعة الله وكتابه وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن المكر والخداع والاحتيال المحرم ، ونبيّن انقسام الحيل والطرق إلى ما هو كفر محض ، وفسق ظاهر ، ومكروه ، وجائز ، ومستحب ، وواجب عقلا أو شرعا ، ثم نذكر فصلا نبيّن فيه التعويض بالطرق الشرعية عن الحيل الباطلة ، فنقول وبالله التوفيق ، وهو المستعان وعليه التكلان :

أما قوله تعالى لنبيه أيوب عليه‌السلام (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ) فقال شيخنا : الجواب : أنّ هذا ليس مما نحن فيه ، فإنّ للفقهاء في موجب هذه اليمين في شرعنا قولين : يعني إذا حلف ليضربنّ امرأته أو عبده مئة ضربة :

أحدهما : قول من يقول موجبها الضرب مجموعا أو مفرقا ، ثم منهم من لا يشترط مع الجمع الوصول إلى المضروب ، فعلى هذا تكون هذه الفتيا موجب هذا اللفظ عند الإطلاق ، وليس هذا بحيلة ، إنما الحيلة بصرف اللفظ عن موجبه عن الإطلاق.

والقول الثاني : أن موجبه الضرب المعروف ، وإذا كان هذا موجبه لم يصح الاحتجاج علينا بما يخالف شرعنا من شرائع من قبلنا ، لأنّا إن قلنا : «ليس شرعا لنا مطلقا» فظاهر ، وإن قلنا : «هو شرع لنا» فهو مشروط بعدم مخالفته شرعنا ، وقد انتفى الشرط.

وأيضا فمن تأمّل الآية علم أنّ هذه الفتيا خاصة الحكم ، فإنّها لو كانت عامة الحكم في حقّ كلّ أحد لم يخف على نبي كريم موجب يمينه ، ولم يكن في قصّها علينا كبير عبرة ، فإنما يقصّ علينا ما خرج عن نظائره ، لنعتبر به ، ونستدل به على حكمة الله فيما قصّه علينا.

__________________

(١) انظر أعلام الموقعين عن رب العالمين لابن القيم بيروت ، دار الجيل (٣ / ٢٩٠ ـ ٤٠٣).

٦٨٤

ثم قال : ويدل عليه اختصاص قوله تعالى : (إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً) وهذه الجملة خرجت مخرج التعليل ، كما في نظائرها ، فعلم أنّ الله سبحانه إنما أفتاه بذلك جزاء له على صبره ، وتخفيفا عن امرأته ورحمة بها.

وأيضا فإنّه تعالى إنما أفتاه بهذا لئلا يحنث ، كما قال : (وَلا تَحْنَثْ) وهذا يدلّ على أنّ الكفارة لم تكن مشروعة في شريعته : بل ليس في اليمين إلا البرّ أو الحنث ، وقد كان ذلك مبررا في شريعتنا قبل شروع الكفّارة «لم يكن أبو بكر يحنث في يمين حتّى أنزل الله كفارة اليمين».

وإذا كان كذلك ، يكون كأنّه نذر ضربها ، وهو نذر لا يجب الوفاء به ، لما فيه من الضرر عليها. ولا يغني عنه كفارة يمين ، لأنّ تكفير النذر فرع عن تكفير اليمين ، فإذا لم تكن كفارة النذر مشروعة إذ ذاك ، فكفارة اليمين أولى : وقد علم أنّ الواجب بالنذر يحتذى به حذو الواجب بالشرع وإذا كان الضرب الواجب بالشرع. يجب تفريقه إلّا إذا كان المضروب ميؤوسا من شفائه ، فيكون الواجب أن يجتمع الضرب ، لمكان العذر.

وبعد كلام طويل قال في قصة يوسف : نحن نسأل القائلين بجواز الحيل : هل تجيزون أنتم مثل هذا في شريعتنا حتى يكون لكم أن تحتجّوا بمثله؟ وأما مجرد وجوده في شريعة يوسف فليس ينفعكم.

قال شيخنا : ومما قد يظنّ أنّه من جنس الحيل التي بيّنا تحريمها ، وليس من جنسها قصة يوسف ، حين كاد الله له في أخذ أخيه ، كما قصّ ذلك في كتابه [يوسف : ٧٠] ، فإن فيه ضروبا من الحيل الحسنة :

منها : جعله بضاعتهم في رحالهم ، ليرجعوا بعد المعرفة.

ومنها : جعل السقاية في رحل أخيه ليظهره بمظهر السارق ، فيحتجزه. وقد ذكروا أنّ ذلك كان بمواطأة بينه وبين أخيه ، وعلى ذلك فليس هناك حيلة.

ثم أطال في بيان الموضوع ، ونحن نجتزئ منه بهذا.

وبعد فإنّ التحايل على إسقاط التكاليف الشرعية أمر تنفر منه الطباع ، وما ندري هل علم المحتالون أنّ حيلهم تنطلي فتسقط التكاليف أو هم قد اتخذوا عند الله عهدا أنه لا يجازيهم على هذا التحايل؟ ثم من يخادعون!!! التحايل في الحرب في اتقاء الظالمين أمر مقبول (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ) [آل عمران : ٢٨] أما التحايل لإسقاط التكاليف ، ولأكل الأموال من غير وجهها فما نظنّ أحدا يقول به.

وفي هذا القدر كفاية ، ونكرر الوصية بمطالعة الموضوع في مراجعه ، فإنّه نفيس ، ويكفي أن نبهناك إليه ، والله وليّ التوفيق.

٦٨٥

من سورة الأحقاف

قال الله تعالى : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (١٦))

قدمنا لك في سورة لقمان [١٤] ما فيه كفاية في تفسير الآية الأولى وفي بيان ما تشتمل من أحكام ، وخلاف العلماء في مدة الرضاع ، ومستندهم الذي يستندون إليه في تدعيم آرائهم ، ونحن من أجل ذلك لا نعيده ، وإن احتجت إلى شيء منه فارجع إليه هناك ، وإنما نذكر هنا ما لم يرد له ذكر هناك.

الكره : بفتح الكاف وضمها المشقة كالضّعف والضّعف بالفتح والضم. ومن ظريف ما يقولون في بيان المفردات هنا : أنّ المشقة تكون بعد الحمل بقليل لا وقت الحمل ، بل حين يثقل الولد في بطنها ، وكأنّهم ظنّوا أنّ القرآن يحدّد وقت المشقة.

وهذا الموضع لبيان المتاعب التي تتجشمها الأمّ أثناء الحمل ، حتى يكون ذلك مرقّقا للولد على أمه ، فالمدار أن يكون تعب في أثناء الحمل. وقد يسبق الكره ثقل الولد ، بل هو الواقع الكثير ، فإنّ الوالدات يتحمّلن كثيرا من المتاعب في أيام الوحم ، فيمتنعن من الطعام ومن الشراب ، ويعفن كل شيء.

وقوله تعالى : (حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) غاية لمحذوف ، تقديره فعاش أو طالت حياته ، حتى إذا بلغ أشده.

والأشد : القوة ، وبلوغه استحكامه ، وذلك يكون بكماله في القوة المادية والعقلية. وبلوغ الأربعين سنة قيل : هو وقت بلوغ الأشد ، وذلك هو الوقت الذي يكتمل فيه الخلق ، وتقوى متانته ، ولذلك قيل : إنّه لم ينبأ نبيّ قبل الأربعين ، وإن كان بعض العلماء على خلافه ، مستدلا بما ورد في شأن عيسى ويحيى من مثل : (قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠)) [مريم : ٣٠]. ومن مثل : (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) [مريم : ١٢].

٦٨٦

ويرى ابن العربي أنّه يجوز بعث الصبي ، ولكنه لم يقع ، وتأوّل الأدلة على أنّها إخبار عمّا سيكون ، لا عمّا وقع بالفعل ، قال : ومثله كثير في القرآن.

على أنّه لا مانع من أن تبقى الآيات على ظاهرها ، ويكون ذلك على خلاف الغالب في الأنبياء.

(قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَ).

أوزعه بالشيء : أغراه به ، فأوزع فهو موزع ، أي مغرى إذا أغراه غيره ، والمراد هنا حمله على سلوك سبيل الشكر والتوفيق إلى السير فيه.

والمراد بالنعمة التي أنعم الله بها عليه وعلى والديه ، قيل : نعمة الدين ، وقيل : كلّ ما في الإنسان من نعمة (وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ) [النمل : ١٩] معطوف على (أَنْ أَشْكُرَ) والعمل الصالح المرضي ما يكون سالما من غوائل عدم القبول (وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي) اجعل الصلاح يسير فيها ، ويمشي خلالها ، ويتفشّى فيها ، ويرسخ ، حتى يكون لها خلقا وطبعا. وأصلح : أصله يتعدى بنفسه ، وإنما عدّي بالحرب (في) لإفادة الرسوخ والسريان (إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ) من جميع الذنوب والآثام (وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أنفسهم إليك ، المنقادين لك ، الخاضعين لربوبيتك.

(أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا). هذا إشارة إلى الإنسان المذكور في قوله تعالى : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ) وجمعه باعتبار أفراده الذين تحقق فيهم ما ذكر من الأوصاف المذكورة ، من معرفة حقوق الوالدين ، والرجوع إلى الله بسؤال التوفيق للشكر ، إلى آخر ما في الآية ، وهو إيذان بأنّ هذه الأوصاف هي صفات الإنسانية الكاملة ، من اتصف بها فهو الإنسان ، وأصحابها هم الذين يكرمهم الله ، فيتقبل عنهم ما قدموا من صالح العمل (وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ) فيعفو عنها ، إذ هي تتلاشى بجانب الحسنات (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) [هود : ١١٤](وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) الذي وعدهم الله به في كتبه وعلى لسان أنبيائه ، والله منجز ما وعد.

٦٨٧

من سورة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم

قال الله تعالى : (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (٤))

أثخن في العدو ـ بالغ في الجراحة فيهم ، وأثخن فلانا أوهنه. و (حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ) أي غلبتموهم ، وكثرت فيهم الجراح.

والمعنى : أنهم صاروا لا قبل لهم بالحرب ، ولا قدرة لهم على قتالكم من شدة ما أصابهم.

والوثاق : ما يشد به ، وأوثقه به : شده فيه.

ومن عليه منّا : أنعم ، واصطنع عنده صنيعة.

وفداه يفديه فداء ، وافتدى به ، وفاداه : أعطي شيئا فأنقذه ، والفداء ككساء : ذلك الشيء المعطى.

والأوزار ، جمع وزر بكسر الأول : الإثم ، والثقل ، والسلاح ، والحمل الثقيل. هذا هو بيان المفردات التي تحتاج إلى بيان في الآية الكريمة.

ومعنى الآية بعد هذا : أنّ الله تعالى يأمر المؤمنين عند لقاء الكفار في الحرب ألا تأخذهم في قتال الكفار شفقة ، بل عليهم أن يعملوا فيهم السلاح ، فيضربوا به رقابهم ، وأن يستمر ذلك حتى يهنوا ويضعفوا ، وتخضد شوكتهم ، فلا يبقى لهم بعد ذلك قدرة على قتال المسلمين ، فإذا انتهت الحرب بإثخانهم وقهرهم ، فعلى المؤمنين أن يشدّوا وثاق من قدروا عليه منهم ، وذلك كناية عن قيد الأسر ، ووقوعهم أسرى في يد المؤمنين هنالك بعد الأسر ، واستقرارهم في قبضة المؤمنين يكون لنا أن نبقيهم كذلك أسرى أرقاء ، يقتسمهم الغانمون على ما ورد في قسمة الغنائم ، وأن ننعم عليهم بالإطلاق من غير مقابل ، فيكون ذلك يدا لنا عليهم ، ومنة نمنّ عليهم بها ، حيث أصبح الأعداء لا يخشى بأسهم. وأن نأخذ الفداء في مقابل إطلاقهم ، لنسد بالفداء ما عساه يكون عند المؤمنين من حاجة إليه ، وقد جعل الله تعالى غاية هذه الأوامر وضع الحرب أوزارها وآثامها وشرورها ، التي تلحق الناس منها ، أو وضع الأثقال والتبعات

٦٨٨

التي تلحق الناس في الحروب ، أو وضع الحرب سلاحها ، فلا يكون قتال بعد.

ثم قال الله تعالى : (ذلك) وقد كثر في لغة العرب استعمال اسم الإشارة عند الفصل بين كلامين ، والانتهاء من الأول وإرادة الانتقال إلى الثاني.

كأنه قيل : ذلك هو ما نريد أن نقوله في هذا الشأن ، ونقول بعده كذا وكذا. أو احفظ ذلك والأمر بعده كذا وكذا ، فاسم الإشارة للفصل بين كلامين ، والكلام في الإعراب بعد ذلك سهل يسير.

والكلام الذي بعده يقصد منه بيان الحكمة في شرع القتال مع قدرة الله أن ينتصر على أعدائه من غير أن تكون حرب بينهم وبين أوليائه ، وتلك الحكمة هي امتحان الناس ، واختبار صبرهم على المكاره ، واحتمالهم للشدائد (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (١٤٢)) [آل عمران : ١٤٢].

ثم بيّن الله تعالى بعد ذلك أنّ الذين يكون من حظّهم أن يقتلوا في سبيل الله ستحفظ أعمالهم ، وتخلّد لهم ، ثم هم بعد ذلك في روضات الجنات يحبرون.

والآية الكريمة بعد هذا متفقة مع آية الأنفال (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) [الأنفال : ٦٧] غير أنّ آية الأنفال لم يذكر فيها ما يكون بعد الإثخان ، والآية التي معنا بيّن فيها أنّ المؤمنين عليهم بعد غلبة الأعداء وقهرهم أن يشدوا الوثاق ، ثم لهم بعد ذلك أن يمنّوا على من أوثقوهم من غير فداء ، ولهم أن يفادوهم ، وقد تسأل بعد هذا وأين استرقاقهم؟ فنقول : إن الاسترقاق قد فهم من الأمر بشدّ الوثاق. وبعد هناك حالان أذن لنا فيهما الشارع الكريم : هما المن والفداء.

وإنا نذكر لك هنا آراء العلماء في المن على الأسرى وأخذ فدائهم ثم نعقب عليه بما يفتح الله به :

قد اختلف العلماء فيما دلّت عليه الآية الكريمة في مواضع : منها المراد بالذين كفروا ، فذهب بعضهم إلى أنهم المشركون ، وهو مروي عن ابن عباس ، وذهب بعضهم إلى أن المراد كلّ من ليس بيننا وبينهم عهد ولا ذمة ، ويظهر أنّ هذا هو الصحيح ، إذ الآية عامة ، والتخصيص لا دليل عليه.

وقد اختلف أيضا في المراد من ضرب الرقاب ، فذهب السدي إلى أنّ المراد منه القتال ، وذهب جماعة على أن المراد منه قتل الأسير صبرا ، والظاهر الأول ، فإنّه الذي ينساق إليه الذهن من قول الله : (فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ) إذ جعل الإثخان وهو الإضعاف ـ غاية لضرب الرقاب ، فأين قتل الأسير صبرا ، وهو إنما يقع في الأسر بعد إثخانه وضعفه.

وكذلك اختلف العلماء في المراد من الفداء ، فقال بعضهم : المراد من المفاداة

٦٨٩

العتق : وقال بعضهم : إنّ المراد إطلاق سراحهم في مقابل ما يأخذه المسلمون منهم ، وقد يكون المقابل أسرى من المسلمين عند الكفار ، من طريق التبادل ، حسبما يتيسر عند المفاداة ، وقد يكون المقابل مالا ، أو عتادا يأخذه المسلمون في نظير أسرى الحرب.

واختلفوا كذلك في المراد من وضع الحرب أوزارها ، بعد الذي علمت من معاني الأوزار ، فقال بعضهم : إنّ وضع الأوزار كناية عن الإيمان ، والمعنى حتى يؤمنوا ويذهب الكفر ، وقال بعضهم : بل المراد حتى ينزل عيسى عليه‌السلام ، وأنت لو نظرت إلى قول الله تعالى : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) [البقرة : ١٩٣] رجحت الأول على الثاني ، نعم إنّ نزول عيسى قد ورد فيه أنّه حين يكون لا يكون على ظهر الأرض كافر ، ولكنّ نزول عيسى أمر لا شيء في الآية ، ولا في غيرها مما جاء في القرآن ، يشعر به.

بقي بعد كلّ هذا خلاف العلماء في الأحكام التي دلّت عليها الآية من التخيير بين الاسترقاق والإطلاق دون مقابل والفداء ، ألا تزال هذه الأحكام معمولا بها ، أم نسخ العمل بها ، وتغيّرت الأحكام.

فذهب بعضهم إلى أنّها منسوخة بقوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [التوبة : ٥] وذهب البعض إلى أنّ النسخ إنما هو في بعض ما تناولته فقط ، فهي منسوخة في حقّ عبّاد الأوثان ، فهؤلاء لا يمنّ عليهم ، ولا يفادون ، لأنّنا منهيون عن معاهدتهم ، وقال الضحاك : لا نسخ فيها ، بل هي باقية الحكم في كل ما دلّت عليه.

ويرى سعيد بن جبير ، أنّ الكفار بعد أن يثخنوا ويضعفوا فالحكم فيهم باق لا يتغير ، أما قبل أن يضعفوا فلا يجوز أن يكون هناك منّ ولا فداء ، وهذا يتفق مع ما أشير إليه في قوله تعالى : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) [الأنفال : ٦٧] وقد اختلف فقهاء الأمصار في ذلك أيضا.

قال الجصاص (١) : اتفق فقهاء الأمصار على جواز قتل الأسير ، لا نعلم بينهم خلافا فيه ، وقد تواترت الأخبار عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قتل الأسير. منها قتله عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث [وهو الذي قالت أخته :

أمحمّد ها أنت صنو كريمة

في قومها ، والفحل فحل معرق

ما كان ضرّك لو مننت وربّما

منّ الفتى ، وهو المغيظ المحنق

قتل بعد الأسر يوم بدر.

وقتل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أحد أبا عزّة الشاعر ، بعد ما أسر.

__________________

(١) انظر أحكام القرآن للإمام أبي بكر الجصاص (٣ / ٣٩١).

٦٩٠

وقتل بني قريظة بعد نزولهم على حكم سعد بن معاذ ، فحكم فيهم بالقتل وسبي الذرية. ومنّ على الزبير بن باطا من بينهم.

وفتح خيبر بعضها صلحا وبعضها عنوة ، وشرط على ابن أبي الحقيق ألا يكتم شيئا ، فلما ظهر على خيانته وكتمانه قتله (١).

وفتح مكة ، وأمر بقتل هلال بن خطل ، ومقيس بن صبابة ، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح وآخرين. وقال : «اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلّقين بأستار الكعبة».

واختلف الفقهاء في فداء الأسير ، فقال الحنفية جميعا : لا يفادى الأسير بالمال ، ولا يباع السّبي لأهل الحرب ، فيرجعون حربا علينا ، وقال أبو حنيفة : لا يفادون بأسرى المسلمين أيضا ، وقال أبو يوسف ومحمد : لا بأس أن يفادى أسرى المؤمنين بأسرى المشركين ، وهو قول الثوري والأوزاعي.

ونقل المزني عن الشافعي : أن للإمام أن يمنّ على الرجال الذي ظهر عليهم ، أو يفادي بهم.

أما المجيزون للفداء بأسرى المسلمين وبالمال ، فيستدلّون بقوله تعالى : (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) فقد أجازت الآية الكريمة الفداء مطلقا غير مقيّد ، وبأن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فادى أسرى بدر بالمال.

ويحتجون للفداء بأسرى المسلمين بما روى ابن المبارك عن معمر عن أبي قلابة عن أبي المهلب عن عمران بن حصين : قال أسرت ثقيف رجلين من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأسر أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجلا من بني عامر بن صعصعة ، فمرّ به على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال الأسير : علام أحبس؟ فقال : «بجريرة حلفائك» فقال : «إني مسلم» فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو قلتها وأنت تملك أمرك لأفلحت كلّ الفلاح». ثم مضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فناداه أيضا ، فأقبل ، فقال : إني جائع فأطعمني ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نعم هذه حاجتك» ثم فداه بالرجلين اللذين كانت ثقيف أسرتهما (٢).

وروي أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فدى رجلين من المسلمين برجل من المشركين ، ولم يذكر في هذه الرواية إسلام الأسير.

والذين يقولون بعدم الجواز يقولون : إنّ هذه الآية نسختها آية (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا

__________________

(١) رواه أبو داود في السنن (٣ / ٩٢) ، كتاب الخراج ، باب ما جاء في حكم أرض خيبر حديث رقم (٣٠٠٦).

(٢) رواه مسلم في الصحيح (٣ / ٢٢٦٢) ، ٢٦ ـ كتاب النذر ، ٣ ـ باب لا وفاء لنذر ، حديث رقم (٨ / ١٦٤١) ، وأبو داود في السنن (٣ / ٢٠٠) ، كتاب الأيمان حديث رقم (٣٣١٦).

٦٩١

الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) [التوبة : ٥] وبقوله تعالى : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (٢٩)) [التوبة : ٢٩].

ويقولون : إنّ ما كان من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صلح الحديبية : «إنّ من جاءنا منهم رددناه عليهم» (١) قد نسخ. ونهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الإقامة بين أظهر المشركين ، وقال : «من أقام بين أظهر المشركين فقد برئت منه الذّمة» (٢) وما روي في أسارى بدر منسوخ بما تلونا.

هذه حجج الفريقين قد سقناها لك ، وإنك لترى فيها أنّ النبي فعل أشياء كثيرة مختلفة ، فمنّ وقال : «اذهبوا فأنتم الطّلقاء» وقال : «من دخل دار فلان فهو آمن».

وفي الوقت نفسه قتل جماعة من الأسرى ، وقال : «اقتلوهم وإن تعلقوا بأستار الكعبة» وقتل يهود بني قريظة نزولا على حكم سعد بن معاذ ، وكانوا قد رضوا حكمه ، ومنّ على واحد منهم ، وفادى بالمال والمسلمين ، وترى أنّ كلّ ذلك قد كان تبعا للمصلحة الحربية ، وقد أرشد الله تعالى في القرآن الكريم إلى أنّ المصلحة الحربية فوق كلّ اعتبار ، انظر إلى قوله تعالى : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٧)) [الأنفال : ٦٧] فقد عاتب الله نبيه على اتخاذ الأسرى قبل أن تقوى شوكة الإسلام ، وقبل أن يتمّ خذلان العدو وقهره.

وقد يكون في إباحة الأسر قبل الغلبة تقوية قلوب الأعداء ، إذ يقولون : ما دمنا سنكون أحياء نأكل ونشرب ، فما لنا نخضع لدعوتهم ، فيستمرّون في مناوشة المسلمين ، ومداومة حربهم كلّ يوم. أما إذا علموا أنّه لا هوادة في الحرب ، وأنهم مقتولون إن لم يؤمنوا ، وأنهم لا ملجأ لهم من الله إلا إليه أسلموا ، وقبلوا الدعوة ، أو أسلموا أمورهم ، وانقادوا ، وذلوا ، فلا يقومون بحرب ، ولا يقلقون راحة المسلمين ، فما لنا لا نوادعهم ، ونأسر منهم ، فنسترقّ ، ونمنّ ، ونفادي ، فانظر عظمة الإسلام ومكارمه.

__________________

(١) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (٤ / ١١٥) ، كتاب السير ، باب الأسارى حديث رقم (١٥٦٨) ، وابن ماجه في السنن (١ / ٦٨٩) ، ١ ـ كتاب الكفارات ، ١٦ ـ باب النهي عن النذر حديث رقم (٢١٢٤).

(٢) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (٤ / ١٣٢) ، كتاب السير ، باب كراهية المقام حديث رقم (١٦٠٤) ، وأبو داود في السنن (٢ / ٣٩٤) ، كتاب الجهاد ، باب النهي حديث رقم (٢٦٤٥).

٦٩٢

وقد جاء القرآن بالترخيص في هذا صريحا في الآية التي معنا.

والقول بالنسخ لا حاجة إليه ، وقواعد النسخ تأباه ، إذ النسخ مشروط ـ بعد المعارضة ـ بعدم إمكان الجمع بعد ثبوت التأخر في الناسخ ، والتقدم في المنسوخ.

وحيث إنه لا معارضة فإنّ لنا أن نقول : إنّ آيات القتال كانت في أولئك الذين كانوا حربا على المسلمين ، وأخرجوهم من ديارهم ، وظاهروا على إخراجهم ، وعاهدوا ، ونقضوا عهدهم ، أو نقول : إن المصلحة الحربية والتمكين لقاعدة المسلمين (جزيرة العرب) ألا يبقى فيها دينان ، قضت بالقتل حتى تطهر الجزيرة.

انظر إلى قول الله تعالى : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [التوبة : ٢٨].

وبعد فإنّا نرى أن يفوّض إلى أهل الذكر والبصر بالحرب أمر الحرب ، ووضع خططها ، والتصرف في الأسرى وغيرهم ، بحسب ما تقضي المصلحة الحربية ، فإن رأوا إبادتهم خيرا أبادوهم ، وإن رأوا استرقاقهم استرقوهم ، وإن رأوا المفاداة بالمال وبالأسرى فعلوا ، فيترك لهم أمر تقدير المصلحة.

وما نحسبنا مخطئين إذا قلنا : إنّ الذي كان من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الأعمال المختلفة كان نزولا على مقتضى المصلحة ، ولذلك نراه كان يجتهد في تعرّف وجوه المصلحة ، فيستشير أبا بكر وعمر ، ويختلف أبو بكر وعمر ، ويجيء القرآن مؤيدا لأحد الرأيين ، وكذلك نزوله على تحكيم سعد بن معاذ ، ولو كان الأمر أمر خطة مرسومة ، وحدا لا يتخطّى ، لما كان هناك معنى للاستشارة ، ولا للنزول على الرضا بالتحكيم ولما خالف في الحرب الواحدة بين أسير وأسير ، فقتل هذا ومنّ على غيره. فالمصلحة العامة وحدها هي المحكّمة ، وهي الخطة التي تتّبع في الحروب ، خصوصا والحرب مكر وخديعة ، وما دامت مكرا وخديعة فليترك للماكرين وضع خطط المكر والخديعة ، ولا يرسم لهم كيف يمكرون ، وإلا ما كانوا ماكرين.

قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (٣٣))

إطاعة الله ورسوله امتثال أوامرهما ؛ واجتناب نواهيهما.

وقد نهى الله المؤمنين في الآية الكريمة عن إبطال أعمالهم ، وذلك يدل بظاهره على أنّ من شرع نافلة ، ثم أراد تركها ، ليس له ذلك.

واختلف العلماء :

فذهب الشافعي رحمه‌الله إلى أنّ له ذلك ، قال الشافعي هو تطوّع : و «المتطوّع

٦٩٣

أمير نفسه» (١) وإلزامه إياه مخرج عن وصف التطوع (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) [التوبة : ٩١].

وذهب مالك وأبو حنيفة إلى أنه ليس له ذلك. وقال المالكية والحنفية : هو أمير نفسه ، ولا سبيل عليه قبل أن يشرع ، أمّا إذا شرع فقد ألزم نفسه ، وعقد عزمه على الفعل ، فوجب عليه أن يؤدي ما التزم ، وأن يوفي بما عقد (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) [المائدة : ١] والله أعلم.

__________________

(١) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (٣ / ١٠٩) ، كتاب الصوم ، باب ما جاء في إفطار الصائم حديث رقم (٧٣٢).

٦٩٤

من سورة الحجرات

قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (٦) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (٧) فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٨))

اشتملت سورة الحجرات على إرشاد المؤمنين إلى مكارم الأخلاق ، وبيّنت لهم أقوم الطرق التي يسلكونها في حياتهم الدنيا ، وخير المناهج التي ينتهجونها في معاملتهم ، فبيّنت لهم أنواعا من الأدب ، تختلف باختلاف من تكون المعاملة معه. وذلك أنه إمّا أن تكون المعاملة : مع الله تعالى ، أو مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو مع غيرهم من بني آدم وهؤلاء على قسمين ، لأنهم إما مؤمنين ملتزمين الطاعة ، أو خارجين عن حدودها ؛ وهؤلاء هم الفاسقون. والمؤمن الذي التزم حدود الطاعة إما أن يكون حاضرا أو غائبا ، فهذه خمسة أصناف.

وقد جاء خطاب المؤمنين ب (يا أيها الذين آمنوا) في هذه السورة خمس مرات ، بيّن تعالى في كلّ مرّة مكرمة تتناسب مع من تكون المعاملة معه.

ـ فقال في جانب الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) وذكر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما جيء به هنا لأنه الذي يوضّح طريق طاعة الله تعالى.

ـ وقال في جانب المعاملة مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ).

ـ وقال في جانب المؤمن الخارج عن حدود الطاعة (الفاسق) : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا).

ـ وقال في جانب المعاملة مع المؤمنين الحاضرين : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ).

ـ وقال في جانب الغائب : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِ).

٦٩٥

ومن أراد أن يقف على المكرمتين الأوليين فليطلبهما في كتب التفسير. ولنبدأ بالآية التي معنا.

قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (٦)).

يحذّر الله المؤمنين في هذه الآية ، ويرشدهم إلى وجوب عدم الاعتماد على أقوال الكذبة الفاسقين ، فإنّ الاستماع إليهم يوقع الفتنة بين المؤمنين ، فيفشلوا ، وتذهب ريحهم ، وتتمكن العداوة والبغضاء من نفوسهم ، وحينئذ يعضّون أصابعهم ندما ، ولا ينفع الندم.

وقد يبدو أنّ مقتضى الترتيب أن تؤخّر آية الفاسق بعد آيات المؤمنين ، ولكن لما كان الاستماع إلى الفاسق والاعتماد عليه قد يؤدي إلى فتنة وفساد كبير قدّم الكلام فيه ، اعتناء بأمر المسلمين ، واهتماما بأمر سلامتهم من الفتن ، التي يجرّها الاعتماد على من يوضعون خلال المؤمنين ، يبغونهم الفتنة.

وقد روي في سبب نزول هذه الآية ما أخرجه أحمد وابن أبي الدنيا والطبراني وغيرهم (١) بسند جيّد عن الحارث بن ضرار الخزاعي قال : قدمت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فدعاني إلى الإسلام ، فدخلت فيه ، وأقررت به ، فدعاني إلى الزكاة ، فأقررت بها ، وقلت : يا رسول الله أرجع إلى قومي ؛ فأدعوهم إلى الإسلام ؛ وأداء الزكاة ؛ فمن استجاب لي جمعت زكاته ، وترسل إليّ يا رسول الله رسولا لإبّان كذا وكذا ليأتيك بما جمعت من الزكاة.

فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له ، وبلغ الإبان الذي أراد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يبعث إليه ، احتبس عليه الرسول فلم يأت ، فظنّ الحارث أن قد حدث فيه سخطة من الله عزوجل ورسوله ، فدعا بسروات قومه ، فقال لهم : بأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان وقّت لي وقتا يرسل إليّ رسوله ليقبض ما كان عندي من الزكاة ، وليس من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الخلف ، ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطة كانت ، فانطلقوا فنأتي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبعث رسول الله الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، وهو أخو عثمان رضي الله عنه لأمه إلى الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة ، فلما أن سار الوليد إلى أن بلغ بعض الطريق فرق ، فرجع ، فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إنّ الحارث منعني الزكاة وأراد قتلي. فضرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم البعث إلى الحارث ، فأقبل الحارث بأصحابه حتّى استقبله البعث ، وقد فصل عن المدينة ، قالوا : هذا الحارث ، فلما غشيهم قال لهم : إلى من بعثتم؟

__________________

(١) انظر المسند للإمام أحمد بن حنبل (٤ / ٢٧٩).

٦٩٦

قالوا : إليك ، قال : ولم؟ قالوا : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث إليك الوليد بن عقبة ، فزعم أنّك منعته الزكاة ، وأردت قتله قال : لا والذي بعث محمدا بالحق ، ما رأيته بتة ، ولا أتاني. فلما دخل الحارث على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «منعت الزكاة ، وأردت قتل رسولي؟» قال : لا والذي بعثك بالحق ، ما رأيته ولا رآني ، ولا أقبلت إلا حين احتبس عليّ رسول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خشية أن تكون سخطة من الله عزوجل ورسوله ، قال : فنزلت الحجرات : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ).

ولم يختلف الذين رووا أسباب النزول في أنّ الوليد بن عقبة بن أبي معيط كان الشخص الذي جاء بالنبإ ، إنما اختلفوا في أسباب قوله ، فمنهم من روى أنّه خاف وفرق حين رأى جماعة الحارث وقد خرجت في انتظاره ، فظنها خرجت لحربه ، ومنهم من روى أنّه كان بينه وبينهم موجدة في الجاهلية ، فجاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : إنّهم قد تركوا الصلاة ، وارتدوا ، وكفروا بالله ، فلم يعجل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبعث خالد بن الوليد إليهم ، وقال : «ارمقهم عند الصلاة ، فإن كان القوم قد تركوا الصلاة فشأنك بهم ، وإلا فلا تعجل عليهم».

وهنا يختلف الذين رووا سبب النزول مرة أخرى ، فيروي بعضهم ما قدمنا من أنّهم قدموا ، وقابلوا البعث حيث فصل من المدينة.

ويروي بعض آخر أنّ خالد بن الوليد رضي الله عنه خرج إليهم ، ودنا منهم عند غروب الشمس ، فكمن حيث يسمع الصلاة ، فرمقهم ، فإذا هو بالمؤذن قد قام حين غربت الشمس ، فأذّن ثم أقام الصلاة ، فصلوا المغرب.

فقال خالد : ما أراهم إلّا يصلون ، فلعلهم تركوا غير هذه الصلاة ، ثم كمن حتى إذا جنح الليل وغاب الشفق أذّن مؤذنهم ، فصلوا. فقال : فلعلهم تركوا صلاة أخرى ، فكمن حتى إذا كان في جوف الليل تقدّم حتى أطل الخيل بدورهم ، فإذا القوم تعلّموا شيئا من القرآن ، فهم يتهجدون به من الليل ، ويقرؤونه. ثم أتاهم عند الصبح فإذا المؤذن حين طلع الفجر قد أذّن ثم أقام ، فقاموا فصلوا ، فلما انصرفوا وأضاء لهم النهار إذا هم بنواصي الخيل في ديارهم ، فقالوا : ما هذا؟ قال : خالد بن الوليد. قال : يا خالد ما شأنك؟

فقال : والله أنتم شأني ، أتي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقيل له : إنكم كفرتم بالله وتركتم الصلاة ، فجعلوا يبكون ، فقالوا : نعوذ بالله أن نكفر بالله أبدا ، فصرف الخيل وردّها عنهم ، حتى أتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنزل الله قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) (١).

وقد عرفت مرارا أنّ الآية تكون عامة ، وإن نزلت على سبب خاص ، ما دام

__________________

(١) انظر الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي (٦ / ٨٩).

٦٩٧

لفظها عاما ، وقد قال الحسن : فو الله لئن كانت نزلت في هؤلاء القوم خاصة إنّها لمرسلة إلى يوم القيامة ما نسخها شيء.

والفاسق : الخارج من حدود الشرع ، من قولهم : فسق الرطب : إذا خرج عن قشره ، وسمي به الفاسق لانسلاخه عن الخير ، والفسق أعمّ من الكفر ، لأنه يقع بالقليل من الذنوب وبالكثير ، ولكن تعورف فيما كان بكثيره ، يكثر ما يقال لمن كان مؤمنا ، ثم أخلّ بجميع الأحكام أو ببعضها.

والتبين : طلب البيان ، وقد قرئ (فتثبتوا) بدل (فَتَبَيَّنُوا) وهما متقاربان ، إذ التثبت طلب الثبات ، وما كان ثابتا كان قريب المعرفة. ويرى بعض اللغويين أنّه لا يقال للخبر نبأ حتى يكون ذا فائدة عظيمة ، ويكون معنى الآية : إن جاءكم أيّ فاسق بنبإ عظيم ، له نتائج عظيمة ، فلا تقبلوه بادئ الأمر ، بل توقّفوا فيه ، وتثبتوا ، حتى تأمنوا العاقبة.

والتعبير بكلمة (إن) التي هي (للشك) للإشارة إلى أنّ الغالب في المؤمن أن يكون يقظا ، يعرف مداخل الأمور ، وما يترتّب عليها ، وإذ يكون هذا شأن المؤمنين فلا يجيئهم كاذب يكذب عليهم ، وإن وقع ذلك يكون على ندرة وقلّة.

وقوله تعالى : (أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ) تعليل للأمر بالتبين ، وهو إمّا مقدّر فيه لام التعليل قبل (إن) و (لا) النافية بعدها ، أي فتبينوا لئلا تصيبوا ، وإما مقدر فيه (الكراهة) أي كراهة أن تصيبوا. وقوله : (بِجَهالَةٍ) أي متلبسين بجهالة ، أي جاهلين حالهم ، أو تصيبوهم بسبب جهالتهم أمرهم وما هم عليه.

و (أصبح) هنا بمعنى (صار) والمعنى : فتصيروا من بعد تبيّن الأمر نادمين ، ويستمر معكم هذا الندم.

والندم ضرب من الغم ، وهو أن يلحق النادم الغمّ على ما وقع منه ، يتمنى أنه لم يقع ، وهو غمّ يصحب الإنسان صحبة لها دوام ولزوم ، لأنه كلما تذكر فعله راجعه الندم.

وقد استدلّ بالآية على أنّ الفاسق أهل للشهادة ، وإلا لم يكن للأمر بالتبين فائدة ، قاله الآلوسي ، وقال الأثري : إنّ العبد إذ شهد لا تقبل شهادته ، ولا يحتاج فيها إلى التبيّن.

ومذهب الحنفية (١) أنّ الفاسق لا تقبل شهادته ؛ وإن كان أهلا لها ، ولو قضى بها القاضي كان عاصيا ، وينفذ قضاؤه ، وتقبل شهادته عندهم في النكاح ، لأنّ الشهادة من باب الولاية ، وهو لمّا جاز أن يكون وليا على الزوجة في مالها ، جاز أن يلي عليها في بضعها ، وعبارته في النكاح عبارة ، وتعبير عن ثبوت العقد لا إلزام فيها ، ومن مذهبهم ألا تقبل الشهادة من الفاسق فيما فيه إلزام ، والإلزام الذي في النكاح لم يجئ من الشهادة ، وإنما جاء من التزام المتعاقدين في العقد.

__________________

(١) انظر الهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني (١ ـ ٢ / ١٣١).

٦٩٨

واستدلّ بالآية أيضا على قبول خبر الواحد العدل ، وتقرير الاستدلال بها من وجهين :

الأول : أنه قد رتب الأمر بالتبين على مجيء الفاسق لنبأ ، فيفيد ذلك أن الفسق علة للتبين ، ومعنى كون الشيء علة لشيء آخر ، أن يكون له تأثير في وجوده ، لا يوجد إلا معه ، وإلا فلو وجد دونه لما كان علة له ، والفرض أنّه العلة.

وقد رد هذا بأنّ إثبات العلية بطريق ترتّب الحكم على الوصف إثبات بظني ، ولا ينهض حجة في إثبات أصل من الأصول ، ولأنّ الاقتصار على شيء لا ينفي ثبوت الحكم فيما عداه.

والثاني أن التبين مشروط بمجيء الفاسق ، ومفهوم هذا الشرط انعدام الأمر بالتبين عند عدم الشرط ، فيثبت انعدام التبين في خبر الواحد العدل فيكون مقبولا ، وهو مردود ، بأنّ ذلك قول ناشىء من اعتبار مفهوم المخالفة حجة ، وهو مختلف فيه ، فلا يثبت به أصل من الأصول ، لأنّ الظواهر لا تكفي في إثبات المسائل العلمية.

واستدل الحنفية بالآية على قبول خبر الواحد المجهول الحال ، لأنّها دلت على أنّ الفسق شرط وجوب التثبت والتبين ، فيقتصر فيه على محل وروده ، ويبقى ما وراءه على الأصل ، وهو القبول.

وأنت ترى أنّ هذا استدلال مبني على أنّ الأصل العدالة. والخصم ينازعهم فيه ، ويقول : بل الأصل عدمها ، والظاهر أنّ مسألة قبول المجهول مبنية على هذا ، فإن صحّ أنّ الأصل العدالة ، فهو باق على عدالته ، حتى يتبين خلافها ، وإن كان الأصل عدمها ، فهو داخل في الفسق ، ويكون المراد منه من لم تتبيّن عدالته.

واستدلّ بالآية أيضا على أنّ من الصحابة من ليس بعدل ، لأن الله تعالى أطلق الفاسق على الوليد بن عقبة ، فإنّها نزلت فيه ، وسبب النزول لا يمكن إخراجه من اللفظ العام ، وهو صحابي بالاتفاق ، وتكون الآية ردّا على قول من ذهب إلى أنهم كلهم عدول ولا نبحث عدالتهم في رواية ولا شهادة.

والمسألة خلافية ، وفيها أقوال كثيرة :

أحدها ، هذا وعليه أكثر العلماء سلفا وخلفا.

والثاني : أنّهم كغيرهم ، فيبحث على العدالة فيهم كما يبحث عنها في غيرهم رواية وشهادة ، إلا من يكون ظاهر العدالة أو مقطوعها كالشيخين أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما.

وثالثها : أنهم عدول إلى زمن عثمان ، ويبحث عن عدالتهم من مقتله.

ورابعها : أنهم عدول إلا من قاتل عليا والمسألة لها موضع غير هذا ، ولكل أدلته وبراهينه.

٦٩٩

ثم إنّ الفاسق قسمان :

قسم فاسق غير متأوّل ، وهذا لا خلاف أنه لا يقبل خبره.

وقسم فاسق متأوّل : كالجبرية والقدرية ، ويقال له : المبتدع بدعة واضحة ، وهذا قد اختلف فيه ، فمن الأصوليين من ردّ شهادته وروايته ، ومنهم من قبلهما.

فأما الشهادة فلأنّ ردها لتهمة الكذب ، والفسق من حيث الاعتقاد لا يدل عليه ، بل قد يكون أمارة الصدق ، لأنّ الذي جعله يذهب مذهبه هو تعمقه في الدين ، والكذب حرام في كلّ الأديان ، ومن المبتدعة من يقول : بكفر الكاذب.

وأما الرواية : فلأنّ من احترز عن الكذب على غير الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو على الرسول صلّى الله عليه وسلّم أشدّ تحرّزا ، فهذا يجب أن يكون حالهم ما لم يظهر منهم ما ينافيه ، وعلى هذا جمهور أهل الفقه والحديث.

وذهب الشافعي وبعض العلماء إلى الأول ، لأنّ الآية إنما دلّت على التثبت من قول يقوله الفاسق ، وظاهر أنّ ذلك إنما كان لأنّ الغالب في الفاسق أن يكذب ، فإذا ظهر أنه ممن لا يكذب ، فالآية لم تعرض له ، والذين تقبل شهادتهم من المبتدعة قوم يتشدّدون في الدين ، لا يبيحون الكذب ، فلم يكونوا ممن تناولته الآية الكريمة.

(وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (٧) فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٨)).

يرى الزمخشري أنّ الجملة المصدّرة (بلو) لا تكون كلاما مستأنفا ، لأدائه إلى تنافر النظم. ولكن تكون كلاما متصلا بما قبله ، وهي هنا (حال) من أحد الضميرين في (فيكم) المستتر المرفوع ، أو البارز المجرور.

والمعنى : أنّ فيكم رسول الله على حال يجب عليكم تغييرها ، وهي أنّكم تحاولون معه أن يعمل في الحوادث على مقتضى ما يعنّ لكم من رأي ، وينزل على إرادتكم فعل المطواع لغيره ، التابع له فيما يرتئيه. وهو لو فعل ذلك لعنتم ، ووقعتم في العنت والهلاك ، يقال : فلان يتعنّت فلانا ، أي يطلب ما يؤديه إلى الهلاك. ويقال :

أعنت العظم إذا هيض بعد الجبر. وقد يستفاد من هذا أنّ بعض المؤمنين كانوا يزيّنون للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الإيقاع بقوم الحارث وتصديق الوليد في نبئه ، وأنه كانت تفرط منهم نظائر ذلك من الهنات ، وأنّ فريقا منهم كان يتصوّن ، ويزعم إيمانهم ، وجدّهم في التقوى فلا يجسرون على ذلك ، وسيأتي بيان ذلك عند قوله تعالى : (وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ).

٧٠٠