تفسير آيات الأحكام

المؤلف:

الشيخ محمّد علي السايس


المحقق: ناجي إبراهيم سويدان
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المكتبة العصريّة للطباعة والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-435-84-7
الصفحات: ٨٣١

من سورة التوبة

قال الله تعالى : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (٦))

تعاهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع الكفار من مشركي مكة وغيرهم على ألا يصد عن البيت الحرام أحد من الطرفين ، ولا يزعج أحد في الأشهر الحرم. وهذا هو العهد العام الذي كان بينه عليه الصلاة والسلام وبين أهل الشرك من العرب ، وكان من وراء ذلك عهود بينه عليه الصلاة والسلام وبين كثير من قبائل العرب إلى آجال مسماة ، وقد نقض كثير من المشركين عهودهم مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ولمكانة الدين الإسلامي من مكارم الأخلاق ، وللإشارة إلى أنه ليس الغرض من فرض الجهاد سفك الدماء ، وإنما المهم الوصول إلى الإيمان وترك الجحود. أرشد الله المؤمنين بقوله تعالى : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ) إلخ. إلى أن من جاء من المشركين الذي نقضوا العهد يطلب الأمان ليسمع كلام الله ، ويتدبر ، ويطلع على حقيقة الدين ، يجب تأمينه وحمايته حتى يصل إلى غايته ، ولا يجوز قتله ، ولا التعدي عليه. ومتى أراد العودة إلى بلاده يجب تيسير الطريق أمامه ليصل إلى مأمنه ، أي مسكنه الذي يأمن فيه. ذلك التسامح الذي أمرتكم به من إجارة المستجير منهم ، وإبلاغه مأمنه بسبب أن هؤلاء المشركين قوم لا يعلمون حقيقة الإسلام ، ومن جهل شيئا عاداه ، أو هم قوم جهلة ، ليسوا من أهل العلم ، فلا بد من إعطائهم الأمان حتى يفهموا الحق ، وحينئذ لا تبقى لهم معذرة.

وقد ورد أنه جاء رجل من المشركين إلى علي بن أبي طالب فقال : إن أراد الرجل منا أن يأتي محمدا بعد انقضاء الأجل لسماع كلام الله ، أو لحاجة أخرى فهل يقتل؟ فقال علي : لا ، إنّ الله تعالى قال : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ).

وهنا أمور :

الأول : أن المذكور في الآية كون المستجير طالبا لسماع القرآن ، ويلحق به كونه طالبا لسماع الأدلة على كون الإسلام حقا ، وكونه طالبا للجواب عن الشبهات التي عنده ، لأنّ كل هؤلاء يطلبون العلم ويسترشدون عن الحق ، ومن كان كذلك تجب إجارته.

٤٤١

الثاني : قيل : المراد من قوله : (حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) سماع جميع القرآن ، وقيل :

سماع سورة براءة ، لأنها مشتملة على كيفية المعاملة مع المشركين ، وقيل : سماع كل ما يدل على أن الإسلام حق.

الثالث : نصّ الفقهاء من الحنفية على أن الحربي إذا دخل دار الإسلام مستجيرا لغرض شرعي كسماع كلام الله ، أو دخل بأمان لتجارة وجب تأمينه بحيث يكون محروسا في نفسه وماله إلى أن يبلغ داره التي يأمن فيها.

يؤخذ من الآية ما يأتي

١ ـ جواز تأمين الحربي إذا طلب ذلك من المسلمين ليسمع ما يدل على صحة الإسلام.

٢ ـ أنه يجب علينا تعليم كل من التمس منا أن نعلمه شيئا من أمور الدين.

٣ ـ أنه يجب على الإمام أن يحفظ الحربي المستجير ، وأن يمنع الناس عن أن ينالوه بشيء من الأذى ، لأن هذا هو المقصود من الإجارة والتأمين.

٤ ـ أنه يجب على الإمام أن يبلغه مأمنه بعد قضاء حاجته ، فلا يجوز تمكينه من الإقامة في دار الإسلام إلا بمقدار قضاء حاجته ، عملا بإشارة قوله تعالى : (فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) وقد نص الفقهاء من الحنفية على أنه يجب على الإمام أن يأمره بالخروج متى انتهت حاجته ، وأن يعلنه بأنه إن أقام بعد الأمر بالخروج سنة في دار الإسلام فلا يمكّن من الرجوع إلى بلاد الحرب ، ويصير ذميا ، وتوضع عليه الجزية.

قال الله تعالى : (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧)) شروع في تحقيق حقيقة ما سبق من البراءة وأحكامها المتفرعة عليها ، وتبيين الحكمة الداعية إلى ذلك ، بأنه إذا ظهروا علينا لا يرقبون فينا إلّا ولا ذمة.

و (كيف) للاستفهام الإنكاري لا بمعنى إنكار الواقع ، بل بمعنى إنكار الوقوع.

و (يكون) من الكون التام. و (كيف) محلها النصب على التشبيه بالحال أو الظرف ، أو من الكون الناقص ، و (عهد) اسمها ، وفي خبرها ثلاثة أوجه :

الأول : أنه (كيف) وقدم للاستفهام ، و (للمشركين) متعلّق بمحذوف وقع حالا من (عهد) أو متعلق بيكون عند من يجوّز التعلق بالناقص.

والثاني : أن خبر (يكون) هو (للمشركين) و (عند) على هذين ظرف للعهد ، أو ليكون ، أو صفة للعهد.

٤٤٢

والثالث : أن الخبر (عند الله) ، و (للمشركين) حينئذ متعلّق بمحذوف حال من (عهد) أو متعلق بيكون كما تقدم ، أو بالاستقرار الذي تعلّق به الخبر ، ولا يضرّ تقديم معمول الخبر على الاسم لكونه حرف جر. و (كيف) على الوجهين الثاني والثالث نصب على التشبيه بالظرف أو الحال ، كما في صورة الكون التام ، والمراد بالمشركين الناكثون للعهد ، لأنّ البراءة إنما هي في شأنهم.

والعهد : ما يتفق رجلان أو فريقان من الناس على التزامه بينهما لمصلحتهما المشتركة ، فإن أكّداه ووثقاه بما يقتضي زيادة العناية بحفظه والوفاء به سمي ميثاقا ، وهو مشتق من الوثاق بالفتح ، وهو الحبل والقيد. وإن أكّداه باليمين خاصّة سمي يمينا ، وقد يسمّى بذلك لوضع كل من المتعاقدين يمينه في يمين الآخر عند عقده.

وفي توجيه الإنكار إلى كيفية ثبوت العهد من المبالغة ما ليس في توجيهه إلى ثبوته لأنّ كل موجود يجب أن يكون وجوده على حال من الأحوال قطعا. فإذا انتفت جميع أحوال وجوده ، فقد انتفى وجوده على الطريق البرهاني : أي على حال. أو في أي حال يوجد لهم عهد معتدّ به (عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ) يستحق أن تراعى حقوقه ، ويحافظ عليه إلى إتمام المدة ، ولا يتعرض لهم بسببه قتلا ولا أخذا ، وتكرير كلمة (عند) للإيذان بعدم الاعتداد به عند كل من الله تعالى ورسوله على حدة.

والمعنى : بأية صفة وأية كيفية يثبت للمشركين عهد من العهود عند الله يقره لهم في كتابه وعند رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يفي لهم به ، وتفون به أيها المؤمنون اتباعا له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وحالهم الذي بينتها الآية التالية تأبى ثبوت ذلك لهم (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) ، في هذا الاستثناء وجهان :

أحدهما : أنه منقطع ، أي لكن الذين عاهدتم إلخ.

والثاني : أنه متصل ، وفيه حينئذ احتمالان : أحدهما : أنه منصوب على أصل الاستثناء من (المشركين) والثاني أنه مجرور على البدل منهم ، لأنّ معنى الاستفهام المتقدم نفي ، أي ليس يكون للمشركين عهد إلا الذين لم ينكثوا.

وعلى أنه منقطع فالذين مبتدأ خبره جملة (فما استقاموا) ، وهؤلاء المعاهدون المستثنون هنا هم المذكورون سابقا في قوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً) إلخ [التوبة : ٤] وإنما أعيد ذكر استثنائهم لتأكيده بشرطه المتضمن لبيان السبب الموجب للوفاء بالعهد. وهو أن تكون الاستقامة عليه مرعية من كل واحد من الطرفين المتعاقدين إلى نهاية مدته.

وهذا زائد على ما هنالك من وصفهم بأنه لم ينقصوا من شروط العهد شيئا ، ولم يظاهروا على المسلمين أحدا ، واعلم أن قوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ

٤٤٣

الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) اعتراض بين قوله : (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ) وقوله المفسّر له : (كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً).

وقوله : (عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) المراد به جميع الحرم كما هي عادة القرآن إلا ما استثني ، فالعندية فيه على حذف مضاف ، أي عند قرب المسجد الحرام ، وكان ذلك العهد يوم الحديبية سنة ست.

(فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ) أي فمهما يستقم لكم هؤلاء فاستقيموا لهم. أو فاستقيموا لهم مدة استقامتهم لكم ، إذ لا يجوز أن يكون الغدر ونقض العهد من قبلكم.

وقوله : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) تعليل لوجوب الامتثال ، وتبيين على أنّ مراعاة العهد من باب التقوى ، وأن التسوية بين الغادر والوفي منافية لذلك وإن كان المعاهد مشركا.

ومما يستفاد من هذه الآية : أن العهد المعتد به عند الله وعند الرسول هو عهد غير الناكثين ، وأن من استقام على عهده نعامله بمقتضاه ، وأن مراعاة العهد من تقوى الله التي يرضاها لعباده.

قال الله تعالى : (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (١٧) إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (١٨))

لما بدأ الله سبحانه وتعالى سورة التوبة بذكر البراءة من المشركين وبالغ في إيجاب ذلك بتعداد فضائحهم وقبائحهم أراد أن يحكي شبهاتهم التي كانوا يحتجون بها في أنّ هذه البراءة غير جائزة ، مع الجواب عنها.

ومما يروى في سبب النزول عن ابن عباس أنه لما أسر العباس يوم بدر عيّره المسلمون بالكفر وقطيعة الرحم ، فأغلظ علي له القول ، فقال العباس : ما لكم تذكرون مساوينا ولا تذكرون محاسننا ، فقال له علي رضي الله عنه : ألكم محاسن؟ فقال : نعم ، إنّا لنعمر المسجد الحرام ، ونحجب الكعبة ونسقي الحاج. فأنزل الله عزوجل ردا على العباس : (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ) إلخ (١) والمراد أنها تتضمن الرد على ذلك القول الذي كان يقوله ويفخر به هو وغيره من كبراء المشركين أيضا ، لا أنها نزلت عند ما قال ذلك لأجل الرد عليه في أيام بدر ، بل نزلت في ضمن السورة بعد الرجوع من غزوة تبوك.

__________________

(١) رواه ابن جرير الطبري في تفسيره جامع البيان (١٠ / ٦٦).

٤٤٤

وقوله تعالى : (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ) إلخ النفي في مثله يسمّى نفي الشأن ، وهو أبلغ من نفي الفعل ، لأنّه نفي له بالدليل ، والعمارة للمسجد كما يؤخذ من نصوص اللغة تطلق على عبادة الله فيه مطلقا ، وعلى النسك المخصوص المسمى بالعمرة ، وهي خاصّة بالمسجد الحرام ، وعلى لزومه والإقامة فيه لخدمته الحسية ، وعلى بنيانه وترميمه. وكلّ ذلك مراد هنا ، لأنّ اللفظ يدل عليه ، والمقام يقتضيه. والمختار عند الحنفية استعمال المشترك في معانيه التي يقتضيها المقام تبعا للشافعي وابن جرير.

وقوله : (مَساجِدَ اللهِ) قرئ بالإفراد ، والمتبادر منه إرادة المسجد الحرام ، لأنّه المفرد العلم الأكمل الأفضل ، وإن كان المفرد المضاف يفيد العموم في الأصل.

ومن قرأ بالجمع فإما أن يراد جميع المساجد ، فيشمل المسجد الحرام أيضا ، الذي هو أشرفها ، وهذا آكد ، لأنّ طريقه طريق الكناية ، كما لو قلت : فلان لا يقرأ كتب الله كنت أنفى لقراءته القرآن من تصريحك بذلك.

وإما أن يراد المسجد الحرام ، وجمع لأنه قبلة المساجد ، أو لأن كل بقعة منه مسجد.

وقوله : (شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ) حال من الواو في (يعمروا) وهو قيد للنفي قبله مبين لعلته. والعلة الحقيقية هي نفس الكفر لا الشهادة به ، ونكتة تقييده بها بيان أنه كفر صريح معترف به ، لا تمكن المكابرة فيه. والشهادة بالكفر : قيل إنها بإظهار آثار الشرك من نصب الأوثان حول البيت والعبادة لها. وقيل : بقولهم : لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك. وقيل : بقولهم كفرنا بما جاء به محمد. والظاهر شمول الشهادة لذلك كله.

والمعنى : ما كان ينبغي ولا يصح للمشركين ، ولا من شأنهم الذي يقتضيه شركهم ، أو الذي يشرعه ، أو يرضاه الله منهم ؛ أو يقرهم عليه ، أن يعمروا مسجد الله الأعظم وبيته المحرم بأي نوع من أنواع العمارة المتقدمة في حال كونهم كافرين ، شاهدين على أنفسهم بالكفر قولا وعملا ، لأنّ هذا جمع بين الضدين ، فإنّ عمارة مساجد الله الحسية إنما تكون لعمارتها المعنوية ، بعبادته فيها وحده ، ولا تصح ولا تقع إلا من المؤمن الموحّد له ، وذلك ضد الكفر به.

وهاهنا مسألتان :

الأولى : هل يجوز أن يستخدم المسلم الكافر في بناء المساجد ، أو لا يجوز ، لأنّه من العمارة الحسية الممنوعة ، قيل بالثاني ، وفيه نظر ، لأنّ الممنوع منها إنما هو الولاية عليها ، والاستقلال بالقيام بمصالحها ، كأن يكون ناظر المسجد وأوقافه كافرا. وأما استخدام الكافر في عمل لا ولاية فيه ، كنحت الحجارة ، والبناء والنجارة ، فلا يظهر دخوله في المنع ، ولا فيما ذكر من نفي الشأن.

٤٤٥

والثانية : يؤخذ من «تفسير المنار» (١) أنه إذا وقع من بعض الحكام والأفراد من غير المسلمين أن من بنى مسجدا للمسلمين أو أوصى بمال لعمارة مسجد لهم لمصلحة له في ذلك ، جواز قبولنا مثل هذا المسجد ، وهذه الوصية بشرط ألا يكون فيهما ضرر ديني أو سياسي ، لأنّه حينئذ يكون كمسجد الضرار.

(أُولئِكَ) المشركون (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) أي بطلت أجور أعمالهم الخيرية : كصدقة ، وصلة رحم ، وقرى ضيف ، وإغاثة ملهوف ، وغيرهما مما يفخرون به : كعمارة مسجد ، وسقاية حاج ، فلا ثواب لهم عليها في الآخرة لعدم شرطها ، وهو الإيمان ، وإن كانوا يجازون عليها في الدنيا بإعطاء الولد والمال والصحة والعافية.

(وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ) لعظم ما ارتكبوه. وهذه الجملة قيل : عطف على جملة (حَبِطَتْ) على أنها خبر آخر لأولئك وقيل : هي مستأنفة كجملة (أُولئِكَ حَبِطَتْ) وفائدتهما تقرير النفي السابق.

الأولى من جهة نفي استتباع الثواب ، والثانية : من جهة نفي استدفاع العذاب.

(إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (١٨)).

بعد أن بين عدم استحقاق المشركين لعمارة مساجد الله أثبتها للمسلمين الكاملين ، وجعلها مقصورة عليهم بالفعل ، وهم الجامعون بين الإيمان بالله على الوجه الحق ، والإيمان باليوم الآخر الذي فيه الجزاء ، وبين إقامة الصلاة المفروضة بأركانها وآدابها ، وتدبر تلاوتها وأذكارها ، التي تكسب مقيمها مراقبة الله وحبه ؛ والخشوع له ؛ والإنابة إليه ، وإعطاء زكاة الأموال لمستحقيها ، وبين خشية الله دون غيره ممن لا ينفع ولا يضر كالأصنام وسائر ما عبد من دون الله خوفا من ضرره ، أو رجاء في نفعه. فالمراد بالخشية الديني منها دون الغريزي ، كخشية أسباب الضرر الحقيقية ، فإنّ هذا لا ينافي خشية الله.

قيل : ولم يذكر الإيمان بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع الإيمان بالله ، لأنه لما ذكر الصلاة وهي لا تتم إلا بالأذان والإقامة والتشهد ، وهذه الأشياء تتضمن الإيمان بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان ذلك كافيا.

(فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) أي فأولئك الجامعون لهذه الأوصاف هم الذين يرجون بحق ؛ أو يرجى لهم ؛ بحسب سنن الله في أعمال البشر وتأثيرها في إصلاحهم أن يكونوا من جماعة المهتدين إلى ما يحب الله ويرضى من عمارة مساجده حسا ومعنى.

__________________

(١) تفسير المنار لمحمد رشيد رضا طبعة بيروت ، دار الفكر (١٠ / ٢٠٨).

٤٤٦

ومعلوم أنّ الرجاء المستفاد من عسى لا يصح أن يكون صادرا من الله ، لأنّ حقيقته ظنّ بحصول أمر وقعت أسبابه ، واتخذت وسائله من مبتغيه.

ويستنبط من الآيتين أمور :

١ ـ أنّ أعمال البر الصادرة من المشركين لا تجلب لهم ثوابا في الآخرة ، ولا تدفع عنهم عذابا.

٢ ـ أن كل ما اتصف بالإيمان ، وما عطف عليه من الأوصاف المتقدمة فهو الجدير دون غيره بأن يقبل الله منه عمارة مساجده.

٣ ـ أخذ بعضهم من قوله تعالى : (وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ) أنه ينبغي لمن بنى مسجدا أن يخلص لله في بنائه بحيث لا يكون الباعث له على بنائه رياء ولا سمعة.

٤ ـ يؤخذ من التعبير بعسى في جانب المؤمنين قطع طماعية المشركين في الانتفاع بأعمالهم التي استعظموها ، وافتخروا بها ، حيث بيّن الله تعالى أن حصول الاهتداء لمن آمنوا بالله ، ولم يخشوا غيره دائر بين لعل وعسى. وإذا كان حال المؤمنين هكذا فلا يليق بالمشرك أن يرجو لنفسه الهداية والفوز بالخير فضلا عن قطعه بذلك.

٥ ـ التنويه بفضل عمارة المساجد وقد ورد في عمارة المساجد الحسية والمعنوية أحاديث كثيرة :

ومنها ما رواه أحمد والترمذي وحسنه وابن ماجه والحاكم وغيرهم من حديث أبي سعيد رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان ، وتلا (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ)» الآية (١) وهو نص في العمارة المعنوية ، كما أنّ الحديث الأول نص في الحسية.

قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٨))

الأكثرون على أن لفظ المشركين خاصّ بعباد الأوثان. وقال قوم : يتناول جميع الكفار ، ويدل لهذا القول قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤٨] أي لا يغفر أن يكفر به ، وهذا هو الظاهر.

__________________

(١) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (٥ / ١٤) ، كتاب الإيمان ، باب ما جاء في حرمة الصلاة ، حديث رقم (٢٦١٧) ، وأحمد في المسند (٣ / ٦٨) ، وابن ماجه في السنن (١ / ٢٦٣) ، ٤ ـ كتاب المساجد ، ١٩ ـ باب لزوم المساجد حديث رقم (٨٠٢).

٤٤٧

والنجس ـ بفتح الجيم ـ مصدر.

والعيلة : الفقر والفاقة.

نهى الله المؤمنين عن أن يقرب المشركون المسجد الحرام ، أي عن تمكينهم من قربان المسجد الحرام ، وعلّل هذا بأنهم نجس ، إما لخبث باطنهم ، أو لأن معهم الشرك المنزل منزلة النجس الذي يجب اجتنابه ، أو لأنهم لا يتطهرون ، ولا يغتسلون ، ولا يجتنبون النجاسات.

وقوله : (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا) تفريع على نجاستهم ، واختلف العلماء في المراد بالمسجد الحرام فقال عطاء : الحرم كله قبلة ومسجد ، فليس المراد خصوص المسجد الحرام ، وإنما المراد منعهم من دخول المسجد الحرام ومكة والحرام. وقيل : المراد خصوص المسجد الحرام وهو مذهب الشافعية أخذا بظاهر اللفظ ، وقيل المراد المسجد الحرام بالنص ، وبقية المساجد تقاس عليه ، لأن العلّة ، وهي النجاسة ، موجودة في المشركين ، والحرمة موجودة في كل مسجد ـ وهو مذهب المالكية ـ فلا يجوز تمكينهم من دخول المسجد الحرام والمساجد كلها.

وقيل : ليس المراد النهي عن دخول المسجد الحرام ، وإنما المراد النهي عن أن يحج المشركون ويعتمروا كما كانوا يعملون في الجاهلية ـ وهو مذهب الحنفية ـ ويؤيد ذلك أمور :

١ ـ قوله : (بَعْدَ عامِهِمْ هذا) فإنّ تقييد النهي بذلك يدل على اختصاص المنهي عنه بوقت من أوقات العام ، أي لا يحجوا ولا يعتمروا بعد حج عامهم هذا ، وهو العام التاسع من الهجرة.

٢ ـ قول علي بن أبي طالب كرم الله وجهه حين نادى بسورة براءة : ألا لا يحجّ بعد عامنا هذا مشرك.

٣ ـ قوله تعالى : (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ) فإنّ خشية العيلة تكون بسبب انقطاع تلك المواسم ، لمنع المشركين من الحج والعمرة ، لأن المؤمنين كانوا ينتفعون بالتجارات التي تروج في مواسم الحج.

٤ ـ إجماع المسلمين على منع المشركين من الحج والوقوف بعرفة والمزدلفة وسائر أعمال الحج ، وإن لم تكن في المسجد.

وقوله : (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) أي إن خفتم فقرأ بسبب منعهم من الحج وانقطاع ما كانوا يجلبونه إليكم من الأرزاق والمكاسب ، فسوف يغنيكم الله.

وهذا الجزاء إخبار عن غيب في المستقبل وقد وقع الأمر مطابقا لهذا الخبر ، فقد أسلم الناس من أهل جدة ، وصنعاء ؛ وحنين ؛ وتبالة ؛ وجرش ؛ وكثر ترددهم على

٤٤٨

مكة بالتجارات وحمل الطعام وما يعاش به ، وقد أرسل الله عليهم السماء مدرارا ، فكثر خيرهم ، واتسعت أرزاقهم ، وتوجه الناس إليهم من أقطار الأرض.

والتعبير بالمشيئة في قوله : (إِنْ شاءَ) لتعليم رعاية الأدب مع الله تعالى كما في قوله تعالى : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) [الفتح : ٢٧] وللإشارة إلى أنه لا ينبغي الاعتماد على أنّ المطلوب يحصل حتما ، بل لا بد من أن يتضرع المرء إلى الله تعالى في طلب الخيرات ، وفي دفع الآفات (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ) بأحوالكم و (حَكِيمٌ) يعطي ويمنع عن حكمة وصواب.

وهاهنا أمور :

١ ـ أنه علم مما تقدم أنه لا يجوز تمكين المشرك من دخول المسجد الحرام فقط عند الشافعية ، ومن دخول المسجد الحرام والمساجد كلها عند المالكية ، ويستثنى من ذلك حالة العذر ، كدخول الذمي المسجد للتقاضي أمام الحاكم المسلم.

وأباح الحنفية دخول الذمي المساجد كلها.

٢ ـ نقل صاحب «الكشاف» (١) عن ابن عباس أنّ أعيان المشركين نجسة كالكلاب والخنازير تمسكا بهذه الآية ، ولكن اتفق الفقهاء على خلاف ذلك ، وأن أبدانهم طاهرة للإجماع على أنهم لو أسلموا كانت أجسامهم طاهرة ، مع أنّه لم يوجد ما يطهرها من الماء أو النار أو التراب أو مثل ذلك. ويدل له أيضا أنّه عليه الصلاة والسلام كان يشرب من أواني المشركين.

٣ ـ قيل الفضل في قوله : (يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) هو حمل الطعام إلى مكة من البلاد التي أسلم أهلها ؛ كجدة وصنعاء كما تقدم ، فإنّه سد حاجتهم وأغناهم عما في أيدي المشركين ، وقيل : المراد به الجزية ، وقيل : الفيء

قال الله تعالى : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (٢٩)) أمر الله المسلمين في الآيات السابقة بقتال أهل الشرك ، وعدم تمكينهم من المسجد الحرام ، وفي هذه الآية أمر الله بقتال أهل الكتاب ـ التوراة والإنجيل ـ إلى أن يسلموا أو يعطوا الجزية ، وبيّن أن العلة في لزوم قتالهم أمور :

الأول : أنّهم لا يؤمنون بالله ما داموا على حالتهم التي هم عليها ، فإنّ اليهود يعتقدون أنّ الإله جسم ، مع أن الإله الحق منزه عن الجسمية والشبيه ، فهم لا يؤمنون بوجود الإله الحق المنزه عن الجسمية.

__________________

(١) الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل للإمام الزمخشري (٢ / ٢٦١).

٤٤٩

والأنصاري يعتقدون أن الإله حلّ في عيسى ، مع أنّ الإله الحق منزّه عن الحلول في غيره ، فهم لا يؤمنون بوجود الإله الحق المنزه عن الحلول في غيره.

الثاني : أنهم لا يؤمنون باليوم الآخر على الوجه الذي وردت به الآيات والنصوص ، فإنهم يعتقدون بعث الأرواح دون الأجسام ، ويرون أنّ أهل الجنة لا يأكلون ولا يشربون ، ولا يتمتعون بالحور العين ، ولا يرون وجود أنهار ولا أكواب ولا أشجار مما وردت به النصوص ، ويقولون : إنّ نعيم الجنة وعذاب النار معان تتعلّق بالروح فقط ، كالسرور والهم ، فهم لا يؤمنون باليوم الآخر على الوجه الذي وردت به النصوص.

الثالث : أنّهم لا يحرّمون ما حرّم الله ورسوله محمد عليه الصلاة والسلام في الكتاب والسنة. وقيل : المراد برسوله الذي يزعمون اتباعه ، وهو موسى وعيسى عليهما‌السلام لليهود والنصارى ، بل حرّفوا التوراة والإنجيل ، وأتوا بأحكام من عند أنفسهم ، فهم يخالفون أصل دينهم المنسوخ اعتقادا وعملا.

الرابع : أنهم لا يدينون دين الحق ، أي لا يتخذون دين الحق دينا يعتقدون ويعملون بأحكامه ، وهو الإسلام الناسخ لسائر الأديان بصريح قوله تعالى : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) [آل عمران : ١٩] وقوله : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) [آل عمران : ٨٥].

والتعبير عن اليهود والنصارى بالاسم الموصول للدلالة على أن الصلة علّة في الحكم ، فالعلة في وجوب قتالهم أنه لم يؤمنوا بالله واليوم الآخر إلخ ، وقال : (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) ليبيّن أنّ المراد بالذين لا يؤمنون بالله إلخ هم أهل الكتاب ، والغرض تمييزهم عن المشركين في الحكم ، لأنّ الواجب في المشركين القتال إلى أن يسلموا ، وأما الواجب في أهل الكتاب فهو القتال أو الإسلام أو الجزية ، وقوله : (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) غاية لانتهاء القتال.

والجزية : اسم لما يعطيه المعاهد على هذه ، مأخوذة من : جزى الرجل العامل أجره يجزيه ، إذا أدّى ما وجب عليه للعامل من أجره ، فكذلك إذا أدّى المعاهد الجزية فقد أدّى ما وجب عليه. وقوله : (عَنْ يَدٍ) يحتمل أن يراد باليد يد المعطي أو يد الآخذ. فإن أريد يد المعطي كان المعنى حتى يعطوا الجزية إعطاء لا تمتنع يدهم عن أنّ تمتد به ، فيكونون منقادين طائعين ، فإنّ من أبى وامتنع لا يعطي يده ، ومن انقاد وأطاع أعطى يده.

ولهذا يقول : أعطى يده إذا انقاد وأطاع ، ونزع يده إذا خرج عن الطاعة.

ويصح أن يكون المعنى : حتى يعطوا الجزية عن يد المعطي إلى يد الآخذ ، والمراد حتى يعطوها بأيديهم نقدا لا نسيئة ولا مبعوثة على يد أحد.

٤٥٠

وإن أريد يد الآخذ كان المعنى حتى يعطوا الجزية إعطاء ناشئا عن قهر يد قاهرة مستولية عليهم ، وهي يد المسلمين ، أو كان المعنى حتى يعطوا الجزية إعطاء ناشئا عن يد ، أي عن إنعام عليهم ، لأن قبول الجزية منهم ، وترك أرواحهم نعمة عظمى تسدى إليهم.

وقوله : (وَهُمْ صاغِرُونَ) معناه أن يعطوا الجزية وهم بحالة الصّغار والذل ، فلا يقبل منهم أن يتأففوا ، أو يظهروا السخط على ولاية المسلمين ، أو يرموهم بالظلم والاستبداد ، ولا يعقل أن يعطى المعاهدون الجزية على هذه الحالة إلا إذا كان ولاة المسلمين على استعداد تام في أمر القوة المادية ، بحسب ما يناسب الزمان والمكان ، وفي القوة المعنوية ، بحيث تكون التربية العامة لجماعة المسلمين مما تربي فيهم ملكة التيقظ والعزة والشجاعة والعصبية والتراحم فيما بين أفراد المسلمين بعضهم مع بعض ، إلى آخر ما ورد في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال الله تعالى : (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (٣٦))

عدّة القوم جماعتهم ، وعدّة المرأة أقراؤها ، وأيام إحدادها على زوجها. ومن الأول قوله تعالى : (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ) أي جماعتها ، والقيم الذي يتولى إصلاح غيره. والمستقيم الذي لا عوج فيه. والدين الإسلامي قيم يصلح من تمسك بمبادئه وأحكامه ، وهو في ذاته أحكام مستقيمة لا عوج فيها ، صالحة لكل زمان ومكان.

كان اليهود والنصارى وغيرهم من الطوائف التي ليست عربية يعتمدون في معاملاتهم وأعيادهم على السنة الشمسية. وكانت السنة الشمسية ثلاثمئة وخمسة وستين يوما وربع يوم. وفي كل أربع سنوات يتكوّن من الكسر عندهم يوم كامل ، فتكون السنة ثلاثمئة وستة وستين يوما ، وفي كل مئة وعشرين سنة تزيد السنة شهرا كاملا ، فتكون السنة ثلاثة عشر شهرا ، وتسمى كبيسة.

وكانت الأمة العربية تعتمد في معاملاتها وعبادتها على السنة القمرية ، وكانت السنة القمرية ثلاثمئة وأربعة وخمسين يوما وكسرا. ولم يكن للكسر حكم. وقد توارثوا التعامل بذلك عن إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام.

وقد وردت الشريعة الإسلامية بمراعاة السنة القمرية في آيات كثيرة منها هذه الآية التي معنا حيث يقول الله فيها : (مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) والأشهر الحرم من الشهور القمرية ، وهي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرّم. ومنها قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) [يونس : ٥] فجعل

٤٥١

تقدير القمر بالمنازل علة لمعرفة السنوات والحساب ، وهو إنما يصح إذا كانت السنة معلقة بدورة القمر ، ومنها قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ) [البقرة : ١٨٩] ولهذا كانت السنة القمرية وشهورها العربية هي التي يعتد بها عند المسلمين في صيامهم ومواقيت حجهم وأعيادهم ومعاملاتهم وأحكامهم.

وباعتبار نقصان السنة القمرية عن الشمسية أحد عشر يوما تقريبا تنتقل الشهور العربية من فصل إلى فصل ، فيكون الحج واقعا في الشتاء مرة وفي الصيف مرة أخرى. وكان الأمر يشق على العرب أيام الجاهلية بهذا السبب ، وكذلك كانوا إذا حضروا للحج حضروا للتجارة أيضا ، وربما يكون الوقت غير مناسب لحضور التجارات من أطراف البلاد ، فيختل بذلك نظام تجارتهم ، وكان كثير من العرب يخالط الطوائف الأخرى فتعلموا منهم الاعتماد على السنة الشمسية ، فأقدموا على الكبس بتكميل النقص الذي في السنة القمرية لتساوي السنة الشمسية ، واعتبروا ذلك مبررا لاعتمادهم على السنة الشمسية ، فاختاروا للحج وقتا معينا لمصلحتهم ، لينتفعوا بتجاراتهم وعباداتهم ومصالحهم.

وكانوا مع هذا يجعلون شهر المحرم مثلا حلالا عام وحراما في عام آخر ، بحسب رغباتهم ، وكانوا يؤخّرون الشهور ، ويقدمونها بحسب أسمائها تبعا لغايتهم.

فإذا كانوا في حرب ، ودخل شهر رجب مثلا ، قالوا : نسميه رمضان ، ونطلق اسم رمضان على رجب. وهذا الأخير هو النسيء الذي اخترعوه. وهو وإن كان سببا لحصول مصالحهم الدنيوية إلا أنه يستلزم تغيير حكم الله تعالى فيما تعبدهم به.

كما أنهم اخترعوا الكبس بطريقة غير التي كانت عند غيرهم. فكانوا لتكميل النقص الذي في السنة القمرية عن الشمسية يزيدون في كل ثلاث سنوات شهرا ، لتكون السنة قمرية شمسية. ولكل هذا استوجبوا الذم العظيم ، ونزلت (١) هذه الآية ، أي (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ) في علمه تعالى : (اثْنا عَشَرَ شَهْراً) لا أكثر ولا أقل ، للرد على ما أقدم على الزيادة ، فمن حكم على بعض السنوات بأنها صارت ثلاث عشر شهرا فقد جرى على خلاف حكم الله ، وأبطل كثيرا من العبادات المؤقتة.

وهذه العدة للشهور ثابتة في علمه تعالى ، و (فِي كِتابِ اللهِ) أي في اللوح المحفوظ الذي كتب فيه ما كان وما يكون. أو فيما كتبه الله وأوجب على عباده الأخذ به ، وكذلك هي ثابتة في اليوم الذي خلق الله فيه السموات والأرض.

وقوله : (مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) ـ جمع حرام ـ أي أربعة محرّمة حرّم فيها بعض ما كان مباحا في غيرها ، أو هي ذات حرمة تمتاز بها عن بقية الشهور ، فقد ورد أنّ

__________________

(١) انظر الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي (٣ / ٢٣٧).

٤٥٢

المعصية فيها أشد عقابا ، وأنّ الطاعة فيها أعظم ثوابا. ولله تعالى أن يعظّم من الأزمان والأمكنة والناس ما شاء لا معقب لحكمه ، فقد ميّز البلد الحرام عن سائر البلاد ، وميّز يوم الجمعة ويوم عرفة عن سائر الأيام ، وميّز شهر رمضان عن بقية الشهور ، وميّز بعض الليالي كليلة القدر ، وبعض الأشخاص بإعطائه الرسالة. وهذا غير مستبعد ، لأنه لا مانع من أن يعلم الله تعالى أنّ وقوع الطاعة في هذه الأوقات أكثر تأثيرا في طهارة النفوس وأنّ وقوع المعاصي فيها أقوى تأثيرا في خبث النفس.

وأجمع العلماء على أنّ ثلاثة من الأشهر الحرم متوالية وهي : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، وواحد فرد وهو رجب. وقد أشير إلى ذلك بقوله عليه الصلاة والسلام في خطبة طويلة في حجة الوداع : منها أربعة حرم أولهن رجب مضر ، بين جمادى وشعبان ، وذو القعدة وذو الحجة والمحرم.

وقوله : (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) تحريم الأشهر الحرم هو الدين القيم. أي الحكم الذي لا التواء فيه ولا اعوجاج ، بخلاف ما كان عليه أهل الجاهلية. فمعنى كونه قيّما أنه قائم لا يبدل ولا يغير ، ودائم لا يزول ، فلا يجوز نقل تحريم المحرم مثلا إلى صفر. وذلك للرد على ما كان يعمله أهل الجاهلية من تقديم بعض أسماء الشهور ، وتأخير البعض.

(فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَ) أي في الأشهر الحرم (أَنْفُسَكُمْ) بأن تعملوا النسيء ، فتنقلوا الحج من الشهر الذي أمر الله بإقامته فيه ، إلى شهر آخر ، وتغيّروا حكم الله تعالى.

أو المراد النهي عن جميع المعاصي بسبب ما لهذه الأشهر من مزيد الأثر في تعظيم الثواب والعقاب ، كما أشير إلى ذلك بقوله تعالى : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ) [البقرة : ١٩٧]. فهذه الأشياء لا تجوز في غير هذه الأشهر ، إلا إنه أكّد في المنع منها فيها تنبيها على زيادتها في الشرف.

(وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) نهاهم الله تعالى عن أن يظلموا أنفسهم في الأشهر الحرم. وأمرهم بقتال المشركين من غير تقييد بزمن ، فيدلّ النص بظاهره على أن القتال في الأشهر الحرم مباح ، ولهذا نقل عن عطاء الخراساني أنه قال : أحلّت القتال في الأشهر الحرم (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) يشير إلى ما فيها من قوله تعالى : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) ومن قوله : (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) وأما آيات البقرة الدالة على تحريم القتال في الأشهر الحرم فهي منسوخة بآيات التوبة ، لأنّ سورة التوبة نزلت بعد سورة البقرة بسنتين. ويدل له أنه عليه الصلاة والسلام حارب هوازن بحنين وثقيفا بالطائف في شهر شوال وبعض ذي القعدة.

٤٥٣

وسئل سعيد بن المسيب هل يصح للمسلمين أن يقاتلوا الكفار في الشهر الحرام؟ قال : نعم. وهو المنقول عن قتادة والزهري وسفيان الثوري ، ولكل هذا كان القول بإباحة القتال في الأشهر الحرم هو الذي عليه المعوّل.

وقوله : (كَافَّةً) حال من الفاعل أو من المفعول ، والمعنى على الأول : قاتلوا المشركين حال كونكم جميعا متعاونين غير متخاذلين ، كما يقاتلونكم مجتمعين متعاونين غير متخاذلين.

والمعنى على الثاني : قاتلوا المشركين حال كونهم جميعا لا فرق بين طائفة وطائفة ، ما يقاتلونكم جميعا من غير مراعاة فريق منكم دون فريق.

وكلمة (كَافَّةً) من الكلمات التي توحد وتؤنث بالهاء لا غير ، فلا تثنّى ولا تجمع ولا تذكّر كالخاصة والعامة.

وقوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) أي مع أوليائه الذين يخافون من غضبه ، ويتخذون وقاية من مخالفة أمره. وهو معهم بالنصر والمعونة فيما يباشرونه من القتال وغيره. ووضع المظهر موضع المضمر للثناء عليهم بالتقوى ، ولحثّ القاصرين عليها ، وللإشعار بأنها المدار في الفوز والفلاح.

قال الله تعالى : (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٣٧))

(النَّسِيءُ) مصدر بمعنى التأخير ، كالنذير والنكير ، بمعنى الإنذار والإنكار ، من نسأت الإبل عن الحوض إذا أخرتها ، أنسؤها نسأ ونساء ونسيئا. والمراد النسيء في الشهور بمعنى تأخير حرمة شهر إلى شهر آخر ليس له تلك الحرمة ، بسبب أنه كان يشق عليهم أداء عبادتهم وتجاراتهم على اعتبار السنة القمرية ، حيث كان حجهم يقع مرة في الشتاء ومرة في الصيف ، فيتألمون من مشقة الصيف ، ولا ينتفعون بتجاراتهم ومرابحاتهم التي كانوا يودون استصحابها في موسم الحج ، وربما لا يتيسر لهم ذلك.

وكذلك كانوا أصحاب حروب وغارات ، وكانوا يكرهون أن يمكثوا ثلاثة أشهر متوالية لا يغزون فيها ، فتركوا اعتبار السنة القمرية ، واعتمدوا على السنة الشمسية ، ولزيادتها عن السنة القمرية احتاجوا إلى الكبس ، فكانوا يجعلون بعض السنين ثلاثة عشر شهرا ، وكانوا ينقلون الحج من بعض الشهور إلى بعض ، ويؤخّرون الحرمة الحاصلة من شهر إلى شهر ، ويستبيحون الحروب والغارات في الشهر الذي نقلوا حرمته ، واستمروا في ذلك حتى رفضوا تخصيص الأشهر الحرم بالتحريم ، وحرموا أربعة أشهر من شهور العام اكتفاء بمجرد العدد ، فكان هذا التحليل

٤٥٤

والتحريم زيادة في كفرهم ، الحاصل باعتقاد الشريك لله تعالى وعبادة الأصنام.

وقوله : (يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالبناء للمفعول ، أي يوقع الذين كفروا بسبب النسيء في الضلال ، أي يوقعهم الله في ضلال زيادة على ضلالهم القديم. وقرئ بالبناء للفاعل ، أي يضلهم الله ، يحلّون الشهر المؤخر عاما ويحرّمونه عاما آخر.

ثم قيل إنّ أول من عمل النسيء نعيم بن ثعلبة الكناني وكان مطاعا في قومه الذين كانوا يسألونه أن يؤخّر حرمة الشهر إلى شهر آخر ليغيروا فيه على أعدائهم ، فيقول قد فعلت ، ثم يعملون ما يشاؤون ..

وقوله : (لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ) أي يوافقها في العدد ، واللام متعلقة بالفعل الثاني ، أو بما دل عليه مجموع الفعلين فيحلوا بهذه المواطأة ما حرمه الله من القتال ، (زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ) أي حسّن الشيطان لهم أعمالهم السيئة ، فظنوا ما كان سيئا حسنا (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) أي لا يرشد الضالين الذين يختارون السيئات ويستقبحون الأعمال الصالحة.

قال الله تعالى : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦٠))

أفادت (إِنَّمَا) حصر الصدقات في هذه الأصناف الثمانية ، وأنها تصرف إليهم ، ولا تصرف إلى غيرهم.

وقد كان لفظ الصدقة في عرف الشرع في صدر الإسلام يشمل الزكاة الواجبة والصدقة المندوبة. قال تعالى : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها) [التوبة : ١٠٣] وقال عليه الصلاة والسلام : «ليس فيما دون خمس ذود صدقة ، وليس فيما دون خمسة أوسق صدقة» (١) وفي كتاب أبي بكر لأنس بن مالك حين وجهه إلى البحرين : هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على المسلمين ، والتي أمر الله تعالى بها رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢).

واتفق العلماء على أن قوله تعالى : (الصَّدَقاتُ) يشمل الزكاة الواجبة. واختلفوا في الصدقة المندوبة ، فمنهم من قال بدخولها في لفظ الآية الكريمة ، ومنهم من قال : لا تدخل ، فمن قال بدخولها يرى أن اللفظ عامّ يتناول كل صدقة ، سواء الواجبة والمندوبة ، بل إنّ المتبادر من لفظ الصدقة هو المندوبة ، فإذا أدخلنا فيه الزكاة الواجبة

__________________

(١) رواه مسلم في الصحيح (٢ / ٦٧٣) ، ١٢ ـ كتاب الزكاة حديث رقم (١ / ٩٧٩) ، والبخاري في الصحيح (٢ / ١٣٦) ، ٢٤ ـ كتاب الزكاة ، ٤ ـ باب ما أدي زكاته حديث رقم (١٤٠٥).

(٢) رواه البخاري في الصحيح (٢ / ١٥٤) ، ٢٤ ـ كتاب الزكاة ، ٣٨ ـ باب زكاة الغنم حديث رقم (١٤٥٤).

٤٥٥

فلا أقل من أن تدخل فيه أيضا الصدقة المندوبة ، وتكون الفائدة بيان أنّ مصارف جميع الصدقات ليس إلا هؤلاء الأصناف الثمانية.

ومن يرى أن المراد بالصدقات هنا هو الزكاة الواجبة يستدل على ذلك بأمور :

الأول : أن (ال) في الصدقات للعهد الذكري ، والمعهود هو الصدقات الواجبة التي أشار الله إليها بقوله قبل هذه الآية : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ) [التوبة : ٥٨] والصدقات التي كان قوم من المنافقين يعيبون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيها وفي تقسيمها هي الزكاة الواجبة ، فقد روي أنّ بعض المنافقين كان يعيب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في توزيع الصدقة ، ويزعمون أنه يؤثر بها من شاء من أقاربه وأهل مودته ، وينسبونه إلى أنه لا يراعي العدل فيها ، كلّ ذلك كان في الصدقات الواجبة ، فلما ورد قوله تعالى عقب ذلك : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ) دلّ على أنّ المراد الصدقات التي سبق الكلام فيها : وهي الصدقات الواجبة.

الثاني : أنّ الصدقات المندوبة يجوز صرفها في غير الأصناف الثمانية باتفاق ، مثل بناء المساجد والمدارس والرباطات والقناطر وتكفين الموتى وتجهيزهم ونحو ذلك ، فلو كانت الصدقة المندوبة داخلة في الآية لما جاز صرفها في مثل هذه الوجوه.

الثالث : أن الله تعالى جعل للعاملين عليها سهما فيها ، ولم يعهد في الشرع نصب عامل لجباية الصدقات المندوبة ، فلو كانت الصدقة المندوبة داخلة في الآية لوجب على الإمام أن ينصب العمال لجبايتها حتى يأخذوا سهمهم منها ، ولم يقل بذلك أحد.

الرابع : أثبت الله هذه الصدقات بلام التمليك للأصنام الثمانية ، والصدقات المملوكة لهم ليست إلا الزكاة الواجبة.

وفي الآية جمعان : بالواو وجمع بالصيغة ، فالشافعي يبقيها على ظاهرها في الجمعين معا ، فيجب عند صرف جميع الصدقات الواجبة سواء الفطرة وزكاة الأموال ، إلى ثمانية الأصناف ، لأن الآية أضافت جميع الصدقات إليهم بلام التمليك ، وشرّكت بينهم بواو التشريك ، فدلك على أن الصدقات كلها مملوكة لهم ، مشتركة بينهم ، فإن كان مفرّق الزكاة هو المالك أو وكيله سقط نصيب العامل ، ووجب صرفها إلى الأصناف السبعة بالسوية ، لا يرجح صنف على صنف إن وجدوا ، وإلا فللموجود منهم ، ولا يجوز أن يصرف لأقل من ثلاثة من كل صنف ، لأن أقل الجمع ثلاثة. وإن كان مفرقها الإمام أو نائبه وجب استيعاب الأصناف كلها ، بهذا قال عكرمة وعمر بن عبد العزيز والزهري وداود الظاهري.

وقال الأئمة أبو حنيفة (١) ومالك وأحمد رحمهم‌الله : للمالك صرفها إلى صنف

__________________

(١) انظر الهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني (١ ـ ٢ / ١٢١).

٤٥٦

واحد ، قال أبو حنيفة ومالك : له صرفها إلى شخص واحد من أحد الأصناف ، واستحب مالك صرفها إلى أمسهم حاجة.

قال إبراهيم النخعي : إن كانت قليلة جاز صرفها إلى صنف ، وإلا وجب استيعاب الأصناف.

وما نقل عن الأئمة الثلاثة هو المروي عن عمر وابن عباس وحذيفة والحسن البصري وعطاء وسعيد بن جبير والضحاك والشعبي والثوري ، واختار جمع من أصحاب الشافعي جواز دفع صدقة الفطر لثلاثة فقراء أو مساكين ، بل ذهب الروياني (١) من الشافعية إلى جواز دفع زكاة المال أيضا إلى ثلاثة من أهل السّهمان ، قال : وهو الاختيار لتعذر العمل بمذهبنا ، ولو كان الشافعي حيّا لأفتانا به.

وحمل الأئمة الثلاثة وموافقوهم الآية الكريمة على التخيير في هذه الأصناف ، ومعناها : لا يجوز صرفها لغير هذه الأصناف ، وهو فيه مخير. فالآية لبيان الأصناف التي يجوز الدفع إليهم لا لتعيين الدفع لهم.

ويدلّ له قوله تعالى : (وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) [البقرة : ٢٧١] وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها إلى فقرائكم» (٢) فإن عموم ذلك يقتضي جواز دفع جميع الصدقات إلى الفقراء حتى لا يعطى غيرهم ، بل ظاهر اللفظ يقتضي إيجاب ذلك ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أمرت ...» فدلّ ذلك على جواز الاقتصار على صنف واحد.

وأما دليل جواز الاقتصار على شخص واحد من أحد الأصناف فهو أن الجمع المعرّف بأل حقيقة إما في العهد وإما في الاستغراق. ومجاز في الجنس الصادق بواحد. والحقيقة هنا متعذّرة ، لأنّ الاستغراق غير مستقيم ، إذ يصير المعنى أن كل صدقة لكل فقير ، وهو ظاهر الفساد ، وليس هناك معهود ليرتكب العهد. وإذا تعذرت الحقيقة وجب الرجوع إلى المجاز ، فيصير المعنى في الآية. أن جنس الصدقة لجنس الفقير. وجنس الفقير يتحقق بواحد ، فيجوز الصرف إلى شخص واحد.

__________________

(١) عبد الواحد بن إسماعيل ، فقيه الشافعية في زمانه ، رحل إلى بخارى ونيسابور وانتقل إلى الري ثم أصبهان ، مات قتلا سنة (٥٠٢) انظر الأعلام للزركلي (٤ / ١٧٥).

(٢) رواه البخاري في الصحيح (٢ / ١٣٣) ، ٢٤ ـ كتاب الزكاة ، ١ ـ باب وجوب الزكاة حديث رقم (١٣٩٥) و (١٤٩٦) (بلفظ مختلف).

٤٥٧

بيان الأصناف الثمانية

الصنفان الأول والثاني : الفقراء والمساكين

قال الإمام الشافعي في حد الفقير : إنه من ليس له مال ولا كسب يقع موقعا من حاجته ، والمسكين هو الذي يقدر على ما يقع موقعا من كفايته ، إلا أنه لا يكفيه ، فالفقير أسوأ حالا من المسكين.

وقال الإمامان أبو حنيفة (١) ومالك : إنّ المسكين أسوأ حالا من الفقير ، والخلاف في ذلك لا يظهر له فائدة في الزكاة ، لأنه يجوز عند أبي حنيفة ومالك صرف الزكاة إلى صنف واحد بل إلى شخص واحد من صنف. لكن يظهر للخلاف فائدة في الوصية للفقراء دون المساكين ، أو العكس ، وفيمن أوصى بألف للفقراء ومئة للمساكين مثلا.

ومحل الخلاف إنما هو عند ذكر اللفظين معا ، أو ذكر أحدهما مع نفي الآخر ، أما إذا ذكر أحدهما ولم ينف الآخر ، كما إذا قال : أوصيت للفقراء بكذا ، فلا خلاف في أنه يجوز أن يعطي المساكين ، وهذا معنى قول بعضهم : إنهما إذا اجتمعا افترقا ، وإذا افترقا اجتمعا ، وحجة الشافعي فيما ذهب إليه وجوه :

أولها : أنه تعالى بدأ بذكر الفقراء ، وهو جلّ شأنه إنما أثبت الصدقات لهؤلاء الأصناف دفعا لحاجتهم ، وتحصيلا لمصلحتهم ، وهذا يدلّ على أن الذي وقع الابتداء بذكره يكون أشدّ حاجة ، لأن الظاهر تقديم الأهم على المهم.

ثانيها : أن الفقير أصله في اللغة المفقور الذي نزعت فقرة من فقار ظهره ، فعيل بمعنى مفعول ، فهو ممنوع من التقلب والكسب ، ومعلوم أن لا حال في الإقلال والبؤس آكد من هذه الحال.

ثالثها : ما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان يتعوّذ من الفقر (٢) وقد قال : «اللهم أحيني مسكينا ، وأمتني مسكينا ، واحشرني في زمرة المساكين» (٣) فلو كان المسكين أسوأ حالا لتناقض الحديثان لأنه حينئذ يكون قد تعوذ من الفقر ثم سأل حالا أسوأ منه ، أما إذا قلنا إن الفقير أسوأ حالا فلا تناقض البتة. وقد توفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يملك أشياء كثيرة ، فدل ذلك على أن كونه مسكينا لا ينافي كونه مالكا لبعض الأشياء.

رابعها : قوله تعالى : (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ) [الكهف : ٧٩]

__________________

(١) انظر الهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني (١ ـ ٢ / ١٢٠).

(٢) رواه النسائي في السنن (٧ ـ ٨ / ٦٥٥) ، كتاب الاستعاذة ، باب الاستعاذة من الفقر حديث رقم (٥٤٧٩).

(٣) رواه ابن ماجه في السنن (٢ / ٣٨١) ، ٣٧ ـ كتاب الزهد ، ٧ ـ باب مجالسة الفقراء حديث رقم (٤١٢٦).

٤٥٨

فقد وصف بالمسكنة من له سفينة من سفن البحر ، ولم نجد في كتاب الله ما يدل على أن الفقير يملك شيئا ، فكان الفقير أسوأ حالا من المسكين.

خامسها : نقل الشافعي وابن الأنباري وخلائق من أهل اللغة أن المسكين الذي له ما يأكل ، والفقير الذي لا شيء له ، وحجة الحنفية وموافقيهم وجوه :

الأول : ما نقل عن الأصمعي وأبي عمرو بن العلاء ويونس وغيرهم من أهل اللغة أنّ المسكين أسوأ حالا من الفقير.

والثاني : قوله تعالى : (أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (١٦)) [البلد : ١٦] أي ألصق جلده بالتراب ليواري به جسده ، وألصق بطنه به لفرط الجوع ، فإنه يدل على غاية الضرر والشدة ، ولم يوصف الفقير بذلك.

والثالث : أن المسكين هو الذي يسكن حيث يحل ، لأجل أنه ليس له بيت يسكن فيه ، وذلك يدل على نهاية الضرر والبؤس.

وإذا تأملت في أدلة الطرفين علمت أن لا مقنع في دليل منها إلا في أدلة النقل عن أهل اللغة ، والنقلان متعارضان ، وأيّا ما كان الأمر فقد اتفق الرأيان على أن الفقراء والمساكين صنفان. وروي عن أبي يوسف ومحمد أنهما صنف واحد ، واختاره الجبائي ، ويكون العطف بينهما لاختلاف المفهوم.

وفائدة الخلاف تظهر فيما إذا أوصى لفلان وللفقراء والمساكين ، فمن قال : إنهما صنف واحد جعل لفلان نصف الموصى به ، ومن قال : إنهما صنفان جعل له الثلث من ذلك.

واقتضى ظاهر الآية جواز دفع الزكاة لمن شمله اسم الفقير والمسكين ، سواء في ذلك آل البيت وغيرهم ، وسواء الأقارب والأجانب ، والمسلمون والكفار ، إلا أنّ الأحاديث الصحيحة قيّدت هذا الإطلاق ، ففي الصحيحين (١) من رواية ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن : أعلمهم أنّ عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم ، فاقتضى ذلك أن الصدقة مقصورة على فقراء المسلمين ، فلا يجوز دفع شيء من الزكاة إلى كافر سواء في ذلك الفطرة وزكاة المال.

وحكى النووي في مجموعه عن ابن المنذر أن أبا حنيفة رضي الله عنه يجيز دفع الزكاة إلى الكفار.

وكذلك لا يجوز دفعها إلى من تلزم المزكي نفقته من الأقارب والزوجات من

__________________

(١) رواه مسلم في الصحيح (١ / ٥٠) ، ١ ـ كتاب الإيمان ، ٧ ـ باب الدعاء حديث رقم (١٩٢٩) ، والبخاري في الصحيح (٢ / ١٦٥) ، ٢٤ ـ كتاب الزكاة ، ٦٣ ـ باب أخذ الصدقة حديث رقم (١٤٩٦).

٤٥٩

سهم الفقراء والمساكين ، لأن ذلك إنما جعل للحاجة ، ولا حاجة بهم مع وجود النفقة لهم ، ولأنه بالدفع إليهم يجلب إلى نفسه نفعا ، وهو منع وجوب النفقة عليه.

ولا يجوز دفعها إلى هاشمي باتفاق الأئمة ، لما رواه مسلم (١) عن المطلب بن ربيعة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ هذه الصدقات إنما هي أوساخ الناس ، وإنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد».

وقال الشافعي : لا يجوز دفعها إلى مطلبي أيضا لما رواه البخاري في «صحيحه» (٢) عن جبير بن مطعم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ بني هاشم وبني المطلب شيء واحد وشبّك بين أصابعه» ولأنه حكم واحد يتعلق بذوي القربى ، فاستوى فيه الهاشمي والمطلبي كاستحقاق الخمس.

هذا وقد اختلف الفقهاء في مقدار ما يعطى للفقير والمسكين ، فقال الشافعي : يجوز أن يدفع إلى كل منهما ما تزول به حاجته ، ولا يزاد على ذلك ، سواء صار بذلك مالكا للنصاب أم لا.

وكره أبو حنيفة (٣) أن يعطى إنسان من الزكاة مئتي درهم ، وأي مقدار أعطيه أجزأ ، وأبو يوسف يمنع ما زاد على النصاب.

وأما مالك رضي الله عنه فإنه يرد الأمر فيه إلى الاجتهاد.

وقال الثوري : لا يعطى من الزكاة أكثر من خمسين درهما إلا أن يكون غارما.

يرى الشافعي أن الله تعالى أثبت الصدقات لهؤلاء الأصناف دفعا لحاجتهم ، وتحصيلا لمصلحتهم ، فالمقصود من دفع الزكاة سد الخلة ، ودفع الحاجة ، فيعطى الفقير والمسكين ما يسد خلته ، ويدفع حاجته.

ويرى أبو حنيفة ومالك أن الآية ليس فيها تحديد مقدار ما يعطى كل واحد منهم ، وقد علمنا أنه لم يرد بها تفريق الصدقة على الفقراء على عدد الرؤوس لامتناع ذلك وتعذره ، فثبت أنّ المراد دفعها ، إلى بعض أيّ بعض كان. ومعلوم أنّ كل واحد من أرباب الأموال مخاطب بذلك ، فاقتضى ذلك جواز دفع كل واحد منهم جميع صدقته إلى فقير واحد ، قلّ المدفوع أو كثر ، فثبت بظاهر الآية جواز دفع المال الكثير إلى واحد من الفقراء من غير تحديد للمقدار ، وإنما كره أبو حنيفة أن يعطى إنسان مائتي

__________________

(١) رواه مسلم في الصحيح (٢ / ٧٥٢) ، ١٢ ـ كتاب الزكاة ، ٥١ ـ باب ترك استعمال آل النبي على الصدقة حديث رقم (١٦٧ / ١٠٧٢).

(٢) رواه البخاري في الصحيح (٤ / ٦٨) ، ٥٧ ـ كتاب الخمس ، ١٧ ـ باب ومن الدليل على أنّ الخمس حديث رقم (٣١٤٠).

(٣) انظر الهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني (١ ـ ٢ / ١٢٣).

٤٦٠