تفسير آيات الأحكام

المؤلف:

الشيخ محمّد علي السايس


المحقق: ناجي إبراهيم سويدان
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: المكتبة العصريّة للطباعة والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 9953-435-84-7
الصفحات: ٨٣١

بالإيمان ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فإن عادوا فعد» فنزلت هذه الآية (١).

وقد قالوا : إن هذا أصل في جواز إظهار الكفر في حال الإكراه وقالوا أيضا : إنّ الإكراه الذي يبيح ذلك هو أن يبلغ حدّا يخاف معه على نفسه أو بعض أعضائه التلف. إن لم يفعل ما أمر به ، فأبيح له في هذه الحالة أن يظهر الكفر.

وقد قالوا : يجب أن يجنح إلى التعريض فيما أمر به ما أمكنه ، فإن ضيّق عليه حتى لم يكن للتعريض سبيل وسعه أن يفعل ، فإن خطر بباله التعريض ولم يعرّض كان كافرا. وأما إن لم يخطر بباله شيء من ذلك بأن كان همه أن يخرج من الإكراه ، وانحصر فكره في ذلك فلا شيء عليه.

وحكم هذا الترخيص للإكراه كما يجري في الكفر يجري في غيره ، غير أنه إذا أكره على قتل إنسان لا يجوز له أن يفعل ، وهناك أمور يجب عليه فيها أن يفعل ، فإن لم يفعل كان آثما ـ وهي مبيّنة في الفقه ، وفي الأصول عند الكلام على أقسام الرخصة ـ والذي يعنينا هنا هو الإكراه على الكفر ما حكمه ، فقد أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمارا أن يعود إلى مجاراتهم في القول إن عادوا إلى إكراهه ، فما موجب الأمر؟

قالوا : إنه للإباحة ، والصارف له عن الوجوب ما روي عن خبيب بن عدي رضي الله عنه لما أراد أهل مكة أن يقتلوه ، لأنه لم يعطهم التقية ، بل صبر حتى قتل ، فكان عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خيرا من عمار في إعطائه التقية ، أضعف إلى ذلك أنّ في الصبر على المكروه إعزازا للدين ، وغيظا للمشركين ، فهو بمنزلة من قاتل المشركين حتى قتل ، فتأثير الإكراه في هذه الصورة إنما هو إسقاط المأثم فقط.

وقد روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» (٢) فألحق المكره بالمخطئ والناسي.

وقد وقع خلاف بين الفقهاء في طلاق المكره وعتاقه ونكاحه وأيمانه ، فذهب الحنفية إلى أنّ الطلاق ونحوه يلزمه ، لأن الطلاق يعتمد الاختيار ، والإكراه ينفي الرضا ، ويحقق الاختيار. وغيرهم يذهب إلى عدم لزومه ، استدلالا بالحديث المتقدم والحنفية يحملونه على رفع الحكم الأخروي وهو المأثم ، والكلام مستوفى في الفقه ، فارجع إليه إن شئت.

ومسألة طلاق المكره مسألة خلافية من الصدر الأول ، فقد روي القول بالوقوع عن علي وعمر وسعيد بن المسيب وشريح وإبراهيم النخعي والزهري وقتادة.

__________________

(١) رواه ابن جرير الطبري في تفسيره جامع البيان (١٤ / ١٢٢).

(٢) سبق تخريجه ، بلفظ (إنّ الله تجاوز) بدل (رفع عن أمتي).

٤٨١

وروي القول بعدم الوقوع عن ابن عباس وابن عمر وابن الزبير والحسن وعطاء وعكرمة وغيرهم ، وروي عن الشعبي تفصيل يرجع إلى من حصل منه الإكراه ، إن كان السلطان لم يلزمه الطلاق ، وإن كان غيره لزمه.

قال الله تعالى : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١٢٥))

يقول الله (ادْعُ) يا محمد الناس (إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ) أي إلى شريعة ربك ، وهي الإسلام (بِالْحِكْمَةِ) أي بالقول المحكم (وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) بالعبر التي تؤثّر بها في قلوبهم (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) خاصمهم بالخصومة التي هي أحسن من غيرها ، فاصفح عمّا نالوا به عرضك من الشتم والهجاء ، ولن لهم في القول ، وقابل السوء بالحسنى ، وليكن قصدك من الخصومة الوصول إلى الحق ، فلا تعمل ما يعمله السفهاء في جدالهم من رفع الصوت ، وسب الخصم ، والمغالبة باليد والسباب (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) وبمن اهتدى إليه ، فمجازيهم على ضلالهم واهتدائهم ، فله الجزاء لا إليك ، وإنما عليك الدعوة والبلاغ.

وذهب ابن رشد والفخر الرازي وبعض فلاسفة المسلمين إلى أنّ المراد بالحكمة البرهان الذي يفيد يقينا لا يحتمل النقيض ، وبالموعظة الحسنة الخطابة التي تفيد الظن الظاهر والإقناع ، والمراد بقوله : (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) استعمل معهم أحسن صناعة الجدل ، فاستعمل معهم المقدمات المسلّمة عند الجمهور ، أو عند المناظر ، لتصل إلى الحق ؛ ولا تستعمل معهم المقدمات الباطلة ، وتروجها عليهم بالسفاهة والشغب والحيل الباطلة.

قالوا : وإنما احتيج لهذه الصناعات الثلاثة : البرهان ، والخطابة ، والجدل ، لأن الناس متفاوتون في العقول والأفهام ، فمنهم من بلغ رتبة الحكمة ، فلا يقنعه إلا البرهان المفيد لليقين الذي لا يحتمل النقيض ، لا حالا ولا مآلا.

ومنهم الطرف الآخر ، المقابل للأول ، وهم جمهور الناس ، وهؤلاء لا يفيدهم إلا صناعة الخطابة. والبرهان مضرّ بهم ، فلا يصلون إليه ، وربما أفسد استعماله معهم عليهم أمرهم.

القسم الثالث بين بين ، فقد ارتفع عن طبقة العامة ، ولم يصل إلى طبقة الخاصة ، وهؤلاء لا يصلحهم إلا الجدل الحسن ، وفي هذا دليل على أن القرآن من عند الله ، لأنّ هذه معارف لا يصل إليها إلا الحكماء الذين مارسوا الحكمة وانقطعوا لها! ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم نشأ أميا ، لم يمارس الحكمة ، فظهور هذه الحكمة العالية على لسانه دليل على أنّه من عند من علّم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم.

٤٨٢

هذا تلخيص ما قالوه ، والمعنى حسن في نفسه إلا أن حمل الكلام عليه بعيد ، لأنّ الجدل في لسان العرب هو الخصومة ، وتخصيصه بالقياس المؤلف من المسلمات اصطلاح منطقي حادث ، ولا يسوغ حمل ألفاظ القرآن على الاصطلاحات الحادثة ، ولا يصحّ فهمها إلا مراعى فيها معانيها التي وضعتها لها العرب ، وما أرادوه يصحّ أن يكون داخلا في الحكمة ، فإنّ المراد بها الطريق المحكم في الدعوة ، ولا إحكام في الدعوة إلا إذا خوطب الناس بما يفقهون ، فلا يخاطب العوام بالجدل والبرهان ، ولا كل صنف من الناس إلا بما هو لائق به.

ومن ذلك يعلم أن القائم بالدعوة ينبغي أن يكون على حظّ عظيم من علم النفس وعلم الاجتماع وطبائع الأفراد والأمم ، فإنّه ليس شيء أنجع في الدعوة من معرفة طبائع الناس وميولهم ، وتغذية هذه الطبائع والميول بما يناسبها.

ومن الحمق أن يظنّ أن الناس متساوون في القدرة والأفهام فيما إذا خوطبوا على درجة واحدة من الخطاب ، وكما أن الأمراض مختلفة ، وأدويتها كذلك مختلفة ، وليس دواء واحد نافعا لكل مرض ؛ ولكل مريض ، كذلك أمراض النفوس ، تحتاج إلى علاجات مختلفة ، وتركيبات متباينة ، وربّ دواء أفاد إنسانا ، وأضر بآخر ، وربما أفاده في وقت ، وأضر به في آخر ، ومدار الأمر على معرفة الداعي أنّ الغرض من القول الإفهام والتأثير ، فيسلك لذلك سبله ، وعلى أن يكون عنده عقل مفكر ، ولسان مؤثر ، سنذكر حديثا يدل على مقدار رفق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الدعوة ، ومقدار نجاح هذا الرفق.

روى أبو أمامة أنّ غلاما شابا أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا نبي الله ، أتأذن لي في الزنى؟ فصاح الناس به ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قرّبوه إذن» فدنا حتى جلس بين يديه ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أتحبه لأمك» قال : لا جعلني الله فداك ، قال : «كذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم. أتحبه لابنتك» قال : لا جعلني الله فداك. قال : «وكذلك الناس لا يحبونه لبناتهم أتحبه لأختك» قال : لا جعلني الله فداك. قال : «وكذلك الناس لا يحبونه لأخواتهم» فوضع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يده على صدره وقال : «اللهم طهّر قلبه ، واغفر ذنبه ، وحصّن فرجه» فلم يكن شيء أبغض إليه منه (١).

وينبغي أيضا أن يكون الداعي شجاعا في الحق فلا يهن ، صارما في الصدق ، فلا يضعف ، مخلصا فانيا في مبدئه فلا يبيعه بزخارف الدنيا وزينتها.

والمثل الأعلى في ذلك صاحب الدعوة الإسلامية فقد اعترضوا سبيل الدعوة. بكل أنواع الإيذاء ، وفتنوا المؤمنين. فلم يثن ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن عزمه ، وصبر كما صبر أولو العزم من الرسل.

__________________

(١) رواه الإمام أحمد في المسند (٥ / ٢٥٦).

٤٨٣

ثم جاءت قريش إلى عمه أبي طالب ، وعرضوا عليه أن يأخذ محمد ما شاء من مال ويترك ما يدعو إليه ، فذكر أبو طالب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك فبكى وقال : «يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني ، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ، ما تركته حتى يظهره الله ، أو أهلك دونه» (١).

قال الله تعالى : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (١٢٨)) (١٢٦) واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك فى ضيق مما يمكرون (١٢٧) (عُوقِبْتُمْ بِهِ) أصل العقاب المجازاة على الفعل ، فالفعل ابتداء ليس عقابا ، وإنما سمّاه الله هنا عقابا على طريق المشاكلة (ضَيْقٍ) تخفيف الضيق أي في أمر ضيق ، ويجوز أن يكون الضيق والضيق مصدرين كالقيل والقول.

لما أمره الله بدعوة الناس إلى الإسلام ، وكان في ضمن الدعوة تسفيه آرائهم ، وإبطال عقائدهم ، وتضليل طرائقهم ، وهذا مما يدعو إلى الحمية والاعتداء على الداعي بأنواع الاعتداء ، وربما حمل ذلك الداعي على مقابلة الشر بأكثر منه ، نهى الله هنا عن مقابلة الشر بأكثر منه ، فقال : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ) ، ثم دعا إلى الصبر ، وعدم مقابلة الشر بمثله ، وحبب فيه فقال : (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ).

وقد قيل في سبب نزول هذه الآيات : إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما رأى حمزة وقد مثّل به المشركون ، قال : «والله لأمثّلن بسبعين منهم مكانك» (٢) فنزل جبريل عليه‌السلام بخواتيم سورة النحل ، فكف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما أراد ، وتكون سورة النحل مكية إلا هذه الآيات.

وقيل إنّ هذا كان قبل الأمر بالجهاد العام ، حين كان المسلمون لا يقاتلون إلا من قاتلهم ، ولا يبدؤون بالقتال ، فتكون كقوله : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (١٩٠)).

وحمل الآية على قصة حمزة غير ظاهر لأنّ ذلك يجعل الآيات مفككة لا ارتباط لها ، فالظاهر ما حملنا الآية عليه ، وقريب منه قول مجاهد وابن سيرين : إن المقصود من هذه الآية نهي المظلوم عن استيفاء الزيادة من الظالم ، قال ابن سيرين : إن أخذ منك رجل شيئا فخذ منه مثله.

والضمير في قوله : (لَهُوَ) يرجع إلى المصدر في قوله : (صَبَرْتُمْ) والمصدر إما

__________________

(١) السيرة النبوية لابن هشام بيروت ، دار الفكر (١ / ١٧٦ ـ ١٧٧).

(٢) انظر السيرة النبوية لابن هشام بيروت ، دار الفكر (٢ / ٦١٠).

٤٨٤

أن يراد به الجنس أي وللصبر خير للصابرين ، وأنتم منهم إذا صبرتم. وإما أن يراد به صبركم ، أي لصبركم خير لكم ، فوضع الصابرين موضع لكم ثناء عليهم.

(وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ) أمر الله بالصبر أمرا صريحا بعد أن ذكر حسن عاقبته ، ولما كان الصبر شاقا ذكر ما يعين عليه فقال : (وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ) فالجأ إليه في طلب الصبر ، والتثبيت في الأمر (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) يدعوه إلى عدم الجزع والهلع بترك الحزن ، والحزن سببه إما فوات محبوب أو توقع مكروه ، فبيّن الله ما يستعين به على الصبر ، وهو ترك الحزن ، فقال : (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) أي على إخوانك المسلمين الذين قتلوا ، وهم قتلى أحد ، ولا تك في ضيق مما يمكرون ، أي ولا يضق صدرك من مكرهم ، فإنّ الله ينجيك من مكرهم ، لأنّه (مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا) بالنصر والمعونة ، أي هو ولي الذين اجتنبوا المعاصي (وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) في أعمالهم ، ومن التقوى والإحسان الصبر.

وقيل : إن الضمير في قوله : (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) يرجع إلى الكافرين ، فيكون كقوله : (وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) [المائدة : ٦٨] روي عن هرم بن حبان أنه قيل له حين احتضر : أوص ، فقال : إنما الوصية من المال ، ولا مال لي وأوصيكم بخواتيم سورة النحل.

٤٨٥

من سورة الإسراء

قال الله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (٧٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (٧٩))

(أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) أصل الدلوك : الميل والزوال ، وهذا المعنى يصح أن يراد منه ميل الشمس عن كبد السماء ، وزوالها عنه وقت الظهيرة ، ويصح أن يراد منه ميلها وزوالها عن الأفق في وقت الغروب ، ولعلّ هذا هو منشأ اختلاف العلماء في تعيين الوقت المأمور فيه بإقامة الصلاة لدلوك الشمس.

فقد ذهب جماعة من الصحابة والتابعين ، ومنهم ابن عباس وابن مسعود إلى أنّ المراد من دلوك الشمس غروبها.

بل لقد روى ابن جرير (١) عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يقسم على ذلك. فقد أخرج أن أبا عبيدة بن عبد الله كتب إلى عقبة بن عبد الغافر أن عبد الله بن مسعود كان إذا غربت الشمس صلّى المغرب ، ويفطر إن كان صائما ، ويقسم عليها يمينا ما يقسمه على شيء من الصلوات ، بالله الذي لا إله إلا هو إنّ الساعة لميقات هذه الصلاة ، ويقرأ فيها تفسيرها من كتاب الله (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ).

وأخرج أيضا (٢) عن مجاهد عن ابن عباس قال : دلوك الشمس غروبها.

وذهب آخرون إلى أن دلوكها ميلها إلى الزوال ، وهو مروي عن ابن عباس وابن عمر والحسن ، وعليه الجمهور ، قالوا : والصلاة التي أمر بها ابتداء من هذا الوقت هي صلاة الظهر ، وقد أيّدوا هذا القول بوجوه :

منها ما روي عن جابر أنه قال : طعم عندي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، ثم

__________________

(١) في تفسيره جامع البيان ، المشهور بتفسير الطبري (١٠ / ٩١).

(٢) المرجع نفسه (١٠ / ٩١).

٤٨٦

خرجوا حين زالت الشمس ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هذا حين دلكت الشمس».

وهذا الحديث إن صحّ كان هو العمدة في الباب وابن جرير (١) وإن كان من أنصار هذا الرأي ينصّ على أنّ الخبر ونحوه في إسناده شيء ، وإن كان لم يعينه.

ومن الوجوه أيضا النقل عن أهل اللغة ، فقد قالوا : إنّ الدلوك في كلام العرب الزوال ، ولذا قيل الشمس إذا زالت دالكة. قال ابن جرير (٢) : وهذا تفسير أهل الغريب أبي عبيدة والأصمعي وأبي عمرو والشيباني وغيرهم ، وقالوا أيضا : إنّ أصل الدلوك مأخوذ من دلك العين حين تنظر ما لا تقوى على النظر إليه ، وهذا إنما يكون عند الزوال لقوة الشمس فيه ، حتى إنّ الناظر لا يستطيع أن ينظر ، حتى يضع كفه على حاجبه ، يمنع عن عينه شعاع الشمس.

على أنّ الدلوك لو كان اسما لمطلق الميل لكان حمله على ميلها إلى الزوال في وقت الظهر أولى ، وذلك لأنّ الآية تكون قد دلّت على الأمر بإقامة الصلاة ابتداء من الظهر إلى دخول الظلمة ، أو إلى نصف الليل ، فتكون قد انتظمت أربع صلوات.

(وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) دلت على الصلاة الخامسة ، ولو حملنا الدلوك على الغروب تكون الآية قد دلّت على صلاتي المغرب والعشاء : إن لم نقل إنها تدل على صلاة واحدة هي صلاة المغرب.

وقد قالوا : كلما كان المدلول عليه كثيرا كان الحمل عليه أولى ، فيكون حمل الدلوك على ميل الشمس إلى الزوال في الظهيرة أولى من حمله على الزوال للغروب.

واللام في قوله : (لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) لام الوقت والأجل ، لأنّ الوقت سبب الوجوب.

(إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) قيل : غسق الليل سواده وظلمته ، وقال بعضهم : غسق الليل دخول أوله. وأصله من غسقت العين إذا هملت بالدمع ، والغاسق السائل ، فمعنى غسق الليل انصب بظلامه ، وذلك أن الظلمة كأنها تنصب على العالم.

فمعنى الآية والله أعلم : أدم إقامة الصلاة من الظهيرة إلى وقت هجوم الظلمة ، أو إلى غيبوبة الشفق ، أو إلى منتصف الليل على ما قيل في تفسير الغسق. وعلى هذا تكون هذه الآية والتي بعدها على ما يجيء قد دلتا على الأمر

__________________

(١) المرجع نفسه (١٠ / ٩٢).

(٢) المرجع نفسه (١٠ / ٩٢).

٤٨٧

بالصلاة من الظهيرة إلى العشاء ، وذلك أربع صلوات على حسب البيان الذي وردت به السنة العملية ، وعلى الأمر بالصلاة في الفجر ، وتلك هي الصلاة الخامسة.

ولقد أراد بعضهم أن يفهم من الأمر بإقامة الصلاة من دلوك الشمس إلى غسق الليل أنّ الله قد بين في الآيتين ثلاثة أوقات : وقت الدلوك ، ووقت الغسق ، ووقت الفجر ، ووقت الدلوك فيه صلاتان ، وهما : الظهر والعصر ، ووقت الغسق فيه صلاتان : المغرب والعشاء ، فدلّ ذلك على جواز الجمع بين الظهر والعصر ، لأنّ وقتهما الدلوك ، وجمع المغرب إلى العشاء ، لأنّهما في الغسق ، وهو استدلال عجيب ، إذ إنّ كل ما في الآية أنّها أمرت بإقامة الصلاة من دلوك الشمس إلى الغسق ، فهل هذا أمر يشغل كل هذا الوقت بالصلاة ، أو أمر بفعل الصلاة في بعض أجزائه ، وما مقدار هذا البعض؟ كل هذا خارج عن مدلول الآية ، وقد بينته السنة ، فإن كانت قد ورد فيها جمع الصلاتين ، أو الصلوات من غير عذر ، فبيانها هو الدليل ، وإن كان قد ورد فيها أن الجمع بين الصلاتين لا يجوز إلا بشروط ، وفي أوقات دون أخرى ، كان ذلك هو الدليل على أن الجمع إنما يجوز بهذه الشروط.

وحيث إنه قد انجر الكلام إلى الجمع فنقول : قد روي عن ابن مسعود وابن عباس جواز جمع الظهر إلى العصر ، والمغرب إلى العشاء مطلقا ولو من غير عذر ، والجمهور على خلاف مذهبهما.

فالشافعية : يجيزون جمع التقديم والتأخير بشروط تعلم من كتبهم ، والحنفية يقولون : لا جمع إلا في الظهر والعصر جمع تقديم يوم عرفة ، والمغرب والعشاء جمع تأخير في مزدلفة ، ويعرف ذلك من كتبهم أيضا.

(وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً)

(وَقُرْآنَ) معطوف على الصلاة ، أي وأقم قرآن الفجر ، وقد قال أبو بكر الرازي (١) : إنّ ذلك يدلّ على وجوب القراءة في الصلاة ، ووجه الدلالة أن الآية تدلّ على الأمر بقرآن الفجر ، ولا نعلم قراءة واجبة في الفجر إلا أن تكون القراءة في صلاة الفجر ، وقد حمل بعضهم القرآن في قوله : (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) على الصلاة في الفجر. قال أبو بكر الرازي : وهو عدول عن الحقيقة إلى المجاز من غير دليل ، وذلك غريب من أبي بكر ، فإنّ الدليل هو ما قاله : من أنا لا نعلم قرآنا واجبا في ذلك

__________________

(١) أحكام القرآن للإمام الرازي (٣ / ٢٠٦).

٤٨٨

الوقت ، وإن كان له أن يقول : إن الفجر فيه قرآن واجب ، وهو قرآن الفجر ، ولكن هذا إن أثبت له ما أراد فهو يثبت وجوب القراءة في الفجر ، فمن أين وجبت في كل الصلوات ، سيقول من دليل آخر ، فنقول : ذلك هو الدليل على وجوب القراءة.

على أنا لا نرى أنّ حمل القرآن في قوله : (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) على الصلاة يؤدي إلى الغرض الذي أراده الجصاص من هذا ، وهو أخذ وجوب القراءة في الصلاة ، فإنّ تسمية صلاة الفجر بالقرآن إنما كانت لأن القراءة جزء مهمّ فيها ، كما سميت الصلاة بالركوع والسجود.

وقد أراد الفخر الرازي أن يأخذ من قوله : (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) دليلا على مذهب الشافعية ، في استحباب التغليس بالفجر ، ويقول في وجه الدلالة : إنّه أمر بإقامة الصلاة في الفجر ، والفجر إنما سمي فجرا ، لأنّ نور الصبح يفجر ظلمة الليل ، قال وظاهر الأمر للوجوب ، فمقتضى هذا اللفظ وجوب إقامة الصلاة في أول وقت الفجر ، إلا أنا أجمعنا على أنّ الوجوب غير حاصل ، فيبقى الأمر للندب.

وأنت تعلم أنّ أمر تحديد الصلوات قد ثبت بالسنة في حديث جبريل ، الذي بيّن فيه أول الوقت وآخره ، فدلّ ذلك على الجواز في كل الوقت ، فأفضلية التقديم على التأخير والعكس تحتاج إلى دليل مستقل ، ك : «أبردوا بالظهر» (١) ، «ولا تزال أمتي بخير : ما عجّلوا المغرب وأخّروا العشاء» (٢) ، فالتغليس بالفجر والتنوير والإسفار به يحتاج إلى دليل مستقل ، فالحكم هو ما يدلّ عليه ذلك الدليل.

وقد أخذ الفخر الرازي من تسمية صلاة الفجر بالقرآن الحثّ على تطويل القراءة في الصلاة ، وهو وجيه.

(إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) قالوا : إن معنى ذلك أنّ ملائكة الليل وملائكة النهار يجتمعون في صلاة الصبح خلف الإمام.

قال الفخر ـ بعد سوق هذا الكلام ـ ويحتمل أن يكون المراد من قوله : (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) الترغيب في أن تؤدى هذه الصلاة بجماعة ، ويكون المعنى : كونها مشهودة بالجماعة الكثيرة ، وهو حسن أيضا.

(وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (٧٩)).

(وَمِنَ اللَّيْلِ) الجار والمجرور متعلق بمحذوف تقديره ، قم ، و (من) للتبعيض ، والمعنى : قم بعض الليل (فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ) الهجود : النوم ، ولكنه أريد منه هنا

__________________

(١) رواه البخاري في الصحيح (١ / ١٥٤) ، ٩ ـ كتاب مواقيت الصلاة ، ٩ ـ باب الإبراد حديث رقم (٥٣٨).

(٢) رواه أبو داود في السنن (١ / ١٧٢) ، كتاب الصلاة ، باب وقت المغرب حديث رقم (٤١٨).

٤٨٩

التيقظ ، فقال بعضهم : هو من أسماء الأضداد ، حتى قال أبو عبيدة : الهاجد النائم ، والهاجد المصلي بليل.

وذهب بعضهم إلى أن إطلاق المتهجد على المصلي بليل إطلاق شرعي ، كأنه إنما سمّي بذلك لأنه ألقى الهجود ، وهو : النوم عن نفسه ، كما قيل للعابد : متحنث ، لأنّه ألقى الحنث عن نفسه ، ومتحرّج ومتأثمّ ومتحوّب لمن ألقى الحرج والإثم والحوب عن نفسه.

ويرى بعضهم أن التهجد أخصّ من الصلاة بالليل ، فلا يقال لكل من صلّى بالليل : متهجد ، وإنما يقال لمن نام ، ثم قام فصلّى ، ثم رقد ، فقام فصلّى ، وهو مروي عن الحجاج بن عمر المازني قال : أيحسب أحدكم إذا قام من الليل فصلّى حتى يصبح أنه قد تهجد ، إنما التهجد الصلاة بعد الرّقاد ، ثم صلاة أخرى بعد رقدة ، ثم صلاة أخرى بعد رقدة ، هكذا كانت صلاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وحينئذ فلا يكون إطلاق التهجد على المصلي على هذا النحو مجازيا ، لأنّ الهاجد هو النائم ، والمتهجد طالب النوم ، لأنّه كلما صلّى كان طالبا للنوم بعد الصلاة ، فيكون التهجد في هذا المعنى حقيقيا (بِهِ) بالقرآن (نافِلَةً لَكَ) النفل الزيادة ، وقد اختلف العلماء في معنى كون التهجد زيادة خاصة بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن صلاة الليل ما تزال لكلّ من صلّى بليل ، فذهب ابن جرير (١) في جماعة من السلف إلى أنّ معنى زيادتها له ، خاصة أنها فريضة عليه ، زيدت على المكتوبات الخمس بالنسبة له خاصّة.

وذهب جماعة إلى أنّ معنى كونها نافلة له ، أنّ النوافل إنما يحتاج إليها لتكون كفارة لذنوب من يفعلها ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه ، فهي زائدة له ، لأنّ غيره نافلته تكفّر ذنبه ، وأما نافلة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا تلاقي ما تكفره ، فمن هذا كانت زائدة ، وهو مروي عن مجاهد وآخرين.

ولم يرتض هذا القول ابن جرير ، وقال : نزلت سورة النصر قبل قبض الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفيها أمره بالاستغفار (وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً) [النصر : ٣].

وقد روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان يزيد في الاستغفار في اليوم على مئة مرة (٢) ، وكلما اشتد قرب العبد من ربه كلما زاد خوفه منه ، وإن كان السيد قد أمنه ، وذلك مقام يعرفه أهله.

(عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) كلمة (عسى) في كلام العرب تفيد التوقع ، وهي هنا للوجوب ، قالوا : إنما كانت للوجوب لأنّها تفيد الإطماع ، ومن أطمع إنسانا

__________________

(١) في تفسيره جامع البيان ، المشهور بتفسير الطبري (١٥ / ٩٦).

(٢) رواه مسلم في الصحيح (٤ / ٢٠٧٥) ٤٨ ـ كتاب الذكر حديث رقم (٤ / ٢٧٠٢).

٤٩٠

في شيء ، ثم حرمه منه كان غارّا ، وهذا المعنى مستحيل على الله تعالى ، وقد أفاض ابن جرير (١) في بيان هذا المعنى.

والمقام المحمود : قال الواحدي : أجمع المفسرون على أنه مقام الشفاعة العظمى في إسقاط العقاب.

وقد اختلف العلماء بعد هذا اختلافا يقصد منه إلى الكيفيات والتفاصيل ، والمدار فيها على الأخبار الواردة ، فما ورد منها من طريق صحيح كان المعوّل عليه في بيان كيفية الشفاعة والمقام المحمود ، وكل ما تدلّ عليه الآية أن النبيّ عليه أفضل الصلاة والسلام سيبعثه الله مبعثا يحمده الناس عليه حمدا بالغا ، وذلك لأنه منقذهم من هول العذاب.

__________________

(١) في تفسيره جامع البيان ، المشهور بتفسير الطبري (١٥ / ٩٧).

٤٩١

من سورة الحج

قال الله تعالى : (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (٢٧) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (٢٨) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٢٩))

ينبغي قبل تفسير هذه الآيات أن نبيّن حكمة الحجّ ، وتاريخ مشروعيته فنقول :

أ ـ حكمة الحج : لعلّك تكون في حاجة إلى إطالة القول في بيان الحكمة في شرح الحج ، والسرّ الذي من أجله كتب الله هذه الفريضة على المسلمين ، بعد ما عملته في دراساتك السابقة في هذا الشأن ، وإذا فيكون تعرّضنا هنا لشيء من هذا البيان إنما نقصد به التذكير على وجه الإجمال ، بما سبق لك من التفصيل.

شرع الله الحج إلى بيته الكريم لمنافع عظيمة تعود على المسلمين في دينهم ودنياهم :

١ ـ فمناسك الحج من أعظم مظاهر الخشية والإخلاص لله في الذكر والدعاء والعبادة.

٢ ـ وهي كذلك دلائل على التجرّد من زينة الدنيا ، وبواعث على عدم التعلق بشهواتها وزخرفها.

٣ ـ وهي بواعث على الرحمة والإحسان ، والعدل والمساواة ، إذ يكون الناس هناك في مستوى واحد ، لا فرق بين أمير ومأمور ، ولا بين غني وفقير.

٤ ـ هذا إلى ما يعود على سكان مكة ، وجزيرة العرب ، والناس جميعا من المنافع المعيشية والتجارية ، وما يتهيأ لهم هناك من الاجتماع والتعارف ، والاتفاق على ما ينهض بالمسلمين في جميع بقاع الأرض.

ب ـ تاريخ مشروعية الحج : أما تاريخ مشروعيته فأنت تعلم أنّه كان مفروضا في زمن سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، والآيات التي معنا من أقوى الدلائل على ذلك.

٤٩٢

فإذا قلنا : إن فرضيته باقية لم تنسخ في عهد نبي بعده كانت الأوامر الواردة به في شريعتنا تأكيدا لهذه الفرضية ، وإذا علمت أن نبينا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد حجّ حجتين قبل الهجرة ، وحج بعد الهجرة حجة الوداع في السنة العاشرة ، علمت أنّ أولى هذه الحجات وقعت عن فريضة الإسلام.

وإن قلنا : إن فرضيته قد نسخت بعد سيدنا إبراهيم ، كان وجوبه علينا ثابتا بقوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) [آل عمران : ٩٧] إذ هي الآية الصريحة في هذا الوجوب.

وأما قوله تعالى : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) [البقرة : ١٩٦] عام الوفود على الراجح ، وهذا العام هو الذي قدم فيه وفد نجران على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وصالحهم فيه على الجزية ، ومعلوم أنّ مبدأ مشروعية الجزية كان عام غزوة تبوك في السنة التاسعة من الهجرة ، وعلى هذا يكون مبدأ فرضية الحج في السنة التاسعة ، وتكون الحجتان اللتان فعلهما النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل ذلك نافلتين ، تطوّع بهما على دين سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام.

ولقائل أن يقول : فلما ذا لم يبادر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأداء الحج في تلك السنة ، وهو أفضل الخلق ، وأسبقهم إلى الخيرات ، وأسرعهم إلى تأدية فرائض الله ، وكيف يرسل أبا بكر ليحج بالناس ، ويؤخر هو حجته إلى السنة التي بعدها؟

والجواب على ذلك أنه رؤي أن الوقت الذي خرج فيه أبو بكر ليحج بالناس كان زمن النسيء ، ولم يكن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض حتى تعود عشر ذي الحجة إلى مركزها الحقيقي من السنة ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعلم أنها ستعود إلى مركزها الحقيقي ، وينضبط نظام السنين القمرية في السنة العاشرة فتأخر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى السنة العاشرة كان لحكمة عظيمة ، كي يقع حجّة الذي سيكون منهاجا للناس جميعا في الوقت الحقيقي الذي فرض الله على الناس أن يقوموا فيه بتلك الشعيرة ، وليس على أبي بكر ؛ ولا على غيره ؛ ممن كانوا معه من حرج في حجهم في ذلك الوقت ما دام أمر الزمان لم يتقرر بعد.

ونعود إلى التفسير :

(وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِ) الأذان والتأذين الإعلام برفع الصوت على نحو ما يكون للصلاة. والمراد هنا النداء في الناس بأنّ الله قد كتب عليهم الحجّ ، ودعاهم إلى أدائه.

(رِجالاً) جمع راجل ، كقيام جمع قائم ، أي ماشين.

(وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ) الضامر النحيف الهزيل ، والمراد به هنا الهزيل من مشقة السفر (يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) يأتين صفة لضامر ، لأنه لما دخلت عليه أداة العموم صيّرته بمعنى ضوامر. والمعنى : وعلى ضوامر يأتين.

٤٩٣

والفج أصله الطريق بين الجبلين ، ثم استعمل في الطريق الواسع مطلقا. وتوسّع فيه حتى صار يستعمل في طريق.

والعميق أصله البعيد أسفل ، أي بعيد القاع ، فاستعمل في البعيد مطلقا ، (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ) المراد بالمنافع ما يصيبون من خير الدنيا والآخرة :

فخير الدنيا ما يصيبون من لحوم الذبائح ، وأنواع التجارات ، وما تكون في ذلك الاجتماع العظيم من التعارف ، وأما خير الآخرة فهو ما يؤدون من تلك الشعائر التي هي سبب رضوان الله عليهم ، وشهودها حضورها ونيلها.

(فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ) قيل : هي عشر ذي الحجة. وقيل : هي العاشر واليومان بعده ، وقيل : والثلاثة بعده.

(وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) قيل : المراد بذكر اسم الله حمده وشكره والثناء عليه ، و (على) حينئذ للتعليل.

واختار الزمخشري (١) أنّ ذكر اسم الله على البهيمة كناية عن ذبحها ، و (على) حينئذ للاستعلاء ، والبهيمة في الأصل اسم لكل ما له أربع قوائم ، والمراد بها هنا ما يكون من الإبل والبقر والغنم.

(الْبائِسَ الْفَقِيرَ) البائس من أصابه بؤس وشدة. والفقير المحتاج ، سواء أكان له بلغة من العيش أم لا.

(ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) التفث القذر والوسخ ، وقضاؤه إنهاؤه وإزالته ، والمراد ما ينشأ عنه التفث من طول الشعر والأظفار.

(وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) النذر : ما التزمه الإنسان من أعمال البر.

(وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) العتيق الكريم ، ومنه عتاق الإبل والخيل كرائمها ، أو هو القديم ، لأنّه أول بيت وضع للناس ، أو هو العتيق بمعنى المعتق المتحرر من تسلط الجبارين واستيلائهم ، فلا يريده أحد بعدوان إلا رده الله عنه ، وجعل عاقبة بيته السلامة والحفظ.

المعنى : يأمر الله تعالى نبيه إبراهيم عليه الصلاة والسلام بعد ما فرغ من بناء البيت بأن ينادي في الناس ، ليعلمهم أنّ الله قد كتب عليهم الحج إلى هذا البيت العتيق ، ليدركوا فيه منافع وخيرات كثيرة ، تعود عليهم في دينهم ودنياهم ، ويؤدّوا شعائر الله ، ويذكروا اسمه الكريم على الذبائح التي يذبحونها شكرا لله على توفيقه إياهم وإرشادهم إلى ما يصلحهم ، وأنه لا حرج على أصحاب تلك الذبائح أن يأكلوا

__________________

(١) في تفسيره : الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل (٣ / ١٥٣).

٤٩٤

منها ، بل ينبغي لهم أن يواسوا الفقراء والبائسين ، وأن يشاركوهم في الأكل منها ، ولا يترفّعوا عليهم ، وأنه يجب عليهم أن يتحلّلوا من قيود الإحرام متى فرغوا من المناسك الواقعة قبل الطواف ، وأنه يجب عليهم أيضا أن يوفوا بما التزموه بالنذر من ذبح وغيره. وأن يطوفوا بالبيت طواف الإفاضة ، أو طواف الوداع على ما قيل.

قد يقال : إنه لم يكن حول الكعبة حينذاك أحد يسمع نداء سيدنا إبراهيم ، فكيف يؤمر بهذا النداء الذي يذهب في الفضاء؟

والجواب أن الله سبحانه وتعالى قد أيدّ رسله بالمعجزات الخارجة عن مجرى العادات ، فهو سبحانه قادر على أن يوصل صوت إبراهيم إلى من يشاء في تلك النواحي البعيدة ، والأصقاع المترامية.

وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن ابن عباس (١) قال : لما فرغ إبراهيم عليه الصلاة والسلام من بناء البيت قال : ربّ قد فرغت ، فقال : أذّن في الناس بالحج. قال : يا رب وما يبلغ صوتي؟ قال تعالى : أذّن وعليّ البلاغ. قال : رب كيف أقول ، قال : قل يا أيها الناس كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق ، فسمعه أهل السماء والأرض ، ألا ترى أنهم يجيبون من أقصى البلاد ، يلبون.

على أنا نشاهد اليوم آلات الإذاعة تنشر الأصوات في جميع بقاع الأرض ، فلا تحجزها جبال ، ولا تضعفها بحار ولا قفار ، فمن يشاهد هذه الحقائق التي يستطيعها كل من يزاول علومها ، لا يمكنه أن يكابر في معجزات الأنبياء.

هذا ، وقيل إنّ المخاطب بالتأذين والدعوة إلى الحج هو نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنه أمر بذلك حينما عزم على الحج في السنة العاشرة من الهجرة ، وأن نظم الآية مع التي قبلها لا يأباه ، إذ المخاطب في قوله تعالى قبل هذه الآية : (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ) هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويكون المعنى حينئذ : واذكر يا محمد إذ بوأنا لإبراهيم ، وأذن في الناس بالحج ، ولكنك ترى أنّ في الآية الأولى أوامر ونواهي كلها متوجهة إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، فالظاهر أنّ الأمر بالتأذين أيضا لإبراهيم ، إذ الغرض من تطهير البيت إعداده للطائفين والقائمين والركع السجود ، فيكون دعاؤه الناس بعد ذلك للحج متناسبا غاية التناسب مع إعداد البيت وتطهيره.

وبعض العلماء ردّ احتمال توجيه الخطاب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن سورة الحج مكية ، فنزولها قبل حجة الوداع بالضرورة ، فلا يستقيم أن يكون المأمور بالدعاء هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) انظر ما رواه السيوطي في الدر المنثور في التفسير بالمأثور (٤ / ٣٥٥).

٤٩٥

ولكن هذا الردّ ينهار متى علمت أنّ الراجح هو أن سورة الحج مدنية ، ما عدا آية (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى) وثلاث آيات بعدها ، كما هو مروي عن قتادة ، وفي رواية ، عن ابن عباس أنّ السورة كلها مدنية ، وهو قول الضحاك أيضا.

ما في الآيات من الأسرار :

إذا كان الغرض من دعاء الناس للحج أن يأتوا إلى البيت الحرام ، فالسرّ في العدول عن ذلك إلى التعبير بالإتيان إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه هو الداعي ، والقدوة لهم فيما يكون بعد.

وقوله تعالى : (وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ) كلمة (كل) فيه للتكثير لا للإحاطة ، على حد قوله تعالى : (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) [النمل : ٢٣] والسر في ذلك إفادة أن الركبان الآتين من الأماكن البعيدة يكونون كثيرين جدا ، حتى كأنّهم يمتطون جميع الضوامر.

(لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ) نكّرت المنافع لإفادة عظمتها وكثرتها ، أو التنكير فيها للتنويع.

(وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) اختير هذا الأسلوب مع أنّ الذبح هو المعدود من مناسك الحج ، كالذبح للمتعة والقرآن ، ليفيد أن ذكر الله وحده خالصا من شوائب الشرك هو المقصود الأعظم ، وتوسيط الرزق لبعثهم على الشكر والتقرب بتلك القربة ، والتهوين عليهم في الإنفاق ، وفي قوله تعالى : (فَكُلُوا) إلخ التفات إليهم بالخطاب ، ليؤكّد لهم إباحة الأكل من تلك الذبائح ، فلا يتحرّجوا من ذلك ، وليبعثهم على مشاركة البائسين والفقراء ومواساتهم.

ما في الآيات من الأحكام

: ١ ـ قوله تعالى : (يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ) فيه دليل على جواز كلّ من المشي والركوب في الحج.

٢ ـ استدل بعض المالكية على أنّ المشي في الحج أفضل من الركوب ، بتقديمه عليه في الآية. وإلى هذا ذهب ابن عباس ، فقد أخرج ابن سعد ، وابن أبي شيبة ، والبيهقي ، وجماعة عنه أنه قال : ما آسى على شيء فاتني إلا أني لم أحج ماشيا حتى أدركني الكبر : أسمع الله تعالى يقول : (يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ) فبدأ بالرجال قبل الركبان.

ولكنّك ترى أنّ مجرد التقديم لا يدل على الأفضلية ، لجواز أن يكون تقديم الرجال على الركبان للإشارة إلى مسارعة الناس في الامتثال ، حتى إن الماشي ليكاد يسبق الراكب ، فإذا كان المشي أفضل ، فإنما هو لأدلة أخرى. من ذلك ما أخرجه ابن سعد وابن مردويه وغيرهما عن ابن عباس أنه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن

٤٩٦

للحاج الراكب بكل خطوة تخطوها راحلته سبعين حسنة ، وللماشي بكل قدم سبعمائة حسنة من حسنات الحرم» قيل : يا رسول الله وما حسنات الحرم. قال : «الحسنة مئة ألف حسنة» (١).

٣ ـ وفي قوله جل ذكره : (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ) دلالة على جواز التجارة في الحج ، روي عن مجاهد أنه قال : المنافع التجارة ، وما يرضي الله من أمر الدنيا والآخرة. وروي مثل ذلك عن ابن عباس ، وقد نص الفقهاء على أنّ التجارة جائزة للحاج من غير كراهة ، إذا لم تكن هي المقصودة من السفر.

٤ ـ استدلّ المالكية بقوله تعالى : (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ) على أنّ ذبح الهدي لا يجوز ليلا ، لأنّ الله جعل ظرف النحر هو الأيام لا الليالي ، وأنت تعلم أنّ اليوم كما يطلق على النهار يطلق على مجموع النهار والليل ، وغير المالكية يرى كراهة الذبح ليلا ، لاحتمال الخطأ فيه بسبب الظلمة.

وقد اختلف العلماء في المراد بالأيام المعلومات ، فذهب الإمام مالك وأبو يوسف ومحمد إلى أنها أيام النحر ، وهي العاشر من ذي الحجة ، واليومان بعده ، وهو مروي عن علي وابن عمر.

وقال الإمامان أبو حنيفة والشافعي : الأيام المعلومات هي عشر ذي الحجة ، وهي معلومات لأنّ شأن المسلمين أن يحرصوا على معرفتها ، ويتحرّوا هلال ذي الحجة لما يقع في ذلك من المناسك العظيمة ، ولعلهم يقولون : إنّ المراد بالذكر ما يشمل التسمية على الذبائح وغيرها من الحمد والشكر والتكبير ، وعلى هذا ينبغي أن تكون (على) في قوله جلّ شأنه (عَلى ما رَزَقَهُمْ) للتعليل كما في قوله تعالى : (وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) [البقرة : ١٨٥].

ثم اختلف في أيام النحر ، فالحنفية والإمام مالك قالوا : إنها ثلاثة أيام : العاشر وما بعده ، وهو مروي عن جمع من الصحابة ، منهم : عمر وعلي ، وابن عمر ، وابن عباس ، وأبو هريرة ، وأنس ، وكثير من التابعين.

وقال الشافعي : إنها أربعة العاشر وما بعده. وقيل : إلى هلال المحرم ، ولعل المذهب الأول أرجح ، لأنّ بقية الأقوال لم ينقل ما يؤيّدها عمن يسامي أولئك الصحابة والتابعين.

وقد احتج لمذهب الشافعي بما روى البيهقي عن جبير بن مطعم أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في حديث : «وكلّ أيام التشريق ذبح» ولا شك أنّ أيام التشريق ثلاثة بعد يوم

__________________

(١) انظر ما رواه السيوطي في الدر المنثور في التفسير بالمأثور (٤ / ٣٥٥).

٤٩٧

النحر ، ولكنّ هذا الحديث ضعيف قال فيه الإمام أحمد : لم يسمعه ابن أبي حسين من جبير بن مطعم ، وأكثر روايته عن سهو.

وقال البيهقي إنه من رواية سليمان بن موسى الأسدي فقيه أهل الشام ، عن جبير ، ولم يدركه ، ورواه من طرق ضعيفة متصلا.

٥ ـ ظاهر قوله تعالى : (فَكُلُوا مِنْها) وجوب الأكل من الهدايا ، لكنّ هذا الظاهر غير مراد ، فإنّ السلف متفقون على أنه لا يجب الأكل من شيء من الهدايا ، إذ غاية ما أفاده هذا الأمر أنه رفع ما كان عليه أهل الجاهلية من التحرج عن الأكل من الهدايا ، فأباح الأكل منها ، أو ندب إليه ، لقصد مواساة الفقراء ، ومواساتهم في الأكل. فالأمر إما للإباحة أو للندب.

ثم إنّ جواز الأكل من الهدايا ليس عاما في كل هدي ، فإنّ دم الجزاء لا يجوز الأكل منه اتفاقا ، ودم التطوع يجوز الأكل منه اتفاقا أيضا. أما دم القران والتمتع فقال الشافعية : إنه دم جبر ، فلا يجوز الأكل منه ، والحنفية يقولون : إنه دم شكر ، فأباحوا الأكل منه ، والظاهر يشهد لهم ، فإنّ الآية فيها ترتيب قضاء التفث على الذبح والطواف ، ولا دم تترتب عليه هذه الأفعال إلا دم المتعة والقرآن فإن سائر الدماء يجوز ذبحها قبل هذه الأفعال وبعدها ، فثبت أنّ المراد في الآية دم المتعة والقران. هذا وقد ثبت أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أكل من البدن التي ساقها في حجة الوداع ، وقد كان قارنا على ما هو الراجح.

ونصّ الفقهاء على أنه يلحق بالأكل الانتفاع بجلودها وأصوافها ، كما أنّه يجوز إطعام الأغنياء منها ، فإنّ الآية أباحت لصاحب الذبيحة أن يأكل منها ، ولو كان غنيا ، ومتى جاز له أن يأكل وهو غني جاز أن يؤكل غنيا.

٦ ـ ظاهر قوله تعالى : (وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ) وجوب إطعام الفقراء من الهدايا ، وبهذا الظاهر أخذ الشافعيّ ، فأوجبوا إطعام الفقراء منها. وقال أبو حنيفة : إنه مندوب ، لأنها دماء نسك ، فتتحقق القربة فيها بإراقة الدم ، أما إطعام الفقراء فهو باق على حكمه العام.

٧ ـ في الاقتصار على الأكل والإطعام دلالة على أنّه لا يجوز بيع شيء من الهدايا ، ويشهد لذلك ما روى البخاري ومسلم عن علي رضي الله عنه قال : أمرني النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن أقوم على بدنه فقال اقسم جلودها وجلالها ، ولا تعط الجازر منها شيئا (١).

__________________

(١) ما رواه مسلم في الصحيح (٢ / ٩٥٤) ، ١٥ ـ كتاب الحج ، ٦١ ـ باب الصدقة حديث رقم (٣٤٨ / ١٣١٧) ، والبخاري في الصحيح (٢ / ٢٢٦) ، ٢٥ ـ كتاب الحج ، ١٢٠ ـ باب لا يعطي الجزار من الهدي حديث رقم (١٧١٦).

٤٩٨

فإذا لم يجز إعطاء الجازر أجرته منها فأولى إلا يجوز بيع شيء منها.

٨ ـ في قوله تعالى : (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) دلالة على وجوب التحلل الأصغر ، وذلك بالحلق أو التقصير.

٩ ـ (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) فيه دلالة على وجوب الوفاء بالنذر ، وأداء ما التزمه الإنسان من أعمال البر ، سواء أكان من جنسه واجب أم لا.

١٠ ـ (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) فيه دلالة على لزوم هذا الطواف ، والمراد به طواف الإفاضة ، كما هو مروي عن ابن عباس وجماعة من التابعين ، وبهذا قال فقهاء الأمصار.

وقيل : الطواف في الآية هو طواف الصدر. وهو بعيد ، لأنّ الطواف الذي يلي قضاء التفث إنما هو طواف الإفاضة الذي اتّفق على أنّه ركن ، فمن البعيد جدا أن تتعرض الآية لطواف الوداع الذي اختلف في عدّه من المناسك ، وتترك ما هو أهم منه وأعظم.

هذا ؛ والحكم بأنّ وقت هذا الطواف أيام النحر كلها أو اليوم الأول فقط لا يؤخذ من هذه الآية ، كما أنه لا يؤخذ منها اشتراط الطهارة وستر العورة فيه ، لأنّ اسم الطواف يقع على الدوران حول الكعبة ، فعلى أي حالة حصل هذا الدوران فقد حصل مسمى الطواف ، ومن اشترط شيئا وراء ذلك فإنما طريقه السنة وعمل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين.

قال الله تعالى : (ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (٣٠) حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (٣١)) اسم الإشارة في مثل هذا الموطن يؤتى به للفصل بين كلامين ، كما في قول زهير وقد تقدم له وصف هرم بالشجاعة والكرم :

هذا وليس كمن يعيا بخطبته

وسط الندى إذا ما ناطق نطقا

وكما في قوله تعالى : (هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (٥٥)) [ص : ٥٥] ويقدر له ما يتم به الكلام ، أي الأمر ذلك ، أو امتثلوا ذلك.

(وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ) الحرمات جمع حرمة ، قيل : هي بمعنى ما حرّمه الله من كلّ منهي عنه ، أو من المنهيات في باب الحج فقط ، كما روي عن ابن عباس أنّها فسوق ، وجدال ، وجماع ، وصيد. وتعظيمها يكون باجتنابها.

وقيل : الحرمات الأشياء التي جعل الله لها احتراما في الحج وغيره ، وهي جميع التكاليف وقيل : وهي مناسك الحج خاصّة.

٤٩٩

وقيل : إنها حرمات خمس : المشعر الحرام ، والمسجد الحرام ، والبيت الحرام ، والشهر الحرام ، والمحرم حتى يحل ، وتعظيم هذه الأشياء ظاهر.

(فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) الضمير الأول راجع إلى التعظيم المأخوذ من (يُعَظِّمْ) أي أن تعظيم هذه الأشياء ينال به الإنسان مثوبة قد ضمنها الله سبحانه وتعالى له ، وعلى هذا لا يكون (خَيْرٌ) أفعل تفضيل. أو نقول : إنه للتفضيل والمفاضلة على سبيل التنزل ، وإرخاء العنان ، أي على فرض أن ترك التعظيم فيه شيء من الخير ، فالتعظيم أفضل منه.

(وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) المراد حلّ ذبحها وأكلها ، ثم إنه ليس المقصود بما يتلى (ما ينزل في المستقبل) ما يعطيه ظاهر الفعل المضارع ، بل المراد ما سبق نزوله ، مما يدل على حرمة الميتة ، وما أهل به لغير الله أو ما يدل على حرمة الصيد في الحرم أو حالة الإحرام.

وعلى هذا يكون السر في التعبير بالمضارع التنبيه إلى أن ذلك المتلو ينبغي استحضاره والالتفات إليه ، والاستثناء متصل إن أريد من المستثنى ما يكون محرما من خصوص الأنعام. وإن أريد به ما يشمل الدم ولحم الخنزير كان منقطعا. والظاهر الأول ، والجملة معترضة لدفع ما عساه يقع في الوهم من أنّ تعظيم حرمات الله في الحج قد يقضي باجتناب الأنعام ، كما قضى باجتناب الصيد.

(فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) ، الرجس : القذر ، وقوله : (مِنَ الْأَوْثانِ) بيان له.

والأوثان : الأصنام ، وسمّاها الله رجسا تقبيحا لها ، وتنفيرا منها.

والمراد باجتنابها اجتناب عبادتها وتعظيمها. ولتأكيد ذلك أوقع الاجتناب على ذاتها ، وهذه الجملة مرتبطة بما قبل الاعتراض ، مترتبة على حكمه ، أي إذا كان تعظيم حرمات الله فيه الخير ؛ وفيه رضا الله تعالى ؛ وكان من تعظيم هذه الحرمات اجتناب ما نهى الله عنه ، فاجتنبوا الأوثان ، ولا تعظموها ، ولا تذبحوا لها كما كان يفعل أهل الجاهلية.

(وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ).

الزور الكذب والباطل ، وسمي زورا لميله عن وجه الحق ، من الزور بفتح الواو وهو الميل والانحراف ، وإضافة القول إليه بيانية.

قيل : المراد بقوله : (الزُّورِ) خلط أهل الجاهلية في تلبيتهم ، وقولهم فيها :

لبيك لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك ، وهو ما أخرجه ابن أبي حاتم عن مقاتل.

وقيل المراد به قولهم في البحائر والسوائب إنّها حرام ، وأن تحريمها من الله.

والأحسن التعميم في قول الزور حتى يشمل الشهادة الباطلة ، فقد أخرج أحمد

٥٠٠