فصل :

في حقيقة المعجز

معنى قولنا : «إن القرآن معجز» على أصولنا أنه لا يقدر العباد عليه. وقد ثبت أن المعجز الدال على صدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لا يصح دخوله تحت قدرة العباد. وإنما ينفرد الله تعالى بالقدرة عليه ، ولا يجوز أن يعجز العباد عما تستحيل قدرتهم عليه ، كما يستحيل عجزهم عن فعل الأجسام. فنحن لا نقدر على ذلك وإن لم يصح وصفنا بأنا عاجزون عن ذلك حقيقة. وكذلك معجزات سائر الأنبياء على هذا.

فلما لم يقدر عليه أحد ، شبه بما يعجز عنه العاجز. وإنما لا يقدر العباد على الإتيان بمثله ؛ لأنه لو صح أن يقدروا عليه بطلت دلالة المعجز. وقد أجرى الله العادة بأن يتعذر فعل ذلك منهم ، وأن لا يقدروا عليه. ولو كان غير خارج عن العادة لأتوا بمثله ، أو عرضوا عليه من كلام فصحائهم وبلغائهم ما يعارضه.

فلما لم يشتغلوا بذلك ، علم أنهم فطنوا إلى خروج ذلك عن أوزان كلامهم ، وأساليب نظامهم ، وزالت أطماعهم عنه.

وقد كنا بيّنا أن التواضع ليس يجب أن يقع على قول الشعر ، ووجوه النظم المستحسنة في الأوزان المطربة للسمع. ولا يحتاج في مثله إلى توقيف ، وأنه يتبين أن مثل ذلك يجري في الخطاب ، فلما جرى فيه فطنوا له واختاروه وطلبوا أنواع الأوزان والقوافي.

ثم وقفوا على حسن ذلك ، وقدروا عليه بتوفيق الله عزوجل. وهو الذي جمع خواطرهم عليه ، وهداهم له ، وهيّأ دواعيهم إليه. ولكنه أقدرهم على حد محدود ، وغاية في العرف مضروبة ، لعلمه بأنه سيجعل القرآن معجزا. ودل على عظم شأنه ، بأنهم قدروا على ما بيّنا من التأليف ، وعلى ما وصفناه من النظم من غير توقيف ولا اقتضاء أثر ، ولا تحدّ إليه ، ولا تقريع.

فلو كان هذا من ذلك القبيل ، أو من الجنس الذي عرفوه وألفوه ، لم تزل أطماعهم عنه. ولم يدهشوا عند وروده عليهم ، فكيف وقد أمهلهم وفسح لهم الوقت ، وكان يدعو إليه سنين كثيرة.

وقال عز من قائل : (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ