تفسير آيات الأحكام

المؤلف:

الشيخ محمّد علي السايس


المحقق: ناجي إبراهيم سويدان
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المكتبة العصريّة للطباعة والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-435-84-7
الصفحات: ٨٣١

عند إيتاء الأجور ، فمتى أعطيت الأجور ، فليس شيء وراء ذلك يمنع من الحلّ.

وأنت تعلم أنّ هذا الحكم وإن كان قد بطل العمل به بالنسبة لمن جرى بينه وبين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عهد الحديبية من قريش ، فإنّه لا مانع أن يكون معمولا به في العهود التي تجري بين المسلمين والكفار في مثل تلك الحالة التي كان عليها المسلمون يومئذ. فإذا عاهدناهم على أنّ من جاءتنا مؤمنة من أزواجهم رددنا عليهم ما أنفقوا وجب الوفاء بذلك العهد.

هذا وقد اختلف العلماء في الحربية تخرج إلى المسلمين مسلمة ، فقال أبو حنيفة : إذا خرجت الحربية مسلمة ، ولها زوج كافر في دار الحرب ، وقعت الفرقة بينهما ، ولا عدّة عليها. وقال أبو يوسف ومحمد : تقع الفرقة ، وعليها العدة. وإن أسلم الزوج بعد ذلك لم تحل له إلا بنكاح جديد ، وإليه ذهب سفيان الثوري.

وقال مالك والليث بن سعد والأوزاعي والشافعي : إن أسلم الزوج قبل أن تحيض ثلاث حيض فهي امرأته. ولا تحل الفرقة إلا إذا انقضت العدة ، فإذا انقضت فلا سبيل له عليها إن اجتمع معها في الإسلام بعد ذلك ، ولا تحل له إلا بعقد جديد.

والخلاف بين الحنفية وغيرهم إنما هو في الحربيين إذا أسلمت المرأة وخرجت مهاجرة إلى دار الإسلام ، فإنّ الحنفية يقولون في هذه الصورة بالخروج من دار الحرب وهي مسلمة : وقعت الفرقة ، فسبب الفرقة اختلاف الدارين ، والمراد به عندهم أن يكون أحد الزوجين من أهل دار الحرب ، والآخر من أهل دار الإسلام ، ولا اعتبار لمضي العدة وعدمه. وغيرهم يقول : لا عبرة باختلاف الدار ، فإذا أسلمت المرأة انتظر إسلام زوجها زمن العدة ، سواء أبقيت في دار الحرب أم خرجت وحدها مهاجرة.

وأما إذا كانا ذميين ، فأسلمت المرأة ، فمذهب الحنفية (١) أنّه لا تقع الفرقة حتى يعرض عليه الإسلام ، فإن أسلم ، وإلا فرّق بينهما ، وكذلك إذا بقيا في الحرب. والجماعة يقولون كما قالوا في الصورة الأولى ، أي أنها تنتظر زمن العدة ، فإن جمعها وإياه الإسلام ، في العدة فهي امرأته ، وإلّا حصلت الفرقة.

وقد استدل الحنفية لمذهبهم بقوله تعالى : (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ).

وقالوا في وجه استدلالهم بالآية : إنّ المهاجرة إلى دار الإسلام قد صارت من أهل دار الإسلام ، وزوجها باق على كفره من أهل دار الحرب ، فقد اختلفت داراهما وحكم الله بوقوع الفرقة بينهما بقوله : (فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ) ولو كانت

__________________

(١) انظر الهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني (١ / ٢٣٩).

٧٦١

الزوجية باقية لكان الزوج أولى بها ، وقد قال الله : (لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ).

وأيضا قوله تعالى : (وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا) يدلّ على ذلك ، لأنه لو كانت الزوجية باقية لما استحقّ الزوج ردّ المهر ، لأنه لا يستحق البضع وبدله.

قالوا : ويدل عليه أيضا قوله تعالى : (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) لأنه لو كان النكاح باقيا لما جاز لأحد أن يتزوجها.

واستدلوا أيضا بقوله تعالى : (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) لأنّ معناه عندهم لا تتمسكوا بها ، ولا تعتدوا بها ، ولا تمنعكم عصمة الكافرين السابقة من التزوج بهنّ.

وقال الحنفية أيضا : اتفق الفقهاء على جواز وطء المسبية بعد الاستبراء ، وإن كان لها زوج في دار الحرب إذا لم يسب زوجها معها ، ولا سبب يجوّز هذا في نظرهم إلا اختلاف الدارين ، لأنه ليس معنا إلا طروء الملك ، واختلاف الدارين وطروء الملك من حيث هو لا يقتضي فساد النكاح ، بدليل أنّ الأمة التي لها زوج لو بيعت لا تقع الفرقة بينهما ، وكذلك إذا مات السيد عن أمة لها زوج ، لم يكن انتقال الملك إلى الوارث سببا للفرقة.

والجماعة يقولون : إنّ سبب الفرقة هو الإسلام ، لأنها لم تعد صالحة لأن تكون فراشا لكافر ، وهذا المعنى متحقّق ، سواء أبقيت في دار الحرب ، أم خرجت ، والعدة لازمة شرعا في كل ذات زوج ما دامت حرة ، وقد عرفت عدة الحرة في الشرع ، وقد كان موجب الفرقة بينهما من قبل الزوج ، وهو بقاؤه على الكفر ، فإذا أسقط الزوج هذا الموجب في وقت يمكنه فيه التدارك ، فهي امرأته ، لأن المانع من بقاء زوجية قد زال قبل فوات الأوان.

وقد روي عن مجاهد قال : إذا أسلم وهي في العدة فهي امرأته ، وإن لم يسلم فرّق بينهما. وعن عطاء مثل هذا ، وكذلك عن الحسن ، وابن المسيّب. وأيضا قد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : ردّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ابنته زينب على أبي العاص بن الربيع بالنكاح الأول ، وقد كانت زينب هاجرت إلى المدينة ، وبقي زوجها بمكة مشركا ، ثم ردها عليه بعد إسلامه.

والحنفية ردّوا الاستدلال بهذا الحديث من وجوه ، قالوا : إنّ هذه الرواية فيها أنّه ردها بعد ست سنين ، وذلك لا يعمل به عندكم. وقالوا : إن رواية ابن عباس ومذهبه يخالف مرويّة ، على أنّه قد روي هذا الحديث من طريق آخر جاء فيه أنه ردها عليه بنكاح ثان. والكلام في هذا الحديث محله كتب الحديث ، والذي يعنينا إنما هو الآية.

يقول الجماعة : إنّ هذه الآية بل الآيات لا دليل فيها ، فإنّ عدم الإرجاع إلى الكفار مبني على مجيء المؤمنات مهاجرات ، فلم جعلتم العلة هي الهجرة وحدها ،

٧٦٢

وهي دون الإيمان لا تصلح علة ، إذ إنّها لو صلحت لكان خروج الحربية إلينا بأمان موجبا للفرقة ، وهو لا يوجبها اتفاقا ، وكذلك المسلم إذا دخل دار الحرب بأمان ، أو أسره أهل الحرب لا يبطل نكاح امرأته التي في دار الإسلام.

وجواب الحنفية عن هذا ـ بأنّ المراد أن يكون من أهل دار الإسلام ـ جواب لا ينفع ، فإنّه تستر وراء الألفاظ ، وإلّا فأهليتها لدار الإسلام موجودة وهي في دار الحرب إذا أسلمت قبله ، فلما ذا تنتظرونه حتى يعرض عليه الإسلام ، فإن أسلم ، وإلا فرّق بينهما. فالأهلية فوجودة من اللحظة الأولى ، فلو كانت الأهلية هي الموجبة لحصلت الفرقة بالإسلام لمجرده ، وهو ما نقول به ، غاية الأمر أننا نخالفكم في العدة ، أنتم تقولون بعدم وجوبها ، ونحن نقول بوجوبها ، لأننا نرى أن العدة شرعت لتعرف براءة الرحم ، ولحقّ الزوج ، حتى لا يضيع نسب ولده ، فإذا أسلم وامرأته في العدة فهو أحقّ بها ، لأن المانع من بقاء الزوجية قد زال ، والعدة واجبة على الزوجة غير المسبية ، وهذه زوجة غير مسبية ، فتلزمها العدة.

قال الحنفية في مسألة العدة : إنّ قوله تعالى : (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) ظاهر في عدم وجوب العدة ، لأنّه لم يشترط في رفع الجناح في النكاح إلا إيتاء المهر ، ولو كان هناك شيء غير هذا لبينه.

وللجماعة أن يقولوا في هذا الدليل : إنّه متروك الظاهر ، وإلا لا قتضى أن يصحّ النكاح بغير شهود ، وهو لا يصحّ بالاتفاق ، بل هو لا يصح إلا مستوفيا كلّ شرائطه ، فلو كان تحته أختها لا يحل له أن ينكحها مهما دفع من المهر.

نعم قد يقال في هذا : إن الله تعالى يقول : (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَ) والنكاح حقيقة شرعية معروفة الأركان والشرائط ، فالمفروض استيفاؤها ، والآية سيقت لدفع ما كان يظنّ من أنّ للنكاح الأول حرمته ، وأنّه باق ، فنفت الآية هذا الظن ، ورفعت الجناح في النكاح مع استيفاء الشرائط والأركان وانتفاء الموانع.

وأما استدلال الحنفية بقوله تعالى : (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) فتأويله عند الجماعة : ولا تمسكوا بعصم نسائكم المشركات الباقيات في دار الحرب ، وتكون الآية لمنع بقاء نكاحهن ، كما منع ابتداء نكاح المشركات (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ) [البقرة : ٢٢١]. ويكون المراد منع المؤمنين من أن يكون بينهم وبين نسائهم الباقيات على الشرك علقة من علق الزوجية أصلا ، وعدم الاعتداد بذلك النكاح ، فهو لا يمنع خامسة ولا نكاح أختها.

وقد يساعد على هذا التأويل قوله تعالى : (وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا). فإن معناه : اسألوا الكفار مهور نسائكم ، ولهم من السؤال مثل ذلك ، وعليكم الإجابة.

٧٦٣

وأما قياس الحنفية طروء الملك في المسبية على بيع الأمة المزوّجة في أنّ كلّا لا يقتضي فساد النكاح ، فهو قياس مع الفارق. فإنّ الذي حصل للمسبية إنما هو استرقاق واستحداث رق بعد حرية ، والذي حصل في الأمة المبيعة إنما هو انتقال ملك من شخص إلى شخص.

(ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ) فاتبعوه ، ولا تحيدوا عنه ، وقد روي أنّ الصحابة أدوا إلى المشركين ما أنفقوا من مهور المهاجرات ، وأبى المشركون أن يدفعوا مهور من بقي عندهم من نساء المؤمنين ، فنزل قوله تعالى : (وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (١١)).

والمعنى : إن انفلت منكم شيء من أزواجكم ؛ وانحاز إلى جانب الكفار ؛ وجاء دوركم ونوبتكم في استيفاء ما أنفقتم من المهور على أزواجكم ، فآتوا الذين ذهبت أزواجهم من المسلمين مثل ما أنفق هؤلاء الأزواج من مهور المهاجرات اللاتي هاجرن إليكم وتزوجتموهنّ ، ولا تدفعوا إلى أزواجهنّ الكفار ، ويكون ذلك قصاصا. إباء عن الدفع منكم بإباء عن الدفع منهم.

وقد روي عن الزهري ما يوافق هذا المعنى قال : يعطي من لحقت زوجته بالكفّار من صداق من لحق بالمسلمين من زوجات الكفّار ، وعلى هذا تكون المعاقبة بمعنى العقبى والنوبة ، وعن الزجاج أنّ المعنى : فقاتلتم الكفار وأصبتم منهم الغنائم ، فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا من الغنائم.

وقد روي عن ابن عباس أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يعطي الذي ذهبت زوجته من الغنيمة قبل أن تخمّس المهر ، لا ينقص منه شيئا (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) فلا يزد أحدكم عن الذي أنفق ، ولا ينقص المعطى منه شيئا ، وذلك شأن المؤمن ، فإيمانه يدفعه إلى أن يخشى الله ، ويتقيه في كل أعماله وأحواله.

٧٦٤

من سورة الجمعة

قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩) فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠))

المراد بالنداء الأذان والإعلام ، والمراد بالصلاة المنادى لها صلاة الجمعة ، بدليل قوله : (مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) إذ غيرها من الصلوات التي يؤذّن لها لا مزية لها في يوم الجمعة عن غيره.

والأذان الذي يجب السعي عنده اختلف فيه ، فقال بعضهم : المراد به الأذان الذي بين يدي الخطيب ، ووجه هذا أنّه الأذان الذي كان على عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبي بكر وعمر ، فقد كان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مؤذّن واحد ، وكان إذا جلس النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم على المنبر أذّن على باب المسجد ، وإذا نزل من على المنبر أقام الصلاة ، ثم كان أبو بكر وعمر كذلك ، ويرى بعضهم أنّ السعي إنما يجب عند الأذان الأول الذي على المنارة ، وهو الأذان الذي زاده عثمان رضي الله عنه ، وذلك حين رأى كثرة الناس وتباعد مساكنهم ، فأمر بالأذان الأول على داره التي تسمّى الزوراء ، فإذا جلس على المنبر أذّن المؤذن الثاني ، فإذا نزل أقام الصلاة ، وفي بعض الروايات زاد الأذان الثالث ، وكونه ثالثا ، لأنّ الإقامة تسمّى أذانا ، كما في قوله عليه الصلاة والسلام : «بين كلّ أذانين صلاة» (١).

وهذا القول هو الظاهر من مذهب الحنفية ، وهم قد نظروا فيه إلى المعنى. وذلك أنّ المراد من النداء الإعلام ، والسعي إنما يجب عند الإعلام ، وقد فهم عثمان رضي الله عنه هذا المعنى ، وزاد النداء الثاني ليتمكّن الناس من حضور الخطبة والصلاة من أماكنهم البعيدة ، ولم تكن بالمسلمين حاجة إلى هذا في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقرب مساكنهم من المسجد ، ولأنّهم كانوا يحافظون على أن يجيئوا في أوّل الوقت ـ إن لم يكن قبله ـ محافظة على أخذ الأحكام عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكان النداء الذي بين يدي الخطيب يسمعهم

__________________

(١) رواه مسلم في الصحيح (١ / ٥٧٣) ، ٦ ـ كتاب المسافرين ، ٥٦ ـ باب بين كل أذانين حديث رقم (٣٠٤ / ٨٣٨) ، والبخاري في الصحيح (١ / ١٧٥) ، ١٠ ـ كتاب الأذان ، ١٦ ـ باب بين كل أذانين صلاة حديث رقم (٦٢٧).

٧٦٥

فيحضرون سراعا ، ويدركون الخطبة من أولها ، لقرب المساكن من المسجد.

والسعي عند الأذان الثاني يفوّت على الناس سماع الخطبة التي خفّضت من أجلها الصلاة ، ويفوّت عليهم السنة القبلية.

ومن يرى أنّ السعي إنما يجب بالأذان الذي بين يدي الخطيب يقول : إنّه النداء الذي كان في زمنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو أحرص الناس على أن يؤدّي المؤمنون الواجب عليهم في وقته ، فلو كان السعي واجبا قبل ذلك لبيّن لهم ، ولجعل بين الأذان والخطبة زمنا يتّسع لحضور الناس ، ومسألة السنة القبلية فيها كلام ، وربّما كان في عمل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والأذان بين يديه وهو على المنبر ما يدل على أنّ السنة القبلية التي كانت في الظهر لم تعد مطلوبة في الجمعة ، ومع ذلك فهي سنة ، وهل يمكن أن يقال : إن السعي يجب قبل وقته لتحصيل سنة لم تثبت ، ومع ذلك فالمصلي يندب له أن يجيء مبكّرا لفوائد جمة ، منها أداء السنّة.

هذا وقد تكلّم المفسرون هنا في لفظ (من) وأنّها بمعنى (في) وتبعيضية ، كما تعرّضوا لحركة (ميم) الجمعة ، وما فيها من لغات ، وفي أصل مدلولها قبل أن تكون علما ، والمناسبة عند النقل ، وذلك بحث لا طائل تحته بعد أن صارت الجمعة في لغاتها جميعا علما على اليوم المعروف من أيام الأسبوع.

وقد اختلف العلماء في أول جمعة صلّيت في الإسلام ، فقد أخرج عبد الرزّاق وعبد بن حميد عن ابن سيرين قال : جمع أهل المدينة قبل أن يقدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقبل أن تنزل الجمعة قالت الأنصار : لليهود يوم يجتمعون فيه بكل سبعة أيام ، وللنصارى مثل ذلك ، فهلم فلنجعل لنا يوما نجتمع فيه ، فنذكر فيه الله تعالى ونشكره ، فقالوا : يوم السبت لليهود ويوم الأحد للنصارى ، فاجعلوه يوم العروبة ، وكانوا يسمون يوم الجمعة بذلك ، فاجتمعوا إلى أسعد بن زرارة ، فصلّى بهم يومئذ ركعتين ، وذكّرهم ، وسموه يوم الجمعة حين اجتمعوا ، وذبح لهم شاة ، وغدّاهم ، وعشّاهم منها (١).

وهذا الخبر مرويّ عن غير ابن سيرين أيضا فقد أخرج أبو داود وابن ماجه والبيهقي عن عبد الرحمن بن كعب أن أباه كان إذا سمع النداء ترحّم على أسعد بن زرارة ، فقلت : يا أبتاه أرأيت استغفارك لأسعد بن زرارة كلّما سمعت الأذان للجمعة ما هو؟ قال : لأنّه أول من جمع بنا في نقيع الخضمات في هزم من حرّة بني بياضة ، قلت : كم كنتم يومئذ؟ قال : أربعين رجلا (٢).

__________________

(١) انظر الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي (٦ / ٢١٨).

(٢) رواه أبو داود في السنن (١ / ٤٠٢) ، كتاب الصلاة ، باب الجمعة حديث رقم (١٠٦٩) ، وابن ماجه في السنن (١ / ٣٤٣) ، ٥ ـ كتاب إقامة الصلاة ، ٧٨ ـ باب فرض الجمعة حديث رقم (١٠٨٢).

٧٦٦

قال الكمال بن الهمام : الظاهر من هذه الروايات أنّ صلاة أسعد بن زرارة للجمعة كانت قبل أن تفرض (١).

ويرى العلامة ابن حجر أنّ الجمعة فرضت في مكة ، ولم تقم بها ، إما لعدم تكامل العدد ، وإما لأنّ أمرها كان على الإظهار ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان في مكة غير متمكن من الإظهار.

وقال : إنّ أول من أقامها بالمدينة أسعد بن زرارة ، بقرية على ميل من المدينة ، فلعلّها فرضت ، ثم نزلت الآية ، ولكن يمنع من هذا ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه خطب فقال : «إن الله فرض عليكم الجمعة في مقامي هذا ، في يومي هذا ، في شهري هذا ، في عامي هذا ، إلى يوم القيامة ، فمن تركها استخفافا بها ، أو جحودا لها ، فلا جمع الله شمله ، ولا بارك له في أمره ، ألا ولا صلاة له ، ولا زكاة له ، ولا حج له ، ولا صوم له ، ولا برّ له حتى يتوب ، فمن تاب تاب الله عليه» (٢). حيث ذكر في هذا الحديث أنّه لا حج له ، والحج وإن كان قد اختلف في مبدأ افتراضه ، إلا أنّهم صححوا أنه في السنة السادسة من الهجرة ، فالظاهر أنّ الجمعة كانت بعد ذلك.

ويرى بعض آخر من العلماء أنّ أول من جمع بالناس مصعب بن عمير ، فقد أخرج الدار قطني عن ابن عباس قال : أذن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالجمعة قبل أن يهاجر ، ولم يستطع أن يجمع بمكة ، فكتب إلى مصعب بن عمير : «أما بعد ، فانظر اليوم الذي تجهر فيه اليهود بالزبور ، فاجمعوا نساءكم وأبناءكم ، فإذا مال النهار عن شطره عند الزوال من يوم الجمعة ، فتقرّبوا إلى الله بركعتين» قال : فهو أول من جمع ، حتى قدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة.

وقد جمع بين هذين بأنّ جمع أسعد كان بغير أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجمع مصعب كان بأمره ، وأول جمعة صلّاها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانت بعد مقدمه بأربعة أيام حيث أدركه وقتها في بني سالم بن عوف ، فصلّاها في بطن واد لهم ، حيث خطب صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وصلّى بالناس.

وقوله تعالى : (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) السعي المراد منه المشي دون إفراط في السرعة.

أخرج الستة في كتبهم عن أبي سلمة من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون ، وأتوها وأنتم تمشون ، وعليكم السكينة ، فما أدركتم ، فصلّوا ، وما فاتكم فأتموا» (٣).

__________________

(١) انظر فتح القدير للإمام كمال الدين السيواسي المعروف بابن الهمام الحنفي بيروت ، دار الفكر (٢ / ٥١).

(٢) رواه ابن ماجه في السنن (١ / ٣٤٣) ، ٥ ـ كتاب إقامة الصلاة ، ٧٨ ـ باب فرض الجمعة حديث رقم (١٠٨١).

(٣) رواه مسلم في الصحيح (١ / ٤٢٠) ، ٥ ـ كتاب المساجد ، ٢٧ ـ باب ما يقال في تكبيرة الإحرام رقم (١٥١ / ٦٠٢) ، والبخاري في الصحيح (١ / ٢٤٦) ، ١١ ـ كتاب الجمعة ، ١٨ ـ باب المشي إلى الجمعة حديث رقم (٩٠٨).

٧٦٧

والمراد من ذكر الله الخطبة والصلاة جميعا ، لاشتمالهما عليه ، واستظهر بعضهم أنّ المراد به الصلاة ، وقصره بعضهم على الخطبة.

وقد ورد الذكر في الآية مطلقا غير محدود ، ومن أجل ذلك قال الحنفية : إنه لا يشترط في الخطبة اشتمالها على ما يسمّى خطبة عرفا ، لأنّ الله تعالى ذكر الذكر من غير تفضيل بين كونه طويلا أو قصيرا ، يسمى خطبة أو لا يسمى خطبة ، فكان الشرط هو الذكر مطلقا ، وما ورد من الآثار مشتملا على بيان الكيفية فهو يدل على السنية أو الوجوب ، ولا ينتهض دليلا على أنه لا يجوز إلا ذلك. ودونه تبطل الخطبة ، ولا تصح الصلاة ، بل هو اختيار للفرد الكامل من أفراد المطلق.

والشافعية يشترطون أن يأتي الخطيب بخطبتين مستوفيتين لشروط خاصة ، واستدلوا على ذلك بآثار وردت فيها ، فإن ثبتت هذه الأدلة ، وانتهضت دليلا لإثبات الشرطية ، فهي الدليل.

وقد جاء في الآية الأمر بالسعي ، والأمر للوجوب ، فيكون السعي واجبا ، وقد أخذوا من هذا أنّ الجمعة فريضة ، وذلك أنّه قد رتّب الأمر للذكر على النداء للصلاة ، فإذا كان المراد بالذكر هو الصلاة ، فالدلالة ظاهرة ، لأنه لا يكون السعي لشيء واجبا حتّى يكون ذلك الشيء واجبا.

وأما إذا كان المراد بالذكر الخطبة فقط فهو كذلك ، لأن الخطبة شرط الصلاة ، وقد أمر بالسعي إليه ، والأمر للوجوب ، فإذا وجب السعي للمقصود تبعا ، فما ذلك إلا لأن المقصود بالذات واجب ، ألا ترى أن من ارتفع عنه وجوب الجمعة لا يجب عليه السعي لها ، إذا فالسعي تابع لوجوب الجمعة ، والجمعة جاء طلبها ؛ والنكير على تركها في السنة ، وقد انعقد الإجماع على وجوبها بشروطها.

وقد أجمعوا على اشتراط العدد فيها ، بل هي ما سميت جمعة إلا لما فيها من الاجتماع ، وقد اختلف في أقلّ عدد تنعقد به الجمعة على أقوال كثيرة : ابتدأت من الاثنين إلى الثمانين ، ولقد قيل : إنه قد زادت الأقوال فيها على ثلاثة عشر قولا.

والكلام فيها من حيث التحديد ومن حيث الأدلة يرجع [فيه] إلى كتب الفقه وكتب السنة ، فإنّ الآية لم تعرض لشيء منها.

(وَذَرُوا الْبَيْعَ) المراد من البيع المعاملة ، فهو مجاز عن ذلك ، فيعم البيع والشراء والإجارة ، ولقد ذهب جماعة إلى أنّ الأمر للوجوب ، فيكون الاشتغال بهذه الأشياء محرّما.

وقال بعضهم : هو مكروه تحريما ، بل لقد زعم بعضهم أنّ الكراهة تنزيهية ، بناء على أنّ الأمر للندب ، ولم يرتضه كثير من العلماء ، وقد قالوا : إنّ التحريم يستمرّ إلى فراغ الإمام من الخطبة.

٧٦٨

وأما مبدأ التحريم فهو مبنيّ على الخلاف الذي قد علمته في المراد بالنداء ، وظاهر أنّ المأمور بالسعي هو المأمور بترك البيع ، وأما من عداهم فلا يشملهم الأمر ، فإنّ الأمر بترك البيع إنما كان لوجوب السعي.

وقد روي عن بعض السلف أنّ ترك البيع وقت النداء واجب على الناس جميعا من وجب عليه السعي ومن لم يجب.

(ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي السعي إلى ذكر الله ، وترك أعمالكم من أجل ذلك خير لكم وأنفع ، والتفضيل باعتبار ما في المعاملة من المنافع الدنيوية ، وقوله : (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) معناه : إن كنتم من أهل العلم عرفتم أنّ امتثال أوامر الله في الذهاب إلى الجمعة ، والانتفاع بما يلقى على الناس من مواعظ خير لكم في الدنيا والآخرة.

في الدنيا حيث يبصّركم الإمام بما فيه خيركم ونجاتكم من الأذى ، وفي الآخرة برضا الله عنكم ، حيث امتثلتم أمره.

قال الله تعالى : (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠)).

أي إذا فرغتم من أداء الصلاة فتفرّقوا في الأرض إلى حيث تؤدّون أعمالكم التي كنتم تركتموها من أجل الذكر ، واطلبوا الربح من فضل الله وفيض إنعامه.

وقد قالوا : إن هذا أمر ورد بعد الحظر فهو للإباحة ، وعليه فليس يطلب من الإنسان أن يخرج من المسجد بعد الصلاة ، لا وجوبا ولا ندبا.

ولقد روي عن بعض السلف أنّه كان إذا انتهت الصلاة خرج من المسجد ، ودار في السوق ساعة ، ثم رجع إلى المسجد فصلّى ما شاء أن يصلّي ، فقيل له : لأي شيء تصنع هذا؟ قال : إني رأيت سيّد المرسلين يصنع هذا ، وتلا قوله تعالى : (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) رضي الله عن أصحاب رسول الله ، فقد كانوا يتأسون بالمصطفى حتى في حركاته وسكناته.

(وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً) وفي وقت اشتغالكم بأعمالكم ، ولا تكتفوا بالذكر الذي سعيتم من أجله ، لكي تفوزوا بخير الدارين.

وقد عرض المفسرون هنا لأحكام كثيرة تتعلق بالجمعة ، كاشتراط المصر ، وكون الخطبة قبل الصلاة أو بعدها ، وهل هناك سنن قبلية ، أو بعدية؟ ونحن نرى أن هذه الأحكام لا تدل عليها الآية ، ولا من طريق الإشارة ، فيرجع إليها في السنة والفقه.

٧٦٩

قال الله تعالى : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١))

أخرج البخاري ومسلم وأحمد والترمذي (١) وغيرهم عن جابر بن عبد الله قال : بينما النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطب يوم الجمعة قائما ، إذ قدمت عير المدينة ، فابتدرها أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حتى لم يبق منهم إلا اثنا عشر رجلا ، أنا فيها وأبو بكر وعمر ، فأنزل الله تعالى : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً) إلى آخر السورة.

بهذا تضافرت الروايات على اختلاف بينها في التفاصيل ، وفي بعض الروايات أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لو خرجوا كلهم لاضطرم المسجد عليهم نارا» وفي بعضها : كان الباقي ثمانية ، وفي بعض آخر : بقي أربعون رجلا ، وكانت العير لعبد الرحمن بن عوف تحمل طعاما ، وكان قد أصاب المدينة جوع وغلاء سعر.

ولما كانت الآية نزلت بعد أن ترك من ترك رسول الله في موقفه ، قال العلماء : إن (إِذا) مستعملة في الماضي ، ولما كان العطف بين قوله : (تِجارَةً أَوْ لَهْواً) ب (أَوْ) صحّ مجيء الضمير في إليها مفردا ، ورجع الضمير إلى التجارة دون اللهو ، لأن الانفضاض كان لها بالأصالة ، ولهوهم كان للفرح بمجيء التجارة التي أنقذتهم مما هم فيه من الجوع وغلاء السعر ، وقد روي أنّه حين جاءت العير استقبلها الناس بالفرح وضرب الدفوف ، فخرج المنفضون على ذلك.

وقد استدل العلماء بقوله تعالى : (وَتَرَكُوكَ قائِماً) على مشروعية القيام أثناء الخطبة ، والمشروعية أمر متفق عليه بين العلماء ، وقد ثبت في السنة أنّ النبي ما خطب إلا قائما ، وكذلك الخلفاء من بعده ، استمرّ الأمر هكذا إلى زمن بني أمية ، حيث وجد منهم من استهان بأمر الخطبة فخطب جالسا.

نعم قد روي أن أول من خطب جالسا معاوية رضي الله عنه ، وقد حمل العلماء هذه الرواية على فرض صحتها على أنّه كان عاجزا عن القيام ، وإلا فمقام معاوية أجلّ من أن يخالف ما كان عليه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

أخرج البخاري ومسلم (٢) عن ابن عمر أن النبيّ كان يخطب خطبتين يجلس بينهما.

__________________

(١) رواه مسلم في الصحيح (١ / ٥٩٠) ، ٧ ـ كتاب الجمعة ، ١١ ـ باب قوله تعالى : (إِذا رَأَوْا تِجارَةً) حديث رقم (٣٩ / ٨٦٣) ، والبخاري في الصحيح (٢ / ٧٥) ، ٦٥ ـ كتاب التفسير ، ٢ ـ باب (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً) حديث رقم (٤٨٩٩) ، والترمذي في الجامع الصحيح (٥ / ٣٨٦) ، كتاب التفسير ، باب تفسير سورة الجمعة ، حديث رقم (٣٣١١) ، وأحمد في المسند (٣ / ٣٧٠).

(٢) رواه مسلم في الصحيح (٢ / ٥٨٩) ، ٧ ـ كتاب الجمعة ، ١٠ ـ باب ذكر الخطبتين حديث رقم (٣٣ / ٨٦١) ، والبخاري في الصحيح (١ / ٢٥١) ، ١١ ـ كتاب الجمعة ، ٣ ـ باب القعدة بين الخطبتين حديث رقم (٩٢٨).

٧٧٠

وحكم القيام في الخطبة أنّه سنة عند الحنفية (١) ، ويرى الشافعية أنّه أحد شروطها ، وأنت تعلم أنّ الحنفية لا يثبتون الشرط إلا بقطعي ، وهو غير موجود هنا. والشافعية يتمسكون بما في الآية من إشارة ، وبما ثبت من السنة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والخلفاء أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاوية على ما عرفت قبلا.

(قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ) قدمت التجارة على اللهو عند الرؤية ، لأنها كانت الباعث الأقوى على الخروج ، وأخّرت هنا لأنّه أقوى في الذم ، والغرض التنفير ، فكان من المناسب تقديمه.

(وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) فهو الذي يقدّر الأقوات وييسرها ، وهو الذي بيده ملكوت كل شيء ، وما يمسك فلا مرسل له ، وما يرسل فلا ممسك له ، إلا من بعد إذنه ، وما ينبغي لأحد أن يهجر عبادة الله من أجل شيء ، إن كان له فسوف يأتيه ، وإذا لم يكن له فلن يفيد فيه الإسراع إليه ، والجري وراءه ، وهو لو شاء الحرمان منه لحرمه وهو في البيت ، بل وفي اليد إلى الفم.

وقد حاول العلماء أن يستدلوا بما روي في أسباب النزول من أعداد الباقين والمنفضين على العدد في الجمعة ، فمن صحّ عنده أن الباقين كانوا اثني عشر قال : إنّ العدد المعتبر في الابتداء هو العدد المعتبر في البقاء ، فلو كان العدد الباقي لا تصحّ به الجمعة لما صحت الجمعة ، ولم يرو أنّهم أعادوها.

وقد ردّ هذا الاستدلال من وجوه :

أولا : قد روي أنّ الباقي كان أربعين ، وروي أنه كان ثمانية ، ولو سلّم أنهم كانوا اثني عشر ، فلا دلالة فيه ، لأنّه لا يدل إلا على أنّها تصح باثني عشر ، وهو لا يفيد أنها لا تصح بما دون ذلك ، فأين التحديد باثني عشر.

وقد سبق أن قلنا : إن الآية لا يؤخذ منها شيء من هذه الأحكام التي يثبتها الفقهاء في الجمعة ، ولا دلالة لها على أكثر من وجوب السعي عن الجمعة ، وعلى وجوب ترك البيع وشؤون الدنيا من أجل الصلاة ، وعلى أنّه لا يجوز أن يترك الناس الخطيب يخطب وينصرفوا إلى أي شأن آخر.

__________________

(١) انظر الهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني (١ / ٨٩).

٧٧١

من سورة الطلاق

قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (١))

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) إنما كان النداء خاصا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والخطاب بالحكم عاما له ولأمته تكريما له عليه الصلاة والسلام ، وإظهارا لجلالة منصبه ، كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم : يا فلان افعلوا كيت وكيت ، إظهارا لمقامه فيهم ، واعتبارا لترؤسه ، وإنه المتكلّم عنهم ، وإنه هو الذي يصدرون عن رأيه ، ولا يستبدّون بأمر دونه.

وقيل الجمع في قوله : (إِذا طَلَّقْتُمُ) للتعظيم ، مثل قوله تعالى : (قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ) [المؤمنون : ٩٩] وقول القائل :

ألا فارحموني يا إله محمد.

وقيل : أراد يا أيها النبيّ ويا أيها المؤمنون ، فحذف لدلالة الخطاب عليه.

وقيل : أراد يا أيها النبيّ قل للمؤمنين إذا طلقتم النساء إلخ.

وقد اتفق المفسّرون على اعتبار التجوّز في قوله تعالى : (إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) لأن الكلام لا يستقيم دونه ، لما فيه من تحصيل الحاصل ، أو كون المعنى إذا طلقتموهن فطلقوهنّ مرة ثانية ، وهو غير مراد قطعا ، فلا بدّ من التجوّز ، إما بإطلاق المسبب وإرادة السبب ، وإما بتنزيل المشارف للفعل منزلة الشارع فيه ، والمعنى : إذا أردتم تطليقهن تطلقوهن لعدتهنّ.

واللام في قوله تعالى : (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) لام التوقيت كاللّام الداخلة في التاريخ ، نحو كتبته لثلاث مضين من المحرم ، أي فطلّقوهن في عدتهن ، أي في وقتها. والمراد بالأمر بإيقاع الطلاق في ذلك النهي عن إيقاعه في الحيض ، وردت بذلك السنة الصريحة ، فالمعنى : إذا أردتم تطليقهنّ ، فلا تطلقوهن في الحيض ، فهو مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١) : «من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم»

__________________

(١) رواه مسلم في الصحيح (٣ / ٢٢٦) ، ٢٢ ـ كتاب المساقاة ، ٢٤ ـ باب الرهن ، حديث رقم (١٦٠٤) ، والبخاري في الصحيح (٣ / ٥٩) ، ٣٥ ـ كتاب السلم ، ١ ـ باب السلم في الوزن حديث رقم (٢٢٤٠).

٧٧٢

ليس معناه إيجاب السلم ، بل معناه النهي عن السلم فيما لم يعلم كيله أو وزنه أو أجله.

وكذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١) : «كل مما يليك» ليس معناه إيجاب الأكل. بل معناه : النهي عن أن يجيل يده في الإناء ، وهكذا جرى عرف اللسان العربي في كل ما كان من هذا القبيل ، فكانت الآية دليلا على حرمة الطلاق في الحيض.

واتفق الفقهاء على أنّ ذلك طلاق بدعي محرّم. والمعنى : فيه الإضرار بالزوجة بتطويل المدة التي تتربصها ، فإنّ بقية الحيض لا تحسب من العدة عند من يرى أنّ الأقراء الأطهار ، وكذلك لا تحسب هي ولا الطهر بعدها من العدة عند من يرى أنّ الأقراء الحيض.

وأيضا ليس من الوفاء ؛ ولا من المروءة ؛ أن يطلقها في وقت رغبته عنها ، لسبب لا دخل لها فيه.

وألحق الفقهاء بذلك في الحرمة الطلاق في النفاس ، لما ذكر من المعنى.

وأتت السنة الصحيحة بصورة ثالثة للطلاق البدعي المحرم ، وهي أن يطلّقها في طهر جامعها فيه ، والمعنى في ذلك أنه ربما يندم على الطلاق إذا ظهر الحمل ، إذ الإنسان قد يسمح بطلاق الحائل لا الحامل ، وقد لا يتيسّر له ردها ، فيتضرر هو والولد.

واستثنى كثير من الفقهاء من الطلاق المحرّم خلعها في الحيض بعوض منها ، لأنّ بذلها المال يشعر بحاجتها إلى الخلاص ، وبرضاها بتطويل المدة ، وقد قال تعالى : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) وأذن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لثابت بن قيس في الخلع على مال من غير استفصال عن حال زوجته (٢).

استدلّ أهل الظاهر بقوله تعالى : (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) على أنّ الطلاق في الحيض لا يقع ، ولا يترتب عليه حكم ، لأن الآية ظاهرة في النهي عن الطلاق في غير العدة. وقد بينت السنة ذلك ، بأنه الطلاق في الحيض.

وثبت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أنه قال : «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ» (٣) وفي رواية : «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو

__________________

(١) رواه مسلم في الصحيح (٣ / ١٥٩٩) ، ٣٦ ـ كتاب الأشربة ، ١٣٥ ـ باب آداب الطعام حديث رقم (١٠٧ / ٢٠٢٢) ، والبخاري في الصحيح (٦ / ٢٤١) ، ٧٠ ـ كتاب الأطعمة ، ٢ ـ باب التسمية حديث رقم (٥٣٧٦).

(٢) رواه أبو داود في السنن (٢ / ٢٤٤) ، كتاب الطلاق ، باب في الخلع حديث رقم (٢٢٢٧) ، والنسائي في السنن (٥ ـ ٦ / ٤٨١) ، كتاب الطلاق ، باب في الخلع حديث رقم (٣٤٦٢).

(٣) رواه مسلم في الصحيح (٣ / ١٣٤٣) ، ٣٠ ـ كتاب الأقضية ، ٨ ـ باب نقض الأحكام حديث رقم (١٧ / ١٧١٨) ، والبخاري في الصحيح (٣ / ٢٢٢) ، ٥٣ ـ كتاب الصلح ، ٥ ـ باب إذا اصطلحوا على صلح جور حديث رقم (٢٦٩٧).

٧٧٣

ردّ» قالوا : وهذا صريح في أنّ هذا الطلاق المحرم الذي ليس عليه أمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم مردود وباطل. قالوا : وإذا كان النكاح المنهي عنه لا يصح لأجل النهي ، فما الفرق بينه وبين الطلاق؟ وكيف أبطلتم ما نهى الله عنه من النكاح ، وصححتم ما حرّمه ونهى عنه من الطلاق؟ وليس لكم متمسك في ذلك إلا رواية عن ابن عمر قد خالفها ما هو مثلها أو أحسن منها عن ابن عمر أيضا ، فقد أخرج أبو داود (١) عن أبي الزبير أنّه سمع عبد الرحمن بن أيمن مولى عزة يسأل ابن عمر ، قال أبو الزبير : وأنا أسمع : كيف ترى في رجل طلّق امرأته حائضا فقال : طلّق ابن عمر امرأته حائضا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فسأل عمر عن ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إنّ عبد الله بن عمر طلّق امرأته وهي حائض. قال عبد الله : فردها عليّ ولم يرها شيئا. وليست رواية نافع عن ابن عمر : «مره فليراجعها» (٢) بأصحّ من رواية أبي الزبير عنه : «فردها عليّ ولم يرها شيئا». وحينئذ يتعيّن الجمع بينهما بحمل المراجعة في قوله : «مره فليراجعها» على الارتجاع والرد إلى حالة الاجتماع كما كانا من قبل ، وليس في ذلك ما يقتضي وقوع الطلاق البتة.

وأجاب الجمهور عن ذلك بأنّ الاستدلال بالآية على عدم وقوع الطلاق في الحيض موقوف على أنّ النهي عن الشيء يقتضي الفساد ، وهي مسألة أصولية كثرت فيها المذاهب والآراء ، وصحّح الحنفية منها أنه لا يقتضي الفساد مطلقا. وقال الشافعية : إنّه يدلّ على الفساد في العبادات وفي المعاملات إذا رجع إلى نفس العقد ، أو إلى أمر داخل فيه ، أو لازم له.

فإن رجع إلى أمر مقارن كالبيع وقت نداء الجمعة ، فلا يدل على الفساد ، والنهي فيما نحن فيه لأمر مقارن ، وهو زمان الحيض ، فهو عندهم لا يدل على الفساد أيضا.

وأيّد ذلك بأمر ابن عمر بالرجعة ، إذ لو لم يقع الطلاق لم يؤمر بها ، وقد قال الله تعالى : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) [البقرة : ٢٣٠] وهذا يعمّ كلّ طلاق. وكذلك قوله : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) [البقرة : ٢٢٨] وقوله : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) [البقرة : ٢٢٩] وقوله : (وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ) [البقرة : ٢٤١] وهذه كلها عمومات لا يجوز تخصيصها إلا بنص أو إجماع ، والمطلقة في الحيض داخلة في هذه العمومات.

وأما قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو ردّ» فما أصحه وما أبعده

__________________

(١) رواه أبو داود في السنن (٢ / ٢٢٨) ، كتاب الطلاق ، باب في طلاق السنة حديث رقم (٢١٨٥).

(٢) رواه مسلم في الصحيح (٢ / ١٠٩٣) ، ١٨ ـ كتاب الطلاق ، ١ ـ باب تحريم طلاق الحائض حديث رقم (١ / ١٤٧١) ، والبخاري في الصحيح (٦ / ١٩٩) ، ٦٨ ـ كتاب الطلاق ، ١ ـ باب قول الله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُ) حديث رقم (٥٢٥١).

٧٧٤

عن محل النزاع ، فإنّ وقوع طلاق الحائض مشروع ، فلا يقال فيه : إنه عمل ليس عليه أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فهو مردود ، وتحريم الطلاق في الحيض لا يمنع ترتيب أثره وحكمه عليه ، كالظهار ، فإنّه منكر من القول وزور ، ولا شكّ في ترتيب أثره وحكمه عليه ، وهو تحريم الزوجة إلى أن يكفّر ، فهكذا الطلاق البدعي محرّم ، ويترتب عليه أثره ، إلى أن تراجع ، وكذلك القذف محرّم ، ويترتب عليه أثره من الحدود والشهادة. وكذلك وطء الزوجة في الحيض محرّم ، ويترتب عليه أثره وحكمه ، حتى ولو دخل بزوجته وهي حائض اعتبر ذلك وطأ يقرّر المهر ويوجب العدة.

وكذلك الإيمان وهو أصل العقود وأجلها وأشرفها يزول بالكلام المحرّم إذا كان كفرا ، فكيف لا يزول عقد النكاح بالطّلاق المحرم ، الذي وضع لإزالته؟ وكذلك طلاق الهازل يقع مع تحريمه ، لأنّه لا يحلّ الهزل بآيات الله ، فإذا وقع طلاق الهازل مع تحريمه فطلاق الجادّ أولى أن يقع مع تحريمه.

والفرق بين النكاح المحرّم والطلاق المحرّم أنّ للنكاح عقد يتضمن حلّ الزوجة ، وملك بضعها ، فلا يكون إلا على الوجه المأذون فيه شرعا ، فإنّ الأبضاع في الأصل على التحريم ، ولا يباح منها إلا ما أباحه الشارع بخلاف الطلاق ، فإنه إسقاط لحقه ، وإزالة لملكه ، وذلك لا يتوقف على كون السبب المزيل مأذونا فيه شرعا. على أن من النكاح ما يكون محرما ويقع عقده صحيحا ، كمن عقد على مخطوبة الغير ، فإنّ الإقدام على هذا النكاح حرام ، ومع ذلك إذا وقع العقد كان صحيحا.

وأما رواية أبي الزبير عن ابن عمر فردّها عليّ ، ولم يرها شيئا ، فهي مردودة لمخالفة أبي الزبير فيها من هو أوثق منه ، قال أبو داود : والأحاديث كلّها على خلاف ما قال أبو الزبير.

وقال الشافعي : ونافع أثبت عن ابن عمر من أبي الزبير عنه ، والأثبت من الحديثين أولى أن يقال به إذا تخالفا ، وكذلك قال الخطابيّ. وقال ابن عبد البر : تفرّد بهذه الرواية أبو الزبير ، وقد روى الحديث عن ابن عمر جماعة أجلة ، فلم يقل ذلك أحد منهم ، وأبو الزبير ليس بحجة فيما خالفه فيه مثله ، فكيف بخلاف من هو أثبت منه.

وقال بعض أهل الحديث : لم يرو أبو الزبير حديثا أنكر من هذا.

واستدل الشافعيّ بقوله تعالى : (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) على أن الأقراء الأطهار ، ووجه الاستدلال به أنّ اللام هي لام الوقت ، أي فطلقوهن وقت عدتهن ، وفد فسر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية بهذا التفسير ، ففي «الصحيحين» (١) عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه طلّق امرأته وهي حائض في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فسأل عمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك ، فقال

__________________

(١) سبق تخريجه.

٧٧٥

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مره فليراجعها ، ثم ليمسكها حتى تطهر ، ثم تحيض ، ثم تطهر ، ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلّق قبل أن يمسّ ، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلّق لها النساء»

فبيّن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّ العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء هي الطهر الذي بعد الحيضة ، ولو كان القرء هو الحيض كان قد طلقها قبل العدة ، لا في العدة ، وكان ذلك تطويلا عليها. ويشهد لهذا الذي ذهب إليه الشافعي قراءة ابن مسعود (فطلقوهن لقبل طهرهن).

وقال الذاهبون إلى أن الأقراء الحيض : إنّ أهل العربية يفرّقون بين لام الوقت وفي التي للظرفية ، فإذا أتوا باللام لم يكن الزمان المذكور بعدها إلا ماضيا أو منتظرا ، ومتى أتوا بفي لم يكن الزمان المجرور بها إلا مقارنا للفعل ، واعتبر ذلك في قولك : (كتبته لثلاث خلون) و (كتبته بثلاث بقين) و (كتبته في ثلاث) ففي المثال الأول تكون الكتابة بعد مضي الثلاث ، وفي المثال الثاني تكون الكتابة قبل حلول الثلاث ، وفي المثال الثالث تكون الكتابة في نفس الثلاث وفي أثنائها. إذا تقرر ذلك يكون قوله تعالى : (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) معناه فطلقوهن لاستقبال عدتهن ، لا في عدتهم ، إذ من المحال أن يكون الطلاق وهو سبب العدة واقعا في العدة ، وإذا كانت العدة التي تطلّق لها النساء مستقبلة بعد الطلاق ، فالمستقبل بعدها إنما هو الحيض ، فإنّ الطاهر لا تستقبل الطهر ، إذ هي فيه ، وإنما تستقبل الحيض بعد حالها التي هي فيها.

ولكن المعروف أن اللام إذا دخلت الوقت أفادت معنى التوقيت ، واختصاص بذلك الوقت على الاتصال ، لا استقبال الوقت ، فلا تقول : كتبته لثلاث بقين إلا إذا كنت حين الكتابة متلبسا بأولها ، فيكون معنى (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) فطلقوهنّ للوقت الذي يشرعن فيه في العدة على الاتصال بالطلاق.

واستدل بعض الناس بالآية على أنّ نفس الطلاق مباح ، فإنّه إنما نهي عنه إذا كان سببا في تطويل مدة التربص ، فاقتضى ذلك أنه إذا خلا عن هذا لم يكن منهيا عنه ، بل كان مأذونا فيه ، ولا يخفى على المنصف أنّ الآية لم تدل على أكثر من حرمة الطلاق في الحيض.

(وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) أصل الإحصاء العد بالحصا ، كما كانت عادة العرب قديما ، ثم توسع فيه ، فاستعمل في ضبط العدد وإكماله ، فمعنى إحصاء العدة ضبطها وإكمالها ثلاثة قروء كوامل.

وإحصاء العدة واجب لإجزاء أحكامها فيها : من حق الرجعة للزوج ، والإشهاد عليها ، ونفقة الزوجة وسكناها ، وعدم خروجها من بيتها قبل انقضائها ، والإشهاد على فراقها إذا بانت ، وتزوج غيرها من النساء ممن لمن يكن يجوز له جمعها إليها.

٧٧٦

(وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ) في الإضرار بهنّ بتطويل العدة عليهن.

(لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ) نهي للأزواج عن إخراج المطلقات المعتدات من مساكنهنّ عند الطلاق إلى أن تنتهي العدة ، ونهي للمعتدات عن الخروج منها ، وفيه دليل على وجوب السكنى لهنّ ما دمن في العدة ، وستطلع على كلام في ذلك.

وأضاف البيوت إليهنّ وهي لأزواجهنّ لتأكيد النهي ببيان كمال استحقاقهن لسكناها ، كأنّها ملك لهنّ.

واختلفت آراء الفقهاء في ملازمة المعتدة بيت الفراق ، أهو خالص حقّ الزوجين أم هو حقّ لهما وللشرع؟

فالصحيح عند الحنفية أنّ للشرع في ذلك حقا لا يملك الزوجان إسقاطه. وعلى ذلك يكون قوله تعالى : (لا تُخْرِجُوهُنَ) دالّا على حرمة إخراجهنّ بمنطوقه ، وعلى حرمة الإذن لهنّ في الخروج بإشارته ، لأنّ الإذن في المحرّم محرّم. كأنه قيل لا تخرجوهن ولا تأذنوا لهم في الخروج إذا طلبن ذلك (وَلا يَخْرُجْنَ) بأنفسهم إن أردن.

وذهب الشافعية إلى أن ملازمتها بيت الفراق خالص حقهما ، فلو اتفقا على الانتقال جاز ، لأنّ الحقّ لا يعدوهما ، وعليه يكون المعنى : لا تستبدّوا بإخراجهنّ ، ولا يخرجن باستبدادهنّ.

(إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) اختار بعض المفسّرين أنّ الفاحشة المبيّنة هي نفس الخروج قبل انقضاء العدة. وأنّ هذا الاستثناء راجع إلى قوله تعالى : (وَلا يَخْرُجْنَ) والمعنى : لا يطلق لهن في الخروج إلا في الخروج الذي هو معصية وفاحشة ، ومعلوم أنه لا يطلق لهن في المعصية والفاحشة ، فيكون ذلك منعا عن الخروج على أبلغ وجه.

ومنه ما روى مسلم في «صحيحه» عن ابن عباس ، وقد عرض عليه بعض الناس كتابا كانوا يزعمون أنّ فيه قضاء عليّ كرم الله وجهه ، فقال : ما قضى بهذا علي إلا أن يكون ضلّ. يريد : أنه لم يقض بهذا أبدا ، لأنه لا يقضي به إلا إذا كان قد ضلّ ، ومعلوم أنّ عليا لم يضل ، فهو لم يقض به ، وهذا أسلوب من أساليب العربية البديعة البليغة ، تقول : لا تسب أخاك إلا أن تكون قاطع رحم ، ولا تزن إلا أن تكون فاسقا فاجرا. روي هذا الوجه من التأويل عن ابن عمرو والسدي وابن السائب والنخعي ، وبه أخذ أبو حنيفة رحمه‌الله.

وقال ابن عباس : إلّا أن تبذو على أهله ، فإذا فعلت ذلك حلّ لهم أن يخرجوها. وقد أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاطمة بنت قيس بالانتقال حين بذت على أحمائها.

وقال الحسن وزيد بن أسلم : الفاحشة المبيّنة الزنى ، فإذا زنت أخرجت لإقامة الحد.

٧٧٧

وقيل : الفاحشة المبينة تطلق على النشوز.

قال الجصاص (١) : هذه المعاني كلها يحتملها اللفظ ، وجائز أن يكون جمعها مرادا ، فيكون خروجها فاحشة ، وإذا زنت أخرجت للحد ، وإذا بذت على أهله أخرجت أيضا ، قال : وما ذكرنا من التأويل المراد يدل على جواز انتقالها للعذر ، لأنّ الله تعالى قد أباح لها الخروج للأعذار التي وصفنا.

ولكنّك تعلم أننا إذا خرّجنا الآية على المعنى الأول فإنّها تدلّ على أنه لا يباح خروجها بحال ، فكيف يقول الجصاص : وجائز أن يكون جميع هذه المعاني مرادا؟

(وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ) أي الأحكام السابقة حدود الله التي حدّها وعيّنها لعباده ، (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ) أي ومن يتجاوز هذه الحدود المذكورة (فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) فقد حمّل نفسه وزرا ، وأكسبها إثما ، فصار بذلك لها ظالما وعليها متعديا. أو فقد ظلم نفسه بتعريضها للضرر الدنيوي ، كما سيأتي تفصيله.

(لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) هذه جملة مستأنفة مسوقة لتعليل مضمون الشرطية السابقة.

والخطاب فيها للمتعدي بطريق الالتفات ، لمزيد الاهتمام بالزجر عن التعدي.

والمعنى : من يتعدّى حدود الله فقد عرّض نفسه للضرر ، فإنك لا تدري أيها المتعدي عاقبة الأمر ، لعل الله يحدث في قلبك بعد الذي فعلت من التعدي أمرا يقتضي خلاف ما فعلت ، فامتثل أمر ربّك ، ولا تطلّق في الحيض ، ولا تهمل في إحصاء العدة ، ولا تخرج المعتدة من بيتها ، لا يحملنك البغض والغضب على أن تفعل شيئا من ذلك ، فإنّ الكراهة والمحبة بيد الله مقلب القلوب ، فعسى أن ينقلب البغض محبة والمقت مقة ، والطلاق رجعة ، فانظر لنفسك ، وأبق للصلح بابا ، ولا تبتّ حبل المودة بتا ، فتندم حين لا ينفع الندم ، والواقع يصدّق ذلك ، فإن الغالب في الطلاق أن يكون نتيجة كراهة كاذبة ، أو ثورة غضب جامحة تغمر العقل ، وتقوى عليه ، حتى إذا تمّ الانفصال ، وهدأت الأعصاب ، وثاب الرجل إلى رشده ، انتابته عوامل القلق والحنين إلى صحبة مضت أن تعود ، وتذكّر من زوجته خلالا كان يرضاها ، وقلما يخلو أحد من ذلك ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يفرك مؤمن مؤمنة إن سخط منها خلقا رضي خلقا» (٢) وقد يكون بينهما ولد ، أو يظهر بها حمل ، فتتأكد الرغبة فيها ، والندم على طلاقها.

__________________

(١) انظر أحكام القرآن لأبي بكر الجصاص (٣ / ٤٦٢).

(٢) رواه مسلم في الصحيح (٢ / ١٠٩١) ، ١٧ ـ كتاب الرضاع ، ١٨ ـ باب الوصية بالنساء حديث رقم (٦١ / ١٤٦٩).

٧٧٨

قال الله تعالى : (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (٣))

(فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) هذا من مجاز المشارفة ، بقرينة ما بعده ، لأنّه لا يؤمر بالإمساك بعد انقضاء العدة ، أي فإذا شارفن آخر عدتهنّ فأمسكوهنّ بمعروف ، أو فارقوهنّ بمعروف ، والإمساك بالمعروف مراجعتهن مع حسن المعاشرة ، والإنفاق المناسب ، والمفارقة بالمعروف تخليتهنّ حتى تنقضي عدتهن مع إيفائهن حقهن ، واتقاء الضّرار بهن.

(وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) أي وأشهدوا عند الرجعة إن اخترتموها ، أو الفرقة إن اخترتموها ، لأنّ الإشهاد يقطع النزاع ، ويدفع الريبة.

وهذا أمر ندب واستحباب في الرجعة والفرقة ، كما في قوله تعالى : (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) [البقرة : ٢٨٢] وللشافعي قول في القديم بوجوب الإشهاد في الرجعة ، وأنه شرط في صحتها. والجديد أنه لا يشترط لصحتها الإشهاد عليها ، بناء على الأصح أنّها في حكم استدامة النكاح لا ابتدائه ، ومن ثمّ لم يحتج فيها لولي ولا لرضاها ، وإنما يندب فيها الإشهاد لقوله تعالى : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) وصرفه عن الوجوب إجماعهم على عدم الوجوب عند الطلاق ، فكذلك عن الإمساك.

(وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ) أي أدوا الشهادة أيها الشهود خالصة لوجه الله ، وفيه دليل على وجوب إقامة الشهادات عند الحكام على الحقوق كلها ، لأنّ الشهادة هنا اسم للجنس ، وإن كان مذكورا بعد الأمر بإشهاد ذوي عدل على الرجعة أو الفرقة ، لأنّ ذكرها بعده لا يمنع استعمال اللفظ على عمومه.

(ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) الإشارة إلى ما تقدّم من الحث على إقامة الشهادة لله ، أو إلى ما تقدّم من الأحكام كلها ، من إيقاع الطلاق على وجه السنة ، وإحصاء العدة ، والكف عن الإخراج والخروج ، والإشهاد على الرجعة أو الفرق ، وإقامة الشهادة لله ، أي هذه الأحكام يوعظ بها من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، لأنه المنتفع بها.

(وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) هذا اعتراض جيء به لتأكيد ما سبق من الأحكام ، أي (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ) في كل عمله (يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) من هموم الدنيا ومضارها ، وغمرات الموت ؛ وأهوال الآخرة وشدائدها ، ويرزقه الفوز بخيري الدارين ، من وجه لا يخطر بباله ، وإذا كان هذا وعدا لعامة المتقين ، تناول بعمومه الزوج الذي اتقى الله في الطلاق للسنة ، ولم يخرج المعتدة من مسكنها ، وأمسك

٧٧٩

بمعروف أو فارق بمعروف ، واحتاط فأشهد على ما اختار ، يعد الله هذا الزوج بالخلاص مما عسى أن يقع فيه من الهموم ومشاكل الزوجية ، ويفرّج عنه ما يعتريه من الكروب ، (وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) وكذلك يتناول الزوجة التي اتقت الله فيما عليها من حق ، فلم تخرج من منزل عدتها ، ولم تكتم ما خلق الله في رحمها ، فالله يعدها على هذه التقوى بتفريج كربها ، ورزقها من حيث لا تحتسب.

(وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) أي فهو كافيه جل شأنه في جميع أموره ، لأنّ الله هو القادر على كل شيء ، الغني عن كل شيء ، الجواد بكل شيء ، فإذا فوّض العبد الضعيف أمره إليه كفاه لا محالة ما أهمّه.

(إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ) إنّ الله يبلغ ما يريده سبحانه ، ولا يفوته مراد.

(قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) أي إنّه عزوجل قدّر الأشياء قبل وجودها ، وعلم مقاديرها وأوقاتها ، وإذا كان كلّ شيء من الرزق وغيره لا يكون إلا بتقديره تعالى ، ولا يقع إلا حسبما علم ، لم يسع العاقل إلا التسليم للقدر ، وفي هذه الجملة كسابقتها بيان لوجوب التوكل عليه تعالى ، وتفويض الأمر إليه جلّ ثناؤه.

قال الله تعالى : (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (٤) ذلِكَ أَمْرُ اللهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (٥))

أخرج الحاكم ، وصححه البيهقي في «سننه» وجماعة عن أبيّ بن كعب أنّ أناسا من أهل المدينة لما نزل قوله تعالى في سورة البقرة : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) [البقرة : ٢٢٨] قالوا : لقد بقي من عدة النساء عدد لم تذكر في القرآن : الصغار والكبار اللاتي قد انقطع عنهنّ الحيض ، وذات الحمل ، فأنزل الله التي في سورة النساء القصرى (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ) الآية (١).

جعل الله عدّة الآيسة ثلاثة أشهر ، ولا خلاف بين الفقهاء في أن المرأة ما دامت ترى الحيض فهي من ذوات الأقراء ، لا تكون آيسة ولو بلغت مئة سنة.

إنما خلافهم فيمن انقطع حيضها متى تكون آيسة ، وتعتد بالأشهر؟ ألذلك حدّ معين أم ليس له حد معين؟

والقائلون بالتحديد مختلفون ، فمنهم من قدّره بالسنين. بخمسين سنة ؛ وبخمس وخمسين ؛ وبستين ؛ وباثنتين وستين ؛ إلى أقوال أخر ، أقصاها خمس وثمانون ، ومنهم

__________________

(١) انظر تفسير ابن جرير الطبري المسمى جامع البيان في تفسير القرآن (٢٨ / ٩١).

٧٨٠