
ترجمة
المؤلف
نسبه :
هو : محمد بن
الطيب أبو بكر الباقلاني رأس المتكلمين على مذهب الشافعي ، وهو من أكثر الناس
كلاما وتصنيفا في الكلام.
شيوخه :
له شيوخ كثيرون
منهم : أبو بكر الأبهري ، وأبو بكر القطيعي ، وأبو محمد بن ماسي ، وأبو عبد الله
الشيرازي وآخرون.
مؤلفاته :
له مؤلفات عديدة
منها : إعجاز القرآن وهو هذا الكتاب ، والتبصرة ، ودقائق الحقائق ، والتمهيد في
أصول الفقه ، وشرح الإبانة ، وغير ذلك.
وفاته :
توفي سنة (٤٠٣ ه)
رحمهالله ، ورضي عنه.
انظر ترجمته في :
١ ـ البداية
والنهاية ١١ / ٣٥٠ ـ ٣٥١.
٢ ـ وفيات الأعيان
١ / ٤٨١.
|
كتبه
أبو عبد الرحمن صلاح بن محمد بن عويضة.
|
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الحمد لله المنعم
على عباده بما هداهم إليه من الإيمان ، والمتمّم إحسانه بما أقام لهم من جليّ
البرهان ، الذي حمد نفسه بما أنزل من القرآن ، ليكون بشيرا ونذيرا ، وداعيا إلى الله
بإذنه وسراجا منيرا ، وهاديا إلى ما ارتضى لهم من دينه ، وسلطانا أوضح تبيينه ،
ودليلا على وحدانيته ، ومرشدا إلى معرفة عزته وجبروته ، ومفصحا عن صفات جلاله ،
وعلو شأنه ، وعظيم سلطانه ، وحجة لرسوله الذي أرسله به ، وعلما على صدقه ، وبينة
على أنه أمينه على وحيه ، وصادع بأمره.
فما أشرفه من كتاب
يتضمن صدق متحمّله ، ورسالة تشتمل على تصحيح قول مؤدّيها ، بيّن فيه سبحانه أن
حجّته كافية هادية. لا يحتاج مع وضوحها إلى بينة تعدوها ، أو حجة تتلوها ، وإن
الذهاب عنها كالذهاب عن الضروريات ، والشك في المشاهدات. ولذلك قال عز ذكره : (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي
قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا
سِحْرٌ مُبِينٌ) . وقال عزوجل : (وَلَوْ فَتَحْنا
عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ. لَقالُوا إِنَّما
سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) .
فله الشكر على
جزيل إحسانه ، وعظم مننه ، والصلاة على سيدنا محمد المصطفى وآله وسلم.
ومن أهم ما يجب
على أهل الدين كشفه ، وأولى ما يلزم بحثه ، ما كان لأصل دينهم قواما ، ولقاعدة
توحيدهم عمادا ونظاما ، وعلى صدق نبيهم صلىاللهعليهوسلم برهانا ، ولمعجزته ثبتا وحجة ، لا سيما والجهل ممدود
الرواق ، شديد النفاق ، مستول على الآفاق. والعلم إلى عفاء ودروس ، وعلى خفاء
وطموس ، وأهله في جفوة الزمن البهيم ، يقاسون من عبوسه لقاء الأسد الشئيم ، حتى
صار ما يكابدونه قاطعا عن الواجب من سلوك مناهجه ، والأخذ في سبله.
فالناس بين رجلين
: ذاهب عن الحق ، ذاهل عن الرشد ، وآخر مصدود عن نصرته ،
__________________
مكدود في صنعته.
فقد أدى ذلك إلى خوض الملحدين في أصول الدين ، وتشكيكهم أهل الضعف في كل يقين. وقد
قل أنصاره ، واشتغل عنه أعوانه ، وأسلمه أهله ، فصار عرضة لمن شاء أن يتعرض فيه ،
حتى عاد مثل الأمر الأول على ما خاضوا فيه عند ظهور أمره ، فمن قائل قال : إنه
سحر. وقائل يقول : إنه شعر. وآخر يقول : إنه أساطير الأولين. وقالوا : لو نشاء
لقلنا مثل هذا ، إلى الوجوه التي حكى الله عزوجل عنهم أنهم قالوا فيه وتكلموا به ، فصرفوه إليه.
وذكر لي عن بعض
جهالهم أنه جعل يعدله ببعض الأشعار ، ويوازن بينه وبين غيره من الكلام ، ولا يرضى
بذلك حتى يفضله عليه!
وليس هذا ببديع من
ملحدة هذا العصر ، وقد سبقهم إلى عظم ما يقولونه إخوانهم من ملحدة قريش وغيرهم.
إلا أن أكثر من كان طعن فيه في أول أمره ، استبان رشده ، وأبصر قصده ، فتاب وأناب
، وعرف من نفسه الحق بغريزة طبعه ، وقوة إتقانه ، لا لتصرف لسانه ، بل لهداية ربه
وحسن توفيقه. والجهل في هذا الوقت أغلب ، والملحدون فيه عن الرشد أبعد ، وعن
الواجب أذهب.
وقد كان يجوز أن
يقع ممن عمل الكتب النافعة في معاني القرآن ، وتكلم في فوائده من أهل صنعة العربية
وغيرهم من أهل صناعة الكلام ، أن يبسطوا القول في الإبانة عن وجه معجزته ،
والدلالة على مكانه. فهو أحق بكثير مما صنفوا فيه من القول في الخبر ، ودقيق
الكلام في الأعراض ، وكثير من بديع الإعراب ، وغامض النحو. فالحاجة إلى هذا أمس ،
والاشتغال به أوجب.
وقد قصر بعضهم في
هذه المسألة ، حتى أدى ذلك إلى تحول قوم منهم إلى مذاهب البراهمة فيها ، ورأوا أن
عجز أصحابهم عن نصرة هذه المعجزة يوجب أن لا يستنصر فيها ، ولا وجه لها حين رأوهم
قد برعوا في لطيف ما أبدعوا ، وانتهوا إلى الغاية فيما أحدثوا ووضعوا. ثم رأوا ما
صنفوه في هذا المعنى غير كامل في بابه ، ولا مستوفى في وجهه ، قد أخلّ بتهذيب طرقه
، وأهمل ترتيب بيانه ، وقد يعذر بعضهم في تفريط يقع منه فيه ، وذهاب عنه ، لأن هذا
الباب مما يمكن إحكامه بعد التقدم في أمور شريفة المحل ، عظيمة المقدار ، دقيقة
المسلك ، لطيفة المأخذ.
وإذا انتهينا إلى
تفصيل القول فيها ، استبان ما قلناه من الحاجة إلى هذه المقدمات ، حتى يمكن بعدها
إحكام القول في هذا الشأن.
وقد صنف «الجاحظ» في نظم القرآن كتابا ، لم يزد فيه على ما قاله المتكلمون
__________________
قبله ، ولم يكشف
عما يلتبس في أكثر هذا المعنى.
وسألنا سائل أن
نذكر جملة من القول جامعة ، تسقط الشبهات ، وتزيل الشكوك التي تعرض للجهّال ،
وتنتهي إلى ما يخطر لهم ، ويعرض لأفهامهم من الطعن في وجه المعجزة.
فأجبناه إلى ذلك ،
متقربين إلى الله عزوجل ، ومتوكلين عليه وعلى حسن توفيقه ومعونته. ونحن نبين ما
سبق فيه البيان من غيرنا ، ونشير إليه ، ولا نبسط القول ؛ لئلا يكون ما ألّفناه
مكررا ومقولا ، بل يكون مستفادا من جهة هذا الكتاب خاصة. ونضيف إليه ما يجب وصفه
من القول في تنزيل متصرّفات الخطاب ، وترتيب وجوه الكلام ، وما تختلف فيه طرق
البلاغة ، وتتفاوت من جهته سبل البراعة ، وما يشتبه له ظاهر الفصاحة ، ويختلف فيه
المختلفون من أهل صناعة العربية ، والمعرفة بلسان العرب في أصل الوضع.
ثم ما اختلفت به
مذاهب مستعمليه في فنون ما ينقسم إليه الكلام ، من شعر ورسائل ، وخطب وغير ذلك من
مجاري الخطاب.
وإن كانت هذه
الوجوه الثلاثة أصول ما يبين فيه التفاصح ، وتقصد فيه البلاغة ؛ لأن هذه أمور
يتعمّل لها في الأغلب ، ولا يتجوز فيها. ثم من بعد هذا الكلام الدائر في محاوراتهم
، والتفاوت فيه أكثر ، لأن التعمل فيه أقل. إلا من غزارة طبع ، أو فطانة تصنّع ،
وتكلّف. ونشير إلى ما يجب في كل واحد من هذه الطرق ليعرف عظم محل القرآن ، وليعلم
ارتفاعه عن مواقع هذه الوجوه ، وتجاوزه الحد الذي يصح أو يجوز أن يوازن بينه
وبينها ، أو يشتبه ذلك على متأمل.
ولسنا نزعم أنه
يمكننا أن نبين ما رمنا بيانه ، وأردنا شرحه وتفصيله لمن كان عن معرفة الأدب ذاهبا
، وعن وجه اللسان غافلا ، لأن ذلك مما لا سبيل إليه إلا أن يكون الناظر فيما تعرض
عليه مما قصدنا إليه من أهل صناعة العربية قد وقف على جمل من محاسن الكلام
ومتصرفاته ، ومذاهبه ، وعرف جملة من طرق المتكلمين ، ونظر في شيء من أصول الدين ،
وإنما ضمن الله عزوجل فيه البيان لمثل من وصفناه فقال : (كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً
عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) وقال : (إِنَّا جَعَلْناهُ
قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) .
__________________
فصل :
في
أن نبوة النبي صلىاللهعليهوسلم
معجزتها
القرآن
الذي يوجب
الاهتمام التامّ بمعرفة إعجاز القرآن ، أن نبوة نبينا عليهالسلام بنيت على هذه المعجزة. وإن كان قد أيّد بعد ذلك بمعجزات
كثيرة ، إلا أن تلك المعجزات قامت في أوقات خاصة ، وأحوال خاصة ، وعلى أشخاص خاصة
، ونقل بعضها نقلا متواترا يقع به العلم وجودا. وبعضها مما نقل نقلا خاصا ، إلا
أنه حكى بمشهد من الجمع العظيم ، أنهم شاهدوه. فلو كان الأمر على خلاف ما حكى ،
لأنكروه ، أو لأنكره بعضهم ، فحل محل المعنى الأول ، وإن لم يتواتر أصل النقل فيه.
وبعضها مما نقل من جهة الآحاد ، وكان وقوعه بين يدي الآحاد.
فأما دلالة القرآن
فهي عن معجزة عامة عمّت الثّقلين ، وبقيت بقاء العصرين ، ولزوم الحجة بها في أول
وقت ورودها إلى يوم القيامة ، على حدّ واحد ، وإن كان قد يعلم بعجز أهل العصر
الأول عن الإتيان بمثله ، وجه دلالته ، فيغني ذلك عن نظر مجدّد في عجز أهل هذا
العصر عن الإتيان بمثله ، وكذلك قد يغنى عجز أهل هذا العصر عن الإتيان بمثله ، عن
النظر في حال أهل العصر الأول.
وإنما ذكرنا هذا
الفصل لما حكى عن بعضهم أنه زعم أنه وإن كان قد عجز عنه أهل العصر الأول ، فليس
أهل هذا العصر بعاجزين عنه. ويكفي عجز أهل العصر الأول في الدلالة أنهم خصّوا
بالتحدّي ، دون غيرهم. ونحن نبين خطأ هذا القول في موضعه.
فأما الذي يبين ما
ذكرناه من أن الله تعالى ، حين ابتعثه ، جعل معجزته القرآن وبنى أمر نبوته عليه
سور كثيرة ، وآيات نذكر بعضها ، وننبه بالمذكور على غيره. فليس يخفى بعد التنبيه
على طريقه ، فمن ذلك قوله تعالى : (الر كِتابٌ
أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ
بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) فأخبر أنه أنزله ليقع الاهتداء به ، ولا يكون كذلك وإلا
وهو حجة ، ولا تكون حجة إن لم تكن معجزة. وقال عزوجل :
__________________
(وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) (وَإِنَّهُ
لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ* نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلى قَلْبِكَ
لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) وهذا بيّن جدا فيما قلناه من أنه جعله سببا لكونه منذرا.
ثم أوضح ذلك بأن قال : (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ
مُبِينٍ). فلولا أن كونه بهذا اللسان حجة ، لم يعقب كلامه الأول به.
وما من سورة افتتحت بذكر الحروف المقطعة ، إلا وقد أشبع فيها بيان ما قلناه. ونحن
نذكر بعضها لتستدل بذلك على ما بعده ، وكثير من هذه السور إذا تأملته فهو من أوله
إلى آخره مبني على لزوم حجة القرآن ، والتنبيه على وجه معجزته. فمن ذلك سورة
المؤمن قوله عزوجل : (حم* تَنْزِيلُ
الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) ثم وصف نفسه بما هو أهله من قوله : (غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ
شَدِيدِ الْعِقابِ) إلى أن قال : (ما يُجادِلُ فِي
آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) فدل على أن الجدال في تنزيله كفر وإلحاد. ثم أخبر بما وقع
من تكذيب الأمم برسلهم ، بقوله عزوجل : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ
وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ) إلى آخر الآية. فتوعدهم بأنه آخذهم في الدنيا بذنبهم في
تكذيب الأنبياء ، ورد براهينهم ، فقال : (فَأَخَذْتُهُمْ
فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) ثم توعدهم بالنار فقال : (وَكَذلِكَ حَقَّتْ
كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ) ثم عظم شأن المؤمنين بهذه الحجة ، بما أخبر من استغفار
الملائكة لهم ، وما وعدهم عليه من المغفرة ، فقال : (الَّذِينَ
يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ
وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ
شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ
وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) .
فلولا أنه برهان
قاهر ، لم يذم الكفار على العدول عنه ، ولم يحمد المؤمنين على المصير إليه. ثم ذكر
تمام الآيات في دعاء الملائكة للمؤمنين ، ثم عطف على وعيد الكافرين ، فذكر آيات ،
ثم قال : (هُوَ الَّذِي
يُرِيكُمْ آياتِهِ) فأمر بالنظر في آياته وبراهينه ،
__________________
إلى أن قال : (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ
يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ
التَّلاقِ) فجعل القرآن والوحي به كالروح ، لأنه يؤدي إلى حياة الأبد
، ولأنه لا فائدة للجسد بدون الروح. فجعل هذا الروح سببا للإنذار ، وعلما عليه ،
وطريقا إليه ، ولو لا أن ذلك برهان بنفسه ، لم يصح أن يقع به الإنذار والإخبار عما
يقع عند مخالفته ، ولم يكن الخبر عن الواقع في الآخرة عند ردّهم دلالته من الوعيد
حجة ، ولا معلوما صدقه ، فكان لا يلزمهم قبوله.
فلما خلص من
الآيات في ذكر الوعيد على ترك القبول ، ضرب لهم المثل بمن خالف الآيات ، وجحد
الدلالات والمعجزات ، فقال : (أَوَلَمْ يَسِيرُوا
فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ
قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ ،
فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ ، وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ) .
ثم بين أن عاقبتهم
صارت إلى السوأى ، بأن رسلهم كانت تأتيهم بالبينات وكانوا لا يقبلونها منهم. فعلم
أن ما قدم ذكره في السورة بينه رسول الله صلىاللهعليهوسلم. ثم ذكر قصة موسى ويوسف عليهماالسلام ، ومجيئهما بالبينات ، ومخالفتهم حكمها ، إلى أن قال : (الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ
بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ
آمَنُوا ، كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) . فأخبر أن جدالهم في هذه الآيات لا يقع بحجة ، وإنما يقع
عن جهل. وأن الله يطبع على قلوبهم ، ويصرفهم عن تفهم وجه البرهان لجحودهم ،
وعنادهم ، واستكبارهم.
ثم ذكر كثيرا من
الاحتجاج على التوحيد. ثم قال تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ) ثم بين هذه الجملة ، وأن من آياته الكتاب فقال : (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما
أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) إلى أن قال : (وَما كانَ لِرَسُولٍ
أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) فدل على أن الآيات على ضربين : أحدهما كالمعجزات التي هي
أدلة في دار التكليف ، والثاني الآيات التي ينقطع عندها العذر ، ويقع عندها العلم
الضروري ، وأنها إذا جاءت ، ارتفع التكليف ووجب الإهلاك. إلى أن قال : (فَلَمْ يَكُ
__________________
يَنْفَعُهُمْ
إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا)
فأعلمنا أنه قادر
على هذه الآيات ، ولكنه إذا أقامها زال التكليف ، وحقت العقوبة على الجاحدين.
كذلك ذكر في حم
السجدة على هذا المنهاج الذي شرحناه ، فقال عزوجل : (حم. تَنْزِيلٌ مِنَ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ
يَعْلَمُونَ. بَشِيراً وَنَذِيراً) . فلولا أنه جعله برهانا ، لم يكن بشيرا ولا نذيرا ، ولم
يختلف بأن يكون عربيا مفصلا ، أو بخلاف ذلك. ثم أخبر عن جحودهم وقلة قبولهم بقوله
جلّ ذكره : (فَأَعْرَضَ
أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) ولو لا أنه حجة لم يضرّهم الإعراض عنه ، وليس لقائل أن
يقول : قد يكون حجة ويحتاج في كونه حجة إلى دلالة أخرى ، كما أن الرسول صلىاللهعليهوسلم حجة. ولكنه يحتاج إلى دلالة على صدقه وصحة نبوته ، وذلك
أنه إنما احتجّ عليهم بنفس هذا التنزيل. ولم يذكر حجة غيره.
ويبين ذلك أنه قال
عقيب هذا : (قُلْ إِنَّما أَنَا
بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَ) فأخبر أنه مثلهم لو لا الوحي ، ثم عطف عليه بحمد المؤمنين
به المصدقين له فقال : (إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) ومعناه الذين آمنوا بهذا الوحي والتنزيل ، وعرفوا هذه
الحجة.
ثم تصرف في هذا الاحتجاج
على الوحدانية ، والقدرة إلى أن قال : (فَإِنْ أَعْرَضُوا
فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) ، فتوعدهم بما أصاب من قبلهم من المكذبين بآيات الله من
قوم عاد وثمود في الدنيا. ثم توعّدهم بأمر الآخرة فقال : (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى
النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) ، إلى انتهاء ما ذكره فيه. ثم رجع إلى ذكر القرآن ، فقال :
(وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ
تَغْلِبُونَ) .
ثم أثنى بعد ذلك
على من تلقاه بالقبول فقال : (إِنَّ الَّذِينَ
قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا
__________________
تَتَنَزَّلُ
عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا)
ثم قال جلّ ذكره : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ
الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)
وهذا ينبه على أن
النبي صلىاللهعليهوسلم
يعرف إعجاز القرآن ، وأنه دلالة له على جهة الاستدلال لأن الضروريات لا يقع فيها
نزغ الشيطان.
ونحن نبين ما
يتعلق بهذا الفصل في موضعه ثم قال : (إِنَّ الَّذِينَ
يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا) إلى أن قال : (إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ
الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) وهذا وإن كان متأولا على أنه لا يوجد فيه غير الحق ، مما
يتضمنه من أقاصيص الأولين ، وأخبار المرسلين ، وكذلك لا يوجد خلاف فيما يتضمنه من
الإخبار عن الغيوب ، وعن الحوادث التي أنبأ أنها تقع في الآتي ، فلا يخرج عن أن
يكون متأولا على ما يقتضيه نظام الخطاب ، من أنه لا يأتيه ما يبطله من شبهة سابقة
تقدح في معجزته ، أو تعارضه في طريقه.
وكذلك لا يأتيه من
بعده قط أمر يشكك في وجه دلالته وإعجازه. وهذا أشبه بسياق الكلام ونظامه ، ثم قال
: (وَلَوْ جَعَلْناهُ
قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ
وَعَرَبِيٌ) فأخبر أنه لو كان أعجميا ، لكانوا يحتجون في رده إما بأن
ذلك خارج عن عرف خطابهم ، وكانوا يعتذرون بذهابهم عن معرفة معناه ، وبأنهم لا يبين
لهم وجه الإعجاز فيه ، لأنه ليس من شأنهم ولا من لسانهم. أو بغير ذلك من الأمور ،
وأنه إذا تحداهم إلى ما هو من لسانهم وشأنهم فعجزوا عنه ، وجبت الحجة عليهم به ،
على ما نبينه في وجه هذا الفصل إلى أن قال : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ
إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي
شِقاقٍ بَعِيدٍ) .
والذي ذكرنا من
نظم هاتين السورتين ، ينبه على غيرهما من السور ، فكرهنا سرد القول فيها. فليتأمل
المتأمل ما دللناه عليه يجده كذلك. ثم مما يدل على هذا قوله عزوجل : (وَقالُوا لَوْ لا
أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ
وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ. أَوَلَمْ
__________________
يَكْفِهِمْ
أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ)
فأخبر أن الكتاب آية
من آياته ، وعلم من أعلامه وأن ذلك يكفي في الدلالة ، ويقوم مقام معجزات غيره ،
وآيات سواه من الأنبياء ، صلوات الله عليهم. ويدل عليه قوله عزوجل : (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ
عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً. الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ)
وقوله : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللهِ
كَذِباً ، فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ
وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ)
فدل على أنه جعل
قلبه مستودعا لوحيه ، ومستنزلا لكتابه ، وأنه لو شاء صرف ذلك إلى غيره. وكان له
حكم دلالته على تحقيق الحق ، وإبطال الباطل ، مع صرفه عنه. ولذلك أشباه كثيرة تدل
على نحو الدلالة التي وصفناها ، فبان بهذا ونظائره ما قلناه من أن بناء نبوته (صلىاللهعليهوسلم)
على دلالة القرآن ومعجزته ، وصار له من الحكم في دلالته على نفسه ، وصدقه ، أنه
يمكن أن يعلم أنه كلام الله تعالى ، وفارق حكمه حكم غيره من الكتب المنزلة على
الأنبياء ، لأنها لا تدل على أنفسها إلا بأمر زائد ، ووصف مضاف إليها ، لأن نظمها
ليس معجزا ، وإن كان ما يتضمنه من الإخبار عن الغيوب معجزا.
وليس كذلك القرآن
؛ لأنه يشاركها في هذه الدلالة ويزيد عليها في أن نظمه معجز فيمكن أن يستدل به
عليه ، وحل في هذا من وجه محل سماع الكلام من القديم سبحانه وتعالى ، لأن موسى عليهالسلام لما سمع كلامه علم أنه في الحقيقة كلامه.
وكذلك من يسمع
القرآن يعلم أنه كلام الله ، وإن اختلف الحال في ذلك من بعض الوجوه ، لأن موسى عليهالسلام سمعه من الله عزوجل ، وأسمعه نفسه متكلما ، وليس كذلك الواحد منا. وكذلك قد
يختلفان في غير هذا الوجه ، وليس ذلك قصدنا بالكلام في هذا الفصل.
والذي نرومه الآن
ما بيّنا من اتفاقهما في المعنى الذي وصفنا ، وهو أنه عليهالسلام يعلم أن ما يسمعه كلام الله من جهة الاستدلال. وكذلك نحن
نعلم ما نقرؤه من هذا على جهة الاستدلال.
__________________
فصل :
في الدلالة على أنّ
القرآن معجزة
قد ثبت في الفصل
الأول أن نبوة نبينا صلىاللهعليهوسلم ، مبنية على دلالة معجزة القرآن ، فيجب أن نبين وجه
الدلالة ، من ذلك قد ذكر العلماء ، أن الأصل في هذا هو أن تعلم أن القرآن الذي هو
متلو محفوظ مرسوم في المصاحف ، هو الذي جاء به النبي صلىاللهعليهوسلم. وأنه هو الذي تلاه على من في عصره ثلاثا وعشرين سنة.
والطريق إلى معرفة
ذلك ، هو النقل المتواتر الذي يقع عنده العلم الضروري به. وذلك أنه قام به في
الموقف ، وكتب به إلى البلاد ، وتحمله عنه إليها من تابعه ، وأورده على غيره من لم
يتابعه ، حتى ظهر فيهم الظهور الذي لا يشتبه على أحد. ولا يحتمل أنه قد خرج من أتى
بقرآن يتلوه ، ويأخذه على غيره ، ويأخذ غيره على الناس ، حتى انتشر ذلك في أرض
العرب كلها ، وتعدى إلى الملوك المعاقبة لهم ، كملك الروم والعجم والقبط والحبش ،
وغيرهم من ملوك الأطراف.
ولما ورد ذلك
مضادّا لأديان أهل ذلك العصر كلهم ، ومخالفا لوجوه اعتقاداتهم المختلفة في الكفر ،
وقف جميع أهل الخلاف على جملته ، ووقف جميع أهل دينه الذين أكرمهم الله بالإيمان
على جملته وتفاصيله ، وتظاهر بينهم ، حتى حفظه الرجال ، وتنقّلت به الرّحال ،
وتعلّمه الكبير والصغير ، إذ كان عمدة دينهم ، وعلما عليه ، والمفروض تلاوته في
صلواتهم ، والواجب استعماله في أحكامهم.
ثم تناقله خلف عن
سلف. هم مثلهم في كثرتهم وتوفر دواعيهم على نقله ، حتى
__________________
انتهى إلينا على
ما وصفناه من حاله. فلن يتشكّك أحد ، ولا يجوز أن يتشكك ، مع وجود هذه الأسباب ،
في أنه أتى بهذا القرآن من عند الله تعالى. فهذا أصل ، وإذا ثبت هذا الأصل وجودا
فإنا نقول : إنه تحدّاهم إلى أن يأتوا بمثله ، وقرّعهم على ترك الإتيان به طول
السنين التي وصفناها. فلم يأتوا بذلك.
والذي يدل على هذا
الأصل ، أنا قد علمنا أن ذلك مذكور في القرآن في المواضع الكثيرة ؛ كقوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا
نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ
مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ
تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ
أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) . وكقوله : (أَمْ يَقُولُونَ
افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ
اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا
لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ
فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) .
فجعل عجزهم عن
الإتيان بمثله ، دليلا على أنه منه ، ودليلا على وحدانيته. وذلك يدل عندنا على
بطلان قول من زعم أنه لا يمكن أن يعلم بالقرآن الوحدانية ، وزعم أن ذلك مما لا
سبيل إليه ، إلا من جهة العقل. لأن القرآن كلام الله عزوجل ، ولا يصح أن يعلم الكلام حتى يعلم المتكلم أولا.
فقلنا : إذا ثبت
بما نبيّنه إعجازه ، وأن الخلق لا يقدرون عليه ، ثبت أن الذي أتى به غيرهم ، وأنه
إنما يختصّ بالقدرة عليه ، من يختصّ بالقدرة عليهم ، وأنه صدق ، وإذا كان كذلك كان
ما يتضمنه صدقا. وليس إذا أمكن معرفته من جهة العقل ، امتنع أن يعرف من الوجهين.
وليس الغرض تحقيق القول في هذا الفصل لأنه خارج عن مقصود كلامنا ، ولكنّا ذكرناه
من جهة دلالة الآية عليه.
ومن ذلك قوله عزوجل : (قُلْ لَئِنِ
اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا
يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) وقوله : (أَمْ يَقُولُونَ
تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ. فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا
صادِقِينَ) فقد ثبت بما بيناه أنه تحداهم إليه ، ولم يأتوا بمثله.
وفي هذا أمران :
أحدهما التحدي إليه ؛ والآخر أنهم لم يأتوا له بمثل. والذي يدل
__________________
على ذلك النقل
المتواتر الذي يقع به العلم الضروري ، فلا يمكن جحود واحد من هذين الأمرين.
وإن قال قائل :
لعله لم يقرأ عليهم الآيات التي فيها ذكر التحدي ، وإنما قرأ عليهم ما سوى ذلك من
القرآن ، كان كذلك قولا باطلا ، يعلم بطلانه مثل ما يعلم به بطلان قول من زعم أن
القرآن أضعاف هذا! وهو يبلغ حمل جمل! وإنه كتم ، وسيظهره المهدي!! أو يدّعى أن هذا
القرآن ليس هو الذي جاء به النبي صلىاللهعليهوسلم ، وإنما هو شيء وضعه عمر أو عثمان رضي الله عنهما ، حيث وضع المصحف. أو يدعى فيه زيادة أو نقصانا.
وقد ضمن الله حفظ
كتابه أنه لا يأتيه الباطل من بين يديه أو من خلفه ، ووعده الحق ، وحكاية قولة من
قال ذلك يغني عن الردّ عليه ، لأن العدد الذين أخذوا القرآن في الأمصار ، وفي
البوادي ، وفي الأسفار ، والحضر ، وضبطوه حفظا من بين صغير وكبير ، وعرفوه حتى صار
لا يشتبه على أحد منهم حرف ، لا يجوز عليهم السهو والنسيان ، ولا التخليط فيه
والكتمان.
ولو زادوا ونقصوا
أو غيّروا لظهر. وقد علمت أن شعر امرئ القيس وغيره لا يجوز أن يظهر ظهور القرآن ، ولا أن يحفظ كحفظه ،
ولا أن يضبط كضبطه ، ولا أن تمسّ الحاجة إليه مساسها إلى القرآن ، لو زيد فيه بيت
أو نقص منه بيت. لا بل لو غير فيه لفظ لتبرأ منه أصحابه. وأنكره أربابه.
فإذا كان ذلك مما
لا يمكن في شعر امرئ القيس ونظرائه ، مع أن الحاجة إليه تقطع لحفظ العربية ، فكيف
يجوز أو يمكن ما ذكروه في القرآن ، مع شدة الحاجة إليه في أصل الدين ، ثم في
الأحكام والشرائع ، واشتمال الهمم المختلفة على ضبطه.
فمنهم من يضبطه
لإحكام قراءته ، ومعرفة وجوهها ، وصحة أدائها.
ومنهم من يحفظه
للشرائع ، والفقه.
__________________
ومنهم من يضبطه
ليعرف تفسيره ومعانيه.
ومنهم من يقصد
بحفظه الفصاحة والبلاغة. ومن الملحدين من يحصّله لينظر في عجيب شأنه.
وكيف يجوز على أهل
هذه الهمم المختلفة ، والآراء المتباينة على كثرة أعدادهم ، واختلاف بلادهم ،
وتفاوت أغراضهم ، أن يجتمعوا على التغيير والتبديل والكتمان؟
ويبين ذلك أنك إذا
تأملت ما ذكر في أكثر السور مما بينا ، ومن نظائره في رد قومه عليه ورد غيرهم ،
وقولهم (لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا
مِثْلَ هذا) ، وقول بعضهم : (ما سَمِعْنا بِهذا
فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ) ، إلى الوجوه التي يصرف إليها قولهم في الطعن عليه.
فمنهم من يستهين
بها ويجعل ذلك سببا لتركه الإتيان بمثله.
ومنهم من يزعم أنه
مفترى ، فلذلك لا يأتي بمثله.
ومنهم من يزعم أنه
دارس ، وأنه أساطير الأولين. وكرهنا أن نذكر كل آية تدل على تحديه لئلا يقع
التطويل. ولو جاز أن يكون بعضه مكتوما ، جاز على كله. ولو جاز أن يكون بعضه موضوعا
، جاز ذلك في كله. فثبت بما بيناه ، أنه تحدّاهم وأنهم لم يأتوا بمثله.
وهذا الفصل قد
بينا أن الجميع قد ذكروه ، وبنوا عليه ، فإذا ثبت هذا ، وجب أن يعلم بعده أن تركهم
للإتيان بمثله ، كان لعجزهم عنه. والذي يدل على أنهم كانوا عاجزين عن الإتيان بمثل
القرآن ، أنه تحداهم إليه حتى طال التحدي. وجعله دلالة على صدقه ، ونبوّته ،
وتضمّن أحكامه استباحة دمائهم وأموالهم ، وسبى ذريتهم. فلو كانوا يقدرون على
تكذيبه لفعلوا وتوصلوا إلى تخليص أنفسهم وأهليهم وأموالهم من حكمه ، بأمر قريب ،
هو عادتهم في لسانهم ، ومألوف من خطابهم. وكان ذلك يغنيهم عن تكلف القتال وإكثار
المراء والجدال ، وعن الجلاء عن الأوطان ، وعن تسليم الأهل والذرية للسبى.
فلما لم يحصل هناك
معارضة منهم علم أنهم عاجزون عنها يبيّن ذلك أن العدو يقصد لدفع قول عدوه بكل ما
قدر عليه ، من المكايد ، لا سيما مع استعظامه ما أبدعه بالمجيء من خلع آلهته ،
وتسفيه رأيه في ديانته ، وتضليل آبائه ، والتغريب عليه بما جاء به ، وإظهار أمر
يوجب الانقياد لطاعته ، والتصرف على حكم إرادته ، والعدول عن إلفه وعادته ،
والانخراط في سلك الأتباع بعد أن كان متبوعا ، والتشييع بعد أن كان مشيّعا ،
وتحكيم الغير في ماله وتسليطه إياه على جملة أحواله ، والدخول تحت تكاليف شاقة ،
وعبادات متعبة بقوله. وقد
__________________
علم أن بعض هذه
الأحوال مما يدعو إلى سلب النفوس دونه.
هذا والحميّة
حميتهم ، والهمم الكبيرة هممهم. وقد بذلوا له السيف وأخطروا بنفوسهم وأموالهم.
فكيف يجوز أن لا يتوصلوا إلى الرد عليه ، وإلى تكذيبه بأهون سعيهم ، ومألوف أمرهم.
وما يمكن تناوله من غير أن يعرق فيه جبين ، أو يشتغل به خاطر ، وهو لسانهم الذي
يتخاطبون به ، مع بلوغهم في الفصاحة النهاية التي ليس وراءها مطلع والرتبة التي
ليس وراءها منزع ، ومعلوم أنهم لو عارضوه بما تحداهم إليه لكان فيه توهين أمره ،
وتكذيب قوله ، وتفريق جمعه ، وتشتيت أسبابه. وكان من صدق به يرجع على أعقابه ،
ويعود في مذهب أصحابه ، فلما لم يفعلوا شيئا من ذلك مع طول المدة ، ووقوع الفسحة ،
وكان أمره يتزايد حالا فحالا ، ويعلو شيئا فشيئا ، وهم على العجز عن القدح في آيته
، والطعن في دلالته ، علم مما بينا أنهم كانوا لا يقدرون على معارضته ، ولا على
توهين حجته.
وقد أخبر الله
تعالى عنهم أنهم قوم خصمون ، وقال : (وَتُنْذِرَ بِهِ
قَوْماً لُدًّا) وقال : (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ
فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) وعلم أيضا أن ما كانوا يقولونه من وجوه اعتراضهم على
القرآن مما حكى الله عزوجل عنهم من قولهم : (لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا
مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) وقولهم : (ما هذا إِلَّا سِحْرٌ
مُفْتَرىً ، وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) وقالوا : (يا أَيُّهَا الَّذِي
نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) وقالوا : (أَفَتَأْتُونَ
السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) وقالوا : (أَإِنَّا لَتارِكُوا
آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ) وقال الذين كفروا : (إِنْ هَذا إِلَّا
إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ) (فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً
وَزُوراً. وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ
بُكْرَةً وَأَصِيلاً) وقوله سبحانه : (وَقالَ الظَّالِمُونَ
إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) وقوله : (الَّذِينَ جَعَلُوا
الْقُرْآنَ
__________________
عِضِينَ) .
إلى آيات كثيرة في
نحو هذا ، تدل على أنهم كانوا متحيرين في أمرهم ، متعجبين من عجزهم ، يفزعون إلى
نحو هذه الأمور من تعليل ، وتعذير ، ومدافعة ، بما وقع التحدي إليه ، وعرف الحث
عليه.
وقد علم منهم أنهم
ناصبوه الحرب ، وجاهروه ونابذوه وقطعوا الأرحام ، وأخطروا بأنفسهم ، وطالبوه
بالآيات ، والإتيان بغير ذلك من المعجزات ، يريدون تعجيزه ليظهروا عليه بوجه من
الوجوه.
فكيف يجوز أن
يقدروا على معارضته القريبة السهلة عليهم ، وذلك يدحض حجّته ويفسد دلالته ، ويبطل
أمره ، فيعدلون عن ذلك إلى سائر ما صاروا إليه من الأمور التي ليس عليها مزيد في
المنابذة والمعاداة ، ويتركون الأمر الخفيف؟
هذا مما يمتنع
وقوعه في العادات ، ولا يجوز إتقانه من العقلاء. وإلى هذا قد استقصى أهل العلم
الكلام ، وأكثروا في هذا المعنى وأحكموه. ويمكن أن يقال : إنهم لو كانوا قادرين
على معارضته ، والإتيان بمثل ما أتى به ، لم يجز أن يتفق منهم ترك المعارضة ، وهم
على ما هم عليه من الذرابة والسلاقة والمعرفة بوجوه الفصاحة. وهو يستطيل عليهم
بأنهم عاجزون عن مباراته ، وإنهم يضعفون عن مجاراته ، ويكرر فيما جاء به ذكر عجزهم
عن مثل ما يأتى به ، ويقرعهم ويؤنبهم عليه ، ويدرك آماله فيهم ، وينجح ما يسعى له
بتركهم المعارضة.
وهو يذكر فيما
يتلوه تعظيم شأنه وتفخيم أمره ، حتى يتلو قوله تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ
وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ
وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) وقوله : (يُنَزِّلُ
الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ
أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ) وقوله : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ
سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) وقوله : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ
وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) وقوله : (إِنَّهُ لَذِكْرٌ
لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ
__________________
تُسْئَلُونَ) وقوله : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) وقوله : (اللهُ نَزَّلَ
أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ
الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى
ذِكْرِ اللهِ) إلى. غير ذلك من الآيات التي تتضمن تعظيم شأن القرآن ،
فمنها ما يتكرر في السورة في مواضع منها ، ومنها ما ينفرد فيها. وذلك مما يدعوهم
إلى المباراة ، ويحضّهم على المعارضة ، وإن لم يكن متحديا إليه.
ألا ترى أنهم قد
كان ينافر شعراؤهم بعضهم بعضا ولهم في ذلك مواقف معروفة ، وأخبار مشهورة ، وأيام
منقولة ، وكانوا يتنافسون على الفصاحة والخطابة والذلاقة ، ويتبجحون بذلك
ويتفاخرون بينهم. فلن يجوز والحالة هذه ، أن يتغافلوا عن معارضته لو كانوا قادرين
عليها ، تحداهم إليها أو لم يتحداهم.
ولو كان هذا
القبيل مما يقدر عليه البشر ، لوجب في ذلك أمر آخر ، وهو أنه لو كان مقدورا للعباد
لكان قد اتفق إلى وقت مبعثه من هذا القبيل ما كان يمكنهم أن يعارضوه به. وكانوا لا
يفتقرون إلى تكلف وضعه ، وتعمل نظمه في الحال.
فلما لم نرهم
احتجوا عليه بكلام سابق ، وخطبة متقدمة ، ورسالة سالفة ، ونظم بديع ، ولا عارضوه
به ، فقالوا هذا أفصح مما جئت به ، وأغرب منه ، أو هو مثله ، علم أنه لم يكن إلى
ذلك سبيل ، وأنه لم يوجد له نظير. ولو كان وجد له مثل لكان ينقل إلينا ، ولعرفناه
كما نقل إلينا أشعار أهل الجاهلية ، وكلام الفصحاء والحكماء من العرب ، وأدى إلينا
كلام الكهان وأهل الرجز والسجع والقصيد وغير ذلك من أنواع بلاغاتهم وصنوف
فصاحاتهم.
فإن قيل الذي بنى
عليه الأمر في تثبيت معجزة القرآن ، أنه وقع التحدي إلى الإتيان بمثله ، وأنهم
عجزوا عنه بعد التحدي إليه. فإذا نظر الناظر وعرف وجه النقل المتواتر في هذا الباب
، وجب له العلم بأنهم كانوا عاجزين عنه ، وما ذكرتم يوجب سقوط تأثير التحدي. وأن
ما أتى به قد عرف العجز عنه بكل حال.
قيل : إنما احتيج
إلى التحدّي لإقامة الحجة وإظهار وجه البرهان ، لأن المعجزة إذا ظهرت فإنما تكون
حجة ، بأن يدعيها من ظهرت عليه ، ولا تظهر على مدّع لها إلا وهي معلومة أنها من
عند الله. فإذا كان يظهر وجه الإعجاز فيها للكافة ، بالتحدي وجب فيها
__________________
التحدي ، لأنه
تزول بذلك الشبهة عن الكل ، وينكشف للجميع أن العجز واقع عن المعارضة.
وإلا فإن مقتضى ما
قدمناه من الفصل أن من كان يعرف وجوه الخطاب ، ويتقن مصارف الكلام ، وكان كاملا في
فصاحته ، جامعا للمعرفة بوجوه الصناعة ، لو أنه احتج عليه بالقرآن ، وقيل له إن
الدلالة على النبوة والآية على الرسالة ما أتلوه عليك منه ، لكان ذلك بلاغا في
إيجاب الحجة ، وتماما في إلزامه فرض المصير إليه.
ومما يؤكد هذا ،
أن النبي صلىاللهعليهوسلم ، قد دعا الآحاد إلى الإسلام محتجا عليهم بالقرآن ؛ لأنّا
نعلم أنه لم يلزمهم تصديقه تقليدا. ونعلم أن السابقين الأولين إلى الإسلام لم
يقلدوه. وإنما دخلوا على بصيرة. ولم نعلمه قال لهم ارجعوا إلى جميع الفصحاء ، فإن
عجزوا عن الإتيان بمثله فقد ثبتت حجتي. بل لما رآهم يعلمون إعجازه ، ألزمهم حكمه ،
فقبلوه وتابعوا الحق ، وبادروا إليه مستسلمين ، ولم يشكوا في صدقه ، ولم يرتابوا
في وجه دلالته. فمن كانت بصيرته أقوى ، ومعرفته أبلغ كان إلى القبول منه أسبق. ومن
اشتبه عليه وجه الإعجاز ، واشتبه عليه بعض شروط المعجزات ، وأدلة النبوات كان أبطأ
إلى القبول ، حتى تكاملت أسبابه ، واجتمعت له بصيرته ، وترادفت عليه موادّه.
وهذا فصل يجب أن
يتمّم القول فيه بعد ، فليس هذا بموضع له ، ويبين ما قلناه أن هذه الآية علم يلزم
الكل قبوله ، والانقياد له. وقد علمنا تفاوت الناس في إدراكه ومعرفة وجه دلالته ،
لأن الأعجمي لا يعلم أنه معجز إلا بأن يعلم عجز العرب عنه. وهو يحتاج في معرفة ذلك
إلى أمور لا يحتاج إليها من كان من أهل صنعة الفصاحة. فإذا عرف عجز أهل الصنعة حل
محلهم ، وجرى مجراهم ، في توجه الحجة عليه.
وكذلك لا يعرف
المتوسط من أهل اللسان من هذا الشأن ، ما يعرفه العالي في هذه الصنعة. فربما حل في
ذلك محل الأعجمى في أن لا يتوجه عليه الحجة. حتى يعرف عجز المتناهي في الصنعة عنه.
وكذلك لا يعرف المتناهي في معرفة الشعر وحده ، أو الغاية في معرفة الخطب ، أو
الرسائل وحدها غور هذا الشأن ، ما يعرف من استكمل معرفة جميع تصاريف الخطاب ،
ووجوه الكلام وطرق البراعة ، فلا تكون الحجة قائمة على المختص ببعض هذه العلوم
بانفرادها ، دون تحققه بعجز البارع في هذه العلوم كلها عنه.
فأما من كان
متناهيا في معرفة وجوه الخطاب ، وطرق البلاغة والفنون التي يمكن فيها إظهار
الفصاحة ، فهو متى سمع القرآن عرف إعجازه ، وإن لم نقل ذلك أدى هذا القول إلى أن
يقال إن النبي صلىاللهعليهوسلم لم يعرف إعجاز القرآن حين أوحي إليه ، حتى سبر الحال بعجز
أهل
اللسان عنه ، وهذا
خطأ من القول. فصحّ من هذا الوجه ، أن النبي صلىاللهعليهوسلم ، حين أوحى إليه القرآن عرف كونه معجزا ، وبأن قيل له إنه
دلالة وعلم على نبوتك أنه كذلك ، من قبل أن يقرأه على غيره أو يتحدى إليه سواه.
ولذلك قلنا : إن
المتناهي في الفصاحة والعلم ، بالأساليب التي يقع فيها التفاصح ، متى سمع القرآن
عرف أنه معجز ، لأنه يعرف من حال نفسه أنه لا يقدر عليه ، ويعرف من حال غيره ، مثل
ما يعرف من حال نفسه ، فيعلم أن عجز غيره كعجزه هو ، وإن كان يحتاج بعد هذا إلى استدلال
آخر على أنه علم على نبوة ، ودلالة على رسالة ، بأن يقال له إن هذه آية لنبيه ،
وإنما ظهرت عليه وادعاها معجزة له وبرهانا على صدقه.
فإن قيل : فإن من
الفصحاء من يعلم عجز نفسه عن قول الشعر ، ولا يعلم مع ذلك عجز غيره عنه. فكذلك
التبليغ. وإن علم عجز نفسه عن مثل القرآن فهو قد يخفى عليه عجز غيره. قيل هو مع
مستقر العادة ، وإن عجز عن قول الشعر وعلم أنه معجز فإنه يعلم أن الناس لا ينفكون
من وجود الشعراء فيهم. ومتى علم البليغ المتناهي في صنوف البلاغات عجزه عن القرآن
، علم عجز غيره لأنه كهو ، لأنه يعلم أن حاله وحال غيره في هذا الباب سواء ، إذ
ليس في العادة مثل للقرآن يجوز أو يعلم قدرة أحد من البلغاء عليه.
فإذا لم يكن لذلك
مثل في العادة ، وعرف هذا الناظر جميع أساليب الكلام وأنواع الخطاب ، ووجد القرآن
مباينا لها ، علم خروجه عن العادة ، وجرى مجرى ما يعلم أن إخراج اليد البيضاء من
الجيب خارج عن العادات ، فهو لا يجوزه من نفسه ، وكذلك لا يجوز وقوعه من غيره إلا
على وجه نقض العادة. بل يرى وقوعه موقع المعجزة ، وهذا وإن كان يفارق فلق البحر ،
وإخراج اليد البيضاء. ونحو ذلك من وجه. وهو أن يستوي الناس في معرفة عجزهم عنه ،
فكونه ناقضا للعادة من غير تأمل شديد ، ولا نظر بعيد.
فإن النظر في
معرفة إعجاز القرآن يحتاج إلى تأمل ، ويفتقر إلى مراعاة مقدمات ، والكشف عن أمور
نحن ذاكروها بعد هذا الموضع. فكل واحد منها يؤول إلى مثل حكم صاحبه في الجمع الذي
قدمنا. ومما يبين ما قلناه من أن البليغ المتناهي في وجوه الفصاحة ، يعرف إعجاز
القرآن. وتكون معرفته حجة عليه إذا تحدى إليه وعجز عن مثله. وإن لم ينتظر وقوع
التحدي في غيره. وما الذي يصنع ذلك الغير ، وهو ما روي في الحديث : أن جبير بن مطعم ورد على النبي صلىاللهعليهوسلم ، في معنى حليف له أراد أن يفاديه فدخل
__________________
والنبي صلىاللهعليهوسلم ، يقرأ سورة : (وَالطُّورِ وَكِتابٍ
مَسْطُورٍ) في صلاة الفجر ، قال : فلما انتهى إلى قوله : (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ما لَهُ
مِنْ دافِعٍ) قال : خشيت أن يدركني العذاب فأسلم. وفي حديث آخر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سمع سورة طه فأسلم.
وقد روي أن قوله عزوجل في أول حم «السجدة» إلى قوله : (فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا
يَسْمَعُونَ) نزلت في شيبة وعتبة ابني ربيعة وأبي سفيان بن حرب وأبي
جهل. وذكر أنهم بعثوا هم وغيرهم من وجوه قريش بعتبة بن ربيعة إلى النبي صلىاللهعليهوسلم ليكلمه ، وكان حسن الحديث ، عجيب الشأن ، بليغ الكلام ،
وأرادوا أن يأتيهم بما عنده ، فقرأ النبي صلىاللهعليهوسلم سورة حم السجدة من أولها حتى انتهى إلى قوله : (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ
أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) فوثب مخافة العذاب ، فاستحكوه ما سمع ، فذكر أنه لم يسمع
منه كلمة واحدة ، ولا اهتدى لجوابه ، ولو كان ذلك من جنس كلامهم لم يخف عليه وجه
الاحتجاج والرد. فقال عثمان بن مظعون لتعلموا أنه من عند الله إذ لم يهتد لجوابه.
وأبين من ذلك قول
الله عزوجل : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ
أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) فجعل سماعه حجة عليه بنفسه ، فدل على أن فيهم من يكون
سماعه إياه حجة عليه.
فإن قيل : لو كان
ما قلتم لوجب أن يكون حال الفصحاء الذين كانوا في عصر النبي صلىاللهعليهوسلم على طريقة واحدة في إسلامهم عند سماعه ، قيل : لا يجب ذلك
، لأن صوارفهم كانت كثيرة ، منها أنهم كانوا يشكّون ، منهم من يشك في إثبات الصانع
، وفيهم من يشك في التوحيد ، وفيهم من يشك في النبوة ، ألا ترى أن أبا سفيان بن حرب لما جاء إلى رسول
__________________
الله صلىاللهعليهوسلم ليسلم عام الفتح ، قال له النبي عليهالسلام : أما آن لك أن تشهد أن لا إله إلا الله؟ قال : بلى ،
فشهد. قال : أما آن لك أن تشهد أني رسول الله؟ قال : أما هذه ففي النفس منها شيء.
فكانت وجوه شكوكهم مختلفة. وطرق شبههم متباينة ، فمنهم من قلت شبهه ، وتأمل الحجة
حق تأملها ولم يستكبر فأسلم. ومنهم من كبرت شبهه ، وأعرض عن تأمل الحجة حق تأملها
، أو لم يكن في البلاغة على حدود النهاية ، فتطاول عليه الزمان إلى أن نظر واستبصر
، وراعى واعتبر ، واحتاج إلى أن يتأمل عجز غيره عن الإتيان بمثله ، فلذلك وقف
أمره.
ولو كانوا في
الفصاحة على مرتبة واحدة ، وكانت صوارفهم وأسبابهم متفقة ، لتوافقوا إلى القبول
جملة واحدة. فإن قيل : فكيف يعرف البليغ الذي وصفتموه : إعجاز القرآن؟ وما الوجه
الذي يتطرق به إليه؟ والمنهاج الذي يسلكه حتى يقف به على جلية الأمر فيه؟ قيل : هذا
سبيله أن يفرد له فصل ، فإن قيل : فلم زعمتم أن البلغاء عاجزون عن الإتيان بمثله
مع قدرتهم على صنوف البلاغات وتصرفهم في أجناس الفصاحات؟ وهلا قلتم : إن من قدر
على جميع هذه الوجوه البديعة ، وتوجه من هذه الطرق الغريبة ، كان على مثل نظم
القرآن قادرا ، وإنما يصرفه الله عنه ضربا من الصرف ، أو يمنعه من الإتيان بمثله ،
ضربا من المنع ، أو تقصر دواعيه دونه مع قدرته عليه ليتكامل ما أراده الله من
الدلالة ، ويحصل ما قصده من إيجاب الحجة. لأن من قدر على نظم كلمتين بديعتين لم
يعجز عن نظم مثلها. وإذا قدر على ذلك قدر على ضم الثانية إلى الأولى ، وكذلك
الثالثة حتى يتكامل قدر الآية والسورة. فالجواب أنه لو صح ذلك ، صح لكل من أمكنه
نظم ربع بيت ، أو مصراع من بيت ، أن ينظم القصائد ويقول الأشعار. وصح لكل ناطق قد
يتفق في كلامه الكلمة البديعة ، نظم الخطب البليغة ، والرسائل العجيبة ، ومعلوم أن
ذلك غير سائغ ، ولا ممكن.
على أن ذلك لو لم
يكن معجزا على ما وصفناه من جهة نظمه الممتنع ، لكان مهما حط من رتبة البلاغة فيه
، ووضع من مقدار الفصاحة في نظمه كان أبلغ في الأعجوبة ، إذا صرفوا عن الإتيان
بمثله ، ومنعوا عن معارضته وعدلت دواعيهم عنه. فكان يستغني عن إنزاله على النظم
البديع ، وإخراجه في المعرض الفصيح العجيب ، على أنه لو كانوا صرفوا على ما ادعاه
لم يكن من قبلهم من أهل الجاهلية مصروفين عما كان يعدل به في الفصاحة والبلاغة
وحسن النظم وعجيب الرصف ، لأنهم لم يتحدوا إليه ولم يلزمهم حجته. فلما لم يوجد في
كلام من قبله مثله علم أن ما ادعاه القائل بالصرفة ظاهر البطلان.
وفيه معنى آخر ،
وهو : أن أهل الصنعة في هذا الشأن إذا سمعوا كلاما مطمعا لم يخف عليهم ، ولم يشتبه
لديهم. ومن كان متناهيا في فصاحته ، لم يجز أن يطمع في مثل هذا القرآن بحال. فإن
قال صاحب السؤال إنه قد يطمع في ذلك. قيل له : أنت تزيد على هذا ،
فتزعم أن كلام
الآدمي قد يضارع القرآن ، وقد يزيد عليه في الفصاحة ولا يتحاشاه. ويحسب أن ما ألفه
في الجزء والطفرة هو أبدع وأغرب من القرآن لفظا ومعنى! ولكن ليس الكلام على ما
يقدره مقدر في نفسه ، ويحسبه ظان من أمره ، والمرجوع في هذا إلى جملة الفصحاء دون
الآحاد. ونحن نبين بعد هذا وجه امتناعه عن الفصيح البليغ ، ونميزه في ذلك عن سائر
أجناس الخطاب ، ليعلم أن ما يقدره من مساواة كلام الناس به تقدير ظاهر الخطأ ،
بيّن الغلط ، وأن هذا التقدير من جنس من حكى الله تعالى قوله في محكم كتابه : (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ. فَقُتِلَ
كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ
وَبَسَرَ. ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ.
إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) فهم يعبرون عن دعواهم أنهم يمكنهم أن يقولوا مثله ، بأن
ذلك من قول البشر ، لأن ما كان من قولهم فليس يقع فيه التفاضل إلى الحد الذي
يتجاوز إمكان معارضته.
ومما يبطل ما
ذكروه من القول بالصرفة أنه لو كانت المعارضة ممكنة ، وإنما منع منها الصرفة لم
يكن الكلام معجزا ، وإنما يكون المنع معجزا ، فلا يتضمن الكلام فضيلة على غيره في
نفسه. وليس هذا بأعجب مما ذهب إليه فريق منهم أن الكلّ قادرون على الإتيان بمثله ،
وإنما يتأخرون عنه لعدم العلم بوجه ترتيب لو تعلموه لوصلوا إليه به. ولا بأعجب من
قول فريق منهم إنه لا فرق بين كلام البشر وكلام الله تعالى في هذا الباب ، وإنه
يصح من كل واحد منهما الإعجاز على حد واحد.
فإن قيل : فهل
تقولون بأن غير القرآن من كلام الله عزوجل معجز كالتوراة والإنجيل والصحف ، قيل : ليس شيء من ذلك
بمعجز في النظم والتأليف. وإن كان معجزا كالقرآن ، فيما يتضمن من الإخبار بالغيوب.
وإنما لم يكن معجزا لأن الله تعالى لم يصفه بما وصف به القرآن ، ولأنّا قد علمنا
أنه لم يقع التحدي إليه كما وقع التحدي إلى القرآن.
ولمعنى آخر وهو أن
ذلك اللسان لا يتأتى فيه من وجوه الفصاحة ما يقع به التفاضل الذي ينتهي إلى حد
الإعجاز. ولكنه يتقارب ، وقد رأيت أصحابنا يذكرون هذا في سائر الألسنة ويقولون :
ليس يقع فيها من التفاوت ما يتضمن التقديم العجيب ، ويمكن بيان ذلك بأنا لا نجد في
القدر الذي نعرفه من الألسنة للشيء الواحد من الأسماء ما نعرف من اللغة. وكذلك لا
نعرف فيها الكلمة الواحدة تتناول المعاني الكثيرة على ما تتناول العربية. وكذلك
التصرف في الاستعارات ، والإشارات ، ووجوه الاستعمالات البديعة التي يجيء تفصيلها
بعد.
__________________
هذا ويشهد لذلك من
القرآن أن الله تعالى وصفه بأنه بلسان عربي مبين. وكرر ذلك في مواضع كثيرة ، وبين
أنه رفعه عن أن يجعله أعجميا. فلو كان يمكن في لسان العجم إيراد مثل فصاحته ، لم
يكن ليرفعه عن هذه المنزلة. وأنه وإن كان يمكن أن يكون من فائدة قوله إنه عربي
مبين ، أنه مما يفهمونه ولا يفتقرون فيه إلى الرجوع إلى غيرهم ، ولا يحتاجون في
تفسيره إلى من سواهم ، فلا يمتنع أن يفيد ما قلنا أيضا كما أفاد بظاهره ما قدمناه.
ويبين ذلك أن
كثيرا من المسلمين قد عرفوا تلك الألسنة وهم من أهل البراعة فيها ، وفي العربية ،
فقد وقفوا على أنه ليس يقع فيها من التفاضل والفصاحة ما يقع في العربية. ومعنى آخر
وهو أنّا لم نجد أهل التوراة والإنجيل ادعوا الإعجاز لكتابهم ، ولا ادعى لهم
المسلمون. فعلم أنّ الإعجاز مما يختص به القرآن. ويبين هذا أن الشعر لا يتأتى في
تلك الألسنة على ما قد اتفق في العربية. وإن كان قد يتفق منها صنف أو أصناف ضيقة ،
لم يتفق فيها من البديع ما يمكن ويتأتى في العربية. وكذلك لا يتأتى في الفارسية
جميع الوجوه التي يتبين فيها الفصاحة على ما يتأتى في العربية.
فإن قيل : فإن
المجوس تزعم أن كتاب «زرادشت» وكتاب «ماني» معجزان ، قيل : الذي يتضمنه كتاب «ماني»
من طريق النيرنجات وضروب من الشعوذة ليس يقع فيها إعجاز. ويزعمون أن في الكتاب
الحكم وهي حكم منقولة متداولة على الألسن لا يختص بها أمة دون أمة. وإن كان بعضهم
أكثر اهتماما بها وتحصيلا لها وجمعا لأبوابها.
وقد ادعى قوم أن
ابن المقفع عارض القرآن ، وإنما فزعوا إلى الدّرة اليتيمة ، وهما كتابان أحدهما
يتضمن حكما منقولة ، توجد عند حكماء كل أمة ، مذكورة بالفضل ، فليس فيها شيء بديع
من لفظ ، ولا معنى. والآخر في شيء من الديانات وقد تهوس فيه مما لا يخفى على متأمل
، وكتابه الذي بينّاه في الحكم منسوخ من كتاب «بزرجمهر» في الحكمة. فأي صنع له في
ذلك؟ وأي فضيلة حازها فيما جاء به؟ وبعد ، فليس يوجد له كتاب يدعى مدع أنه عارض
فيه القرآن ، بل يزعمون أنه اشتغل بذلك مدة ، ثم مزّق ما جمع واستحيا لنفسه من إظهاره.
فإن كان كذلك فقد أصاب وأبصر القصد ، ولا يمتنع أن يشتبه عليه الحال في الابتداء
ثم يلوح له رشده ، ويتبين له أمره ، وينكشف له عجزه.
ولو كان بقي على
اشتباه الحال عليه لم يخف علينا موضع غفلته ، ولم يشتبه لدينا وجه شبهته. ومتى
أمكن أن تدعى الفرس في شيء من كتبهم أنه معجز في حسن تأليفه وعجيب نظمه!
فصل :
في جملة وجوه إعجاز القرآن
ذكر أصحابنا
وغيرهم في ذلك ثلاثة أوجه من الإعجاز :
الوجه
الأول : يتضمن الإخبار
عن الغيوب ، وذلك مما لا يقدر عليه البشر. لا سبيل لهم إليه : فمن ذلك ما وعد الله
تعالى نبيه عليهالسلام أنه سيظهر دينه على الأديان بقوله عزوجل : (هُوَ الَّذِي
أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ
كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) ففعل ذلك وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه إذا أغزى جيوشه ، عرّفهم ما وعدهم
الله من إظهار دينه ، ليثقوا بالنصر ، ويستيقنوا بالنجاح. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يفعل كذلك في أيامه ، حتى وقف
أصحاب جيوشه عليه ، فكان سعد بن أبي وقاص رحمهالله ، وغيره من أمراء الجيوش من جهته يذكر ذلك لأصحابه ،
ويحرضهم به ، ويوثق لهم. وكانوا يلقون الظفر في مواجهاتهم ، حتى فتح إلى آخر أيام
عمر رضي الله عنه إلى بلخ ، وبلاد الهند وفتح في أيامه مرو الشاهجان ومرو الروذ
ومنعهم من العبور بجيحون. وكذلك فتح في أيامه فارس إلى اصطخر وكرمان ، ومكران
وسجستان وجميع ما كان من مملكة كسرى ، وكل ما كان يملكه ملوك الفرس بين البحرين من
الفرات إلى جيحون.
__________________
وأزال ملك ملوك
الفرس فلم يعد إلى اليوم. ولا يعود أبدا إن شاء الله تعالى. ثم إلى حدود أرمينية
وإلى باب الأبواب ، وفتح أيضا ناحية الشام ، والأردن ، وفلسطين ، وفسطاط مصر.
وأزال ملك قيصر عنها ، وذلك من الفرات إلى بحر مصر ، وهو ملك قيصر. وغزت الخيول في
أيامه إلى عمورية ، فأخذ الضواحي كلها ولم يبق دونها إلا ما حجز دونه بحر ، أو حال
عنه جبل منيع ، أو أرض خشنة ، وأو بادية غير مسلوكة.
وقال الله عزوجل : (قُلْ لِلَّذِينَ
كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ) فصدق فيه وقال في أهل بدر : (وَإِذْ يَعِدُكُمُ
اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ) ووفى لهم بما وعد. وجميع الآيات التي يتضمنها القرآن ، من
الإخبار عن الغيوب ، يكثر جدّا ، وإنما أردنا أن ننبه بالبعض على الكل.
والوجه
الثاني : أنه كان معلوما
من حال النبي صلىاللهعليهوسلم ، أنه كان أميا لا يكتب ولا يحسن أن يقرأ. وكذلك كان
معروفا من حاله أنه لم يكن يعرف شيئا من كتب المتقدمين ، وأقاصيصهم ، وأنبائهم ،
وسيرهم.
ثم أتى بجملة ما
وقع وحدث من عظيمات الأمور ، ومهمات السير ، من حين خلق الله آدم عليهالسلام ، إلى حين مبعثه. فذكر في الكتاب الذي جاء به معجزة له :
قصة آدم عليهالسلام ، وابتداء خلقه ، وما صار إليه أمره من الخروج من الجنة ،
ثم جملا من أمر ولده وأحواله وتوبته.
ثم ذكر قصه نوح عليهالسلام ، وما كان بينه وبين قومه وما انتهى إليه أمره. وكذلك أمر
إبراهيم عليهالسلام. إلى ذكر سائر الأنبياء المذكورين في القرآن ، والملوك
والفراعنة الذين كانوا في أيام الأنبياء صلوات الله عليهم.
ونحن نعلم ضرورة
أن هذا مما لا سبيل إليه ، إلا عن تعلم ، وإذا كان معروفا أنه لم يكن ملابسا لأهل
الآثار وحملة الأخبار ، ولا مترددا إلى التعلم منهم. ولا كان ممن يقرأ فيجوز أن
يقع إليه كتاب فيأخذ منه علم أنه لا يصل إلى علم ذلك إلا بتأييد من جهة الوحي.
ولذلك قال عزوجل : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا
مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ
الْمُبْطِلُونَ) وقال : (وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ
الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ
__________________
يَعْلَمُونَ) وقد بينا أن من كان يختلف إلى تعلم علم ويشتغل بملابسة أهل
صنعة ، لم يخف على الناس أمره. ولم يختلف عندهم مذهبه ، وقد كان يعرف فيهم من يحسن
هذا العلم وإن كان نادرا. وكذلك كان يعرف من يختلف إليه للتعليم ، وليس يخفى في
العرف عالم كل صنعة ومتعلمها فلو كان منهم لم يخف أمره.
والوجه
الثالث : أنه بديع النظم
، عجيب التأليف ، متناه في البلاغة ، إلى الحد الذي يعلم عجز الخلق عنه. والذي
أطلقه العلماء هو على هذه الجملة. ونحن نفصل ذلك بعض التفصيل ، ونكشف الجملة التي
أطلقوها.
فالذي يشتمل عليه
بديع نظمه المتضمن للإعجاز وجوه منها : ما يرجع إلى الجملة. وذلك أن نظم القرآن
على تصرف وجوهه ، واختلاف مذاهبه ، خارج عن المعهود من نظام جميع كلامهم ومباين
للمألوف من ترتيب خطابهم ، وله أسلوب يختص به ويتميز في تصرفه عن أساليب الكلام
المعتاد. وذلك أن الطرق التي يتقيد بها الكلام البديع المنظوم ، تنقسم إلى أعاريض
الشعر على اختلاف أنواعه ، ثم إلى أنواع الكلام الموزون غير المقفى ، ثم إلى أصناف
الكلام المعدل المسجع ، ثم إلى معدل موزون غير مسجع ، ثم إلى ما يرسل إرسالا ،
فتطلب فيه الإصابة والإفادة وإفهام المعاني المعترضة على وجه بديع ، وترتيب لطيف ،
وإن لم يكن معتدلا في وزنه. وذلك شبيه بجملة الكلام الذي لا يتعمل ولا يتصنع له.
وقد علمنا أن
القرآن خارج عن هذه الوجوه ، ومباين لهذه الطرق ، ويبقى علينا أن نبين أنه ليس من
باب السجع ، ولا فيه شيء منه. وكذلك ليس من قبيل الشعر لأن من الناس من زعم أنه
كلام مسجع ، ومنهم من يدعى أن فيه شعرا كثيرا ، والكلام عليهم يذكر بعد هذا الموضع
، فهذا إذا تأمله المتأمل تبين بخروجه عن أصناف كلامهم ، وأساليب خطابهم ، أنه
خارج عن العادة ، وأنه معجز ، وهذه خصوصية ترجع إلى جملة القرآن. وتميّز حاصل في
جميعه. ومنها أنه ليس للعرب كلام مشتمل على هذه الفصاحة ، والغرابة والتصرف البديع
والمعاني اللطيفة ، والفوائد الغزيرة ، والحكم الكثيرة ، والتناسب في البلاغة ،
والتشابه في البراعة ، على هذا الطول ، وعلى هذا القدر. وإنما تنسب إلى حكيمهم كلمات
معدودة ، وألفاظ قليلة ، وإلى شاعرهم قصائد محصورة ، يقع فيها ما نبينه بعد هذا من
الاختلال ، ويعترضها ما نكشفه من الاختلاف ، ويقع فيها ما نبديه من التعمل والتكلف
والتجوز والتعسف.
__________________
وقد حصل القرآن
على كثرته وطوله متناسبا في الفصاحة على ما وصفه الله تعالى به فقال عز من قائل : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ
كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ
رَبَّهُمْ ، ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ) (وَلَوْ كانَ مِنْ
عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) فأخبر أن كلام الآدمي إن امتد وقع فيه التفاوت ، وبان عليه
الاختلال. وهذا المعنى هو غير المعنى الأول الذي بدأنا بذكره ، فتأمله تعرف الفضل.
وفي ذلك معنى ثابت
وهو أن عجيب نظمه ، وبديع تأليفه ، لا يتفاوت ولا يتباين على ما يتصرف إليه من
الوجوه التي يتصرف فيها من ذكر قصص ، ومواعظ ، واحتجاج وحكم ، وأحكام وأعذار ،
وإنذار ، ووعد ووعيد وتبشير ، وتخويف وأوصاف ، وتعليم أخلاق كريمة وشيم رفيعة ،
وسير مأثورة ، وغير ذلك من الوجوه التي يشتمل عليها. ونجد كلام البليغ الكامل ،
والشاعر المفلق ، والخطيب المصقع ، يختلف على حسب اختلاف هذه الأمور.
فمن الشعراء من
يجود في المدح دون الهجو. ومنهم من يبرز في الهجو دون المدح. ومنهم يسبق في
التقريظ دون التأبين. ومنهم من يجود في التأبين دون التقريظ. ومنهم من يغرب في وصف
الإبل والخيل ، أو سير الليل ، أو وصف الحرب ، أو وصف الروض ، أو وصف الخمر ، أو
الغزل أو غير ذلك ، مما يشتمل عليه الشعراء ويتداوله الكلام.
ولذلك ضرب المثل
بامرئ القيس إذا ركب ، والنابغة إذا رهب ، وبزهير إذا رغب. ومثل ذلك يختلف في
الخطب والرسائل وسائر أجناس الكلام. ومتى تأملت شعر الشاعر البليغ رأيت التفاوت في
شعره على حسب الأحوال التي يتصرف فيها ، فيأتي بالغاية في البراعة في معنى ، فإذا
جاء إلى غيره قصر عنه ، ووقف دونه ، وبان الاختلاف على شعره ، ولذلك ضرب المثل
بالذين سميتهم لأنه لا خلاف في تقدمهم في صنعة الشعر ، ولا شك في تبريزهم في مذهب
النظم ، فإذا كان الاختلال بيّنا في شعرهم لاختلاف ما يتصرفون فيه ، واستغنينا عن
ذكر من هو دونهم. وكذلك يستغنى به عن تفصيل نحو هذا في الخطب والرسائل ونحوها.
ثم نجد في الشعراء
من يجوّد في الرجز ، ولا يمكنه نظم القصيد أصلا. ومنهم من ينظم القصيد ، ولكن
يقصّر فيه مهما تكلفه أو عمله. ومن الناس من يجوّد في الكلام المرسل ، فإذا أتى
بالموزون قصر ونقص نقصانا عجيبا. ومنهم من يوجد بضد ذلك.
وقد تأملنا نظم
القرآن ، فوجدنا جميع ما يتصرف فيه من الوجوه التي قدمنا ذكرها ،
__________________
على حد واحد في
حسن النظم ، وبديع التأليف والرصف ، لا تفاوت فيه ، ولا انحطاط عن المنزلة العليا
، ولا إسفال فيه إلى الرتبة الدنيا. وكذلك قد تأملنا ما يتصرف إليه وجوه الخطاب من
الآيات الطويلة والقصيرة ، فرأينا الإعجاز في جميعها على حد واحد لا يختلف. وكذلك
قد يتفاوت كلام الناس عند إعادة ذكر القصة الواحدة ، فرأيناه غير مختلف ولا متفاوت
، بل هو على نهاية البلاغة وغاية البراعة. فعلمنا بذلك أنه مما لا يقدر عليه
البشر. لأن الذي يقدرون عليه قد بينا فيه التفاوت الكثير عند التكرار ، وعند تباين
الوجوه واختلاف الأسباب التي يتضمن.
ومعنى
الرابع : وهو أن كلام
الفصحاء يتفاوت تفاوتا بيّنا في الفصل والوصل ، والعلو والنزول ، والتقريب
والتبعيد ، وغير ذلك مما ينقسم إليه الخطاب عند النظم ، ويتصرف فيه القول عند الضم
والجمع ، ألا ترى أن كثيرا من الشعراء قد وصف بالنقص عند التنقل من معنى إلى غيره
، والخروج من باب إلى سواه ، حتى أن أهل الصنعة قد اتفقوا على تقصير البحتري مع
جودة نظمه وحسن وصفه في الخروج من النسيب إلى المديح. وأطبقوا على أنه لا يحسنه
ولا يأتي فيه بشيء. وإنما اتفق له في مواضع معدودة خروج يرتضى وتنقل يستحسن. وكذلك
يختلف سبيل غيره عند الخروج من شيء إلى شيء ، والتحول من باب إلى باب. ونحن نفصل
بعد هذا ونفسر هذه الجملة ، ونبين على أن القرآن على اختلاف ما يتصرف فيه من
الوجوه الكثيرة ، والطرق المختلفة ، يجعل المختلف كالمؤتلف ، والمتباين كالمتناسب
، والمتنافر في الإفراد إلى حد الآحاد. وهذا أمر عجيب تتبين فيه الفصاحة ، وتظهر
به البلاغة ، ويخرج به الكلام عن حد العادة ، ويتجاوز العرف.
ومعنى
خامس : وهو أن نظم
القرآن وقع موقعا في البلاغة يخرج عن عادة كلام الإنس والجن. فهم يعجزون عن الإتيان
بمثله كعجزنا ، ويقصرون دونه كقصورنا. وقد قال الله عزوجل : (قُلْ لَئِنِ
اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا
يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) فإن قيل : هذه دعوى منكم ، وذلك أنه لا سبيل لنا إلى أن
نعلم عجز الجن عن مثله ، وقد يجوز أن يكونوا قادرين على الإتيان بمثله ، وإن كنا
عاجزين كما أنهم قد يقدرون على أمور لطيفة وأسباب غامضة ، دقيقة لا نقدر نحن عليها
، ولا سبيل لنا للطفها إليها ، وإذا كان كذلك لم يكن إلى علم ما ادعيتم سبيل.
قيل : قد يمكن أن
تعرف ذلك بخبر الله عزوجل. وقد يمكن أن يقال إن هذا الكلام خرج على ما كانت العرب
تعتقده من مخاطبة الجن ، وما يروون لهم من الشعر ، ويحكون
__________________
عنهم من الكلام.
وقد علمنا أن ذلك محفوظ عندهم ، منقول عنهم ، والقدر الذي نقلوه قد تأملناه ، فهو
في الفصاحة لا يتجاوز حد فصاحة الإنس ، ولعله يقصر عنها ، ولا يمتنع أن يسمع الناس
كلامهم ، ويقع بينهم وبينهم محاورات في عهد الأنبياء صلوات الله عليهم.
وذلك الزمان مما
لا يمتنع فيه وجود ما ينقض العادات. على أن القوم إلى الآن يعتقدون مخاطبة الغيلان
، ولهم أشعار محفوظة مروية في دواوينهم قال تأبط شرا :
وأدهم قد حبت
جلبابه كما
|
|
احتابت الكاعب
الخيعلا
|
إلى أن حدا
الصبح أثناءه
|
|
ومزّق جلبابه
الأليلا
|
على شيم نار
تنوّرتها
|
|
فبتّ لها مدبرا
مقبلا
|
فأصبحت والغول
لي جارة
|
|
فيا جارتا أنت
ما أهولا
|
وطالبتها بضعها
فالتوت
|
|
بوجه تهول
واستغولا
|
فمن سأل أين ثوب
جارتي
|
|
فإن لها باللوى
منزلا
|
وكنت إذ ما هممت
اعتزمت
|
|
ت وأحر إذا قمت
أن أفعلا
|
وقال آخر :
عشوا ناري فقلت
منون أنتم؟
|
|
فقالوا : الجنّ
، قلت : عموا ظلاما
|
فقمت إلى الطعام
فقال منهم
|
|
زعيم يحسد الإنس
الطعاما
|
ويذكرون لامرئ
القيس قصيدة مع عمرو الجنى وأشعارا لهما كرهنا ذكرها لطولها وقال عبيد بن أيوب :
فلله درّ الغول
أي رفيقة
|
|
لصاحب قفر خائف
متقفر
|
أرنّت بلحن بعد
لحن وأوقدت
|
|
حواليّ نيرانا
تلوح وتزهر
|
وقال ذو الرمة بعد قوله :
قد أعسف النازح
المجهول معسفه
|
|
في ظل أخضر يدعو
هامه البوم
|
__________________
للجنّ بالليل في
حافاتها زجل
|
|
كما تناوح يوم
الرّيح عيثوم
|
دويّة ودجى ليل
كأنهما
|
|
يمّ تراطن في حافاته
الروم
|
وقال أيضا :
وكم عرّست بعد
النوى من معرّس
|
|
لها من كلام
الجن أصوات سامر
|
وقال :
ورمل عزيف الجن
في عقباته
|
|
هزيز كتضراب
المغنّين بالطبل
|
وإذا كان القوم
يعتقدون كلام الجن ومخاطباتهم ، ويحكون عنهم ، وذلك القدر المحكي لا يزيد أمره على
فصاحة العرب ، صح ما وصف عندهم من عجزهم عنه ، كعجز الإنس. ويبين ذلك من القرآن أن
الله تعالى حكى عن الجن ما تفاوضوا فيه من القرآن ، فقال : (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ
الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا ،
فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) إلى آخر ما حكى عنهم فيما يتلوه. فإذا ثبت أنه وصف كلامهم
، ووافق ما يعتقدونه من نقل خطابهم ، صح أن يوصف الشيء المألوف بأنه ينحط عن درجة
القرآن في الفصاحة.
وهذان الجوابان
أسدّ عندي من جواب بعض المتكلمين عنه ؛ بأن عجز الإنس عن القرآن يثبت له حكم
الإعجاز ، فلا يعتبر غيره. ألا ترى أنه لو عرفنا من طريق المشاهدة عجز الجن عنه ،
فقال لنا قائل : فدلوا على أن الملائكة تعجز عن الإتيان بمثله ، لم يكن لنا في
الجواب غير هذه الطريقة التي قد بيناها. وإنما ضعّفنا هذا الجواب ؛ لأن الذي حكى
وذكر عجز الجن والإنس عن الإتيان بمثله ، فيجب أن نعلم عجز الجن عنه كما علمنا عجز
الإنس عنه. ولو كان وصف عجز الملائكة عنه لوجب أن نعرف ذلك أيضا بطريقه فإن قيل : أنتم
قد انتهيتم إلى ذكر الإعجاز في التفاصيل ، وهذا الفصل إنما يدل على الإعجاز في الجملة.
قيل هذا : كما أنه يدل على التفصيل أيضا. فصح أن يلحق هذا القبيل ، كما كان يصح أن
يلحق بباب الجمل.
ومعنى
سادس : وهو أن الذي
ينقسم عليه الخطاب ، من البسط والاقتصار ، والجمع ، والتفريق ، والاستعارة والتصريح ، والتجوز والتحقيق ، ونحو ذلك من
الوجوه التي توجد
__________________
في كلامهم ، موجود
في القرآن. وكل ذلك مما يتجاوز حدود كلامهم المعتاد بينهم في الفصاحة والإبداع
والبلاغة. وقد ضمّنا بيان ذلك بعد ؛ لأن الوجه هاهنا ذكر المقدمات دون البسط
والتفصيل.
ومعنى
سابع : وهو أن المعاني
التي تتضمن في أصل وضع الشريعة والأحكام والاحتجاجات في أصل الدين ، والرد على
الملحدين على تلك الألفاظ البديعة ، وموافقة بعضها بعضا في اللطف والبراعة ، مما
يتعذر على البشر ، ويمنع ذلك أنه قد علم أن تخير الألفاظ للمعاني المتداولة
المألوفة ، والأسباب الدائرة بين الناس ، أسهل وأقرب من تخيّر الألفاظ لمعان
مبتكرة ، وأسباب مؤسسة مستحدثة. فلو أبرع اللفظ في المعنى البارع ، كان ألطف وأعجب
من أن يوجد اللفظ البارع في المعنى المتداول المتكرر ، والأمر المتقرر المتصور. ثم
إن أضيف ذلك التصرف البديع في الوجوه التي تتضمن تأييد ما يبتدأ تأسيسه ، ويراد
تحقيقه ، بان التفاضل في البراعة والفصاحة. ثم إذا وجدت الألفاظ وفق المعنى ،
والمعاني وفقها ، لا يفضل أحدهما على الآخر ، فالبراعة أظهر ، والفصاحة أتم.
ومعنى
ثامن : وهو أن الكلام
يبين فضله ورجحان فصاحته ؛ بأن نذكر منه الكلمة في تضاعيف كلام ، أو نقذف ما بين
شعر فتأخذه الأسماع ، وتتشوف إليه النفوس ويرى وجه رونقه باديا غامرا سائر ما يقرن
به ، كالدرّة التي ترى في سلك من خرز ، وكالياقوتة في واسطة العقد.
وأنت ترى الكلمة
من القرآن يتمثل بها في تضاعيف كلام كثير. وهي غرة جميعه ، وواسطة عقده ، والمنادى
على نفسه بتمييزه وتخصصه برونقه ، وجماله واعتراضه في جنسه ومائه. وهذا الفصل أيضا
مما يحتاج فيه إلى تفصيل وشرح ونص ليتحقق ما ادعيناه منه. ولو لا هذه الوجوه التي
بينّاها لم يتحير فيه أهل الفصاحة ، ولكانوا يفزعون إلى التعمل للمقابلة ، والتصنع
للمعارضة ، وكانوا ينظرون في أمرهم ، ويراجعون أنفسهم. أو كان يراجع بعضهم بعضا في
معارضته ، ويتوقفون لها. فلما لم نرهم اشتغلوا بذلك ، علم أن أهل المعرفة منهم
بالصنعة ، إنما عدلوا عن هذه الأمور لعلمهم بعجزهم عنه ، وقصور فصاحتهم دونه. ولا
يمتنع أن يلتبس على من لم يكن بارعا فيهم ولا متقدما في الفصاحة منهم هذه الحال ،
حتى لا يعلم إلا بعد نظر وتأمل ، وحتى يعرف حال عجز غيره. إلا أنا رأينا صناديدهم
وأعيانهم ووجوههم سلموا ولم يشتغلوا بذلك تحققا بظهور العجز وتبينا له.
__________________
وأما قوله تعالى
حكاية عنهم : (قالُوا قَدْ سَمِعْنا
لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا) فقد يمكن أن يكونوا كاذبين فيما أخبروا به عن أنفسهم ، وقد
يمكن أن يكون هذا الكلام إنما خرج منهم وهو يدل على عجزهم. ولذلك أورده الله مورد
تقريعهم ، لأنه لو كانوا على ما وصفوا به أنفسهم لكانوا يتجاوزون الوعد إلى
الإنجاز ، والضمان إلى الوفاء.
فلما لم يستعملوا
ذلك مع استمرار التحدي ، وتطاول زمان الفسحة في إقامة الحجة عليهم بعجزهم. إذ لو
كانوا قادرين على ذلك ، لم يقتصروا على الدعوى فقط.
ومعلوم من حالهم
وحميتهم أن الواحد منهم يقول في الحشرات ، والهوام ، والحيات. وفي وصف الأزمة
والاتساع والأمور التي لا يؤبه لها ، ولا يحتاج إليها ، ويتنافسون في ذلك أشد
التنافس ، ويتبجحون به أشد التبجح ، فكيف يجوز أن تمكنهم معارضته في هذه المعاني الفسيحة
، والعبارات الفصيحة ، مع تضمن المعارضة تكذيبه والذب عن أديانهم القديمة ،
وإخراجهم أنفسهم من تسفيهه رأيهم ، وتضليله إياهم ، والتخلص من منازعته ، ثم من
محاربته ومقارعته ، ثم لا يفعلون شيئا من ذلك ، وإنما يحيلون أنفسهم على التعاليل
ويعللونها بالأباطيل.
ومعنى
تاسع : وهو أن الحروف
التي بنى عليها كلام العرب تسعة وعشرون حرفا ، وعدد السور التي افتتح فيها بذكر
الحروف ثمان وعشرون سورة ، وجملة ما ذكر من هذه الحروف في أوائل السور من حروف
المعجم نصف الجملة ، وهو أربعة عشر حرفا ليدل بالمذكور على غيره ، وليعرفوا أن هذا
الكلام منتظم من الحروف التي ينظمون بها كلامهم ، والذي ينقسم إليه هذه الحروف على
ما قسمه أهل العربية وبنوا عليها وجوهها أقسام نحن ذاكروها. فمن ذلك أنهم قسموها
إلى حروف مهموسة وأخرى مجهورة ، فالمهموسة منها عشرة ، وهي الحاء ، والهاء ،
والخاء ، والكاف ، والشين ، والثاء ، والفاء ، والتاء ، والصاد ، والسين. وما سوى
ذلك من الحروف فهي مجهورة.
وقد عرفنا أن نصف
الحروف المهموسة مذكورة في جملة الحروف المذكورة في أوائل السور ، وكذلك نصف
الحروف المجهورة على السواء ، لا زيادة ولا نقصان. والمجهور معناه : أنه حرف أشبع الاعتماد
في موضعه ، ومنع أن يجري معه ، حتى ينقضي الاعتماد. ويجري الصوت والمهموس كل حرف
ضعف الاعتماد في موضعه ، حتى جرى معه النفس. وذلك مما يحتاج إلى معرفته لتبتنى
عليه أصول العربية.
وكذلك مما يقسمون
إليه الحروف. يقولون إنها على ضربين : أحدهما حروف
__________________
الحلق ، وهي ستة
أحرف : العين ، والحاء ، والهمزة ، والهاء ، والخاء ، والغين. والنصف من هذه
الحروف مذكور في جملة الحروف التي تشتمل عليها الحروف المبينة في أوائل السور.
وكذلك النصف من الحروف التي ليست بحروف الحلق.
وكذلك تنقسم هذه
الحروف إلى قسمين آخرين : أحدهما حروف غير شديدة ، وإلى الحروف الشديدة ، وهي التي
تمنع الصوت أن يجري فيه وهي : الهمزة ، والقاف ، والكاف ، والجيم ، والظاء ،
والذال ، والطاء ، والباء. وقد علمنا أن نصف هذه الحروف أيضا هي مذكورة في جملة
تلك الحروف التي بنى عليها تلك السور ، ومن ذلك الحروف المطبقة ، وهي أربعة أحرف ،
وما سواها منفتحة فالمطبقة : الطاء ، والظاء ، والضاد ، والصاد. وقد علمنا أن نصف
هذه في جملة الحروف المبدوء بها في أوائل السور.
وإذا كان القوم
الذين قسموا في الحروف هذه الأقسام ، لأغراض لهم في ترتيب العربية وتنزيلها بعد
الزمان الطويل من عهد النبي صلىاللهعليهوسلم ، ورأوا مباني اللسان على هذه الجهة. وقد نبه بما ذكر في
أوائل السور على ما لم يذكر على حد التصنيف الذي وصفنا ، دل على أن وقوعها الموقع
الذي يقع التواضع عليه بعد العهد الطويل لا يجوز أن يقع إلا من الله عزوجل. لأن ذلك يجري مجرى علم الغيوب. وإن كان إنما نبهوا على ما
بنى عليه اللسان في أصله ، ولم يكن لهم في التقسيم شيء ، وإنما التأثير لمن وضع
أصل اللسان. فذلك أيضا من البديع الذي يدل على أن أصل وضعه وقع موقع الحكمة التي
يقصر عنها اللسان. فإن كان أصل اللغة توقيفا فالأمر في ذلك أبين. وإن كان على سبيل
التواضع ، فهو عجيب أيضا ؛ لأنه لا يصح أن تجتمع هممهم المختلفة على نحو هذا إلا
بأمر من عند الله تعالى. وكل ذلك يوجب إثبات الحكمة في ذكر هذه الحروف على حد
يتعلق به الإعجاز من وجه ، وقد يمكن أن تعاد فاتحة كل سورة لفائدة تخصها في النظم
إذا كانت حروفا كنحو (الم) لأن الألف المبدوء بها هي أقصاها مطلعا ، واللام متوسطة
، والميم متطرفة. لأنها تأخذ في الشفة ، فنبه بذكرها على غيرها من الحروف. وبين
أنه إنما أتاهم بكلام منظوم ، بما يتعارفون من الحروف التي تردد بين هذين الطرفين.
ويشبه أن يكون
التصنيف وقع في هذه الحروف دون الألف لأن الألف قد تلغى ، وقد تقع الهمزة وهي
موقعا واحدا.
ومعنى
عاشر : وهو أنه سهّل
سبيله ، فهو خارج عن الوحشيّ المستكره ، والغريب المستنكر ، وعن الصنعة المتكلّفة.
وجعله قريبا إلى الأفهام ، يبادر معناه لفظه إلى القلب ، ويسابق المغزى منه عبارته
إلى النفس ، وهو مع ذلك ممتنع المطلب ، عسير المتناول ، غير مطمع مع قربه في نفسه
، ولا موهم مع دنوّه في موقعه ، أن يقدر عليه ، أو يظفر به.
فأما الانحطاط عن
هذه الرتبة إلى رتبة الكلام المبتذل ، والقول المسفسف ، فليس يصحّ أن تقع فيه
فصاحة أو بلاغة ، فيطلب فيه التمنع ، أو يوضع فيه الإعجاز. ولكن لو وضع في وحشي
مستكره ، أو غمر بوجوه الصنعة ، وأطبق بأبواب التعسف والتكلف ، لكان لقائل أن يقول
فيه : ويعتذر ويعيب ويقرع. ولكنه أوضح مناره ، وقرب منهاجه ، وسهل سبيله ، وجعله
في ذلك متشابها متماثلا. وبين مع ذلك إعجازهم فيه. وقد علمت أن كلام فصحائهم ،
وشعر بلغائهم ، لا ينفك من تصرف في غريب مستنكر ، أو وحشي مستكره ، ومعان مستبعدة.
ثم عدولهم إلى
كلام مبتذل وضيع ، لا يوجد دونه في الرتبة. ثم تحولهم إلى كلام معتدل بين الأمرين
، متصرف بين المنزلتين ، فمن شاء أن يتحقق هذا نظر في قصيدة امرئ القيس :
«قفا نبك من ذكرى
حبيب ومنزل» .
ونحن نذكر بعد هذا
على التفصيل ، ما يتصرف إليه هذه القصيدة ونظائرها ومنزلتها من البلاغة ، ونذكر
وجه فوت نظم القرآن محلها ، على وجه يؤخذ باليد ويتناول من كتب ، ويتصور في النفس
كتصور الأشكال ، ليبين ما ادعيناه من الفصاحة العجيبة للقرآن.
واعلم أن من قال
من أصحابنا إن الأحكام معللة بعلل موافقة مقتضى العقل ، جعل هذا وجها من وجوه
الإعجاز ، وجعل هذه الطريقة دلالة فيه كنحو ما يعللون به الصلاة ، ومعظم الفروض
وأصولها. ولهم في كثير من تلك العلل طرق قريبة ، ووجوه تستحسن. وأصحابنا من أهل
خراسان يولعون بذلك. ولكن الأصل الذي يبنون عليه عندنا غير مستقيم ، وفي ذلك كلام
يأتي في كتابنا في الأصول.
وقد يمكن في
تفاصيل ما أوردنا من المعاني الزيادة والإفراد ، فإنا جمعنا بين أمور وذكرنا
المزية المتعلقة بها ، وكل واحد من تلك الأمور مما قد يمكن اعتقاده في إظهار
الإعجاز فيه. فإن قيل : فهل تزعمون أنه معجز لأنه حكاية لكلام القديم سبحانه ، أو
لأنه عبارة عنه ، أو لأنه قديم في نفسه ، قيل : لسنا نقول بأن الحروف قديمة ، فكيف
يصح التركيب على الفاسد؟
ولا نقول أيضا إن
وجه الإعجاز في نظم القرآن أنه حكاية عن الكلام القديم. لأنه لو
__________________
كان كذلك لكانت
التوراة والإنجيل ، وغيرهما من كتب الله عزوجل ، معجزات في النظم والتأليف. وقد بينا أن إعجازها في غير
ذلك. وكذلك كان يجب أن تكون كل كلمة مفردة معجزة بنفسها ، ومتفردها ، وقد ثبت خلاف
ذلك.
فصل :
في شرح ما بيّنا من
وجوه إعجاز القرآن
فأما الفصل الذي
بدأنا بذكره من الإخبار عن الغيوب ، والصدق ، والإصابة في ذلك كله ، فهو كقوله
تعالى : (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ
مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ
أَوْ يُسْلِمُونَ) فأغزاهم أبو بكر ، وعمر رضي الله عنهما ، إلى قتال العرب والفرس والروم.
وكقوله : (الم ، غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى
الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ) ، وراهن أبو بكر الصديق رضي الله عنه في ذلك ، وصدق الله
وعده.
وكقوله في قصة أهل
بدر : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ
وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) وكقوله : (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ
رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ
اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ) .
وكقوله : (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى
الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ) في قصة أهل بدر وكقوله :
(وَعَدَ اللهُ
الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي
الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ
دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ
أَمْناً) وصدق الله تعالى وعده في كل ذلك ، وقال في قصة المتخلفين
عنه في غزوته : (لَنْ تَخْرُجُوا
مَعِيَ
__________________
أَبَداً
وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا) فحق ذلك كله وصدق ولم يخرج من المخالفين الذين خوطبوا بذلك
معه أحد.
وكقوله : (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) وكقوله : (فَقُلْ تَعالَوْا
نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا
وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ) فامتنعوا من المباهلة ولو أجابوا إليها اضطرمت عليهم
الأودية نارا ، على ما ذكر في الخبر.
وكقوله : (قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ
الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ
إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ
أَيْدِيهِمْ) ولو تمنوه لوقع بهم هذا وما أشبهه.
وأما
الوجه الثاني : الذي ذكرناه من
إخباره عن قصص الأولين ، وسير المتقدمين ، فمن العجيب الممتنع على من لم يقف على
الأخبار ، ولم يشتغل بدرس الآثار ، وقد حكى في القرآن تلك الأمور حكاية من شهدها ،
وحضرها.
ولذلك قال الله
تعالى : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا
مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ
الْمُبْطِلُونَ) وقال : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ
الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ) وقال : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ
الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما
أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) فبين وجه دلالته من إخباره بهذه الأمور الغائبة السالفة.
وقال : (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ
الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ
قَبْلِ هذا) الآية.
فأما الكلام في
الوجه الثالث : وهو الذي بيناه من الإعجاز الواقع في النظم والتأليف والرصف ، فقد
ذكرنا من هذا الوجه وجوها منها أنا قلنا : إنه نظم خارج عن جميع وجوه النظم
المعتاد في كلامهم ، ومباين لأساليب خطابهم. ومن ادعى ذلك لم يكن له بد من أن يصحح
أنه ليس من قبيل الشعر ، ولا السجع ، ولا الكلام الموزون غير المقفى ، لأن قوما
__________________
من كفار قريش
ادعوا أنه شعر ، ومن الملحدة من يزعم أن فيه شعرا ، ومن أهل الملة من يقول : إنه
كلام مسجّع ، إلا أنه أفصح مما قد اعتادوه من أسجاعهم ، ومنهم من يدعى أنه كلام
موزون ، فلا يخرج بذلك عن أصناف ما يتعارفونه من الخطاب.
فصل :
في نفي الشعر من القرآن
قد علمنا أن الله
تعالى نفى الشعر من القرآن ، وعن النبي صلىاللهعليهوسلم فقال : (وَما عَلَّمْناهُ
الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) وقال في ذم الشعراء : (وَالشُّعَراءُ
يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ. أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ) إلى آخر ما وصفهم به في هذه الآيات فقال :
(وَما هُوَ بِقَوْلِ
شاعِرٍ) وهذا يدل على أن ما حكاه عن الكفار ، من قولهم إنه شاعر ،
وإن هذا شعر ، لا بد من أن يكون محمولا على أنهم نسبوه في القرآن إلى أن الذي
أتاهم به هو من قبيل الشعر الذي يتعارفونه على الأعاريض المحصورة المألوفة ؛ أو
يكون محمولا على ما كان يطلق الفلاسفة على حكمائهم وأهل الفطنة منهم في وصفهم
إياهم بالشعر ، لدقة نظرهم في وجوه الكلام ، وطرق لهم في المنطق.
وإن كان ذلك الباب
خارجا عما هو عند العرب شعر على الحقيقة ، أو يكون محمولا على أنه أطلق من بعض
الضعفاء منهم في معرفة أوزان الشعر ، وهذا أبعد الاحتمالات. فإن حمل على الوجهين
الأولين كان ما أطلقوه صحيحا ؛ وذلك أن الشاعر يفطن لما لا يفطن له غيره.
وإذا قدر على صنعة
الشعر كان على ما دونه في رأيهم وعندهم أقدر فنسبوه إلى ذلك لهذا السبب. فإن زعم
زاعم أنه قد وجد في القرآن شعرا كثيرا ، فمن ذلك ما يزعمون أنه بيت تام ، أو أبيات
تامة ، ومنه ما يزعمون أنه مصراع كقول القائل :
«قد قلت لما حاولوا سلوتي
|
|
هيهات هيهات لما
توعدون»
|
ومما يزعمون أنه
بيت قوله سبحانه :
(وَجِفانٍ كَالْجَوابِ
وَقُدُورٍ راسِياتٍ) . قالوا هو من الرمل من البحر الذي قيل فيه :
«ساكن الريح نطوف ال
|
|
مزن منحلّ
العزالى»
|
__________________
وكقوله : (وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى
لِنَفْسِهِ) كقوله الشاعر من بحر الخفيف :
«كل يوم بشمسه
|
|
وغد مثل أمسه»
|
وكقوله عزوجل : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ
يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) . وكقوله : (وَدانِيَةً
عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً) ويشبعون حركة الميم فيزعمون أنه من الرجز ، وذكر عن أبي
نواس أنه ضمن ذلك شعرا وهو قوله :
وفتية في مجلس
وجوههم
|
|
ريحانهم قد
عدموا التثقيلا
|
«دانية عليهم ظلالها
|
|
وذللت قطوفها
تذليلا»
|
وقوله عزوجل : (وَيُخْزِهِمْ
وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) . زعموا أنه من الوافر كقوله الشاعر :
لنا غتم نسوّقها
غزار
|
|
كأنّ قرون
جلّتها عصيّ
|
وكقوله عزوجل : (أَرَأَيْتَ الَّذِي
يُكَذِّبُ بِالدِّينِ. فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ) ضمنه أبو نواس في شعره ففصل وقال : فذاك الذي. وشعره :
وقرا معلنا
ليصدع قلبي
|
|
والهوى يصدع
الفؤاد السقيما
|
أرأيت الذي يكذب
بالدي
|
|
ن فذاك الذي
يدعّ اليتيما
|
وهذا من الخفيف
كقول الشاعر :
وفؤادي كعهده
بسليمى
|
|
يهوى لم يحل ولم
يتغيّر
|
وكما ضمنه في شعره
من قوله :
«سبحان من سخر هذا لنا
|
|
«حقا» وما كنا له مقرنين»
|
فزاد فيه حتى
انتظم له الشعر ، وكما يقولونه في قوله عزوجل : (وَالْعادِياتِ
ضَبْحاً* فَالْمُورِياتِ قَدْحاً) ونحو ذلك في القرآن كثير كقوله : (وَالذَّارِياتِ ذَرْواً فَالْحامِلاتِ
__________________
وِقْراً.
فَالْجارِياتِ يُسْراً) وهو عندهم شعر من بحر البسيط.
والجواب عن هذه
الدعوى التي ادعوها من وجوه أولها أنّ الفصحاء منهم حين أورد عليهم القرآن ، لو
كانوا يعتقدونه شعرا ، ولم يروه خارجا عن أساليب كلامهم ، لبادروا إلى معارضته ،
لأن الشعر مسخر لهم ، سهل عليهم ، فيه ما قد علمت من التصرف العجيب والاقتدار
اللطيف.
فلما لم نرهم
اشتغلوا بذلك ولا عولوا عليه ، علم أنهم لم يعتقدوا فيه شيئا مما يقدره الضعفاء في
الصنعة ، والمرملون في هذا الشأن. وإن استدراك من يجيء الآن على فصحاء قريش ،
وشعراء العرب قاطبة في ذلك الزمان ، وبلغائهم وخطبائهم وزعمه أنه قد ظفر بشعر في
القرآن ذهب أولئك النفر عنه ، وخفي عليهم شدة حاجاتهم إلى الطعن في القرآن والغض
عنه والتوصل إلى تكذيبه بكل ما قدروا عليه. فلن يجوز أن يخفى على أولئك وأن يجهلوه
ويعرفه من جاء الآن وهو بالجهل حقيق.
وإذا كان كذلك علم
أن الذي أجاب به العلماء عن هذا السؤال شديد ، وهو أنهم قالوا : إن البيت الواحد
وما كان على وزنه لا يكون شعرا ، وأقل الشعر بيتان فصاعدا. وإلى ذلك ذهب أكثر أهل
صناعة العربية من أهل الإسلام. وقالوا أيضا : إن ما كان وزن بيتين ، إلا أنه يختلف
رويهما وقافيتهما ، فليس بشعر. ثم منهم من قال : إن الرجز ليس بشعر أصلا ، لا سيما
إذا كان مشطورا ، أو منهوكا. وكذلك ما كان يقارنه في قلة الأجزاء. وعلى هذا يسقط
السؤال.
ثم يقولون : إن
الشعر إنما يطلق متى قصد القاصد إليه على الطريق الذي يتعمد ويسلك ، ولا يصح أن
يتفق مثله إلا من الشعراء ، دون ما يستوي فيه العاميّ والجاهل ، والعالم بالشعر
واللسان وتصرفه. وما يتفق من كل واحد ، فليس يكتسب اسم الشعر ، ولا صاحبه اسم شاعر
، لأنه لو صح أن يسمى كل من اعترض في كلامه ألفاظ تتزن بوزن الشعر ، أو تنتظم
انتظام بعض الأعاريض ، كان الناس كلهم شعراء. لأن كل متكلم لا ينفك من أن يعرض في
جملة كلام كثير يقوله ما قد يتزن بوزن الشعر ، وينتظم انتظامه ، ألا ترى أن العامي
قد يقول لصاحبه : أغلق الباب وائتني بالطعام ، ويقول الرجل لأصحابه : أكرموا من
لقيتم من تميم. ومتى تتبع الإنسان هذا ، عرف أنه يكثر في تضاعيف الكلام مثله ،
وأكثر منه.
وهذا القدر الذي
يصح فيه التوارد ليس يعده أهل الصناعة سرقة ، إذ لم تعلم فيه حقيقة
__________________
الأخذ ، كقول امرئ
القيس :
وقوفا بها صحبي
على مطيهم
|
|
يقولون لا تهلك
أسى وتجلد
|
ومثل هذا كثير.
فإذا صح مثل ذلك في بعض البيت ، ولم يمتنع التوارد فيه ، فكذلك لا يمتنع وقوعه في
الكلام المنثور اتفاقا غير مقصود إليه. فإذا اتفق ، لم يكن شعرا. وكذلك يمتنع
التوارد على بيتين ، وكذلك يمتنع في الكلام المنثور وقوع البيتين ونحوهما ، فثبت
بهذا أن ما وقع هذا الموقع لم يعد شعرا ، وإنما يعد شعرا ما إذا قصده صاحبه ، تأتي
له ولم يمتنع عليه.
فإذا كان هو مع
قصده ، لا يتأتى له ، وإنما يعرض في كلامه عن غير قصد إليه ، لم يصح أن يقال إنه
شعر ، ولا أن صاحبه شاعر ، ولا يصح أن يقال : إن هذا يوجب أن مثل هذا لو اتفق من
شاعر ، فيجب أن يكون شعرا ؛ لأنه لو قصده لكان يتأتى منه.
وإنما لم يصح ذلك
؛ لأن ما ليس بشعر ، فلا يجوز أن يكون شعرا من أحد. وما كان شعرا من أحد من الناس
، كان شعرا من كل أحد.
ألا ترى أن
السوقيّ قد يقول أسقني الماء يا غلام سريعا؟ قد يتفق ذلك مع الساهي ، ومن لا يقصد
النظم. فأما الشعر إذا بلغ الحد الذي بينّا ، فلا يصح أن يقع إلا من قاصد إليه. أما
الرجز فإنه يعرض في كلام العوام كثيرا. فإذا كان بيتا واحدا فليس ذلك بشعر.
وقد قيل إنّ أقل
ما يكون منه شعرا أربعة أبيات ، بعد أن تتفق قوافيها. ولم يتفق ذلك في القرآن
بحال. فأما دون أربعة أبيات منه ، أو ما يجري مجراه في قلة الكلمات ، فليس بشعر.
وما اتفق في ذلك
من القرآن مختلف الروى. ويقولون إنه متى اختلف الروى خرج من أن يكون شعرا. وهذه
الطرق التي سلكوها في الجواب معتمدة ، أو أكثرها. ولو كان ذلك شعرا ، لكانت النفوس
تتشوف إلى معارضته ، لأن طريق الشعر غير مستصعب على أهل الزمان الواحد ، وأهله
يتقاربون فيه ، أو يضربون فيه بسهم.
فإن قيل : في
القرآن كلام موزون كوزن الشعر ، وإن كان غير مقفى ، بل هو مزاوج ، متساوي الضروب ،
وذلك آخر أقسام كلام العرب. قيل : من سبيل الموزون من كلام ، أن يتساوى أجزاءه في
الطول والقصر والسواكن والحركات. فإن خرج عن ذلك لم يكن موزونا
__________________
كقوله :
«رب أخ كنت به مغتبطا
|
|
أشدّ كفّي بعرى
صحبته
|
تمسكا مني بالود
ولا
|
|
أحسبه يزهد في
ذي أمل
|
تمسكا مني بالود
ولا
|
|
أحسبه بغير
العهد ولا
|
يحول عنه أبدا
|
|
فخاب فيه أملي»
|
وقد علمنا أن هذا
القرآن ليس من هذا القبيل ، بل هذا قبيل غير ممدوح ، ولا مقصود من جملة الفصيح.
وربما كان عندهم مستنكرا ، بل أكثره على ذلك. وكذلك ليس في القرآن من الموزون الذي
وصفناه أولا ، وهو الذي شرطنا فيه التعادل والتساوي في الأجزاء ، غير الاختلاف
الواقع في التقفية ، ويبين ذلك أن القرآن خارج عن الوزن الذي بيّنا ، وتتم فائدته
بالخروج منه. وأما الكلام الموزون فإن فائدته تتم بوزنه.
فصل :
في نفي السجع من القرآن
ذهب أصحابنا كلهم
إلى نفي السجع من القرآن. وذكره أبو الحسن الأشعري في غير موضع من كتبه. وذهب كثير ممن يخالفهم إلى
إثبات السجع في القرآن ، وزعموا أن ذلك مما يبين به فضل الكلام. وأنه من الأجناس
التي يقع بها التفاضل في البيان ، والفصاحة كالتجنيس ، والالتفات وما أشبه ذلك من
الوجوه التي تعرف بها الفصاحة.
وأقوى ما يستدلون
به عليه اتفاق الكل على أن موسى أفضل من هارون عليهماالسلام ، ولمكان السجع قيل في موضع (هارُونَ وَمُوسى) ولما كانت الفواصل في موضع آخر بالواو والنون قبل (مُوسى وَهارُونَ) قالوا : هذا لا يفارق أمر الشعر ؛ لأنه لا يجوز أن يقع في
الخطاب إلا مقصودا إليه.
وإذا وقع غير
مقصود إليه ، كان دون القدر الذي يسمى شعرا. وذلك القدر ما يتفق وجوده من المفحم ،
كما يتفق وجوده من الشاعر. وأما ما في القرآن من السجع فهو كثير ، لا يصح أن يتفق
كله غير مقصود إليه. ويبنون الأمر في ذلك على تحديد معنى السجع.
قال أهل اللغة «هو
موالاة الكلام على وزن واحد». قال ابن دريد : «سجعت الحمامة معناها رددت صوتها». وأنشد :
طربت فأبكتك
الحمام السواجع
|
|
تميل بها ضحوا
غصون نوائع
|
النوائع الموائل ،
من قولهم جائع نائع أي متمايل ضعفا. وهذا الذي يزعمونه غير
__________________
صحيح. ولو كان
القرآن سجعا ، لكان غير خارج عن أساليب كلامهم ، ولو كان داخلا فيها ، لم يقع بذلك
إعجازا. ولو جاز أن يقال هو سجع معجز لجاز لهم أن يقولوا شعر معجز.
وكيف والسجع مما
كان يألفه الكهان من العرب ، ونفيه من القرآن أجدر بأن يكون حجة من نفي الشعر ،
لأن الكهانة تنافي النبوات ، وليس كذلك الشعر.
وقد روي أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال للذين جاءوا وكلموه في شأن الجنين : كيف ندي من لا أكل
ولا شرب ولا صاح. فاستهل : أليس دمه قد يطل؟ فقال : «أسجاعة كسجاعة الجاهلية؟ وفي
بعضها أسجعا كسجع الكهان» ؟ فرأى ذلك مذموما لم يصح أن يكون في دلالته ، والذي
يقدرونه أنه سجع فهو وهم ، لأنه قد يكون الكلام على مثال السجع ، وإن لم يكن سجعا
، لأن ما يكون به الكلام سجعا يختص ببعض الوجوه دون بعض ، لأن السجع من الكلام
يتبع المعنى فيه اللفظ الذي يؤدي السجع ، وليس كذلك ما اتفق مما هو في تقدير السجع
من القرآن. لأن اللفظ يقع فيه تابعا للمعنى. وفصل بين أن ينتظم الكلام في نفسه
بألفاظه التي تؤدي المعنى المقصود فيه ، وبين أن يكون المعنى منتظما دون اللفظ.
ومتى ارتبط المعنى
بالسجع ، كانت إفادة السجع كإفادة غيره. ومتى ارتبط المعنى بنفسه دون السجع ، كان
مستجلبا لتجنيس الكلام دون تصحيح المعنى.
فإن قيل : فقد
يتفق في القرآن ما يكون من القبيلين جميعا ، فيجب أن تمسّوا أحدهما سجعا. قيل :
الكلام في تفصيل هذا خارج عن عرض كتابنا ، وإلا كنا نأتي على فصل فصل من أول
القرآن إلى آخره ، ونبين في الموضع الذي يدعون الاستغناء عن السجع من الفوائد ما
لا يخفى. ولكنه خارج عن غرض كتابنا ، وهذا القدر يحقق الفرق بين الموضعين. ثم إن
سلم لهم مسلم موضعا أو مواضع معدودة ، وزعم أن وقوع ذلك موقع الاستراحة في الخطاب
إلى الفواصل لتحسين الكلام بها ، وهي الطريقة التي يباين القرآن بها سائر الكلام. وزعم
أن الوجه في ذلك أنه من باب الفواصل. أو زعم أن ذلك وقع غير مقصود إليه ، وأن ذلك
إذا اعترض في الخطاب لم يعد سجعا ، على ما قد بينا من القليل من الشعر كالبيت
الواحد ، والمصراع ، والبيتين من الرجز. ونحو ذلك يعرض فيه فلا يقال إنه شعر ؛
لأنه لا يقع مقصودا إليه ، وإنما يقع مغمورا في الخطاب.
فكذلك حال السجع ،
الذي يزعمونه ويقدرونه. ويقال لهم : لو كان الذي في القرآن
__________________
على ما تقدرونه
سجعا ، لكان مذموما مرذولا ؛ لأن السجع إذا تفاوتت أوزانه ، واختلفت طرقه ، كان
قبيحا من الكلام.
وللسجع منهج مرتب
، محفوظ ، وطريق مضبوط ، متى أخل به المتكلم أوقع الخلل في كلامه ، ونسب إلى
الخروج عن الفصاحة. كما أن الشاعر إذا خرج عن الوزن المعهود ، كان مخطئا ، وكان
شعره مرذولا ، وربما أخرجه عن كونه شعرا. وقد علمنا أن بعض ما يدعونه سجعا ،
متقارب الفواصل ، متداني المقاطع ، وبعضها مما يمتد حتى يتضاعف طوله عليه. وترد
الفاصلة على ذلك الوزن الأول بعد كلام كثير. وهذا في السجع غير مرضي ، ولا محمود.
فإن قيل : متى خرج السجع المعتدل إلى نحو ما ذكرتموه ، خرج من أن يكون سجعا. وليس
على المتكلم أن يلتزم بأن يكون كلامه كله سجعا. بل يأتي به طورا ، ثم يعدل عنه إلى
غيره ، ثم قد يرجع إليه.
قيل : متى وقع أحد
مصراعي البيت مخالفا للآخر ، كان تخليطا وخبطا. وكذلك متى اضطرب أحد مصراعي الكلام
المسجع وتفاوت كان خبطا.
وعلم أن فصاحة
القرآن غير مذمومة في الأصل ، فلا يجوز أن يقع فيها نحو هذا الوجه من الاضطراب.
ولو كان الكلام الذي هو في صورة السجع منه ، لما تحيروا فيه ، وكانت الطباع تدعو
إلى المعارضة ؛ لأن السجع غير ممتنع عليهم ، بل هو عادتهم. فكيف تنقص العادة بما
هو نفس العادة. وهو غير خارج عنها ، ولا مميز منها. وقد يتفق في الشعر كلام على
منهاج السجع وليس بسجع عندهم. وذلك نحو قول البحتري :
تشكّى الوجى
والليل ملتبس الدّجى
|
|
عزيزية الأنساب
مرت نقيعها
|
وقوله :
قريب المدى حتى
يكون إلى النّدى
|
|
عدو البنا حتى
يكون معالي
|
ورأيت بعضهم يرتكب
هذا ، فيزعم أنه سجع مداخل ، ونظيره من القرآن قوله تعالى :
(ثُمَّ يَوْمَ
الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ
تُشَاقُّونَ فِيهِمْ) وقوله : (أَمَرْنا مُتْرَفِيها
فَفَسَقُوا فِيها) وقوله : (أَحَبَّ إِلَيْكُمْ
مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي
__________________
سَبِيلِهِ) وقوله : (وَالتَّوْراةَ
وَالْإِنْجِيلَ وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ) وقوله : (إِنِّي وَهَنَ
الْعَظْمُ مِنِّي) ولو كان ذلك عندهم سجعا لم يتحيروا فيه ذلك التحير ، حتى
سماه بعضهم سحرا ، وتصرفوا فيما كانوا يسمونه به ، ويصرفونه إليه ، ويتوهمونه فيه.
وهم في الجملة عارفون بعجزهم عن طريقه ، وليس القوم بعاجزين عن تلك الأساليب
المعتادة عندهم ، المألوفة لديهم ، والذي تكلمنا به في هذا الفصل كلام على جملة
دون التفصيل. ونحن نذكر بعد هذا في التفصيل ، ما يكشف عن مباينة ذلك وجوه السجع.
ومن جنس السجع المعتاد عندهم قول أبي طالب ، لسيف بن ذي يزن : «انبتك منبتا طابت أرومته ، وعزت جرثومته ، وثبت أصله ،
وبسق فرعه ، ونبت زرعه ، في أكرم موطن وأطيب معدن» وما يجري هذا المجرى من الكلام.
والقرآن مخالف
لنحو هذه الطريقة ، مخالفته للشعر ، وسائر أصناف كلامهم الدائر بينهم. ولا معنى
لقولهم إن ذلك مشتق من ترديد الحمامة صوتها على نسق واحد ، وروىّ غير مختلف. لأن
ما جرى هذا المجرى لا يبنى على الاشتقاق وحده ، ولو بني عليه لكان الشعر سجعا ،
لأن رويّه يتفق ولا يختلف ، وتتردد القوافي على طريقة واحدة. وأما الأمور التي
يستريح إليها الكلام ، فإنها تختلف. فربما كان ذلك يسمى قافية ، وذلك إنما يكون في
الشعر. وربما كان ما ينفصل عنده الكلامان يسمى مقاطع السجع. وربما سمي ذلك فواصل.
وفواصل القرآن مما هو مختص بها ، لا شركة بينه وبين سائر الكلام فيها ، ولا تناسب.
وأما ما ذكروه من
تقديم موسى على هارون عليهماالسلام في موضع ، وتأخيره عنه في موضع لمكان السجع ، ولتساوي
مقاطع الكلام ، فليس بصحيح. لأن الفائدة عندنا غير ما ذكروه. وهي أن إعادة ذكر
القصة الواحدة بألفاظ مختلفة تؤدي معنى واحدا من الأمر الصعب الذي تظهر فيه
الفصاحة ، وتتبين فيه البلاغة. وأعيد كثير من القصص في مواضع مختلفة على ترتيبات
متفاوتة ، ونبهوا بذلك على عجزهم عن الإتيان بمثله مبتدأ به ومكررا. ولو كان فيهم
تمكن من المعارضة لقصدوا تلك القصة فعبروا عنها بألفاظ لهم تؤدي معناها ، وتحويها
، وجعلوها بإزاء ما جاء به ، وتوصلوا بذلك إلى تكذيبه وإلى مساواته فيما جاء به.
__________________
كيف وقد قال لهم :
(فَلْيَأْتُوا
بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ) فعلى هذا يكون المقصد بتقديم بعض الكلمات ، وتأخيرها
إظهارا للإعجاز على الطريقين جميعا ، دون التسجيع الذي توهموه. فإن قال قائل :
القرآن مختلط من أول أوزان كلام العرب ، ففيه من جنس خطبهم ورسائلهم وسجعهم وموزون
كلامهم الذي هو غير مقفى. ولكنه أبدع فيه ضربا من الإبداع لبراعته وفصاحته ، قيل :
قد علمنا أن كلامهم ينقسم إلى نظم ، ونثر ، وكلام مقفى غير موزون ، ونظم موزون ،
ليس بمقفى ، كالخطب والسجع ، ونظم مقفى موزون له روىّ ، ومن هذه الأقسام ما هو
سجية الأغلب من الناس ، فتناوله أقرب ، وسلوكه لا يتعذر ، ومنه ما هو أصعب تناولا
، كالموزون عند بعضهم ، أو الشعر عند الآخرين ، وكل هذه الوجوه لا تخرج عن أن يقع
لهم بأحد أمرين : إما بتعمل ، أو بتكلف وتعلم وتصنع ، أو باتفاق من الطبع وقذف من
النفس على اللسان للحاجة إليه.
ولو كان ذلك مما
يجوز اتفاقه من الطبائع ، لم ينفك العالم من قوم يتفق ذلك منهم ويتعرض على ألسنتهم
، وتجيش به خواطرهم. ولا ينصرف عند الكل مع شدة الدواعي إليه. ولو كان طريقه
التعلم لتصنعوه ولتعلموه فالمهلة لهم فسيحة ، والأمد واسع.
وقد اختلفوا في
الشعر كيف اتفق لهم؟ فقد قيل : إنه اتفاق في الأصل غير مقصود إليه على ما يعرض من
أصناف النظام في تضاعيف الكلام ، ثم لما استحسنوه واستطابوه ورأوا أنه تألفه
الأسماع وتقبله النفوس ، تتبعوه من بعد وتعلموه.
وحكى لي بعضهم عن
أبي عمر وغلام ثعلب ، عن ثعلب : أن العرب تعلّم أولادها قول الشعر بوضع غير معقول يوضع
على بعض أوزان الشعر كأنه على وزن : «قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل» ويسمون ذلك
الوضع الميتر ، واشتقاقه من المتر ، وهو الجذب أو القطع ، يقال مترت الحبل ، بمعنى
قطعته أو جذبته. ولم يذكر هذه الحكاية عنهم غيره فيحتمل ما قاله ، وأما ما وقع
السبق إليه فيشبه أن يكون على ما قدمنا ذكره أولا.
وقد يحتمل على قول
من قال : بأن اللغة اصطلاح ، أنهم تواضعوا على هذا الوجه من النظم. وقد يمكن أن
يقال مثله على المذهب الآخر ، وأنهم وقفوا على ما ينصرف إليه
__________________
القول من وجوه
التفاصح ، أو توافقوا هم بينهم على ذلك ، ويمكن أن يقال : إن التواضع وقع على أصل
الباب ، وكذلك التوقيف ، ولم يقع على فنون تصرف الخطاب ، وإن الله تعالى أجرى على
لسان بعضهم من النظم ما أجرى ، وفطنوا لحسنه فتتبعوه من بعد وبنوا عليه وطلبوه
ورتبوا فيه المحاسن التي يقع الاضطراب بوزنها ، وتهش النفوس إليها ، وجمع دواعيهم
وخواطرهم على استحسان وجوه من ترتيبها ، واختيار طرق من تنزيلها.
وعرفهم محاسن
الكلام ودلهم على كل طريقة عجيبة ، ثم أعلمهم عجزهم عن الإتيان بالقرآن ، والقدر
الذي يتناهى إليه قدرهم ، هو ما لم يخرج عن لغتهم ، ولم يشذ من جميع كلامهم. بل قد
عرض في خطابهم ووجدوا أن هذا إنما تعذر عليهم مع التحدي والتقريع الشديد ، والحاجة
الماسة إليه مع علمهم بطريق وضع النظم والنثر.
وتكامل أحوالهم
فيه دل على أنه اختص به ليكون دلالة على النبوة ومعجزة على الرسالة ، ولو لا ذلك
لكان القوم إذا اهتدوا في الابتداء إلى وضع هذه الوجوه التي يتصرف إليها الخطاب
على براعته وحسن انتظامه ، فلأن يقدروا بعد التنبيه على وجهه ، والتحدي إليه أولى
أن يبادروا إليه لو كان لهم إليه سبيل ، فلو كان الأمر على ما ذكره السائل ، لوجب
أن لا يتحيروا في أمرهم ، ولا تدخل عليهم شبهة فيما نابهم ، ولكانوا يسرعون إلى
الجواب ، ويبادرون إلى المعارضة.
ومعلوم من حالهم
أن الواحد منهم يقصد إلى الأمور البعيدة عن الوهم والأسباب التي لا يحتاج إليها ،
فيكثر فيها من شعر ورجز ، ونجد من يعينه على نقله عنه على ما قدمنا ذكره من وصف
الإبل ونتاجها. وكثير من أمرها لا فائدة في الاشتغال به في دين ولا دنيا. ثم كانوا
يتفاخرون باللسن والذلاقة والفصاحة والذرابة ، ويتنافرون فيه. وتجري بينهم فيه
الأسباب المنقولة في الآثار على ما لا يخفى على أهله.
فاستدللنا
بتحيّرهم في أمر القرآن على خروجه عن عادة كلامهم ، ووقوعه موقعا يخرق العادات ،
وهذه سبيل المعجزات ، فبان بما قلنا إن الحروف التي وقعت في الفواصل متناسبة موقع
النظائر التي تقع في الإسجاع ، لا يخرجها عن حدها ولا يدخلها في باب السجع.
وقد بينا أنهم
يذمون كل سجع خرج عن اعتدال الأجزاء ، فكان بعض مصاريعه كلمتين ، وبعضها تبلغ
كلمات ، ولا يرون في ذلك فصاحة ؛ بل يرونه عجزا. فلو رأوا أن ما تلي عليهم من
القرآن سجعا ، لقالوا : نحن نعارضه بسجع معتدل ، فنزيد في الفصاحة على طريقة
القرآن ، ونتجاوز حده في البراعة والحسن ، ولا معنى لقول من قدر أنه ترك السجع
تارة إلى غيره ثم
رجع إليه ؛ لأن ما تخلل بين الأمرين يؤذن بأن وضع الكلام غير ما قدروه من التسجيع
لأنه لو كان من باب السجع ، لكان أرفع نهاياته وأبعد غاياته ، ولا بد لمن جوز
السجع فيه وسلك ما سلكوه من أن يسلم ما ذهب إليه النظام ، وعباد بن سلمان ، وهشام
القرظي ، ويذهب مذهبهم في أنه ليس في نظم القرآن وتأليفه إعجاز ، وأنه يمكن
معارضته ، وإنما صرفوا عنه ضربا من الصرف ، ويتضمن كلامه تسليم الخبط في طريقة
النظم ، وأنه منتظم من فرق شتى ، ومن أنواع مختلفة ينقسم إليها خطابهم ولا يخرج
عنها ، ويستهين ببديع نظمه وعجيب تأليفه الذي وقع التحدي إليه ، وكيف يعجزهم
الخروج عن السجع والرجوع إليه. وقد علمنا عادتهم في خطبهم وكلامهم ، أنهم كانوا لا
يلزمون أبدا طريقة السجع والوزن ، بل كانوا يتصرفون في أنواع مختلفة ، فإذا ادّعوا
على القرآن مثل ذلك ، لم يجدوا فاصلة بين نظمي الكلامين.
فصل :
في ذكر البديع من الكلام
إن سأل سائل فقال
: «هل يمكن أن يعرف إعجاز القرآن من جهة ما يتضمنه من البديع؟».
وقيل : ذكر أهل
الصنعة ومن صنّف في هذا المعنى من صفة البديع ألفاظا نحن نذكرها ، ثم نبين ما
سألوا عنه ، ليكون الكلام واردا على أمر مبيّن مقرر ، وباب مصور.
ذكروا أن من
البديع في القرآن قوله عز ذكره : (وَاخْفِضْ لَهُما
جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) وقوله : (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ
الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) وقوله : (وَاشْتَعَلَ
الرَّأْسُ شَيْباً) وقوله : (وَآيَةٌ لَهُمُ
اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ) وقوله : (أَوْ يَأْتِيَهُمْ
عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ) وقوله : (نُورٌ عَلى نُورٍ) .
وقد يكون البديع
من الكلمات الجامعة الحكيمة كقوله : (وَلَكُمْ فِي
الْقِصاصِ حَياةٌ) وفي الألفاظ الفصيحة كقوله : (فَلَمَّا
اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا) وفي الألفاظ الإلهية كقوله : (وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ) وقوله : (وَما بِكُمْ مِنْ
نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) وقوله : (لِمَنِ الْمُلْكُ
الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) .
ويذكرون من البديع
قول النبي صلىاللهعليهوسلم : (خير الناس رجل ممسك عنان فرسه في سبيل
__________________
الله ، كلما سمع
هيعة طار إليها) . وقوله : (ربنا تقبل توبتي واغسل حوبتي) وقوله : (غلب عليكم داء الأمم قبلكم ؛ الحسد والبغضاء ،
وهي الحالقة ، حالقة الدين لا حالقة الشّعر) . وكقوله : (الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة) .
وكقوله : (وهل يكب
الناس على مناخرهم في نار جهنم إلا حصائد ألسنتهم) .
وكقوله : (إن مما
ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يلمّ) .
وكقول أبي بكر
الصديق رضي الله عنه في كلام له قد نقلناه بعد هذا على وجهه ،
وقوله لخالد بن الوليد : «احرص على الموت توهب لك الحياة».
وقوله : (فر من
الشرف يتبعك الشرف) وكقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم الله وجهه في كتابه إلى ابن عباس وهو عامله على البصرة : «أرغب راغبهم ،
__________________
واحلل عقدة الخوف
عنهم» وقوله حين سئل عن قول النبي صلىاللهعليهوسلم : «إنما قال ذلك والدين في قلّ ، فأما وقد اتسع نطاق
الإسلام فكل امرئ وما اختار».
وسأل علي رضي الله
عنه بعض كبراء فارس عن أحمد ملوكهم عندهم ، فقال : «لأردشير فضيلة السبق ، غير أن
أحمدهم أنو شروان» قال : «فأي أخلاقه كان أغلب عليه؟» قال : «الحلم والإناءة».
فقال علي رضي الله
عنه : «هما توأمان ينتجهما علوّ الهمة». وقال : «قيل كل امرئ ما يحسن» وقال : «العلم
قفل ومفتاحه المسألة».
وكتب خالد بن
الوليد إلى مرازبة فارس : «أما بعد ، فالحمد لله الذي فض خدمتكم ، وفرق كلمتكم».
والخدمة الحلقة المستديرة ؛ ولذلك قيل للخلاخيل خدام.
وقال الحجاج «دلوني
على رجل سمين الأمانة» ولما عقدت الرئاسة لعبد الله بن وهب الراسبي على الخوارج
أرادوه على الكلام فقال : «لا خير في الرأي الفطير» وقال : «دعوا الرأي يغب». وقال
أعرابي في شكر نعمة : «ذاك عنوان نعمة الله عزوجل». ووصف أعرابي قوما فقال : «إذا اصطفوا سفرت بينهم السهام
، وإذا تصافحوا بالسيوف قعد الحمام» وسئل أعرابي عن رجل فقال : «صفرت عياب الود
بيني وبينه بعد امتلائها واكفهرت وجوه كانت بمائها». وقال آخر : «من ركب ظهر
الباطل نزل دار الندامة».
وقيل لرؤبة : «كيف
خلفت ما وراءك»؟ فقال : «التراب يابس ، والمال عابس».
ومن البديع في
الشعر طرق كثيرة قد نقلنا منها جملة لنستدل بها على ما بعدها ، فمن ذلك قول امرئ
القيس :
وقد أغتدي
والطير في وكناتها
|
|
بمنجرد قيد
الأوابد هيكل
|
قوله : «قيد
الأوابد» عندهم من البديع ، ومن الاستعارة. ويرونه من الألفاظ الشريفة. وعنى بذلك
أنه إذا أرسل هذا الفرس على الصيد ، صار قيدا لها ، وكانت بحالة المقيد من جهة
سرعة إحضاره. واقتدى به الناس واتبعه الشعراء ، فقيل : قيد النواظر ، وقيد الألحاظ
، وقيد الكلام ، وقيد الحديث ، وقيد الرهان. وقال الأسود بن يعفر :
بمقلص عنز جهير
شدة
|
|
قيد الأوابد
والرهان جواد
|
__________________
وقال أبو تمام :
لها منظر قيد
الأوابد لم يزل
|
|
يروح ويغدو في
خفارته الحب
|
وقال آخر :
ألحاظه قيد عيون
الورى
|
|
فليس طرف يتعداه
|
وقال آخر : «قيد
الحسن عليه الحدقا».
وذكر الأصمعي وأبو عبيدة وحماد وقبلهم أبو عمرو أنه أحسن في هذه اللفظة ، وأنه أتبع
فيها فلم يلحق ، وذكروه في باب الاستعارة البليغة ، وسماها بعض أهل الصنعة باسم
آخر ، وجعلوها من باب الإرداف ، وهو أن يريد الشاعر دلالة على معنى فلا يأتي
باللفظ الدال على ذلك المعنى ، بل بلفظ هو تابع له وردف ، قالوا ومثله قوله : «نئوم
الضحى لم تنتطق عن تفضل» وإنما أراد وترفهها بقوله : «نئوم الضحى» ومن هذا الباب
قول الشاعر :
بعيدة مهوى
القرط إما لنوفل
|
|
أبوها وإما عبد
شمس وهاشم
|
وإنما أراد أن يصف
طول جيدها فأتى بردفه ، ومن ذلك قول امرئ القيس : «وليل كموج البحر أرخى سدوله» ، وذلك من الاستعارة
المليحة ، ويجعلون من هذا القبيل ما قدمنا ذكره من القرآن (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) (وَاخْفِضْ لَهُما
جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) ومما يعدونه من البديع التشبيه الحسن كقول امرئ القيس :
كأن عيون الوحش
حول خبائنا
|
|
وأرحلنا الجزع
الذي لم يثقب
|
وقوله :
كأن قلوب الطير
رطبا ويابسا
|
|
لدى وكرها
العناب والحشف البالي
|
واستبدعوا تشبيهه
شيئين بشيئين على حسن تقسيم ، ويزعمون أن أحسن ما وجد في هذا للمحدثين قول بشار :
كأن مثار النقع
فوق رءوسنا
|
|
وأسيافنا ليل
تهاوى كواكبه
|
وقد سبق امرؤ
القيس إلى صحة التقسيم في التشبيه ، ولم يتمكن بشار إلا من تشبيه إحدى الجملتين
بالأخرى دون صحة التقسيم والتفصيل. وكذلك عدّوا من البديع قول امرئ القيس في أذني
الفرس :
وسامعتان يعرف
العنق فيهما
|
|
كسامعتي مذعورة
وسط ديرب
|
واتبعه طرفة فقال فيه :
وسامعتان يعرف
العنق فيهما
|
|
كسامعتي شاة
بحومل مفرد
|
ومثله قول امرئ
القيس في وصف الفرس :
وعينان كالماويتين
ومحجر
|
|
إلى سند مثل
الصفيح المنصب
|
وقال طرفة في وصف
عيني ناقته :
وعينان
كالماويتين استكنتا
|
|
بكهفي حجابي
صخرة قلت مورد
|
ومن البديع في
التشبيه قول امرئ القيس :
له أيطلا ظبى
وساقا نعامة
|
|
وإرخاء سرحان
وتقريب تتفل
|
وذلك في تشبيه
أربعة أشياء بأربعة أشياء أحسن فيها. ومن التشبيه الحسن في القرآن قوله تعالى : (وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي
الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) وقوله تعالى : (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ
مَكْنُونٌ) ومواضع نذكرها بعد هذا. ومن البديع في الاستعارة قول امرئ
القيس :
وليل كموج البحر
أرخى سدوله
|
|
عليّ بأنواع
الهموم ليبتلي
|
فقلت له لما
تمطى بصلبه
|
|
وأردف إعجازا
وناء بكلكل
|
__________________
وهذه كلها
استعارات أتى بها في ذكر طول الليل ، ومن ذلك قول النابغة :
وصدر أراح الليل
عازب همه
|
|
تضاعف فيه الحزن
من كل جانب
|
فاستعاره من إراحة
الراعي إبله إلى مواضعها التي تأوى إليها بالليل وأخذ منه ابن الدمينة فقال :
أقضي نهاري
بالحديث وبالمنى
|
|
ويجمعني والهم
والليل جامع
|
ومن ذلك قول زهير :
صحا القلب عن
ليلي وأقصر باطله
|
|
وعرى أفراس
الصبا ورواحله
|
ومن ذلك قول امرئ
القيس :
سموت إليها بعد
ما نام أهلها
|
|
سمو حباب الماء
حالا على حال
|
وأخذه أبو تمام
فقال : «سمو عباب الماء جاشت غواربه» ، وإنما أراد امرؤ القيس إخفاء شخصه ، ومن
ذلك قوله : «كأني وأصحابي على قرن أعفرا» يريد أنهم غير مطمئنين.
ومن ذلك ما كتب
إلى الحسن بن عبد الله بن سعيد قال : أخبرني أبي ، قال أخبرنا عسل بن ذكوان ،
أخبرنا أبو عثمان المازني ، قال سمعت الأصمعي يقول : أجمع أصحابنا أنه لم يقل أحسن
ولا أجمع من قول النابغة :
فإنك كالليل
الذي هو مدركي
|
|
وإن خلت أن
المنتأى عنك واسع
|
قال الحسن بن عبد
الله : وأخبرنا محمد بن يحيى ، أخبرنا عون بن محمد الكندري ، أخبرنا قعنب بن محرز
قال : سمعت الأصمعي يقول : سمعت أبا عمرو يقول : كان زهير يمدح السوق ، ولو ضرب
على أسفل قدميه مائتا دقل ، على أن يقول كقول النابغة :
فإنك كالليل
الذي هو مدركي
|
|
وإن خلت أن
المنتأى عنك واسع
|
لما قال يريد أنه
سلطانه كالليل يصل إلى كل مكان ، واتبعه الفرزدق فقال :
لو حملتني الريح
ثم طلبتني
|
|
لكنت كشيء
أدركتني مقادره
|
__________________
فلم يأت بالمعنى
ولا اللفظ على ما سبق إليه النابغة ، ثم أخذه الأخطل فقال :
وإن أمير
المؤمنين وفعله
|
|
لكالدهر لا عار
بما فعل الدهر
|
وقد روي نحو هذا
عن النبي صلىاللهعليهوسلم : (نصرت بالرعب ، وجعل رزقي تحت ظل رمحي ، وليدخلن هذا
الدين على ما دخل عليه الليل) . وأخذه علي بن ... فقال :
وما لامرئ
حاولته عنك مهرب
|
|
ولو كان في جوف
السماء المطالع
|
بل هارب لا
يهتدي لمكانه
|
|
ظلام ولا ضوء من
الصبح طالع
|
ومثله قول سلم
الخاسر :
فأنت كالدهر
مبثوثا حبائله
|
|
والدهر لا ملجأ
منه ولا هرب
|
ولو ملكت عنان الريح
أصرفه
|
|
في كل ناحية ما
فاتك الطلب
|
فأخذه البحتري فقال :
ولو أنهم ركبوا
الكواكب لم يكن
|
|
ينجيهم من خوف
بأسك مهرب
|
ومن بديع
الاستعارة قول زهير :
فلما وردن الماء
زرقا حمامه
|
|
وضعن عصى الحاضر
المتخيم
|
وقول الأعشى :
وإن عناق العيس
سوف يزوركم
|
|
ثناء على
إعجازهن معلق
|
ومنه أخذ نصيب
فقال :
فعاجوا فاثنوا
بالذي أنت أهله
|
|
ولو سكتوا أثنت
عليك الحقائب
|
ومن ذلك قول تأبط
شرا :
فخالط سهل الأرض
لم يكدح الصفا
|
|
به كدحة والموت
خزيان ينظر
|
__________________
ومن الاستعارة في
القرآن كثير كقوله : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ
لَكَ وَلِقَوْمِكَ) يريد ما يكون الذكر عنه شرفا. وقوله : (صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ
اللهِ صِبْغَةً) قيل دين الله أراد وقوله :
(اشْتَرَوُا
الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) ومن البديع عندهم الغلو كقول النمر بن تولب :
أبقى الحوادث
والأيام من نمر
|
|
إسناد سيف قديم
أثره بادي
|
تظل تحفر عنه إن
ضربت به
|
|
بعد الذراعين
والقدين والهادي
|
وكقول النابغة :
تقدّ السّلوقيّ
المضاعف نسجه
|
|
ويوقدن بالصّفاح
نار الحباحب
|
وكقول عنترة :
فازورّ من وقع
القنا بلبانه
|
|
وشكا إليّ بعبرة
وتحمحم
|
وكقول أبي تمام :
لو يعلم الركن
من قد جاء يلثمه
|
|
لخرّ يلثم منه
موطئ القدم
|
وكقول البحتري :
ولو أن مشتاقا
تكلف فوق ما
|
|
في وسعه لمشى
إليك المنبر
|
ومن هذا الجنس في
القرآن : (يَوْمَ نَقُولُ
لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) وقوله : (إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ
مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً) وقوله : (تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ
الْغَيْظِ) .
ومما يعدونه من
البديع المماثلة وهو ضرب من الاستعارة ، وذلك أن يقصد الإشارة إلى معنى فيضع
ألفاظا تدل عليه. وذلك المعنى بألفاظه مثال للمعنى الذي قصد الإشارة إليه
__________________
نظيره من المنثور
: أن يزيد بن الوليد : بلغه أن مروان بن محمد يتلكأ عن بيعته فكتب
إليه : «أما بعد ، فإني أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى ، فاعتمد على أيتهما شئت» وكنحو
ما كتب به الحجاج إلى المهلّب : «فإن أنت فعلت ذاك وإلا أشرعت إليك الرمح» ،
فأجابه المهلّب : (فإن أشرع الأمير الرمح قلبت إليه ظهر المجنّ) وكقول زهير :
ومن يعص أطراف
الزّجاج فإنه
|
|
يطيع العوالى
ركّبت كلّ لهذم
|
وكقول امرئ القيس
:
وما ذرفت عيناك
إلا لتضربي
|
|
بسهميك في أعشار
قلب مقتّل
|
وكقول عمر بن معديكرب :
فلو أنّ قومي
أنطقتني رماحهم
|
|
نطقت ولكنّ
الرماح أجرّت
|
وكقول القائل :
بني عمّنا لا
تذكروا الشعر بعد ما
|
|
دفنتم بصحراء
الغمير القوافيا
|
وكقول الآخر :
أقول وقد شدوا
لساني بنسعة
|
|
أمعشر تيم
أطلقوا عن لسانيا
|
ومن هذا الباب في
القرآن كقوله : (فَما أَصْبَرَهُمْ
عَلَى النَّارِ) وكقوله (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) قال الأصمعي : «أراد البدن». قال : وتقول العرب : «فدى لك ثوباي يريد
نفسه».
وأنشد :
ألا أبلغ أبا
حفص رسولا
|
|
فدا لك من أخي
ثقة إزاري
|
ويرون من البديع
أيضا ما يسمونه المطابقة ، وأكثرهم على أن معناها أن يذكر الشيء وضده ، كالليل
والنهار ، والسواد والبياض ، وإليه ذهب الخليل بن أحمد والأصمعي ،
__________________
ومن المتأخرين ؛
عبد الله بن المعتز. وذكر ابن المعتز من نظائره من المنثور ، ما قاله بعضهم : «أتيناك
لتسلك بنا سبيل التوسع ، فأدخلتنا في ضيق الضمان» ونظيره من القرآن :
(وَلَكُمْ فِي
الْقِصاصِ حَياةٌ) وقوله : (يُخْرِجُ الْحَيَّ
مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) وقوله : (يُولِجُ اللَّيْلَ
فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) ومثله كثير جدا.
وكقول النبي صلىاللهعليهوسلم للأنصار : «إنكم تكثرون عند الفزع ، وتقلون عند الطمع»
وقال آخرون : بل المطابقة أن يشترك معنيان بلفظة واحدة ، وإليه ذهب قدامة بن جعفر
الكاتب ، فمن ذلك قول الأفوه الأودي :
وأقطع الهواجل
مستأنسا
|
|
بهوجل مستأنس
عنتريس
|
عنى بالهوجل الأول
الأرض وبالثاني الناقة. ومثله قول زياد الأعجم :
ونبّئتهم
يستنصرون بكاهل
|
|
وللّؤم فيهم
كاهل وسنام
|
ومثله قول أبي
داود :
عهدت لها منزلا
دائرا
|
|
وآلا على الماء
يحملن آلا
|
فالآل الأول :
أعمدة الخيام تنصب على البئر للسقي ، والآل الثاني : السراب. وليس عنده قول من قال
المطابقة ، إنما تكون باجتماع الشيء وضده بشيء. ومن المعنى الأول قول الشاعر :
أهين لهم نفسي
لأكرمها بهم
|
|
ولن تكرم النّفس
التي لا تهينها
|
ومثله قول امرئ
القيس :
وتردي على صمّ
صلاب ملاطس
|
|
شديدات عقد
ليّنات متان
|
وكقول النابغة :
ولا يحسبون
الخير لا شرّ بعده
|
|
ولا يحسبون
الشرّ ضربة لازب
|
__________________
وكقول زهير وقد
جمع فيه طباقين :
بعزمة مأمور
مطيع وآمر
|
|
مطاع فلا يلفى
لحزمهم مثل
|
وكقول الفرزدق :
والشيب ينهض في
الشباب كأنه
|
|
ليل يصيح
بجانبيه نهار
|
ومما قيل فيه ثلاث
تطبيقات قول جرير :
وباسط خير فيكم
بيمينه
|
|
وقابض شر عنكم
بشماليا
|
وكقول رجل من
بلعنبر :
يجزون من ظلم
أهل الظلم مغفرة
|
|
ومن إساءة أهل
السوء إحسانا
|
وروي عن الحسن بن علي رضي الله عنهما أنه تمثل بقول القائل :
فلا الجود يفنى
المال والجدّ مقبل
|
|
ولا البخل يبقى
المال والجدّ مدبر
|
وكقول الآخر :
فسرّي كإعلاني
وتلك سجيّتي
|
|
وظلمة ليلي مثل
ضوء نهاريا
|
وكقول قيس بن الخطيم :
إذا أنت لم تنفع
فضرّ ؛ فإنما
|
|
يرجّى الفتى
كيما يضرّ وينفعا
|
وكقول السموأل :
وما ضرنا أنا
قليل وجارنا
|
|
عزيز وجار
الأكثرين ذليل
|
فهذا باب يرونه من
البديع.
وباب آخر وهو «التجنيس»
؛ ومعنى ذلك : أن تأتي بكلمتين متجانستين ، فمنه ما تكون الكلمة في تجانس الأخرى
في تأليف حروفها ، وإليه ذهب الخليل.
ومنهم من زعم أن
المجانسة أن تشترك اللفظتان على جهة الاشتقاق كقوله عزوجل : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ) وكقوله : (وَأَسْلَمْتُ مَعَ
سُلَيْمانَ) وكقوله : (يا أَسَفى عَلى
يُوسُفَ) وكقوله : (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا
إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ
__________________
الْأَمْنُ) وكقوله : (وَهُمْ يَنْهَوْنَ
عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) .
وكقول النبي صلىاللهعليهوسلم : (أسلم سالمها الله ، وغفار غفر الله لها ، وعصيّة عصت
الله. ورسوله) . وكقوله : (الظلم ظلمات يوم القيامة) وقوله : (لا يكون ذو الوجهين وجيها عند الله).
* وكتب بعض الكتاب
: (العذر مع التعذر واجب ، فرأيك فيه) وقال معاوية لابن عباس : «ما لكم يا بني هاشم تصابون في أبصاركم؟» فقال : «كما
تصابون في بصائركم».
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : «هاجروا ولا تهجروا» ومن ذلك قول
قيس ابن عاصم :
ونحن حفرنا
الحوفزان بطعنة
|
|
كسته نجيعا من
دم الجوف أشكلا
|
وقال آخر : «أمل
عليها بالبلى الملوان» .
وقال الآخر :
وذاكم أن ذل
الجار حالفكم
|
|
وإن أنفكم لا
تعرف الأنفا
|
وكتب إلى بعض
مشايخنا قال : أنشدنا الأخفش عن المبرد عن التوزي :
__________________
وقالوا : حمامات
فحمّ لقاؤها
|
|
وطلح فزيرت
والمطىّ طلوح
|
عقاب بأعقاب من
النأى بعد ما
|
|
جرت نية تنسى
المحبّ طروح
|
وقال صحابي :
هدهد فوق بانة
|
|
هدى وبيان
بالنجاح يلوح
|
وقالوا : دم دامت
مواثيق عهده
|
|
ودام لنا حسن
الصفاء صريح
|
وقال آخر : «أقبلن
من مصر يبارين البرى».
وقال القطامي :
ولما ردّها في
الشّول شالت
|
|
بذيّال يكون لها
لفاعا
|
وقد يكون التجنيس
بزيادة حرف ؛ أو ما يقارب ذلك ، كقول البحتري :
هل لما فات من
تلاف تلاف
|
|
أم لشاك من
الصبابة شاف؟
|
وقال ابن مقبل :
يمشين هيل
النّقا مالت جوانبه
|
|
ينهال حينا
وينهاه الثّرى حينا
|
وقال زهير :
هم يضربون حييك
البيض إذ لحقوا
|
|
لا ينكلون إذا
ما استلحموا وحموا
|
ومن ذلك قول أبي
تمام :
يمدون من أيد
عواص عواصم
|
|
تصول بأسياف
قواض قواضب
|
وأبو نواس يقصد في
مصراعى مقدمات شعره هذا الباب كقوله :
ألا دارها
بالماء حتى تلينها
|
|
فلن تكرم
الصهباء حتى تهينها
|
وكذلك قوله :
ديار نوار ما
ديار نوار
|
|
كسونك شجوا هنّ
منه عوار
|
وكقول ابن المعتز :
سأثني على عهد
المطيرة والقصر
|
|
وأدعو لها
بالساكنين وبالقطر
|
وكقوله أيضا :
هي الدار إلا
أنها منهم قفر
|
|
وأنّي بها ثاو
وأنهم سفر
|
وكقوله :
للأمانيّ حديث [قد]
يقر
|
|
ويسوء الدهر من
قد يسر
|
__________________
وكقول المتنبي :
وقد أراني
الشباب الرّوح في بدني
|
|
وقد أراني
المشيب الرّوح في بدلي
|
وقد قيل إن من هذا
القبيل قوله عزوجل : (خُلِقَ الْإِنْسانُ
مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ) وقوله تعالى : (قُلِ اللهَ أَعْبُدُ
مُخْلِصاً لَهُ دِينِي. فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ) .
ويعدون من البديع
المقابلة ، وهي أن يوفق بين معان ونظائرها ، والمضاد بضده ، وذلك مثل قول النابغة الجعدي :
فتى تم فيه ما
يسرّ صديقه
|
|
على أنّ فيه ما
يسوء الأعاديا
|
وقال تأبط شرا :
أهزّ به في ندوة
الحي عطفه
|
|
كما هزّ عطفي
بالهجان الأوارك
|
وكقول الآخر :
وإذا حديث ساءني
لم أكتئب
|
|
وإذا حديث سرّني
لم أشرز
|
وكقول الآخر :
وذي إخوة قطّعت
أرحام بينهم
|
|
كما تركوني
واحدا لا أخاليا
|
ونظيره من القرآن (ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ
فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ. ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ
مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) .
ويعدون من البديع «الموازنة»
، وذلك كقول بعضهم : «اصبر على حرّ اللقا ومضض النزال وشدة المصاع».
وكقول امرئ القيس
:
سليم الشّطا عبل
الشّوى شنج النّسا
|
|
له حجبات مشرفات
على الفال
|
ونظيره من القرآن
: (وَالسَّماءِ ذاتِ
الْبُرُوجِ. وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ. وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) .
ويعدون من البديع
المساواة ، وهي أن يكون اللفظ مساويا للمعنى ، لا يزيد عليه ولا
__________________
ينقص عنه ، وذلك
يعد من البلاغة ، وذلك كقول زهير :
ومهما تكن عند
امرئ من خليقة
|
|
وإن خالها تخفى
على الناس تعلم
|
وكقول جرير :
فلو شاء قومي
كان حلمي فيهم
|
|
وكان على جهّال
أعدائهم جهلي
|
وكقول الآخر :
إذا أنت لم تقصر
عن الجهل والخنا
|
|
أصبت حليما أو
أصابك جاهل
|
وكقول الهزلي :
فلا تجزعن من
سنّة أنت سرتها
|
|
وأوّل راض سنة
من يسيرها
|
وكقول الآخر :
فإن هم طاوعوك
فطاوعيهم
|
|
وإن عاصوك فاعصي
من عصاك
|
ونظير ذلك في
القرآن كثير .. ومما يعدّونه من البديع «الإشارة» ؛ وهو اشتمال اللفظ القليل على
المعاني الكثيرة. وقال بعضهم في وصف البلاغة : لمحة دالة. ومن ذلك قول طرفة :
فظل لنا يوم
لذيذ بنعمة
|
|
فقل في مقيل نحسه
متغيّب
|
وكقول زيد الخيل :
فخيبة من يخيب
على غنيّ
|
|
وباهلة بن أعصر
والرّباب
|
ونظيره من القرآن (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ
الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى) ومواضع كثيرة.
ويعدون من البديع
المبالغة والغلو ، والمبالغة تأكيد معاني القول وذلك كقول الشاعر :
ونكرم جارنا ما
كان فينا
|
|
ونتبعه الكرامة
حيث مالا
|
__________________
ومن ذلك قول الآخر
:
وهم تركوكم أسلح
من حبارى
|
|
رأت صقرا وأشرد
من نعام
|
فقوله : رأت صقرا
مبالغة ، ومن الغلو قول أبي نواس :
توهّمتها في
كأسها فكأنما
|
|
توهمت شيئا ليس
يدركه العقل
|
فما يرتقي
التكييف فيها إلى مدى
|
|
يحدّ به إلا ومن
قبله قبل
|
وقول زهير :
لو كان يقعد فوق
الشمس من كرم
|
|
قوم بأوّلهم أو
مجدهم قعدوا
|
وكقول النابغة :
بلغنا السماء
مجدنا وسناؤنا
|
|
وإنا لنرجو فوق
ذلك مظهرا
|
وكقول الخنساء :
وما بلغت كفّ
امرئ متناول
|
|
بها المجد إلا
حيثما نلت أطول
|
وما بلغ المهدون
في القول مدحة
|
|
وإن أطنبوا إلا
الذي فيك أفضل
|
وقول الآخر :
له همم لا منتهى
لكبارها
|
|
وهمته الصغرى
أجلّ من الدّهر
|
له راحة لو أن
معشار جودها
|
|
على البرّ صار
البرّ أندى من البحر
|
ويرون من البديع «الإيغال»
في الشعر خاصة ، فلا يطلب مثله في القرآن إلا في الفواصل. كقول امرئ القيس :
كأن عيون الوحش
حول خبائنا
|
|
وأرحلنا الجزع
الذي لم يثقّب
|
وقد أوغل بالقافية
في الوصف فأكد التشبيه بها. والمعنى قد يستقبل دونها.
ومن البديع عندهم «التوشيح»
وهو أن يشيد أول البيت بقافيته ، وأول الكلام بآخره ، كقول البحتري :
فليس الذي
حلّلته بمحلل
|
|
وليس الذي
حرّمته بحرام
|
ومثله في القرآن :
(فَمَنْ تابَ مِنْ
بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ) ومن ذلك
__________________
رد عجز الكلام على
صدره ، كقول الله عزوجل : (انْظُرْ كَيْفَ
فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ
تَفْضِيلاً) وكقوله : (لا تَفْتَرُوا عَلَى
اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ ، وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى) ومن هذا الباب قول القائل :
وإن لم يكن إلّا
تعلّل ساعة
|
|
قليلا فإني نافع
لي قليلها
|
وكقول جرير :
سقى الرّمل جون
مستهل غمامه
|
|
وما ذاك إلا حبّ
من حلّ بالرمل
|
وكقول الآخر :
يود الفتى طول
السلامة والغنى
|
|
فكيف يرى طول
السّلامة يفعل
|
وكقول أبي صخر الهذلي :
عجبت لسعي الدهر
بيني وبينها
|
|
فلما انقضى ما
بيننا سكن الدهر
|
وكقول الآخر :
أصد بأيدي العيس
عن قصد أرضها
|
|
وقلبي إليها
بالمودّة قاصد
|
وكقول عمرو بن
معدي كرب :
إذا لم تستطع
شيئا فدعه
|
|
وجاوزه إلى ما
تستطيع
|
ومن البديع «صحة
التقسيم» ، ومن ذلك قول نصيب :
فقال فريق القوم
: لا وفريقهم
|
|
نعم ، وفريق قال
: ويحك ما ندري
|
وليس في أقسام
الجواب أكثر من هذا. وكقول الآخر :
فكأنما فيه نهار
ساطع
|
|
وكأنه ليل عليها
مظلم
|
وقول المقفع
الكندي :
وإن يأكلوا لحمي
وفرت لحومهم
|
|
وإن يهدموا مجدي
بنيت لهم مجدا
|
وإن ضيّعوا غيبي
حفظت غيوبهم
|
|
وإن هم هووا
غيّي هويت لهم رشدا
|
وإن زجروا طيرا
بنحس تمرّ بي
|
|
زجرت لهم طيرا
تمر بهم سعدا
|
وكقول عروة بن
حزام :
بمن لو رآه
غائبا لفديته
|
|
ومن لو رآني
غائبا لفداني
|
__________________
ونحوه قول الله عزوجل : (اللهُ وَلِيُّ
الَّذِينَ آمَنُوا ، يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ
كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى
الظُّلُماتِ) ونحوه صحة التفسير كقول القائل :
ولي فرس للحلم
بالحلم ملجم
|
|
ولي فرس للجهل
بالجهل مسرج
|
ومن البديع
التكميل والتتميم كقول نافع بن خليفة :
رجال إذا لم
يقبلوا الحق منهم
|
|
ويعطوه عادوا
بالسيوف القواطع
|
وإنما تم جودة
المعنى بقوله : ويعطوه ، وذلك كقول الله عزوجل (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ
عِلْمُ السَّاعَةِ) إلى آخر الآية ثم قال (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ
خَبِيرٌ) .
ومن البديع «الترصيع»
وذلك من ألوان منها : قول امرئ القيس :
مخشّ مجشّ مقبل
مدبر معا
|
|
كتيس ظباء
الحلّب في العدوان
|
ومن ذلك كثير من
مقدمات أبي نواس :
يا منّة امتنّها
السّكر
|
|
ما ينقضي منّي
لها الشكر
|
وكقوله ، وقد
ذكرناه قبل هذا :
ديار نوار ما
ديار نوار
|
|
كسونك شجوا هنّ
منه عوار
|
ومن ذلك : «الترصيع»
مع التجنيس كقول ابن المعتز :
ألم نجزع على
الربع المحيل
|
|
وأطلال وآثار
محول
|
ونظيره من القرآن
كقوله : (إِنَّ الَّذِينَ
اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ
مُبْصِرُونَ. وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ) وقوله : (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ
رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ. وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ) وكقوله : (وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ
لَشَهِيدٌ. وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) وكقوله : (وَالطُّورِ. وَكِتابٍ
مَسْطُورٍ) وقوله : (وَالسَّابِحاتِ
سَبْحاً. فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً) وقد أولع الشعراء بنحو هذا فأكثروا فيه ، ومنهم من اقتنع
بالترصيع في
__________________
بعض أطراف الكلام
، ومنهم من بنى كلامه عليه كقول ابن الرومي :
أبدانهن وما لبس
|
|
ن من الحرير معا
حرير
|
أردانهنّ وما مس
|
|
ن من العبير معا
عبير
|
وكقوله :
فلراهب أن لا
يريب أمانه
|
|
ولراغب أن لا
يريث نجاحه
|
ومما يقارب
الترصيع ، ضرب يسمى «المضارعة» وذلك كقول الخنساء :
حامي الحقيقة
محمود الخليقة مه
|
|
ديّ الطريقة
نفّاع وضرّار
|
جواب قاصية
جزّاز ناصية
|
|
عقّاد ألوية
للخيل جرّار
|
ومن البديع باب : «التكافؤ»
وذلك قريب من «المطابقة» كقول المنصور : «لا تخرجوا من عز الطاعة إلى ذل المعصية»
وقول عمر بن ذر :
«إنا لم نجد لك
إذا عصيت الله فينا خيرا من أن نطيع الله فيك».
ومنه قول بشار :
إذا أيقظتك حروب
العدا
|
|
فنبه لها عمرا
ثم نم
|
ومن البديع باب «التعطف»
كقول امرئ القيس : «عود على عود على عود خلق» ، وقد تقدم مثاله.
ومن البديع «السلب»
والإيجاب كقول القائل :
وننكر إن شئنا
على الناس قولهم
|
|
ولا ينكرون
القول حين نقول
|
ومن البديع : «الكناية
والتعريض» كقول القائل :
وأحمر كالديباج
أما سماؤه
|
|
فريّا ، وأما
أرضه فمحول
|
ومن هذا الباب «لحن
القول» :
ومن ذلك «العكس
والتبديل» كقول الحسن : «إن من خوّفك لتأمن ، خير ممن أمنك لتخاف» ، وكقوله : «اللهم
أغنني بالفقر إليك ولا تفقرني بالاستغناء عنك». وكقوله : «بع دنياك بآخرتك تربحهما
جميعا ولا تبع آخرتك بدنياك فتخسرهما جميعا» وكقول القائل :
وإذا الدّر زان
حسن وجوه
|
|
كان للدرّ حسن
وجهك زينه
|
وقد يدخل في هذا
الباب قوله تعالى : (يُولِجُ اللَّيْلَ
فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ).
ومن البديع «الالتفات»
فمن ذلك ما كتب إلى الحسن بن عبد الله العسكري ، أخبرنا محمد بن عبد الله الصولي ،
حدثني يحيى بن علي المنجم عن أبيه عن إسحاق بن إبراهيم
قال : قال لي
الأصمعي أتعرف التفاتات جرير؟ قلت : لا. فما هي؟ قال :
أتنسى إذ تودعنا
سليمى
|
|
بفرع بشامة سقي
البشام
|
ومثل ذلك لجرير :
متى كان الخيام
بذي طلوح
|
|
سقيت الغيث
أيتها الخيام
|
ومعنى الالتفاتات
أنه اعترض في الكلام قوله : (سقيت الغيث) ولو لم يعترض لم يكن ذلك التفاتا ، وكان
الكلام منتظما ، وكان يقول : متى كان الخيام بذي طلوح أيتها الخيام ، متى خرج عن
الكلام الأول ثم رجع إليه على وجه يلطف ، كان ذلك التفاتا.
ومثله قول النابغة
الجعدي :
ألا زعمت بني
سعد بأنى
|
|
ألا كذبوا كبير
السن فاني
|
ومثله قول كثير :
لو أن الباذلين
وأنت منهم
|
|
رأوك تعلّموا
منك المطالا
|
ومثله قول أبي
تمام :
وأنجدتم من بعد
اتهام داركم
|
|
فيا دمع أنجدني
على ساكني نجد
|
وكقول جرير :
طرب الحمام بذي
الأراك فشاقني
|
|
لا زلت في غلل
وأيك ناضر
|
التفت إلى الحمام
فدعا لها.
ومثله قول حسان :
إن التي ناولتني
فرددتها
|
|
قتلت قتلت
فهاتها لم تقتل
|
ومنه قول عبد الله
بن معاوية بن عبد الله بن جعفر :
وأجمل إذا ما
كنت لا بدّ مانعا
|
|
وقد يمنع الشيء
الفتى وهو مجمل
|
وكقول ابن ميادة :
فلا صرمه يبدو
وفي اليأس راحة
|
|
ولا وصله يصفو
لنا فنكارمه
|
__________________
ونظير ذلك من
القرآن ما حكى الله تعالى عن إبراهيم الخليل من قوله : (اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ
خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ
أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) إلى قوله : (فَما كانَ جَوابَ
قَوْمِهِ) وقوله عزوجل (إِنْ يَشَأْ
يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ. وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ.
وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً) ومثله قوله : (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ
فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) إلى آخر الآية.
ومثله قوله : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي
آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها) إلى قوله : (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ
الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) ومثله قوله تعالى : (وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ
وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ) ومنهم من لا يعد الاعتراض والرجوع من هذا الباب ، ومنهم من
يفرده عنه كقول زهير :
قف بالديار التي
لم يعفها القدم
|
|
نعم وغيّرها
الأرواح والدّيم
|
وكقول الأعرابي :
أليس قليلا نظرة
إن نظرتها
|
|
إليك وكلّا ليس
منك قليل
|
وكقول ابن هرمة :
ليت حظى كلحظة
العين منها
|
|
وكثير منها
القليل المهنّا
|
ومن الرجوع قول
القائل :
بكلّ تداوينا
فلم يشف ما بنا
|
|
على أنّ قرب
الدار خير من البعد
|
وقال الأعشى :
صرمت ولم أصرمكم
وكصارم
|
|
أخ قد طوى كشحا
وآب ليذهبا
|
وكقول بشار :
لي حيلة فيمن
ينم
|
|
م وليس في
الكذّاب حيلة
|
من كان يخلق ما
يقو
|
|
ل فحيلتي فيه
قليله
|
وقال آخر :
وما بي انتصار
إن عدا الدهر ظالما
|
|
عليّ ، بلى إن
كان من عندك النصر
|
__________________
وباب آخر من
البديع ، يسمى «التذييل» ، وهو ضرب من «التأكيد» وهو ضد ما قدمنا ذكره من الإشارة
كقول أبي داود :
إذا ما عقدنا له
ذمّة
|
|
شددنا العناج
وعقد الكرب
|
وأخذه الحطيئة فقال :
فدعوا نزال فكنت
أول نازل
|
|
وعلام أركبه إذا
لم أنزل
|
وكقول جرير :
لقد كنت فيها يا
فرزدق تابعا
|
|
وريش الذّنابى
تابع للقوادم
|
ومثله قوله عزوجل : (إِنَّ فِرْعَوْنَ
عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً) إلى قوله : (إِنَّهُ كانَ مِنَ
الْمُفْسِدِينَ. وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي
الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ). إلى قوله : (خاطِئِينَ) .
وباب من البديع
يسمى الاستطراد ، فمن ذلك ما كتب إلى الحسن بن عبد الله قال : أنشدني أبو بكر بن
دريد قال : أنشدنا أبو حاتم عن أبي عبيدة ، لحسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه :
إن كنت كاذبة
التي حدّثتني
|
|
فنجوت منجى
الحرث بن هشام
|
ترك الأحبّة أن
يقاتل دونهم
|
|
ورمى برأس طمرّة
ولجام
|
وكقول السموأل :
وإنا لقوم لا
نرى القتل سبّة
|
|
إذا ما رأته
عامر وسلول
|
وكقول الآخر :
خليليّ من كعب
أعينا أخاكما
|
|
على دهره ، إن
الكريم معين
|
ولا تبخلا بخل
ابن قزعة إنه
|
|
مخافة أن يرجى
تراه حزين
|
وكقول الآخر :
فما ذرّ قرن
الشّمس حتّى كأننا
|
|
من العيّ نحكي
أحمد بن هشام
|
وكقول زهير :
إن البخيل ملوم
حيث كان ول
|
|
كنّ الجواد على
علّاته هرم
|
__________________
وفيما كتب إلى
الحسن بن عبد الله قال : أخبرني محمد بن يحيى ، حدثني محمد بن علي الأنباري قال :
سمعت البحتري يقول : أنشدني أبو تمام لنفسه :
وسابح هطل
التّعداء هتّان
|
|
على الجراء أمين
غير خوّان
|
أظمئ الفصوص ولم
تظمأ قوائمه
|
|
فجل عينك في
ريان ظمئان
|
ولو تراه مشيحا
والحصى قلق
|
|
بين السنابك من
مثنى ووحدان
|
أيقنت إن لم
تثبت أن حافره
|
|
من صخر تدمر أو
من وجه عثمان
|
وقال لي : ما هذا
من الشعر؟ قلت : لا أدري. قال : هذا المستطرد ، أو قال : الاستطراد قلت : وما معنى
ذلك ، قال : يرى أنه يصف الفرس ، ويريد هجاء عثمان ، فقال :
وقال البحتري :
ما إن يعاف قذى
ولو أوردته
|
|
يوما خلائق
حمدويه الأحول
|
قال : فقيل
للبحتري : إنك أخذت هذا من أبي تمام ، فقال : ما يعاب عليّ أن آخذ منه واتبعه فيما
يقول.
ومن هذا الباب قول
أبي تمام :
صبّ الفراق
علينا صبّ من كثب
|
|
عليه إسحاق يوم
الرّوع منتقما
|
ومنه قول السري
الرفاء :
نزع الوشاة لنا
بسهم قطيعة
|
|
يرمى بسهم الحين
من يرمي به
|
ليت الزمان أصاب
حب قلوبهم
|
|
بقنا ابن عبد
الله أو بحرابه
|
ونظيره من القرآن
: (أَوَلَمْ يَرَوْا
إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ
وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ. وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا
يَسْتَكْبِرُونَ) كأنه كان المراد أن يجري بالقول الأول إلى الإخبار عن أن
كل شيء يسجد لله عزوجل ، وإن كان ابتداء الكلام في أمر خاص. ومن البديع عندهم
التكرار كقول الشاعر :
هلّا سألت جموع
كن
|
|
دة يوم ولّوا
أين أينا
|
وكقول الآخر :
وكانت فزارة
تصلي بنا
|
|
فأولى فزارة
أولى لها
|
ونظيره من القرآن
كثير كقوله : (فَإِنَّ مَعَ
الْعُسْرِ يُسْراً. إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ
__________________
يُسْراً) ، وكالتكرار في قوله : (قُلْ يا أَيُّهَا
الْكافِرُونَ) وهذا فيه معنى زائد على التكرار ؛ لأنه يفيد الإخبار عن
الغيب.
ومن البديع عندهم
ضرب من الاستثناء كقول النابغة :
ولا عيب فيهم
غير أن سيوفهم
|
|
بهن فلول من
قراع الكتائب
|
وكقول النابغة
الجعدي :
فتى كملت أخلاقه
غير أنه
|
|
جواد فلا يبقى من
المال باقيا
|
فتى تم فيه ما
يسر صديقه
|
|
على أن فيه ما
يسوء الأعاديا
|
وكقول الآخر :
حليم إذا ما
الحلم زيّن أهله
|
|
مع الحلم في عين
العدو مهيب
|
كقول أبي تمام :
تنصّل ربّها من
غير جرم
|
|
إليك سوى
النصيحة والوداد
|
ووجوه البديع
كثيرة جدا ، فاقتصرنا على ذكر بعضها ، ونبهنا بذلك على ما لم نذكر كراهة التطويل ،
فليس الغرض ذكر جميع أبواب البديع.
وقد قدر مقدرون
أنه يمكن استفادة إعجاز القرآن من هذه الأبواب التي نقلناها ، وإن ذلك مما يمكن
الاستدلال به عليه ، وليس كذلك عندنا ؛ لأن هذه الوجوه إذا وقع التنبيه عليها أمكن
التوصل إليها بالتدرب والتعود والتصنع لها ، وذلك كالشعر الذي إذا عرف الإنسان
طريقه صح منه التعمل له ، وأمكنه نظمه.
والوجوه التي تقول
إن إعجاز القرآن يمكن أن يعلم منها ، فليس مما يقدر البشر على التصنع له والتوصل
إليه بحال.
ويبين ما قلنا : أن
كثيرا من المحدثين قد تصنّع لأبواب الصنعة ، حتى حشى جميع شعره منها ، واجتهد أن
لا يفوته بيت إلا وهو يملؤه من الصنعة ، كما صنع أبو تمام في لاميته :
متى أنت عن
ذهليّة الحي ذاهل
|
|
وصدرك منها مدة
الدهر آهل
|
__________________
تطل طلول الدمع
في كلّ موقف
|
|
وتمثل بالصبر
الديار المواثل
|
دوارس لم يحف
الربيع ربوعها
|
|
ولا مرّ في
أغفالها وهو غافل
|
فقد سحبت فيها
السحاب ذيولها
|
|
وقد اخملت بالنور
تلك الخمائل
|
تعفين من زاد
العفاة إذا انتحى
|
|
على الحيّ صرف
الأزمة المتماحل
|
لهم سلف سمر
العوالي وسامر
|
|
وفهم جمال لا
يعيض وجامل
|
ليالي أضللت
العزاء وخزّلت
|
|
بعقلك آرام
الخدور العقائل
|
من الهيف لو أن
الخلاخيل صيّرت
|
|
لها وشحا جالت
عليه الخلاخل
|
مها الوحش إلا
أن هاتا أو أنس
|
|
قنا الخطّ إلا
أن تلك ذوابل
|
هوى كان خلسا إن
من أطيب الهوى
|
|
هوى جلت في
أفيائه وهو خامل
|
ومن الأدباء من
عاب عليه هذه الأبيات ونحوها على ما قد تكلف فيها البديع وتعمل من الصنعة ، فقال :
قد أذهب ماء هذا الشعر ورونقه وفائدته اشتغالا بطلب التطبيق وسائر ما جمع فيه.
وقد تعصب عليه
أحمد بن عبد الله بن عمار ، وأسرف حتى تجاوز إلى الغض من محاسنه ، ولما قد أولع به
من الصنعة ربما غطى على بصره حتى يبدع في الحسن كقوله في قصيدة له أولها :
سرت تستجير
الدمع خوف نوى غد
|
|
وعاد قتادا
عندها كلّ مرقد
|
فقال لها :
لعمري لقد حرّرت
يوم لقيته
|
|
لو أن القضاء
وحده لم يبرّد
|
وكقوله :
لو لم تدارك من
المجد مذ زمن
|
|
بالجود والبأس
كان المجد قد خرفا
|
فهذا من
الاستعارات القبيحة ، والبديع المقيت كقوله :
تسعون ألفا
كآساد الشّرى نضجت
|
|
أعمارهم قبل نضج
التين والعنب
|
وكقوله :
لو لم يمت بين
أطراف الرماح إذا
|
|
لمات إذ لم يمت
من شدة الحزن
|
وكقوله : «خشنت
عليه أخت بني خشين». وكقوله :
ألا لا يمد
الدهر كفا بسيّئ
|
|
إلى مجتدى نصر
فتقطع من الزند
|
وقال في وصف
المطايا :
لو كان كلّفها
عبيد حاجة
|
|
يوما لزنّى
شدقما وجديلا
|
وكقوله :
فضربت الشتاء في
أخدعيه
|
|
ضربة غادرته
عودا ركوبا
|
فهذا وما أشبه
إنما يحدث من غلوّه في محبة الصنعة ، حتى يعميه عن وجه الصواب ، وربما أسرف في
المطابق والمجانس ووجوه البديع من الاستعارة وغيرها ، حتى استقلّ نظمه ، واستوخم
رصعه ، وكان التكلف باردا ، والتصرف جامدا ، وربما اتفق مع ذلك في كلامه النادر
المليح ، كما يتفق البارد القبيح.
فأما البحتري فإنه
لا يرى في التجنيس ما يراه أبو تمام ، ويقل التصنع له. فإذا وقع في كلامه ، كان في
الأكثر حسنا رشيقا ، وظريفا جميلا ، وتصنعه للمطابق كثير حسن ، وتعمقه في وجوه
الصنعة على وجه طلب السلامة والرغبة في السلاسة ، فلذلك يخرج سليما من العيب في
الأكثر.
وأما وقوف الألفاظ
به عن تمام الحسنى ، وقعود العبارات عن الغاية القصوى ، فشيء لا بد منه ، وأمر لا
محيص عنه ، وكيف وقد وقف على من هو أجل منه وأعظم قدرا في هذه الصنعة ، وأكبر في
الطبقة ، كامرئ القيس ، وزهير ، والنابغة ، وإلى يومه ونحن نبين تميز ، كلامه
وانحطاط درجة قولهم ، ونزول طبقة نظمهم عن بديع نظم القرآن في باب مفرد ، يتصور به
ذو الصنعة ما يجب تصوره ، ويتحقق وجه الإعجاز فيه بمشيئة الله وعونه.
ثم رجع الكلام بنا
إلى ما قدمناه ، من أنه لا سبيل إلى معرفة إعجاز القرآن من البديع الذي ادعوه في
الشعر ووصفوه فيه. وذلك أن هذا الفن ليس فيه ما يخرق العادة ، ويخرج عن العرف ، بل
يمكن استدراكه بالتعلم والتدرب به والتصنع له ، كقول الشعر ، ووصف الخطب ، وصناعة
الرسالة ، والحذق في البلاغة. وله طريق يسلك ، ووجه يقصد ، وسلّم يرتقى فيه إليه ،
ومثال قد يقع طالبه عليه. فرب إنسان يتعود أن ينظم جميع كلامه شعرا ، أو يتعود أن
يكون جميع خطابه سجعا ، أو صنعة متصلة ، لا يسقط من كلامه حرف ، وقد يبادئ به ما
قد تعوده ، وأنت ترى أدباء زماننا يضيفون المحاسن في جزء ، وكذلك يؤلفون أنواع
البارع ، ثم ينظرون فيه إذا أرادوا إنشاء قصيدة ، أو رسالة ، أو خطبة ، فيحشون به
كلامهم.
ومن كان قد تدرب
وتقدم في حفظ ذلك ، اشتغل عن هذا التصنيف ولم يحتج إلى تكلف هذا التأليف ، وكان ما
أشرف عليه من هذا الشأن باسطا من باع كلامه ، وموشحا بأنواع البديع ما يحاوله من
قوله ، وهذا طريق لا يتعذر ، وباب لا يمتنع ، وكل يأخذ فيه مأخذا ، ويقف فيه موقفا
على قدر ما معه من المعرفة ، وبحسب ما يمده من الطبع.
فأما شأو نظم
القرآن ، فليس له مثال يحتذي إليه ، ولا إمام يقتدى به ، ولا يصح وقوع مثله اتفاقا
؛ كما يتفق للشاعر البيت النادر ، والكلمة الشاردة ، والمعنى الفذ الغريب ،
والشيء القليل
العجيب. وكما يلحق بكلامه بالوحشيات ، ويضاف من قوله إلى الأوابد ؛ لأن ما جرى هذا
المجرى ، ووقع هذا الموقع ، فإنما يتفق للشاعر في لمع من شعره ، وللكاتب في قليل
من رسائله ، وللخطيب في يسير من خطبه ، ولو كان كل شعره نادرا ومثلا سائرا ، ومعنى
بديعا ، ولفظا رشيقا ، وكل كلامه مملوءا من رونقه ، ومائه ومملأ ببهجته وحسن روائه
، ولم يقع فيه المتوسط بين الكلامين ، والمتردد بين الطرفين ، ولا البارد المستثقل
، والغث المستنكر ، لم يبن الإعجاز في الكلام ، ولم يبن التفاوت العجيب بين النظام
والنظام.
وهذه جملة تحتاج
إلى تفصيل ، ومبهم قد يحتاج في بعض إلى تفسير ، وسنذكر ذلك بمشيئة الله وعونه ،
ولكن قد يمكن أن يقال في البديع الذي حكيناه ، وأضفناه إليهم ، أن ذلك باب من
أبواب البراعة ، وجنس من أجناس البلاغة ، وأنه لا ينفك القرآن عن فن من فنون
بلاغاتهم ، ولا وجه من وجوه فصاحاتهم. وإذا أورد هذا المورد ، ووضع هذا الموضع ،
كان جديرا.
وإنما لم نطلق
القول إطلاقا ، لأنّا لا نجعل الإعجاز متعلقا بهذه الوجوه الخاصة ، ووقفا عليها.
ومضافا إليها ، وإن صح أن تكون هذه الوجوه مؤثرة في الجملة ، آخذة بخطها من الحسن
والبهجة متى وقعت في الكلام على غير وجه التكلف المستبشع ، والتعمل المستبشع.
فصل :
في كيفية الوقوف
على إعجاز القرآن
قد بينا أنه لا
يتهيأ لمن كان لسانه غير العربية ، من العجم والترك وغيرهم ، أن يعرفوا إعجاز
القرآن إلا أن يعلموا أن العرب قد عجزوا عن ذلك. فإذا عرفوا هذا بأن علموا أنهم قد
تحدّوا على أن يأتوا بمثله ، وقرّعوا على ترك الإتيان بمثله ، ولم يأتوا به ،
تبينوا أنهم عاجزون عنه. وإذا عجز أهل ذلك اللسان ، فهم عنه أعجز.
وكذلك نقول إن من
كان أهل اللسان العربي إلّا أنه ليس يبلغ في الفصاحة الحد الذي يتناهى إلى معرفة
أساليب الكلام ، ووجوه تصرّف اللغة ، وما يعدّونه فصيحا بليغا بارعا من غيره ، فهو
كالأعجمي ، في أنه لا يمكنه أن يعرف إعجاز القرآن ، إلا بمثل ما بينا أن يعرف به
الفارسي الذي بدأنا بذكره ، وهو ومن ليس من أهل اللسان سواء.
فأما من كان قد
تناهى في معرفة اللسان العربي ، ووقف على طرقها ومذاهبها ، فهو يعرف القدر الذي
ينتهي إليه وسع المتكلم من الفصاحة ، ويعرف ما يخرج عن الوسع ، ويتجاوز حدود
القدرة ، فليس يخفى عليه إعجاز القرآن ، كما يميز بين جنس الخطب والرسائل والشعر ،
وكما يميز بين الشعر الجيد والرديء ، والفصيح والبديع ، والنادر والبارع والغريب.
وهذا كما يميز أهل
كل صناعة صنعتهم ، فيعرف الصّيرفيّ من النقد ما يخفى على غيره ، ويعرف البزاز من
قيمة الثوب وجودته ورداءته ما يخفى على غيره ، وإن كان يبقى مع معرفة هذا الشأن
أمر آخر. وربما اختلفوا فيه ؛ لأن من أهل الصنعة من يختار الكلام المتين والقول
الرصين.
ومنهم من يختار
الكلام الذي يروق ماؤه ، وتروع بهجته ورواؤه ، ويسلس مأخذه ، ويسلم وجهه ومنفذه ،
ويكون قريب المتناول ، غير عويص اللفظ ولا غامض المعنى. كما يختار قوم ما يغمض
معناه ويغرب لفظه ، ولا يختار ما سهل على اللسان وسبق إلى البيان.
وروي أن عمر بن
الخطاب رضي الله عنه وصف زهيرا فقال : «كان لا يمدح الرجل
إلا بما فيه» وقال
لعبد بني الحسحاس حين أنشده :
«كفى الشيب
والإسلام للمرء ناهيا» أما إنه لو قلت مثل هذا لأجزتك عليه.
وروي أن جريرا سأل
عن أحسن الشعر ، فقال قوله :
إن الشقي الذي
في النار منزله
|
|
والفوز فوز الذي
ينجو من النار
|
كأنه فضله لصدق
معناه. ومنهم من يختار الغلو في قول الشعر والإفراط فيه حتى ربما قالوا «أحسن
الشعر أكذبه» كقول النابغة :
يقدّ السلوقيّ
المضاعف نسجه
|
|
ويوقدن بالصّفاح
نار الحباحب
|
وأكثرهم على مدح
المتوسط بين المذهبين في الغلو والاقتصاد ، وفي المتانة والسلامة ، ومنهم من رأى
أن أحسن الشعر ما كان أكثر صنعة ، وألطف تعملا ، وأن يتخير الألفاظ الرشيقة
للمعاني البديعة والقوافي الواقعة ، كمذهب البحتري ، وعلى ما وصفه عن بعض الكتاب :
في نظام من
البلاغة ما شك
|
|
ك امرؤ أنه نظام
فريد
|
وبديع كأنه
الزهر الضا
|
|
حك في رونق
الربيع الجديد
|
حزن مستعمل
الكلام اختيارا
|
|
وتجنبن ظلمة
التعقيد
|
وركبن اللفظ
القريب فأدركن
|
|
به غاية المراد
البعيد
|
ويرون أن من تعدى
هذا كان سالكا مسلكا عاميا ولم يروه شاعرا ولا مصيبا. وفيما كتب الحسن بن عبد الله
أبو أحمد العسكري قال : أخبرني محمد بن يحيى ، قال : أخبرني عبد الله بن الحسن ،
قال : قال لي البحتري : دعاني علي بن الجهم فمضيت إليه ، فأفضنا في أشعار المحدثين
إلى أن ذكرنا شعر أشجع ، فقال لي : إنه يخلي ، وأعادها مرات ، ولم أفهمها ؛ وأنفت
أن أسأله عن معناها ، فلما انصرفت فكرت في الكلمة ، ونظرت في شعره ، فإذا هو ربما
مرت له الأبيات مغسولة ليس فيها بيت رائع ؛ وإذا هو يريد هذا بعينه ، أن يعمل
الأبيات ، فلا يصيب فيها ببيت نادر ، كما أن الرامي إذا رمى برشقة فلم يصب بشيء
قيل قد أخلى. قال : وكان علي بن الجهم أحسن الناس علما بالشعر.
وقوم من أهل اللغة
يميلون إلى الرصين من الكلام ، الذي يجمع الغريب والمعاني ، مثل أبي عمرو بن العلاء
، وخلف الأحمر ، والأصمعي. ومنهم من يختار الوحشي من الشعر ، كما اختار المفضل
للمنصور من المفضليات. وقيل : إنه اختار ذلك لميله إلى ذلك الفن.
وذكر الحسن بن عبد
الله أنه أخبره بعض الكتاب عن علي بن العباس قال : «حضرت مع البحتري مجلس عبيد
الله بن عبد الله بن طاهر ، وقد سئل البحتري عن أبي نواس ومسلم بن الوليد ، أيهما
أشعر؟ فقال البحتري : أبو نواس أشعر ، فقال عبيد الله : إن أبا العباس ثعلبا لا
يطابقك على قولك ، ويفضل مسلما ، فقال البحتري : ليس هذا من عمل ثعلب وذويه من
المتعاطين لعلم الشعر دون عملهن ، إنما يعلم ذلك من وقع في سلك الشعر إلى مضايقه ،
وانتهى إلى ضروراته.
فقال له عبيد الله
: وريت بك زنادي يا أبا عبادة ، وقد وافق حكمك حكم أخيك بشار ابن برد في جرير
والفرزدق أيهما أشعر؟
فقال : جرير
أشعرهما ، فقيل له : بما ذا؟
فقال : لأن جريرا
يشتد إذا شاء ، وليس كذلك الفرزدق ؛ لأنه يشتد أبدا.
فقيل له : فإن
يونس وأبا عبيدة يفضلان الفرزدق على جرير.
فقال : ليس هذا من
عمل أولئك القوم. إنما يعرف الشعر من يضطر إلى أن يقول مثله. وفي الشعر ضروب لم
يحسنها الفرزدق ، ولقد ماتت النّوار امرأته فناح عليها بقول جرير :
لو لا الحياء لعادني
استعبار
|
|
ولزرت قبرك
والحبيب يزار
|
وروي عن أبي عبيدة
أنه قال للفرزدق : ما لك لا تنسب كما ينسب جرير؟ فغاب حولا ثم جاء فأنشد :
يا أخت ناجية بن
سامة إنني
|
|
أخشى عليك بنيّ
إن طلبوا دمي
|
والأعدل في
الاختيار ما سلكه أبو تمام من الجنس الذي جمعه في كتاب «الحماسة» وما اختاره من «الوحشيات»
وذلك أنه تنكر المستنكر الوحشي ، والمبتذل العامي ، وأتى بالواسطة. وهذه الطريقة
من ينصف في الاختيار ، ولا يعدل به غرض يخص ؛ لأن الذين اختاروا الغريب فإنما
اختاروه لغرض لهم في تفسير ما يشتبه على غيرهم ، وإظهار التقدم في معرفته وعجز
غيرهم عنه ، ولم يكن قصدهم جيد الأشعار لشيء يرجع إليها في أنفسها ، ويبين هذا أن
الكلام موضوع للإبانة عن الأغراض التي في النفوس.
وإذا كان كذلك وجب
أن يتخير من اللفظ ما كان أقرب إلى الدلالة على المراد ، وأوضح في الإبانة عن
المعنى المطلوب ، ولم يكن مستكره المطلع على الأذن ، ومستنكر المورد على النفس ،
حتى يتأبى بغرابته في اللفظ عن الإفهام ، أو يمتنع بتعويض معناه عن الإبانة. ويجب
أن يتنكب ما كان عليه اللفظ ، مبتذل العبارة ، ركيك المعنى ، سفسافي
الوضع ، مجتنب
التأسيس على غير أصل ممهد ، ولا طريق موطد ، وإنما فضلت العربية على غيرها
لاعتدالها في الوضع.
ولذلك وضع أصلها
على أكثرها بالحروف المعتدلة ، فقد أهملوا الألفاظ المستكرهة في نظمها ، وأسقطوها
من كلامهم ، فجرى لسانهم على الأعدل ، ولذلك صار أكثر كلامهم من الثلاثي لأنهم
بدءوا بحرف وسكتوا على آخر ، وجعلوا حرفا وصلة بين الحرفين ليتم الابتداء
والانتهاء على ذلك.
والثنائي أقل ،
وكذلك الرباعي والخماسي أقل. ولو كان كله ثنائيا لتكررت الحروف ، ولو كان كله
رباعيا أو خماسيا لكثرت الكلمات. وكذلك بنى أمر الحروف التي ابتدئ بها السور التي
ابتدئت بذكر الحروف ذكر فيها ثلاثة أحرف ، وما هو أربعة أحرف سورتان ، وما ابتدئ
بخمسة أحرف سورتان ، فأما ما بدئ بحرف واحد فقد اختلفوا فيه ، فمنهم من لم يجعل
ذلك حرفا ، وإنما جعله فعلا واسما لشيء خاص. ومن جعل ذلك حرفا قال : أراد أن يحقق
الحروف مفردها ومنظومها.
ولضيق ما سوى كلام
العرب ، أو لخروجه عن الاعتدال يتكرر في بعض الألسنة الحرف الواحد في الكلمة
الواحدة. والكلمات المختلفة كثيرا ، كنحو تكرر الطاء والسين في لسان يونان ، وكنحو
الحروف الكثيرة التي هي اسم لشيء واحد في لسان الترك. ولذلك لا يمكن أن ينظم من
الشعر في تلك الألسنة على الأعاريض التي تمكن في اللغة العربية. والعربية أشدها
تمكنا وأشرفها تصرفا وأعدلها ، ولذلك جعلت حلية لنظم القرآن ، وعلق بها الإعجاز ،
وصارت دلالة في النبوة.
وإذا كان الكلام
إنما يفيد الإبانة عن الأغراض القائمة في النفوس التي لا يمكن التوصل إليها
بأنفسها ، وهي محتاجة إلى ما يعبر عنها.
فما كان أقرب في
تصويرها وأظهر في كشفها للفهم الغائب عنها ، وكان مع ذلك أحكم في الإبانة عن
المراد ، وأشد تحقيقا في الإيضاح عن الطلب ، وأعجب في وضعه ، وأرشق في تصرفه ،
وأبرع في نظمه ، كان أولى وأحق بأن يكون شريفا.
وقد شبهوا النطق
بالخط ، والخط يحتاج مع بيانه إلى رشاقة وصحة ولطف ، حتى يجوز الفضيلة ويجمع
الكمال. وشبهوا الخط والنطق بالتصوير. وقد أجمعوا أن من أحذق المصورين من صوّر لك
الباكي المتضاحك ، والباكي الحزين ، والضاحك المتباكي ، والضاحك المستبشر. وكما
أنه يحتاج إلى لطف يد في تصوير هذه الأمثلة ، فكذلك يحتاج إلى لطف في اللسان
والطبع في تصوير ما في النفس للغير ، وفي جملة الكلام إلى ما تقصر
عبارته وتفضل
معانيه. وفي ما تقصر المعاني وتفضل العبارات ، وفيه ما يقع كل واحد منهما وفقا
للآخر ، ثم ينقسم ما يقع وفقا إلى أنه قد يفيدها على تفصيل. وكل واحد منهما قد
ينقسم إلى ما يفيدها على أن يكون كل واحد منهما بديعا شريفا وغريبا لطيفا. وقد
يكون كل واحد منهما مستجلبا متكلفا ومصنوعا متعسفا ، وقد يكون كل واحد منهما حسنا
رشيقا ، وبهيجا نضيرا ، وقد يتفق أحد الأمرين دون الآخر ، وقد يتفق أن يسلم الكلام
والمعنى من غير رشاقة ولا نضارة في واحد منهما.
إنما يميز من يميز
، ويعرف من يعرف ، والحكم في ذلك صعب شديد ، والفضل فيه شأو بعيد. وقد قل من يميز
أصناف الكلام ؛ فقد حكي عن طبقة أبي عبيدة ، وخلف الأحمر وغيرهم ، في زمانهم أنهم
قالوا : ذهب من يعرف نقد الشعر.
وقد بينا قبل هذا
اختلاف القوم في الاختيار ، وما يجب أن يجمعوا عليه ويرجعوا عند التحقيق إليه.
وكلام المقتدر نمط ، وكلام المتوسع باب ، وكلام المطبوع له طريق ، وكلام المتكلف
له منهاج ، والكلام المصنوع المطبوع له باب. ومتى تقدم الإنسان في هذه الصنعة لم
تخف عليه هذه الوجوه ، ولم تشتبه عنده هذه الطرق. فهو يميز قدر كل متكلم بكلامه ،
وقدر كل كلام في نفسه ، ويحله محله ، ويعتقد فيه ما هو عليه ، ويحكم فيه بما يستحق
من الحكم ، وإن كان المتكلم يجود في شيء دون شيء عرف ذلك منه ، وإن كان يعم إحسانه
عرف ، ألا ترى أن منهم من يجود في المدح دون الهجو ، ومنهم من يجود في الهجو وحده
، ومنهم من يجود في المدح والسخف ، ومنهم من يجود في الأوصاف.
والعالم لا يشذ
عنه مراتب هؤلاء ، ولا يذهب عليه أقدارهم ، حتى أنه إذا عرف له طريقة شاعر في
قصائد معدودة فأنشد غيرها من شعر لم يشك أن ذلك من نسجه ، ولم يرتب في أنه من
نظمه. كما أنه إذا عرف خط رجل لم يشتبه عليه خطه ، حيث رآه من بين الخطوط المختلفة
، وحتى يميز بين رسائل كاتب وبين رسائل غيره.
وكذلك أمر الخطب
فإن اشتبه البعض ، فهو لاشتباه الطريقين وتماثل الصورتين. كما قد يشتبه شعر أبي
تمام بشعر البحتري في القليل الذي يترك أبو تمام فيه التصنع ، ويقصد فيه التسهل
ويسلك الطريقة الكتابية ، ويتوجه في تقريب الألفاظ وترك تعويض المعاني ، ويتفق له
مثل بهجة أشعار البحتري وألفاظه.
ولا يخفى على أحد
يميز هذه الصنعة ، سبك أبي نواس ، ولا نسج ابن الرومي ، من نسج البحتري ، وينبهه
ديباجة شعر البحتري ، وكثرة مائه ، وبديع رونقه ، وبهجة كلامه ، إلا فيما يسترسل
فيه ، فيشتبه بشعر ابن الرومي ، ويحركه ما لشعر أبي نواس من الحلاوة والرقة
والرشاقة والسلاسة
، حتى يفرق بينه وبين شعر مسلم. وكذلك يميز بين شعر الأعشى ، في التصرّف وبين شعر
امرئ القيس ، وبين شعر النابغة وزهير ، وبين شعر جرير والأخطل ، والبعيث والفرزدق.
وكل له منهج معروف ، وطريق مألوف.
ولا يخفى عليه في
زماننا الفضل بين رسائل عبد الحميد وطبقته ، وبين طبقة من بعده ، حتى أنه لا يشتبه
عليه ما بين رسائل ابن
العميد وبين رسائل
أهل عصره ، ومن بعده ممن برع في صنعة الرسائل ، وتقدم في شأوها حتى جمع فيها بين
طرق المتقدمين ، وطريقة المتأخرين ، حتى خلص لنفسه طريقة ، وأنشأ لنفسه منهاجا ،
فسلك تارة طريقة الجاحظ ، وتارة طريقة السجع ، وتارة طريقة الأصل ، وبرع في ذلك
باقتداره ، وتقدم بحذقه ، ولكنه لا يخفى مع ذلك على أهل الصنعة طريقه من طريق
غيره. وإن كان قد يشتبه البعض ويدق القليل وتغمض الأطراف وتشذ النواحي. وقد يتقارب
سبك نفر من شعراء عصره ، وتتدانى رسائل كتاب دهر ، حتى تشتبه اشتباها شديدا ،
وتتماثل تماثلا قريبا ، فيغمض الفصل.
وقد يتشاكل الفرع
والأصل وذلك فيما لا يتعذر إدراك أمده ، ولا يتصعب طلاب شأوه ، ولا يتمنع بلوغ
غايته ، والوصول إلى نهايته ، لأن الذي يتفق مع الفضل بين أهل الزمان إذا تفاضلوا
وتفاوتوا في مضمار فصل قريب وأمر يسير. وكذلك لا يخفى عليهم معرفة سارق الألفاظ ،
وسارق المعاني ، ولا من يخترعها ، ولا من يسلم بها ، ولا من يجاهر بالأخذ ممن
يكاتم به ، ولا من يخترع الكلام اختراعا ، ويبتدهه ابتداها ، ممن يروّى فيه ،
ويجيل الفكر في تنقيحه ، ويصير عليه حتى يتخلص له ما يريد ، وحتى يتكرر نظره فيه.
قال أبو عبيدة :
سمعت أبا عمرو يقول : زهير والحطيئة واشباههما عبيد الشعر ، لأنهم نقحوه ولم
يذهبوا فيه مذهب المطبوعين ؛ وكان زهير يسمّي كبر شعره «الحوليات المنقحة». وقال
عدي بن الرقاع :
وقصيدة قد بت
أجمع بينها
|
|
حتى أقوّم ميلها
وسنادها
|
نظر المثقّف في
كعوب قناته
|
|
حتى يقيم ثقافة
منادها
|
وكقول سويد بن
كراع :
أبيت بأبواب
القوافي كأنما
|
|
أصادي بها سربا
من الوحش نزّعا
|
ومنهم من يعرف
بالبديهة وحدة الخاطر ، ونفاد الطبع وسرعة النظم ، يرتجل القول ارتجالا ، ويطبعه
عفوا صفوا. فلا يقعد به عن قوم قد تعبوا وكدوا أنفسهم ، وجاهدوا خواطرهم.
وكذلك لا يخفى
عليهم الكلام العلوي واللفظ الملوكي ، كما لا يخفى عليهم الكلام
العامي واللفظ
السوقي ثم تراهم ينزلون الكلام تنزيلا ، ويعطونه كيف تصرف حقوقه ، ويعرفون مراتبه
فلا يخفى عليهم ما يختص به كل فاضل تقدم في وجه من وجوه النظم ، من الوجه الذي لا
يشاركه فيه غيره ، ولا يساهمه سواه.
ألا تراهم وصفوا
زهيرا بأنه أمدحهم ، وأشدهم أثر شعر. قاله أبو عبيدة ، وروي أن الفرزدق انتحل بيتا
من شعر جرير ، وقال : هذا يشبه شعري. فكان هؤلاء لا يخفى عليهم ما قد نسبناه إليهم
من المعرفة بهذا الشأن ، وهذا كما يعلم البزازون هذا الديباج عمل بتستر ، وهذا لم
يعمل بتستر ، وأن هذا من صنعة فلان دون فلان ، ومن نسج فلان دون فلان ، حتى لا
يخفى عليه وإن كان قد يخفى على غيره. ثم إنهم يعلمون أيضا من له سمت بنفسه ، ورفت
برأسه ، ومن يقتدي في الألفاظ أو في المعاني أو فيهما بغيره ، ويجعل سواه قدوة له.
ومن يلم في الأحوال بمذهب غيره ويأتي في الأحيان بمخترعه.
وهذه أمور ممهدة
عند العلماء ، وأسباب معروفة عند الأدباء. وكما يقولون إن البحتري يغير على أبي
تمام إغارة. ويأخذ منه صريحا وإشارة ، ويستأنس بالأخذ منه ، بخلاف ما يستأنس
بالأخذ من غيره ، ويألف اتباعه كما لا يألف اتباع سواه.
وكما كان أبو تمام
يلم بأبي نواس ومسلم ، وكما يعلم أن بعض الشعراء يأخذ من كل أحد لا يتحاشى ، ويؤلف
ما يقوله من فرق شتى. وما الذي نفع المتنبي جحوده الأخذ ، وإنكاره معرفة الطائيين.
وأهل الصنعة يدلون على كل حرف أخذه منهما جهارا ، أو ألم بهما فيه سرارا؟!
وأما ما لم يأخذ
عن الغير ، ولكن سلك النمط ، وراعى النهج ، فهم يعرفونه ، ويقولون هذا أشبه به من
التمرة بالتمرة ، وأقرب إليه من الماء إلى الماء ، وليس بينهما إلا كما بين الليلة
والليلة. فإذا تباينا وذهب أحدهما في غير مذهب صاحبه ، وسلك في غير جانبه ، قيل
بينهما ما بين السماء والأرض ، وما بين النجم والنون ، وما بين المشرق والمغرب.
وإنما أطلت عليك
ووضعت جميعه بين يديك ، لتعلم أن أهل الصنعة يعرفون دقيق هذا الشأن وجليله ،
وغامضه وقريبه ، وبعيده ومعوجه ومستقيمه. فكيف يخفى عليهم الجنس الذي هو بين الناس
متداول ، وهو قريب متناول ، من أمر يخرج عن أجناس كلامهم ، ويبعد عما هو في عرفهم
، ويفوت مواقع قدرهم؟
وإذا اشتبه ذلك ،
فإنما يشتبه على ناقص في الصنعة ، أو قاصر عن معرفة طرق الكلام الذي يتصرفون فيه ،
ويديرونه بينهم ، ولا يتجاوزنه ، فكلامهم سبل مضبوطة ، وطرق
معروفة محصورة.
وهذا كما يشتبه على من يدّعي الشعر من أهل زماننا ، والعلم بهذا الشأن ، فيدّعي
أنه أشعر من البحتري ، ويتوهم أنه أدق مسلكا من أبي نواس وأحسن طريقا من مسلم.
وأنت تعلم أنهما متباعدان ، وتتحقق أنهما لا يجتمعان ، ولعل أحدهما إنما يلحظ
عبارة صاحبه ، ويطالع ضياء نجمه ، ويراعي حقوق جناحه ، وهو راكد في موضعه ، ولا
يضر البحتري ظنه ، ولا يلحقه بشأوه وهمه. فإن اشتبه على متأدب أو متشاعر أو ناشئ
أو مرمد فصاحة القرآن ، وموقع بلاغته ، وعجيب براعته ، فما عليك منه ، إنما يخبر
عن نقصه ويدل على عجزه ، ويبين عن جهله ، ويصرح بسخافة فهمه ، وركاكة عقله.
وإنما قدمنا ما
قدمناه في هذا الفصل لتعرف أن ما ادعيناه من معرفة البليغ بعلو شأن القرآن ، وعجيب
نظمه ، وبديع تأليفه أمر لا يجوز غيره ولا يحتمل سواه ، ولا يشتبه على ذي بصيرة
ولا يخيل عند أخي معرفة كما يعرف الفضل بين طباع الشعراء من أهل الجاهلية ، وبين
المخضرمين وبين المحدثين ويميز بين من يجري على شاكلة طبعه وغريزة نفسه ، وبين من
يشتغل بالتكلف والتصنع ، وبين ما يصير التكلف له كالمطبوع ، وبين من كان مطبوعه
كالتعمل المصنوع. هيهات هيهات ، هذا أمر وإن دق فله قوم يقبلونه علما ، وأهل
يحيطون به فهما ، ويعرفونه إليك إن شئت ، ويصورونه لديك إن أردت ، ويجلونه على
خواطرك إن أحببت ، ويعرضونه لفطنتك إن حاولت ، وقد قال القائل :
للحرب والضرب
أقوام لها خلقوا
|
|
وللدّواوين
كتّاب وحسّاب
|
ولكل عمل رجال ،
ولكل صنعة ناس ، وفي كل فرقة الجاهل والعالم والمتوسط.
ولكن قد قلّ من
يميز في هذا الفن خاصة ، وذهب من يحصل في هذا الشأن إلا قليلا ، فإن كنت ممن هو
بالصفة التي وصفناها من التناهي في معرفة الفصاحات ، والتحقيق بمجاري البلاغات ،
فإنما يكفيك التأمل ويغنيك التصور ، وإن كنت في الصنعة مرمدا ، وفي المعرفة بها
متوسطا ، فلا بد لك من التقليد ، ولا غنى بك عن التسليم. إن الناقص في هذه الصنعة
كالخارج عنها ، والشادي فيها كالبائن منها. فإن أراد أن يقرب عليه أمرا ، ويفسح له
طريقا ، ويفتح له بابا ، ليعرف به إعجاز القرآن. فإنا نضع بين يديه الأمثلة ،
ونعرض عليه الأساليب ، ونصور له صورة كل قبيل من النظم والنثر ، ونحضر له من كل فن
من القول شيئا يتأمله حق تأمله ويراعيه حق مراعاته ، فيستدل استدلال العالم ،
ويستدرك استدراك الناقد ، ويقطع له الفرق بين الكلام الصادر عن الربوبية ، الطالع
عن الإلهية ، الجامع بين الحكم والحكم. والإخبار عن الغيوب والغائبات ، والمتضمن
لمصالح الدنيا والدين. والمستوعب لجلية اليقين والمعاني المخترعة في تأسيس أصل
الشريعة وفروعها بالألفاظ الشريفة ، على تفننها وتصرفها. وتعمد إلى شيء من الشعر
المجمع عليه فتبين وجه النقص فيه ، وتدل على
انحطاط رتبته ،
ووقوع أبواب الخلل فيه حتى إذا تأمل ذلك وتأمل ما نذكره من تفصيل إعجاز القرآن
وفصاحته وعجيب براعته ، انكشف له واتضح ، وثبت ما وصفناه لديه ووضح. وليعرف حدود
البلاغة ، وموقع البيان والبراعة ، ووجه التقدم في الفصاحة
وذكر الجاحظ في
كتاب البيان والتبيين أن الفارسي سئل فقيل له : ما البلاغة؟ فقال : معرفة الفصل من
الوصل.
وسئل اليوناني
عنها فقال : تصحيح الأقسام واختيار الكلام.
وسئل الرومي عنها
فقال : حسن الاقتضاب عند البداهة والغزارة يوم الإطالة.
وسئل الهندي عنها
فقال : وضوح الدلالة وانتهاز الفرصة وحسن الإشارة ، وقال مرة : التماس حسن الموقع والمعرفة
بساحات القول ، وقلة الخرق بما التبس من المعاني ، أو غمض وشرد من اللفظ وتعذر.
وزينته أن تكون الشمائل موزونة ، والألفاظ معدلة ، واللهجة نقية ، وأن لا يكلم سيد
الأمة بكلام الأمة ، ويكون في قواه فضل التصرف في كل طبقة ، ولا يدقق المعاني كل
التدقيق ، ولا ينقح الألفاظ كل التنقيح ، ويصفيها كل التصفية ، ويهذبها بغاية
التهذيب.
وأما «البراعة»
ففيما يذكر أهل اللغة ، الحذق بطريقة الكلام وتجويده. وقد يوصف بذلك كل متقدم في
قول أو صناعة.
وأما «الفصاحة»
فقد اختلفوا فيها منهم من عبر عن معناها بأنه ما كان جزل اللفظ حسن المعنى ، وقد
قيل معناها الاقتدار على الإبانة عن المعاني الكامنة في النفوس ، على عبارات جلية
، ومعان نقية بهية.
والذي يصور عندك
ما ضمنا تصويره ، ويحصل عندك معرفته إذ كنت في صنعة الأدب متوسطا ، وفي علم
العربية متبينا ، أن تنظر أولا في نظم القرآن ، ثم في شيء من كلام النبي صلىاللهعليهوسلم فتعرف الفصل بين النظمين ، والفرق بين الكلامين ، فإن تبين
لك الفصل ووقفت على جلية الأمور وحقيقة الفرق ، فقد أدركت الغرض ، وصادفت المقصد.
وإن لم تفهم الفرق
ولم تقع على الفصل ، فلا بد لك من التقليد ، وعلمت أنك من جملة العامة ، وأن سبيلك
سبيل من هو خارج عن أهل اللسان.
خطبة للنبي صلىاللهعليهوسلم : روى طلحة بن عبيد الله ، قال سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يخطب على منبره يقول : «ألا أيها الناس توبوا إلى ربكم قبل
أن تموتوا ، وبادروا الأعمال الصالحة قبل أن تشغلوا ، وصلوا الذي بينكم وبين ربكم
بكثرة ذكركم له ، وكثرة الصدقة في السّر والعلانية ترزقوا وتؤجروا وتنصروا.
واعلموا أن الله عزوجل قد افترض عليكم الجمعة في
مقامي هذا ، في
عامي هذا ، في شهري هذا ، إلى يوم القيامة ، حياتي ومن بعد موتي. فمن تركها وله
إمام ، فلا جمع الله له شمله ، ولا بارك الله في أمره ، ألا ولا حجّ له. ألا ولا
صوم له. ألا ولا صدقة له. ألا ولا برّ له. ألا ولا يؤم أعرابي مهاجرا. ألا ولا يؤم
فاجر مؤمنا. إلا أن يقهره سلطان يخاف سيفه أو سوطه» .
خطبة له صلىاللهعليهوسلم : «أيها الناس ، إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم. وإن
لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم. إن المؤمن بين مخافتين ؛ بين أجل قد مضى لا يدري
ما الله صانع فيه ، وبين أجل قد بقي لا يدري ما الله تعالى قاض عليه فيه. فليأخذ
العبد لنفسه من نفسه ، ومن دنياه لآخرته ، ومن الشبيبة قبل الكبر ، ومن الحياة قبل
الموت ، والذي نفس محمد بيده ما بعد الموت من مستعتب ، ولا بعد الدنيا دار إلا
الجنة أو النار» .
خطبة له صلىاللهعليهوسلم : «إن الحمد لله أحمد وأستعينه. نعوذ بالله من شرور أنفسنا
، وسيئات أعمالنا. من يهد الله فلا مضل له. ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله
إلا الله وحده لا شريك له. إن أحسن الحديث كتاب الله ، قد أفلح من زينه الله في
قلبه ، وأدخله في الإسلام بعد الكفر ، واختاره على ما سواه من أحاديث الناس إنه
أصدق الحديث وأبلغه. أحبوا من أحب الله وأحبّوا الله من كل قلوبكم. ولا تملوا كلام
الله وذكره. ولا تقسوا عليه قلوبكم. اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ، اتقوا الله
حق تقاته وصدقوا صالح ما تعملون بأفواهكم ، وتحابوا بروح الله بينكم. والسلام
عليكم ورحمة الله» .
ليبلّغ الشاهد
الغائب ..
خطبة له صلىاللهعليهوسلم في أيام التشريق : قال بعد حمد الله : «أيها الناس ، هل
تدرون في أي شهر أنتم ، وفي أي يوم أنتم ، وفي أي بلد أنتم ، قالوا : في يوم حرام
، وشهر حرام ، وبلد حرام .
قال : ألا فإن
دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام ، كحرمة يومكم هذا ، في شهركم هذا ، في بلدكم
هذا ، إلى يوم تلقونه» .
__________________
ثم قال : «اسمعوا
مني تعيشوا . ألا لا تظالموا ثلاثا. ألا إنه لا يحل مال امرئ مسلم إلا
بطيب نفس منه . ألا إن كل دم ومال ومأثرة كانت في الجاهلية تحت قدمي هذه .
ألا وإن أول دم
وضع دم ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب كان مسترضعا في بني ليث فقتلته هذيل . ألا وإن كل ربا كان في الجاهلية موضوع . ألا وإن الله تعالى قضى أن أول ربا يوضع ربا عمي العباس . (فَلَكُمْ رُؤُسُ
أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ) . ألا وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات
والأرض ، منها أربعة حرم. (ذلِكَ الدِّينُ
الْقَيِّمُ ، فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) ، ألا لا ترجعوا بعدي كفارا ، يضرب بعضكم رقاب بعض . ألا وإن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلّون .. ولكن في
التحريش بينكم .
اتقوا الله في
النساء فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئا ، وإن لهن عليكم حقا. ولكم عليهن
حق . ألا لا يوطئن فرشكم أحد غيركم. فإن خفتم نشوزهن (فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي
الْمَضاجِعِ) ، واضربوهن ضربا غير مبرح. ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف.
فإنما أخذتموهن بأمانة الله تعالى. واستحللتم فروجهن بكلمة الله . ألا ومن
__________________
كانت عنده أمانة
فليؤدها إلى من ائتمنه عليها» . ثم بسط يده فقال : «ألا هل بلغت. ألا هل بلغت. ليبلغ
الشاهد الغائب فرب مبلغ أبلغ من سامع» .
خطبته صلىاللهعليهوسلم يوم فتح مكة : وقف على باب الكعبة ثم قال : «لا إله إلا
الله وحده لا شريك له. صدق الله وعده. ونصر عبده. وهزم الأحزاب وحده . ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو تحت قدمي هاتين ، إلا
سدانة البيت ، وسقاية الحاج . ألا وقتل الخطأ العمد بالسوط والعصا فيه الدية مغلظة.
منها أربعة خلفة في بطونها أولادها. يا معشر قريش ، إن الله قد أذهب عنكم نخوة
الجاهلية وتعظمها بالآباء . الناس من آدم ، وآدم خلق من تراب. ثم تلا هذه الآية (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا
خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) الآية. يا معشر قريش. أو يا أهل مكة. ما ترون أني فاعل بكم؟
قالوا : خيرا ، أخ كريم وابن أخ كريم.
قال : فاذهبوا
فأنتم الطلقاء».
من كان همه الآخرة
جمع الله له شمله ..
خطبته صلىاللهعليهوسلم بالخيف : روى زيد بن ثابت أن النبي صلىاللهعليهوسلم خطب بالخيف من منى ، فقال : «نضّر الله عبدا سمع مقالتي
فوعاها. ثم أداها إلى من لم يسمعها. فرب حامل فقه لا فقه له. ورب حامل فقه إلى من
هو أفقه منه . ثلاث لا يغل عليهن قلب المؤمن ؛ إخلاص العمل لله ،
والنصيحة لأولي الأمر ، ولزوم الجماعة. إن دعوتهم تكون من ورائه . ومن كان همه الآخرة ، جمع الله له شمله ، وجعل غناه في
قلبه. وأتته الدنيا وهي راغمة . ومن كان همه الدنيا فرق الله أمره ، وجعل فقره بين عينيه
، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له».
خطبة له صلىاللهعليهوسلم : رواها أبو سعيد الخدري ، رضي الله عنه. خطب بعد العصر
فقال : «ألا إن الدنيا خضرة حلوة. إلا وإن الله مستخلفكم فيها ، فناظر كيف تعملون
، فاتقوا الدنيا
__________________
واتقوا النساء . ألا لا يمنعن رجلا مخافة الناس أن يقول الحق إذ علمه» . قال : ولم يزل يخطب حتى لم تبق من الشمس إلا حمرة على
أطراف السعف ، فقال : «إنه لم يبق من الدنيا فيما مضى إلا كما بقي من يومكم هذا».
كتاب النبي صلىاللهعليهوسلم إلى ملك فارس : «من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس. سلام
على من اتبع الهدى ، وآمن بالله ورسوله ، وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له
، وأن محمدا عبده ورسوله. وأدعوك بدعاء الله ، فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة
، لأنذر من كان حيا ، ويحق القول على الكافرين فأسلم تسلم».
كتاب له صلىاللهعليهوسلم إلى النجاشي : «من محمد رسول الله إلى النجاشي ملك الحبشة
؛ سلم أنت. فإني أحمد إليك الله الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن. وأشهد أن
عيسى ابن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة. فحملت بعيسى فحملته
من روحه ، ونفخه كما خلق آدم من طين بيده ونفخه. وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك
له ، والموالاة على طاعته. وأن تتبعني وتؤمن بالذي جاءني : وإني أدعوكم وجنودك إلى
الله تعالى. فقد بلغت ونصحت ، فاقبلوا نصحي ، والسلام على من اتبع الهدى» .
فلا
تدخلها بغير هذا.!
نسخة عهد الصلح مع
قريش عام الحديبية : «هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله صلىاللهعليهوسلم ، سهيل بن عمرو : اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين
، يأمن فيهن الناس ، ويكفّ بعضهم عن بعض. على أنه من أتى رسول الله صلىاللهعليهوسلم بغير إذن وليّه ردّه عليهم. ومن جاء قريشا ممن مع رسول
الله لم يردّوه عليه. وأن بيننا عيبة مكفوفة وأنه لا إسلال ولا إغلال. وأنه من
أحبّ أن يدخل في عهد رسول الله صلىاللهعليهوسلم وعقده دخل فيه. ومن أحب أن يدخل في عهد قريش وعقدهم دخل
فيه. وأنك ترجع عنّا عامك هذا ، فلا تدخل علينا مكة ، فإذا كان عاما قابلا ، خرجنا
عنك فدخلتها بأصحابك ، فأقمت بها ثلاثا. وأنّ معك سلاح الراكب ، والسيوف في الركب
، فلا تدخلها بغير هذا».
ولا أطوّل عليك.
وأقتصر على ما ألقيته إليك ، فإن كان لك في الصنعة حظ ، أو كان لك في هذا المعنى
حس. أو كنت تضرب في الأدب بسهم ، أو في العربية بقسط ، وإن قل ذلك السهم أو نقص
ذلك النصيب ، فما أحسب أنه يشتبه عليك الفرق بين براعة القرآن ،
__________________
وبين ما نسخناه لك
من كلام الرسول صلىاللهعليهوسلم في خطبه ورسائله ، وما عساك تسمعه من كلامه ، ويتساقط إليك
من ألفاظه. وأقدر أنك ترى بين الكلامين بونا بعيدا ، أو أمدا مديدا ، وميدانا
واسعا ، ومكانا شاسعا ، فإن قلت : لعله أن يكون تعمل للقرآن ، وتصنع لنظمه ، وشبه
عليه الشيطان ذلك من خبثه ، فتثبت في نفسك ، وارجع إلى عقلك ، واجمع لبك ، وتيقن
أن الخطب يحتشد لها في المواقف العظام ، والمحافل الكبار ، والمواسم الضخام ، ولا
يتجوز فيها ولا يستهان بها. والرسائل إلى الملوك مما يجمع لها الكاتب جراميزه ،
ويشمر لها عن جد واجتهاد ، فكيف يقع بها الإخلال ، وكيف يتعرض للتفريط ، فستعلم لا
محالة أن نظم القرآن من الأمر الإلهي ، وأن كلام النبي صلىاللهعليهوسلم من الأمر النبوي. فإذا أردت زيادة في التبيّن ، وتقدما في
التعرف ، وإشرافا على الجلية ، وفوزا بمحكم القضية ، فتأمل ـ هداك الله ـ ما ننسخه
لك من خطب الصحابة والبلغاء ، لتعلم أن نسجها ونسج ما نقلنا من خطب النبي صلىاللهعليهوسلم واحد ، وسبكها سبك غير مختلف. وإنما يقع بين كلامه وكلام
غيره ما يقع من التفاوت بين كلام الفصيحين ، وبين شعر الشاعرين. وذلك أمر له مقدار
معروف ، وحدّ ينتهي إليه مضبوط.
فإذا عرفت أن جميع
كلام الآدمي منهاج ، ولجملته طريق ، وتبينت ما يمكن فيه التفاوت ، نظرت أخرى ،
وتأملته مرة ثانية ، فتراعى بعد موقعه ، وعالي محله وموضعه ، وحكمت بواجب من
اليقين ، وثلج الصدر بأصل الدين.
خطبة لأبي بكر
الصديق رضي الله عنه : قام خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : «أما بعد فإني
وليت أمركم ، ولست بخيركم. ولكن نزل القرآن وسن النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، وعلّمنا فعلمنا.
واعلموا أن أكيس
الكيس التقى. وأن أحمق الحمق الفجور. وأن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ له بحقه. وأن
أضعفكم عندي القويّ حتى آخذ منه الحق .
إيها الناس ، إنما
أنا متبع ، ولست بمبتدع ، فإن أحسنت فأعينوني. وإن زغت فقوموني».
عهد أبي بكر
الصديق إلى عمر رضي الله عنه : «بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما عهد أبو بكر ،
خليفة رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، آخر عهده بالدنيا ، وأول عهده بالآخرة ، ساعة يؤمن فيها
الكافر ، ويتّقي فيها الفاجر .
إني استخلفت عليكم
عمر بن الخطاب ، فإن برّ وعدل ، فذاك ظني به ، ورأيي فيه.
__________________
وإن جار وبدّل ،
فلا علم لي بالغيب. والخير أردت لكم ، ولكل امرئ ما اكتسب من الإثم (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ
مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ)» .
وفي حديث عبد
الرحمن بن عوف ـ رحمة الله عليه ـ قال : دخلت على أبي بكر الصديق رضي الله عنه ،
في علته التي مات فيها ، فقلت : أراك بارئا يا خليفة رسول الله ، فقال : أما إني
على ذلك لشديد الوجع ، وما لقيت منكم يا معشر المهاجرين أشد عليّ من وجعي.
إني وليت أموركم
خيركم في نفسي ، فكلكم ورم أنفه أن يكون له الأمر من دونه والله لتتخذن نضائد
الديباج ، وستور الحرير. ولتألمنّ النوم على الصوف الأذربي ، كما يألم أحدكم النوم
على حسك السعدان. والذي نفسي بيده لأن يقدّم أحدكم فتضرب رقبته في غير حد ، خير له
من أن يخوض غمرات الدنيا.
يا هادي الطريق
جرت إنما هو والله الفجر أو البحر.
قال : فقلت : خفّض
عليك يا خليفة رسول الله صلىاللهعليهوسلم فإن هذا يهيضك إلى ما بك. فو الله ما زلت صالحا مصلحا ، لا
تأسى على شيء فاتك من أمر الدنيا ؛ ولقد تخليت بالأمر وحدك ، فما رأيت إلا خيرا.
وله خطب ومقامات
مشهورة اقتصرنا منها على ما نقلنا منها قصة السقيفة :
نسخة
كتاب : كتب أبو عبيدة
بن الجراح. ومعاذ بن جبل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنهم ؛ سلام عليك فإنا نحمد
إليك الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد : فإنا عهدناك وأمر نفسك لك مهم ، فأصبحت
وقد وليت أمر هذه الأمة ، أحمرها وأسودها. يجلس بين يديك الصديق والعدو ، والشريف
والوضيع ، ولكل حصته من العدل. فانظر كيف أنت يا عمر عند ذلك ، فإنا نحذرك يوما
تعنو فيه الوجوه ، وتحب فيه القلوب ، وإنا كنا نتحدث أن هذه الأمة ترجع في آخر
زمانها أن يكون إخوان العلانية أعداء السريرة وإنا نعوذ بالله أن تنزل كتابنا سوى
المنزل الذي نزل من قلوبنا. فإنا إنما كتبنا إليك نصيحة والسلام.
فكتب إليهما : «من
عمر بن الخطاب إلى عبيدة بن الجراح ، ومعاذ بن جبل. سلام عليكما ، فإني أحمد
إليكما الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد : فقد جاءني كتابكما تزعمان أنه بلغكما
أني وليت أمر هذه الأمة ، أحمرها وأسودها ، يجلس بين يدي الصديق والعدو ، والشريف
والوضيع. وكتبتما أن انظر كيف أنت يا عمر عند ذلك وأنه لا حول ولا قوة لعمر
__________________
عند ذلك إلا
بالله. وكتبتما تحذراني ما حذرت به الأمم قبلنا. وقديما كان اختلاف الليل والنهار
بآجال الناس ، يقربان كل بعيد ، ويبليان كل جديد ، ويأتيان بكل موعود ، حتى يصير
الناس إلى منازلهم من الجنة أو النار. ثم توفّى كل نفس بما كسبت. إن الله سريع
الحساب.
وكتبتما تزعمان أن
أمر هذه الأمة يرجع في آخر زمانها ، أن يكون إخوان العلانية أعداء السريرة ، ولستم
بذاك. وليس هذا ذلك الزمان ، ولكن زمان ذلك حين تظهر الرغبة والرهبة ، فتكون رغبة
بعض الناس إلى إصلاح دينهم ، ورهبة بعض الناس إصلاح دنياهم!! وكتبتما تعوذانني
بالله أن أنزل كتابكما مني سوى المنزل الذي نزل من قلوبكما. وإنما كتبتما نصيحة لي
، وقد صدقتكما فتعهداني منكما بكتاب ولا غنى بي عنكما».
عهد من عهود عمر
رضي الله عنه : «بسم الله الرحمن الرحيم : من عبد الله ، عمر بن الخطاب أمير
المؤمنين إلى عبد الله بن قيس. سلام عليك.
أما بعد : فإن
القضاء فريضة محكمة ، وسنة متبعة ، فافهم إذا أدلى إليك ، فإنه لا ينفع تكلّم بحق
لا نفاذ له.
آس بين الناس في
وجهك وعدلك ومجلسك ، حتى لا يطمع شريف في حيفك ، ولا ييأس ضعيف من عدلك.
البينة على من
ادعى ، واليمين على من أنكر ، والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما ، أو
حرم حلالا. ولا يمنعنّك قضاء قضيته بالأمس فراجعت فيه عقلك ، وهديت لرشدك ، أن
ترجع إلى الحق ، فإن الحق قديم ، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل. الفهم ،
الفهم ، فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب ولا سنة.
ثم اعرف الأشباه
والأمثال ، وقس الأمور عند ذلك. واعمد إلى أشبهها بالحق لمن ادعى حقا غائبا ، أو
بينة أمرا ينتهي إليه. فإن أحضر بينة أخذت له بحقه ، ولا استحللت عليه القضية فإنه
أنفى للشك ، وأجلى للعمى. المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودا في حد أو مجربا
عليه شهادة زور ، أو ظنينا في ولاء أو نسب. فإن الله تولى منكم السرائر ، ودرأ
بالإيمان والبينات. وإياك والغلق والضجر والتأذي بالخصوم ، والتنكر عند الخصومات ،
فإن الحق في مواطن الحق يعظم الله به الأجر ، ويحسن به الذخر. فمن صحت نيته وأقبل
على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس. ومن تخلق للناس بما يعلم الله أنه ليس من
نفسه ، شانه الله ، فما ظنك بثواب الله عزوجل في عاجل رزقه ، وخزائن رحمته ، والسلام».
ومن كلام عثمان بن
عفان رضي الله عنه ؛ خطبة له رضي الله عنه قال : «إن لكل شيء
آفة ، وإن لكل
نعمة عاهة. في هذا الدين عيابون ، ظنانون ، يظهرون لكم ما تحبون ، ويسرون ما
تكرهون. يقولون لكم ، وتقولون ، طغام مثل النعام ، يتبعون أول ناعق أحب مواردهم
إليهم النازح. لقد أقررتم لابن الخطاب بأكثر مما نقمتم عليّ ، ولكنه وقمكم وقمعكم
وزجركم زجر النعام المخزمة. والله إني لأقرب ناصرا ، وأعز نفرا ، وأقمن إن قلتم
هلم أن تجاب دعوتي من عمر. هل تفقدون من حقوقكم شيئا ؛ فما بالى لا أفعل في الحق
ما أشاء. إذا فلم كنت إماما»!
كتابه إلى علي حين
حضر رضي الله عنهما : «أما بعد : فقد بلغ السيل الزبى ، وجاوز الحزام الطبين ،
وطمع فيّ من لا يدفع عن نفسه. فإذا أتاك كتابي هذا ، فأقبل إليّ ؛ عليّ كنت أم لي.
فإن كنت مأكولا
فكن خير آكل
|
|
وإلا فأدركني
ولما أمزّق»
|
ومن كلام علي رضي
الله عنه ؛ قال : لما قبض أبو بكر رضي الله عنه ، ارتجت المدينة بالبكاء كيوم قبض
النبي صلىاللهعليهوسلم. «وجاء علي باكيا مسترجعا وهو يقول : اليوم انقطعت خلافة
النبوة. حتى وقف على باب البيت الذي فيه أبو بكر فقال : رحمك الله أبا بكر كنت إلف
رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وأنسه ، وثقته ، وموضع سره ، كنت أول القوم إسلاما
وأخلصهم إيمانا وأشهدهم يقينا وأخوفهم لله وأعظمهم غناء في دين الله ، وأحوطهم على
رسوله. وآمنهم على الإسلام ، وآمنهم على أصحابه ، أحسنهم صحبة ، وأكثرهم مناقب ،
وأفضلهم سوابق وأرفعهم درجة ، وأقربهم وسيلة ، وأقربهم برسول الله صلىاللهعليهوسلم سننا وهديا ورحمة وفضلا. وأشرفهم منزلة ، وأكرمهم عليه
وأوثقهم عنده. جزاك الله عن الإسلام وعن رسول خيرا.
كنت عنده بمنزلة
السمع والبصر. صدقت رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، حين كذبه الناس ، فسمّاك الله في تنزيله صديقا. فقال : (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ
بِهِ) واسيته حين بخلوا ، وقمت معه عند المكاره حين عنه قعدوا ،
وصحبته في الشدة أكرم الصّحبة ، ثاني اثنين ، وصاحبه في الغار ، والمنزل عليه
السّكينة والوقار. ورفيقه في الهجرة ، وخليفته في دين الله وفي أمته أحسن الخلافة
حين ارتدّ الناس فنهضت حين وهن أصحابك ، وبرزت حين استكانوا ، وقويت حين ضعفوا
وقمت بالأمر حين فشلوا ، ونطقت حين تتعتعوا. ومضيت بنوره إذ وقفوا ، واتبعوك فهدوا
وكنت أصوبهم منطقا ، وأطولهم صمتا ، وأبلغهم قولا ، وأكثرهم رأيا وأشجعهم نفسا ،
وأعرفهم بالأمور وأشرفهم عملا.
كنت للدين يعسوبا
أولا ، حين نفر عنه الناس ، وآخرا حين أقبلوا ، وكنت للمؤمنين أبا
__________________
رحيما إذ صاروا
عليك عيالا ، فحملت أثقال ما ضعفوا ، ورعيت ما أهملوا. وحفظت ما أضاعوا ، شمرت إذ
خنعوا ، وعلوت إذ هلعوا ، وصبرت إذ جزعوا. وأدركت أوتار ما طلبوا ، وراجعوا رشدهم
برأيك ، فظفروا ونالوا بك ما لم يحتسبوا ، وكنت كما قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : أمنّ الناس عليه في صحبتك ، وذات يدك. وكنت كما قال :
ضعيفا في بدنك ، قويا في أمر الله ، متواضعا في نفسك ، عظيما عند الله ، جليلا في
أعين الناس ، كبيرا في أنفسهم. لم يكن لأحد فيك مغمز ، ولا لأحد مطمع ، ولا لمخلوق
عندك هوادة. الضعيف الذليل عندك قوي عزيز ، حتى تأخذ له بحقه. والقوي العزيز عندك
ضعيف ذليل حتى تأخذ منه الحق.
القريب والبعيد
عندك سواء. أقرب الناس إليك أطوعهم لله شأنك الحق والصدق والرفق. قولك حكم. وأمرك
حزم ، ورأيك علم وعزم. فأبلغت وقد نهج السبيل ، وسهل العسير ، وأطفأت النيران ،
واعتدل بك الدين ، وقوي الإيمان ، وظهر أمر الله ولو كره الكافرون.
واتعبت من بعدك
إتعابا شديدا. وفزت بالجد فوزا مبينا. فجللت عن البكاء ، وعظمت رزيتك في السماء ،
وهدت مصيبتك الأنام. فإنا لله وإنا إليه راجعون. رضينا عن الله قضاءه. وسلمنا له
أمره. فو الله لن يصاب المسلمون بعد رسول الله صلىاللهعليهوسلم بمثلك أبدا. فالحقك الله بنبيه ، ولا حرمنا أجرك ، ولا
أضلنا بعدك».
وسكت الناس حتى
انقضى كلامه ، ثم بكوا حتى علت أصواتهم.
خطبة أخرى لعلي
رضي الله عنه : «أما بعد : فإن الدنيا قد أدبرت وأذنت بوداع ، وإن الآخرة قد أقبلت
وأشرفت باطلاع ، وإن المضمار اليوم وغدا السباق. ألا وإنكم في أيام مهل ، ومن
ورائه أجل.
فمن أخلص في أيام
أمله فقد فاز. ومن قصر في أيام أمله قبل حضور أجله فقد خسر عمله ، وضره أمله.
ألا فاعملوا لله
في الرغبة ، كما تعملون له في الرهبة. ألا وإني لم أر كالجنة ، نام طالبها ، ولا
كالنار ، نام هاربها. ألا وإنه من لم ينفعه الحق يضره الباطل. ومن لم يستقم به
الهدى يجر به الضلال. ألا وإنكم قد أمرتم بالظّعن ، ودللتم على الزاد. ألا وإنّ
أخوف ما أخاف عليكم الهوى وطول الأمل».
وخطب فقال بعد حمد
الله : «أيها الناس ؛ اتقوا الله ، فما خلق امرؤ عبثا ، فيلهو. ولا أهمل سدى ،
فيلغو. ما دنياه التي خسّست إليه بخلف من الآخرة التي قبحها سوء النظر
إليه. وما الخسيس
الذي ظفر به من الدنيا بأعلى همته ، كالآخر الذي ظفر به من الآخرة من سهمته».
وكتب علي رضي الله
عنه إلى عبد الله بن عباس رحمهالله وهو بالبصرة : «أما بعد : فإن المرء يسرّ بدرك ما لم يكن
ليحرمه. ويسوؤه فوت ما لم يكن ليدركه. فليكن سرورك بما قدمت : من أجر أو منطق.
وليكن أسفك فيما فرطت فيه من ذلك.
وانظر ما فاتك من
الدنيا ، فلا تكثر عليه جزعا ، وما نلته ، فلا تنعم به فرحا. وليكن همّك لما بعد
الموت».
كلام لابن عباس
رضي الله عنهما : قال عتبة بن أبي سفيان لابن عباس : ما منع أمير المؤمنين أن
يبعثك مكان أبي موسى ، يوم الحكمين؟
قال : «منعه والله
من ذلك حاجز القدر ، وقصر المدّة ، ومحنة الابتلاء.
أما والله لو
بعثني مكانه لاعترضت له في مدارج نفسه ، ناقضا لما أبرم ، ومبرما لما نقض. أسف إذا
طار ، وأطير إذا أسفّ. ولكن مضى قدر ، وبقي أسف. ومع يومنا غد. والآخرة خير لأمير
المؤمن من الأولى».
خطبة لعبد الله بن
مسعود رضي الله عنه : «أصدق الحديث كتاب الله. وأوثق العرا كلمة التقوى. خير الملل
ملّة إبراهيم. وأحسن السنن سنة النبي صلىاللهعليهوسلم.
خير الأمور
أوساطها. وشر الأمور محدثاتها. ما قل وكفى ، خير مما كثر وألهى. خير الغنى غنى
النفس. وخير ما ألقى في القلب اليقين.
الخمر جماع الإثم.
النساء حبالة الشيطان. الشباب شعبة من الجنون. حب الكفاية مفتاح العجزة.
من الناس من لا
يأتي الجماعة إلا دبرا. ولا يذكر الله إلا هجرا ، أعظم الخطايا اللسان الكذوب.
سباب المؤمن فسق. وقتاله كفر. وأكل لحمه معصية. من يتألّ على الله يكذبه من يغفر
يغفر له.
مكتوب في ديوان
المحسنين : من عفا عفي عنه. الشقي من شقى في بطن أمه والسعيد من وعظ بغيره. الأمور
بعواقبها. ملاك العمل خواتيمه. أشرف الموت الشهادة. من يعرف البلاء يصبر عليه. ومن
لا يعرف البلاء ينكره».
خطبة لمعاوية بن
أبي سفيان رضي الله عنه : قال الراوي لما حضرته الوفاة قال لمولى له : من بالباب؟
فقال : نفر من
قريش يتباشرون بموتك. فقال : ويحك ، ولم؟ ثم أذن للناس فحمد
الله فأوجز ثم قال
:
«أيها الناس ، إنا
قد أصبحنا في دهر عنود ، وزمن شديد. يعدّ فيه المحسن مسيئا. ويزداد الظالم فيه
عتوا. لا ننتفع بما علمنا. ولا نسأل عما جهلنا. ولا نتخوف من قارعة حتى تحل بنا.
فالناس على أربعة أصناف :
منهم : من لا
يمنعه الفساد في الأرض إلا مهانة نفسه ؛ وكلال حدّه ، ونضيض وفره.
ومنهم : المسلط
لسيفه ، والمجلب برجله ، والمعلن بشره ، قد أشرط نفسه ، وأوبق دينه ، لحطام ينتهزه
، أو مقنب يقوده ، أو منبر يقرعه وبئس المتجر أن تراها لنفسك ثمنا ، وممّا لك عند
الله عوضا.
ومنهم من يطلب
الدنيا بعمل الآخرة ، ولا يطلب الآخرة بعمل الدنيا ، قد طامن من شخصه ، وقارب من
خطوه ، وشمّر من ثوبه ، وزخرف نفسه للأمانة ، واتخذ ستر الله ذريعة إلى المعصية ،
ومنهم من أقعده عن الملك ضئولة في نفسه ، وانقطاع سببه ، فقصرته الحال ، فتحلى
باسم القناعة ، وتزين بلباس الزهاد ، وليس من ذلك في مراح ولا مغذى.
وبقي رجال أغض
أبصارهم ذكر المرجع ، وأراق دموعهم خوف المحشر. فهم بين شديد ناد ، وخائف منقاد ،
وساكت مكعوم ، وداع مخلص ، وموجع ثكلان ، قد أخملتهم التّقيّة ، وشملتهم الذلة.
فهم في بحر أجاج. أفواههم دامية ، وقلوبهم قريحة ، قد وعظوا حتى ملوا ، وقهروا حتى
ذلوا ، وقتلوا حتى قلوا.
فلتكن الدنيا في
عيونكم أقل من متانة القرظ ، وقراضة الجلم ، واتعظوا بمن كان قبلكم أن يتعظ بكم من
بعدكم. فارفضوها ذميمة ، فإنها قد رفضت من كان أشغف بها منكم».
خطبة لعمر بن عبد
العزيز رضي الله عنه : «أيها الناس ، إنكم ميتون ، ثم إنكم مبعوثون. ثم إنكم
محاسبين. فلعمري لئن كنتم صادقين لقد قصرتم. ولئن كنتم كاذبين لقد هلكتم. يا أيها
الناس ، إنه من يقدر له رزق برأس جبل ، أو بحضيض أرض يأته ، فاجملوا في الطلب».
خطبة للحجاج بن
يوسف : حمد الله وأثنى عليه ثم قال : «يا أهل العراق ، ويا أهل الشقاق والنفاق ،
ومساوئ الأخلاق ، وبني اللّكيعة ، وعبيد العصا. وأولاد الإماء ، والفقع بالقرقر.
إني سمعت تكبيرا لا يراد به الله. وإنما يراد به الشيطان. وإنما مثلي ومثلكم ما
قاله ابن براقة الهمداني :
وكنت إذا قوم
غزني غزوتهم
|
|
فهل أنا في ذا
بالهمذان ظالم
|
متى تجمع القلب
الذكي وصارما
|
|
وأنفا حميّا
تجتنبك المظالم
|
أما والله لا تقرع
عصا إلا جعلتها كأمس الدابر».
خطبة لقس بن ساعدة
الأيادي : أخبرني محمد بن علي الأنصاري بن محمد بن عامر قال : حدثنا علي بن
إبراهيم ، حدثنا عبد الله بن داود بن عبد الرحمن العمري قال : حدثنا الأنصاري علي
بن محمد الحنظلي من ولد حنظلة الغسيل ، حدثنا جعفر بن محمد ، عن محمد بن حسان ، عن
محمد بن حجاج اللخمي ، عن مجالد ، عن الشعبي ، عن ابن عباس قال :
ولما وفد وفد عبد
القيس على رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : أيكم يعرف قس بن ساعدة؟
قالوا : كلنا
نعرفه يا رسول الله. قال : لست أنساه بعكاظ إذ وقف على بعير لهن أحمر فقال :
«أيها الناس
اجتمعوا ، وإذا اجتمعتم فاسمعوا ، وإذا سمعتم فعوا ، وإذا وعيتم فقولوا ، وإذا
قلتم فاصدقوا. من عاش مات ، ومن مات فات. وكل ما هو آت آت.
أما بعد : فإن في
السماء لخبرا ، وإن في الأرض لعبرا. مهاد موضوع ، وسقف مرفوع ، ونجوم تمور ، وبحار
لا تغور. أقسم بالله قس قسما حقا لا كاذبا فيه ، ولا آثما. لئن كان في الأرض رضا
ليكونن سخط. إن الله تعالى دينا هو أحب إليه من دينكم الذي أنتم عليه. وقد أتاكم
أوانه ولحقتكم مدته. ما لي أرى الناس يذهبون فلا يرجعون. أرضوا بالمقام فأقاموا ،
أم تركوا فناموا»؟ ثم قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : أيكم يروي شعره؟ فأنشدوه :
في الذاهبين
الأوّلي
|
|
ن من القرون لنا
بصائر
|
لما رأيت مواردا
|
|
للموت ليس لها
مصادر
|
ورأيت قومي
نحوها
|
|
يسعى الأصاغر
والأكابر
|
لا يرجع الماضي
إل
|
|
ي ولا من
الباقين غابر
|
أيقنت أني لا
محا
|
|
لة حيث صار
القوم صائر
|
أخبرني الحسن بن
عبد الله بن سعيد ، حدثنا علي بن الحسين بن إسماعيل ، حدثنا محمد بن زكريا ، حدثنا
عبد الله بن الضحاك ، عن هشام عن أبيه ، أن وفدا من إياد قدموا على رسول الله صلىاللهعليهوسلم فسألهم عن حال قس بن ساعدة ، فقالوا : قال قس :
يا ناعي الموت
والأموات في جدث
|
|
عليهم من بقايا
بزّهم حرق
|
دعهم فإن لهم
يوما يصاح بهم
|
|
كما ينبّه من
نوماته الصّعق
|
__________________
منهم عراة ومنهم
في ثيابهم
|
|
منها الجديد
ومنها الأورق الخلق
|
مطر ونبات ، وآباء
وأمهات وذاهب وآت ، وآيات في إثر آيات ، وأموات بعد أموات ، ضوء وظلام ، وليال
وأيام ، وغني وفقير. وشقي وسعيد ، ومحسن ومسيء. أين الأرباب الفعلة ..؟ ليصلحن كل
عامل عمله. كلا ، بل هو الله واحد ، ليس بمولود ولا والد ، أعاد وأبدى. وإليه
المآب غدا.
أما بعد يا معشر
أياد أين ثمود وعاد ..؟ وأين الآباء؟ والأجداد؟ أين الحسن الذي لم يشكر؟ أين الظلم
الذي لم ينقم؟ كلا ورب الكعبة ليعودن ما بدا. ولئن ذهب يوم ليعودن يوم. قال : وهو
قس بن ساعدة بن حذاق بن ذهل بن أياد بن نزار أول من آمن بالبعث من أهل الجاهلية ،
وأول من توكأ على عصا ، وأول من تكلم بأما بعد.
خطبة لأبي طالب : «الحمد
لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم ، وزرع إسماعيل ، وجعل لنا بلدا حراما ، وبيتا
محجوجا. وجعلنا الحكام على الناس ، وأن محمدا بن عبد الله ، ابن أخي ، لا يوازن به
فتى من قريش إلا رجح به ، بركة ، وفضلا ، وعدلا ، ومجدا ، ونبلا.
وإن كان في المال
مقلا ، فإن المال عارية مسترجعة ، وظل زائل. وله في خديجة بنت خويلد رغبة. ولها
فيه مثل ذلك. وما أردتم من الصداق فعليّ».
قد نسخت لك جملا
من كلام الصدر الأول ومحاورتهم وخطبهم. وأحيلك فيما لم أنسخ على التواريخ والكتب
المصنفة في هذا الشأن فتأمل ذلك ، وسائر ما هو مسطر من الأخبار المأثورة ، عن
السلف وأهل البيان واللسان ، والفصاحة والفطن ، والألفاظ المنثورة ، والأمثال
المنقولة عنهم.
ثم انظر بسكون
طائر ، وخفض جناح ، وتفريغ لب ، وجمع عقل في ذلك ، فسيقع لك الفضل بين كلام الناس
، وبين كلام رب العالمين. وتعلم أن نظم القرآن يخالف نظم كلام الآدميين. وتعلم
الحد الذي يتفاوت بين كلام البليغ والبليغ ، والخطيب والخطيب ، والشاعر والشاعر ،
وبين نظم القرآن جملة.
فإن خيل إليك أو
شبه عليك ، وظننت أنه يحتاج أن يوازن بين نظم الشعر والقرآن ؛ لأن الشعر أفصح من
الخطب ، وأبرع من الرسائل ، وأدق مسلكا من جميع أصناف المحاورات ، ولذلك قالوا له صلىاللهعليهوسلم : هو شاعر ، أو ساحر ، وسوّل إليك الشيطان أن الشعر أبلغ
وأعجب ، وأرق وأبرع ، وأحسن الكلام وأبدع ، فهذا فصل فيه نظر بين المتكلمين ،
وكلام بين المحققين.
باب
: أيهما أبلغ .. الشعر أم النثر؟!
أسمعت أفضل من
رأيت من أهل العلم بالأدب والحذق بهذه الصناعة ، مع تقدمه في الكلام ، يقول : إن
الكلام المنثور يتأتى فيه من الفصاحة والبلاغة ما لا يتأتى في الشعر ، لأن الشعر
يضيّق نطاق الكلام ، ويمنع القول من انتهائه ، ويصده عن تصرفه على سننه.
وحضره من يتقدم في
صنعة الكلام ، فراجعه في ذلك ، وذكر أنه لا يمتنع أن يكون الشعر أبلغ إذا صادف
شروط الفصاحة. وأبدع إذا تضمن أسباب البلاغة. ويشهد عندي للقول الأخير أن معظم
براعة كلام العرب في الشعر. ولا تجد في منثور قولهم ما تجد في منظومه. وإن كان قد
أحدثت البراعة في الرسائل على حد لم يعهد في سالف أيام العرب.
ولم ينقل من
دواوينهم وأخبارهم. وهو وإن ضيق نطاق القول ، فهو يجمع حواشيه ، ويضم أطرافه
ونواحيه. فهو إذا تهذب في بابه ووفى له جميع أسبابه ، لم يقاربه من كلام الآدميين
كلام. ولم يعارضه من خطابهم خطاب.
وقد حكي عن
المتنبي أنه كان ينظر في المصحف فدخل إليه بعض أصحابه فأنكر نظره فيه لما كان رآه
عليه من سوء اعتقاده ، فقال له : هذا المكي على فصاحته كان مفحما. فإذا صحت هذه
الحكاية عنه في إلحاده ، عرف بها أنه كان يعتقد أن الفصاحة في قول الشعر أبلغ ،
وإذا كانت الفصاحة في قول الشعر أو لم تكن ، وبينا أن نظم القرآن يزيد في فصاحته
على كل نظم ، ويتقدم في بلاغته على كل قول ، بما يتضح به الأمر اتضاح الشمس ،
ويتبين به بيان الصبح ، وقفت على جلية هذا الشأن. فانظر فيما نعرضه عليك ، ما
نعرضه. ونصور بفهمك ما نصوره. ليقع لك موقع عظيم شأن القرآن. وتأمل ما نرتبه ،
ينكشف لك الحق ، وإذا أردنا تحقيق ما ضمناه لك ، فمن سبيلنا أن نعمد إلى قصيدة
متفق على كبر محلها ، وصحة نظمها ، وجودة بلاغتها ومعانيها ، وإجماعهم على إبداع
صاحبها فيها ، مع كونه من الموصوفين بالتقدم في الصناعة ، والمعروفين بالحذق في
البراعة ، فنوقفك على مواضع خللها ، وعلى تفاوت نظمها ، وعلى اختلاف فصولها ، وعلى
كثرة فضولها ، وعلى شدة تعسفها ، وبعض تكلفها ، وما نجمع من كلام رفيع ، يقرن بينه
وبين كلام وضيع ، وبين لفظ سوقي يقرن بلفظ ملوكي ، وغير ذلك من الوجوه التي يجيء
تفصيلها ، ونبيّن ترتيبها وتنزيلها.
فأما كلام مسيلمة
الكذاب وما زعم أنه قرآن ، فهو أخس من أن نشتغل به ، وأسخف من أن نفكر فيه. وإنما
نقلنا منه طرفا ليتعجب القارئ وليتبصر الناظر. فإنه على سخافته قد أضل ، وعلى
ركاكته قد أذل. وميدان الجهل واسع ، وممن نظر فيما نقلناه عنه ، وفهم
موضع جهله ، كان
جديرا أن يحمد الله على ما رزقه من فهم ، وآتاه من علم.
فمما كان يزعم أنه
نزل عليه من السماء (والليل الأطخم ، والذئب الأدلم ، والجذع الأزلم ، ما انتهكت
أسيد من محرم) وذلك قد ذكر في خلاف وقع بين قوم أتوه من أصحابه.
وقال أيضا : (والليل
الدامس والذئب الهامس ما قطعت أسيد من رطب ولا يابس).
وكان يقول : (والشاة
وألوانها وأعجبها السوداء ، وألبانها والشاة السوداء ، واللبن الأبيض إنه لعجب محض
، وقد حرم المذق فما لكم لا تجتمعون).
وكان يقول : (ضفدع
بنت ضفدعين ، نقي ما تنقين أعلاك في الماء وأسفلك في الطين ، ولا الشارب تمنعين ،
ولا الماء تكدرين ، لنا نصف الأرض ، ولقريش نصفها ، ولكن قريشا قوم يعتدون).
وكان يقول : (والمبتديات
زرعا ، والحاصدات حصدا ، والذاريات قمحا ، والطاحنات طحنا ، والخابزات خبزا ،
والثاردات ثردا ، واللاقمات لقما ، أهالة وسمنا. لقد فضلتم على أهل الوبر. وما
سبقكم أهل المدر. ريفكم فامنعوه ، والمعتر فآووه ، والباغي فناووه).
وقالت سجاح بنت الحارث
بن عقبان وكانت تتنبأ ، فاجتمع مسيلمة معها فقالت له : ما أوحي إليك؟ فقال : (ألم
تر كيف فعل ربك بالحبلى ، أخرج منها نسمة تسعى. من بين صفاق وحشا).
وقالت : فما بعد
ذلك ..؟ قال : أوحي إلي (أن الله خلق النساء أفواجا ، وجعل الرجال لهن أزواجا ،
فتولج فيهن قعسا إيلاجا ، ثم نخرجها إذا شئنا إخراجا ، فينتجن لنا سخالا نتاجا).
فقالت : أشهد أنك نبي.
ولم ننقل كل ما
ذكر من سخفه كراهة التثقيل. وروي أنه سأل أبو بكر الصديق رضي الله عنه أقواما
قدموا عليه من بني حنيفة عن هذه الألفاظ فحكوا بعض ما نقلناه.
فقال أبو بكر : «سبحان
الله ويحكم إن هذا الكلام لم يخرج عن آل. فأين كان يذهب بكم؟!» ومعنى قوله : لم
يخرج عن آل ، أي عن ربوبية. ومن كان له عقل لم يشتبه عليه سخف هذا الكلام.
فنرجع الآن إلى ما
ضمناه من الكلام على الأشعار المتفق على جودتها وتقدم أصحابها في صناعتهم ، ليتبين
لك تفاوت أنواع الخطاب ، وتباعد مواقع البلاغة. وتستدل على مواضع البراعة.
وأنت لا تشك في
جودة شعر امرئ القيس ، ولا ترتاب في براعته ، ولا تتوقف في فصاحته. وتعلم أنه قد
أبدع في طرق الشعر أمورا اتبع فيها من ذكر الديار ، والوقوف عليها ، إلى ما يتصل
بذلك من البديع الذي أبدعه ، والتشبيه الذي أحدثه ، والتلميح الذي يوجد في شعره ،
والتصرف الكثير الذي يصادفه في قوله ، والوجوه التي ينقسم إليها كلامه ، من صناعة
وطبع ، وسلاسة وعلو ، ومتانة ورقة ، وأسباب تحمد ، وأمور تؤثر وتمدح.
وقد ترى الأدباء
أولا يوازنون بشعره فلانا وفلانا. ويضمون أشعارهم إلى شعره ، حتى ربما وازنوا بين
شعر من لقبناه ، وبين شعره في أشياء لطيفة وأمور بديعة. وربما فضلوهم ، عليه أو
سووا بينهم وبينه ، أو قربوا موضع تقدمهم عليه ، وبرزوه بين أيديهم.
ولما اختاروا
قصيدته في السبعيات أضافوا إليها أمثالها ، وقرنوا بها نظائرها. ثم تراهم يقولون
لفلان لامية مثلها. ثم ترى أنفس الشعراء تتشوق إلى معارضته وتساويه في طريقته.
وربما عثرت في وجهه على أشياء كثيرة وتقدمت عليه في أسباب عجيبة.
وإذا جاءوا إلى
تعداد محاسن شعره ، كان أمرا محصورا وشيئا معروفا ، أنت تجد من ذلك البديع ، أو أحسن
منه في شعر غيره ، وتشاهد مثل ذلك البارع في كلام سواه ، وتنظر إلى المحدثين كيف
توغلوا إلى حيازة المحاسن منهم من جمع رصانة الكلام إلى سلاسته ، ومتانته إلى
عذوبته ، والإصابة في معناه إلى تحسين بهجته ، حتى أن منهم من إن قصر عنه في بعض ،
تقدم عليه في بعض ، لأن الجنس الذي يرمون إليه والغرض الذي يتواردون عليه ، مما
للآدمي فيه مجال ، وللبشرى فيه مثال. فكل يضرب فيه بسهم ، ويفوز بقدح. ثم قد
تتفاوت السهام تفاوتا ، وتتباين تباينا. وقد تتقارب تقاربا على حسب مشاركتهم في
الصنائع ، ومساهمتهم في الحرف.
ونظم القرآن جنس
مميز وأسلوب متخصص وقبيل عن النظير متخلص. فإذا شئت أن تعرف عظم شأنه ، فتأمل ما
نقوله في هذا الفصل لامرئ القيس في أجود أشعاره. وما نبين لك من عواره على التفصيل
وذلك قوله :
قفا نبك من ذكرى
حبيب ومنزل
|
|
بسقط اللوى بين
الدخول فحومل
|
فتوضح فالمقراة
لم يعف رسمها
|
|
لما نسجتها من
جنوب وشمأل
|
الذين يتعصبون له
، أو يدعون محاسن الشعر ، يقولون : هذا من البديع لأنه وقف ، واستوقف وبكى واستبكى
، وذكر العهد والمنزل والحبيب. وتوجع واستوجع ، كله في بيت ونحو ذلك.
وإنما بيّنا هذا
لئلا يقع لك ذهابنا عن مواضع المحاسن ، إن كانت. ولا غفلتنا عن
مواضع الصناعة ،
إن وجدت. تأمل ـ أرشدك الله ـ وانظر هداك الله : أنت تعلم أنه ليس في البيتين شيء
قد سبق في ميدانه شاعرا ، ولا تقدّم به صانعا. وفي لفظه ومعناه خلل.
فأول ذلك : أنه
استوقف من يبكي لذكر الحبيب ، وذكراه لا يقتضي بكاء الخليّ.
وإنما يصحّ طلب
الإسعاد في مثل هذا على أن يبكي لبكائه ، ويرق لصديقه في شدة برحائه.
فأما أن يبكي على
حبيب صديقه ، وعشيق رفيقه ، فأمر محال.
فإن كان المطلوب
وقوفه وبكاءه أيضا عاشقا ، صح الكلام ، وفسد المعنى. من وجه آخر ؛ لأنه من السخف
أن لا يغار على حبيبه ، وأن يدعو غيره إلى التغازل عليه ، والتواجد معه فيه.
ثم إن في البيتين
ما لا يفيد من ذكر هذه المواضع ، وتسمية هذه الأماكن من «الدّخول» و «حومل» ، «وتوضح»
و «المقراة» ، و «سقط اللّوى». وقد كان يكفيه أن يذكر في التعريف بعض هذا. وهذا
التطويل إذا لم يفد ، كان ضربا من العي.
ثم إن قوله : «لم
يعف رسمها» ، ذكر الأصمعي من محاسنه أنه باق ، فنحن نحزن على مشاهدته ، فلو عفا
لاسترحنا.
وهذا بأن يكون من
مساويه أولى ؛ لأنه إن كان صادق الود فلا يزيده عفاء الرسوم إلا جدة عهد ، وشدة
وجد. وإنما فزع الأصمعي إلى إفادته هذه الفائدة ، خشية أن يعاب عليه ، فيقال : أيّ
فائدة لأن يعرّفنا أنه لم يعف رسم منازل حبيبه؟ وأي معنى لهذا الحشو؟ فذكر ما يمكن
أن يذكر ، ولكن لم يخلصه بانتصاره له من الخلل. ثم في هذه الكلمة خلل آخر لأنه
عقّب البيت بأن قال :
«فهل عند رسم دارس
من معول».
فذكر أبو عبيدة
أنه رجع فأكذب نفسه ، كما قال زهير :
قف بالديار التي
لم يعفها القدم
|
|
نعم وغيّرها
الأرواح والدّيم
|
وقال غيره : أراد
بالبيت الأول أنه لم ينطمس أثره كله ، وبالثاني أنه ذهب بعضه حتى لا يتناقض
الكلامان. وليس في هذا انتصار ؛ لأن معنى عفا ودرس واحد ، فإذا قال لم يعف رسمها
ثم قال قد عفا ، فهو تناقض لا محالة. واعتذار أبي عبيدة أقرب لو صح. ولكن لم يرد
هذا القول مورد الاستدراك ، كما قاله زهير فهو إلى الخلل أقرب ، وقوله : لما
نسجتها ، كان ينبغي أن يقول لما نسجها ، ولكنه تعسف فجعل ما في تأويل التأنيث
لأنها في معنى الريح ، والأولى التذكير دون التأنيث. وضرورة الشعر قد دلته على هذا
التعسف ، وقوله لم يعف رسمها كان الأولى أن يقول لم يعف رسمه ، لأنه ذكر المنزل.
فإن كان رد ذلك
إلى هذه البقاع ، والأماكن التي المنزل واقع بينها ، فذلك خلل ؛ لأنه إنما يريد
صفة المنزل الذي نزله حبيبه بعفائه ، أو بأنه لم يعف دون ما جاوره. وإن أراد
بالمنزل الدار حتى أنث ، فذلك أيضا خلل. ولو سلم من هذا كله ، ومما نكره ذكره
كراهية التطويل ، لم يشك في أن شعر أهل زماننا لا يقصر عن البيتين بل يزيد عليهما
ويفضلهما. ثم قال :
وقوفا بها صحبي
عليّ مطيّهم
|
|
يقولون لا تهلك
أسى وتحمّل
|
وإن شفائي عبرة
مهراقة
|
|
فهل عند رسم
دارس من معوّل
|
وليس في البيتين
أيضا معنى بديع ، ولا لفظ حسن كالأولين.
والبيت الأول
منهما متعلق بقوله : «قفا نبك» فكأنه قال : قفا وقوف صحبي بها على مطيهم. أوقفا
حال وقوف صحبي. وقوله بها متأخر في المعنى وإن تقدم في اللفظ. ففي ذلك تكلف وخروج
عن اعتدال الكلام.
والبيت الثاني
مختل من جهة أنه قد جعل الدمع في اعتقاده شافيا كافيا. فما حاجته بعد ذلك إلى طلب
حيلة أخرى ، وتحمّل ومعوّل عند الرسوم؟ ولو أراد أن يحسن الكلام ، لوجب أن يدلّ
على أن الدمع لا يشفيه لشدة ما به من الحزن. ثم يسائل هل عند الربع من حيلة أخرى؟
وقوله :
كدأبك من أم
الحويرث قبلها
|
|
وجارتها أمّ
الرّباب بمأسل
|
إذ قامتا تضوّع
المسك منهما
|
|
نسيم الصبا يأتي
بريّا القرنفل
|
أنت لا تشك في أن
البيت الأول قليل الفائدة ، ليس له مع ذلك بهجة ، فقد يكون الكلام مصنوع اللفظ ،
وإن كان منزوع المعنى. وأما البيت الثاني فوجه التكلف فيه قوله : إذا قامتا تضوع
المسك منهما. ولو أراد أن يجود أفاد أن بهما طيبا على كل حال.
فأما في حال
القيام فقط فذلك تقصير ، ثم فيه خلل آخر لأنه بعد أن شبه عرفها بالمسك ، شبه ذلك
بنسيم القرنفل ، وذكر ذلك بعد ذكر المسك نقص. وقوله نسيم الصبا في تقدير المنقطع
عن المصراع الأول لم يصله به وصل مثله. وقوله :
ففاضت دموع
العين مني صبابة
|
|
على النحر حتى
بلّ دمعي محملي
|
ألا رب يوم لك
منهن صالح
|
|
ولا سيما يوم
بدارة جلجل
|
قوله : ففاضت دموع
العين ، ثم استعانته بقوله مني ، استعانة ضعيفة عند المتأخرين في الصنعة. وهو حشو
غير مليح ، ولا بديع. وقوله : على النحر ، حشو آخر ، لأن قوله : بلّ دمعي محملي
يغني عنه ، ويدل عليه. وليس بحشو حسن. ثم قوله : حتى بلّ دمعي محملي
إعادة ذكره الدمع
حشو آخر. وكان يكفيه أن يقول : حتى بلّت محملي ، فاحتاج لإقامة الوزن إلى هذا كله.
ثم تقديره أنه قد
أفرط في إفاضة الدمع حتى بلّ محمله ، تفريط منه وتقصير. ولو كان أبدع لكان يقول :
حتى بلّ دمعي مغانيهم وعراصهم. ويشبه أن يكون غرضه إقامة الوزن والقافية ، لأن الدمع
يبعد أن يبلّ المحمل. وإنما يقطر من الواقف والقاعد على الأرض أو على الذيل. وإن
بله فلقلته وأنه لا يقطر. وأنت تجد في شعر الخبزرزيّ ما هو أحسن من هذا البيت
وأمتن وأعجب منه.
والبيت الثاني خال
من المحاسن والبديع ، خال من المعنى. وليس له لفظ يروق ولا معنى يروع. من طبائع
السوقة ، فلا يرعك تهويله ، باسم موضع غريب ، وقال :
ويوم عقرت
للعذارى مطيّتي
|
|
فيا عجبا من
رحلها المتحمّل
|
فظلّ العذارى
يرتمين بلحمها
|
|
وشحم كهدّاب
الدّمقس المفتّل
|
تقديره : أذكر يوم
عقرت مطيتي. أو يرده على قوله : يوم بدارة جلجل وليس في المصراع الأول من هذا
البيت إلا سفاهته.
قال بعض الأدباء
قوله : يا «عجبا» ، يعجبهم من سفهه في شبابه من نحره ناقته لهم.
وإنما أراد أن لا
يكون الكلام من هذا المصراع منقطعا عن الأول. وأراد أن يكون الكلام ملائما له.
وهذا الذي ذكره
بعيد. وهو منقطع عن الأول. وظاهره أنه يتعجب من تحمل العذارى رحله ، وليس في هذا
تعجب كبير. ولا في نحر الناقة لهن تعجب ، وإن كان يعني به أنهن حملن رحله ، وأن
بعضهن حملته ، فعبر عن نفسه برحله ، فهذا قليلا يشبه أن يكون عجبا. لكن الكلام لا
يدل عليه. ويتجافى عنه. ولو سلم البيت من العيب لم يكن فيه شيء غريب ولا معنى بديع
، أكثر من سفاهته ، مع قلة معناه ، وتقارب أمره ، ومشاكلته طبع المتأخرين من أهل
زماننا. وإلى هذا الوضع لم يمر له بيت رائع ، وكلام رائق.
وأما البيت الثاني
فيعدونه حسنا ، ويعدون التشبيه مليحا واقعا ، وفيه شيء : وذلك أنه عرّف اللحم ،
ونكّر الشّحم ، فلا يعلم أنه وصف شحمها ، وذكر تشبيه أحدهما بشيء واقع ، وعجز عن
تشبيه القسمة الأولى ، فمرّت مرسلة ، وهذا نقص في الصنعة ، وعجز عن إعطاء الكلام
حقّه ، وفيه شيء آخر من جهة المعنى : وهو أنه وصف طعامه الذي أطعم من أضاف بالجودة
، وهذا قد يعاب ، وقد يقال إن العرب تفتخر بذلك ، ولا يرونه عيبا. وإنما الفرس هم
الذين يرون هذا عيبا شنيعا.
وأما تشبيه الشحم
بالدّمقس ، فشيء يقع للعامة ، ويجري على ألسنتهم ، فليس بشيء قد سبق إليه ، وإنما
زاد المفتّل للقافية ، وهذا مفيد. ومع ذلك ، فلست أعلم العامة تذكر هذه الزيادة ،
ولم يعدّ أهل الصنعة ذلك من البديع ، ورأوه قريبا.
وفيه شيء آخر ،
وهو : أن تبجحه بما أطعم للأحباب مذموم وإن سوّغ التبجيح بما أطعم للأضياف إلا أن
يورد الكلام مورد المجون ، وعلى طريق أبي نواس في المزاح والمداعبة. وقوله :
ويوم دخلت الخدر
خدر عنيزة
|
|
فقالت لك
الويلات إنك مرجلي
|
تقول وقد مال
الغبيط بنا معا
|
|
عقرت بعيري يا
امرأ القيس فأنزل
|
قوله : دخلت الخدر
خدر عنيزة ، ذكره تكريرا لإقامة الوزن لا فائدة فيه. غيره ، ولا ملاحة ولا رونق.
وقوله في المصراع الأخير من هذا البيت : فقالت لك الويلات إنك مرجلى كلام مؤنث من
كلام النساء ، نقله من جهته إلى شعره ، وليس فيه غير هذا. وتكريره بعد ذلك «تقول
وقد مال الغبيط» يعني قتب الهودج بعد قوله : «فقالت لك الويلات إنك مرجلي» لا
فائدة فيه غير تقدير الوزن ، وإلا فحكاية قولها الأول كاف ، وهو في النظم قبيح ،
لأنه ذكر مرة «فقالت» ، ومرة «تقول» في معنى واحد وفصل خفيف.
وفي مصراع الثاني
أيضا تأنيث من كلامهن ، وذكر أبو عبيدة أنه قال : عقرت بعيري ، ولم يقل ناقتي ؛
لأنهم يحملون النساء على ذكور الإبل لأنها أقوى ، وفيه نظر ؛ لأن الأظهر أن البعير
اسم للذكر والأنثى ، واحتاج إلى ذكر البعير لإقامة الوزن ، وقوله :
فقلت لها سيري
وأرخى زمامه
|
|
ولا تبعديني من
جناك المعلّل
|
فمثلك حبلى قد
طرقت ومرضع
|
|
فألهيتها عن ذي
تمائم مغيل
|
البيت الأول قريب
النسج ، ليس له معنى بديع ، ولا لفظ شريف ، كأنه من عبارات المنحطين في الصنعة.
وقوله فمثلك حبلى قد طرقت ، عابه عليه أهل العربية. ومعناه عندهم حتى يستقيم
الكلام (فرب مثلك حبلى قد طرقت) وتقديره أنه زير نساء ، وأنه يفسدهن ويلهيهن عن
حبلهن ورضاعهن ؛ لأن الحبلى والمرضعة أبعد من الغزل ، وطلب الرجال.
والبيت الثاني في
الاعتذار والاستهتار والتهيام وغير منتظم مع المعنى الذي قدمه في البيت الأول. لأن
تقديره لا تبعديني عن نفسك ، فإني أغلب النساء وأخدعهن عن رأيهن وأفسدهن بالتغازل.
وكونه مفسدة لهن لا يوجب له وصلهن وترك إبعادهن إياه. بل يوجب هجره والاستخفاف به
، لسخفه ودخوله كل مدخل فاحش ، وركوبه كل مركب فاسد ، وفيه
من الفحش والتفحش
ما يستنكف من مثله ويأنف من ذكره ، وكقوله :
إذا ما بكى من
خلفها انصرفت له
|
|
بشقّ ، وتحتي
شقّها لم يحوّل
|
ويوما على ظهر
الكثيب تعذّرت
|
|
عليّ وآلت حلفة
لم تحلّل
|
فالبيت الأول غاية
في الفحش ، ونهاية في السخف. وأي فائدة لذكره لعشيقته ، كيف كان يركب هذه القبائح
، ويذهب هذه المذاهب ، ويرد هذه الموارد؟! إن هذا ليبغضه إلى كل من سمع كلامه.
ويوجب له المقت. وهو لو صدق لكان قبيحا ، فكيف ويجوز أن يكون كاذبا. ثم ليس في
البيت لفظ بديع ، ولا معنى حسن. وهذا البيت متصل بالبيت الذي قبله ، من ذكر المرضع
التي لها ولد محول. فأما البيت الثاني وهو قوله ويوما يتعجب منه ، وإنما تشددت
وتعسرت عليه ، وحلفت عليه ، فهو كلام رديء النسج ، لا فائدة لذكره لنا ، أن حبيبته
تمنعت عليه يوما بموضع يسميه ويصفه. وأنت تجد في شعر المحدثين من هذا الجنس في
التغزل ما يذوب معه اللب وتطرب عليه النفس ، وهذا مما تستنكره النفس ويشمئز منه
القلب ، وليس فيه شيء من الإحسان والحسن. وقوله :
أفاطم مهلا بعض
هذا التدلّل
|
|
وإن كنت قد
أزمعت صرمي فأجملي
|
أغرّك مني أن
حبّك قاتلي
|
|
وأنك مهما تأمري
القلب يفعل
|
فالبيت الأول فيه
ركاكة جدا ، وتأنيث ورقة. ولكن فيهما تخنيث! ولعل قائلا يقول :
إن كلام النساء
بما يلائمهن من الطبع أوقع وأغزل؟ وليس كذلك ، لأنك تجد الشعراء في الشعر المؤنث
لم يعدلوا عن رصانة قولهم.
والمصراع الثاني
منقطع عن الأول لا يلائمه ولا يوافقه ، وهذا يبين لك إذا اعترضت معه البيت الذي
تقدمه ، وكيف ينكر عليها تدللها ، والمتغزل يطرب على دلال الحبيب وتدلّله؟
والبيت الثاني :
قد عيب عليه لأنه قد أخبر أن من سبيلها أن لا تغتر بما يريها من أن حبها يقتله.
وأنها تملك قلبه ، فما أمرته فعله. والمحب إذا أخبر عن مثل هذا صدق ، وإن كان
المعنى غير هذا الذي عيب عليه ، وإنما ذهب مذهبا آخر وهو أنه أراد أن يظهر التجلد
، فهذا خلاف ما أظهر من نفسه فيما تقدم من الأبيات ، من الحب والبكاء على الأحبة.
فقد دخل في وجه آخر من المناقضة والإحاطة في الكلام ، ثم قوله : تأمري القلب يفعل
معناه : تأمريني. والقلب لا يؤمر ، والاستعارة في ذلك غير واقعة ولا حسنة. وقوله :
فإن كنت قد
ساءتك مني خليقة
|
|
فسلّي ثيابي عن
ثيابك تنسل
|
وما ذرفت عيناك
إلا لتضربي
|
|
بسهميك في أعشار
قلب مقتّل
|
البيت الأول قد
قيل في تأويله : إنه ذكر الثوب وأراد البدن ، مثل قول الله تعالى (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) وقال أبو عبيدة : هذا مثل للهجر ، وتنسل : تبين.
وهو بيت قليل
المعنى ، ركيكة ووضيعه. وكل ما أضاف إلى نفسه ، ووصف به نفسه سقوط وسفه وسخف يوجب
قطعه. فلم يحكم على نفسه بذلك ، ولكن يورده مورد أن ليست له خليقة توجب هجرانه. والتقصّي
من وصله ، وأنه مهذب الأخلاق ، شريف الشمائل ، فذلك يوجب أن لا ينفك من وصاله.
والاستعارة في
المصراع الثاني فيها تواضع وتقارب ، وإن كانت غريبة. وأما البيت الثاني فمعدود من
محاسن القصيدة وبدائعها ، ومعناه ما بكيت إلا لتجرحي قلبا معشّرا ، أي مكسرا ، من
قولهم : برمة أعشار ، إذا كانت قطعا هذا تأويل ذكره الأصمعي رضي الله عنه ، وهو
أشبه عند أكثرهم.
وقال غيره : وهذا
مثل للأعشار التي تقسم الجزور عليها. ويعني بسهميك ، المعلى وله سبعة أنصباء ،
والرقيب وله ثلاثة أنصباء. فأراد أنك ذهبت بقلبي أجمع. ويعني بقوله : مقتل مذلل.
وأنت تعلم أنه على ما يعني به فهو غير موافق للأبيات المتقدمة ، لما فيها من
التناقض الذي بيّنا.
ويشبه أن يكون من
قال بالتأويل الثاني فزع إليه لأنه رأى اللفظ مستكرها على المعنى الأول ، لأن
القائل إذا قال : ضرب فلان بسهمه في الهدف ، بمعنى أصابه ، كان كلاما ساقطا
مرذولا. وهو يرى أن معنى الكلمة أن عينيها كالسهمين النافذين في إصابة قلبه
المجروح ، فلما بكتا وذرفتا بالدموع كانتا ضاربتين في قلبه.
ولكن من حمل على
التأويل الثاني سلم من الخلل الواقع في اللفظ ، ولكنه إذا حمل على الثاني فسد
المعنى واختل ، لأنه إن كان محتاجا على ما وصف به نفسه من الصبابة ، فقلبه كله
لها. فكيف يكون بكاؤه هو الذي يخلص قلبه لها؟
واعلم بعد هذا أن
البيت غير ملائم للبيت الأول ، ولا متصل به في المعنى ، وهو منقطع عنه ، لأنه لم
يسبق كلام يقتضي بكاءها ، ولا سبب يوجب ذلك. فتركيبة هذا الكلام على ما قبله فيه
اختلال ، ثم لو سلم له بيت من عشرين بيتا وكان بديعا ولا عيب فيه ، فليس بعجيب
لأنه لا يدعي على مثله أن كلامه كله متناقض ، ونظمه كله متباين.
وإنما يكفي أن
نبين أن ما سبق من كلامه إلى هذا البيت مما لا يمكن أن يقال إنه يتقدم
__________________
فيه أحدا من
المتأخرين ، فضلا عن المتقدمين ، وإنما قدم في شعره لأبيات قد برع فيها وبان حذقه
بها. وإنما أنكرنا أن يكون شعره متناسبا في الجودة ومتشابها في صحة المعنى واللفظ
، وقلنا إنه يتصرف بين وحشي غريب مستنكر وعربية كالمهل مستنكرة ، وبين كلام سليم
متوسط ، وبين عامي سوقي في اللفظ والمعنى ، وبين حكمة حسنة ، وبين سخف مستشنع.
ولهذا قال الله عز
اسمه : (وَلَوْ كانَ مِنْ
عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) فأما قوله :
وبيضة خدر لا
يرام خباؤها
|
|
تمتعت من لهوبها
غير معجل
|
تجاوزت أحراسا
وأهوال معشر
|
|
عليّ حراص لو
يسرّون مقتلي
|
فقد قالوا : عنى
بذلك أنها كبيضة خدر في صفائها ورقتها. وهذه كلمة حسنة ، ولكن لم يسبق إليها ، بل
هي دائرة في أفواه العرب وتشبيه سائر.
ويعني بقوله : غير
معجل ، أنه ليس ذلك مما يتفق قليلا وأحيانا ، بل يتكرر له الاستمتاع بها. وقد
يحمله غيره على أنه رابط الجأش فلا يستعجل إذا دخلها خوف حصانتها ومنعتها.
وليس في البيت
كبير فائدة ، لأنه الذي حكى في سائر أبياته ، فلا تتضمن مطاولته في المغازلة ،
واشتغاله بها. فتكريره في هذا البيت مثل ذلك قليل المعنى ، إلا الزيادة التي ذكر
من منعتها. وهو مع ذلك بيت سليم اللفظ في المصراع الأول ، دون الثاني. والبيت
الثاني ضعيف وقوله : لو يسرون مقتلي ، أراد أن يقول لو أسروا فإذا نقله إلى هذا
ضعف ووقع في مضمار الضرورة. والاختلال على نظمه بيّن حتى أن المحترز يحترز من مثله
وقوله :
إذا ما الثريا
في السماء تعرضت
|
|
تعرض أثناء
الوشاح المفصّل
|
وقد أنكر عليه قوم
قوله : «إذا ما الثريا في السماء تعرضت» ، وقالوا : الثريا لا تتعرض ، حتى قال
بعضهم : سمي الثريا ، وإنما أراد الجوزاء لأنها تعرض والعرب تفعل ذلك كما قال زهير
: «كأحمر عاد» وإنما هو أحمر ثمود ، وقال بعضهم في تصحيح قوله : تعرض له أول ما
تطلع كما أن الوشاح إذا طرح يلقاك بعرضه ، وهو ناحيته ، وهذا كقول الشاعر :
تعرّضت لي بمجان
خلّ
|
|
تعرّض المهرة في
الطول
|
__________________
يقول : تريك عرضها
وهي في الرّسن ، وقال أبو عمرو : يعني إذا أخذت الثريا في وسط السماء كما يأخذ
الوشاح وسط المرأة ، والأشبه عندنا أن البيت غير معيب من حيث عابوه به ، وأنه من
محاسن هذه القصيدة ، ولو لا أبيات عدة فيه لقابله ما شئت من شعر غيره. ولكن لم يأت
فيه بما يفوت الشأو ويستولي على الأمد.
أنت تعلم أنه ليس
للمتقدمين ولا للمتأخرين في وصف شيء من النجوم ، مثل ما في وصف الثريا. وكلّ قد
أبدع فيه وأحسن ، فإما أن يكون قد عارضه أو زاد عليه ، فمن ذلك قول ذي الرمة :
وردت اعتسافا والثريا كأنها
|
|
على قمة الرأس
ابن ماء محلّق
|
ومن ذلك قول ابن
المعتز :
وترى الثريا في
السماء كأنها
|
|
بيضات أدحيّ
يلحن بفدفد
|
وكقوله :
كأن الثريا في
أواخر ليلها
|
|
تفتّح نور أو
لجام مفضّض
|
وقوله أيضا :
فناولنيها
والثريا كأنها
|
|
جنى نرجس حيا
الندامى به السّاقي
|
وقول الأشهب بن
رميلة :
ولاحت لساريها
الثريا كأنها
|
|
لدى الأفق
الغربي قرط مسلسل
|
ولابن المعتز :
وقد هوى النجم
والجوزاء تتبعه
|
|
كذات قرط أرادته
وقد سقطا
|
أخذه من ابن
الرومي في قوله :
طيّب ريقه إذ
ذقت فاه
|
|
والثّريا بجانب
الغرب قرط
|
ولابن المعتز :
قد سقاني المدام
والص
|
|
بح بالليل مؤتزر
|
والثّريّا كنور
غص
|
|
ن على الأرض قد
نثر
|
وقوله :
ونروم الثريّا
|
|
في السماء مراما
|
كانكباب طمر
|
|
كاد يلقي لجاما
|
__________________
ولابن الطثرية :
إذا ما الثريا
في السماء كأنها
|
|
جمان وهي من
سلكه فتبدّدا
|
ولو نسخت لك كل ما
قالوا من البديع في وصف الثريا لطال عليك الكتاب ، وخرج عن الغرض. وإنما نريد أن
نبين لك أن الإبداع في نحو هذا أمر قريب ، وليس فيه شيء غريب.
وفي جملة ما
نقلناه ، ما يزيد على تشبيهه في الحسن ، أو يساويه أو يقاربه. فقد علمت أن ما حلّق
فيه ، وقدر المتعصب له أنه بلغ النهاية فيه أمر مشترك ، وشريعة مورودة ، وباب واسع
، وطريق مسلوك. وإذا كان هذا بيت القصيدة ، ودرة القلادة ، وواسطة العقد ، وهذا
محله فكيف بما تعداه؟
ثم فيه ضرب من
التكلف لأنه قال : «إذا ما الثريا في السماء تعرضت» ، تعرض أثناء الوشاح فقوله :
تعرضت من الكلام الذي يستغنى عنه ، لأنه يشبّه أثناء الوشاح ، سواء كان في وسط
السماء ، أو عند الطلوع والمغيب.
فالتهويل بالتعرض
والتطويل بهذه الألفاظ لا معنى له ، وفيه أن الثريا كقطعة من الوشاح المفصّل ، فلا
معنى لقوله : تعرض أثناء الوشاح وإنما أراد أن يقول تعرض قطعة من أثناء الوشاح ،
فلم يستقم له اللفظ حتى شبه ما هو كالشيء الواحد بالجمع وقوله :
فجئت وقد نضت
لنوم ثيابها
|
|
لدى السّتر إلا
لبسة المتفضّل
|
فقالت : يمين
الله ما لك حيلة
|
|
وما إن أرى عنك
المعاوية تنجلي
|
انظر إلى البيت
الأول ، والأبيات التي قبله ، كيف خلّط في النظم ، وفرّط في التأليف! فذكر التمتع
بها ، وذكر الوقت والحال والحرّاس. ثم يذكر كيف كان صفتها لما دخل عليها ، ووصل
إليها من نزعها ثيابها إلا ثوبا واحدا ، والمتفضّل : الذي في ثوب واحد ، وهو الفضل
، فما كان من سبيله أن يقدّمه إنما ذكره مؤخرا.
وقوله لدى الستر
حشو ، وليس بحسن ولا بديع ، وليس في البيت حسن ولا شيء يفضّل لأجله.
وأما البيت الثاني
ففيه تعليق واختلال. ذكر الأصمعي أن معنى قوله : ما لك حيلة ، أي ليست لك جهة تجيء
فيها والناس حوالي. والكلام في المصراع الثاني منقطع عن الأول ، ونظمه إليه فيه
ضرب من التفاوت ، وقوله :
فقمت بها أمشي
تجرّ وراءنا
|
|
على إثرنا أذيال
مرط مرجّل
|
فلما أجزنا ساحة
الحي وانتحى
|
|
بنا بطن خبت ذي
حقاف عقنقل
|
البيت الأول من
مساعدتها إياه ، حتى قامت معه ليخلوا ، وإنما كانت تجر على الأثر أذيال مرط مرجّل
، والمرجّل : ضرب من البرود ، يقال : لو شبه الترجيل وفيه تكلف لأنه قال : وراءنا
على إثرنا. ولو قال على إثرنا ، كان كافيا. والذيل إنما يجر وراء الماشي ، فلا
فائدة لذكره وراءنا. وتقدير القول : فقمت أمشي بها ، وهذا أيضا ضرب من التكلف. وقوله
أذيال مرط ، كان من سبيله أن يقول : ذيل مرط ، على أنه لو سلم من ذلك كان قريبا ،
ليس مما يفوت بمثله غيره ، ولا يتقدم به سواه ، وقول ابن المعتز أحسن منه :
فبت أفرش خدي في
الطريق له
|
|
ذلا واسحب
أكمامي على الأثر
|
وأما البيت الثاني
فقوله : أجزنا بمعنى قطعنا ، والخبت بطن من الأرض ، والحقف رمل منعرج ، والعقنقل :
المنعقد من الرمل الداخل بعضه في بعض.
وهذا بيت متقارب
مع الأبيات المتقدمة ، لأن فيها ما هو سلس قريب يشبه كلام المولدين ، وكلام
البذلة. وهذا قد أغرب فيه وأتى بهذه اللفظة الوحشية ، المتعقدة ، وليس في ذكرها
والتفضيل بإلحاقها بكلامها فائدة.
والكلام الغريب ،
واللفظة الشديدة المباينة لنسج الكلام قد تحمد إذا وقعت موقع الحاجة في وصف ما
يلائمها ، كقوله عزوجل في وصف يوم القيامة : (يَوْماً عَبُوساً
قَمْطَرِيراً) فأما إذا وقعت في غير هذا الموقع فهي مكروهة مذمومة ، بحسب
ما تحمد في موضعها.
وروي أن جريرا
أنشد بعض خلفاء بني أمية قصيدته :
بان الخليط
برامتين فودعوا
|
|
أو كلما جدوا
لبين تجزع؟
|
كيف العزاء ولم
أجد مذ بنتم
|
|
قلبا يقر ولا
شرابا ينقع
|
قال : وكان يزحف
من حسن هذا الشعر حتى بلغ قوله :
وتقول بوزع : قد
دببت على العصا
|
|
هلّا هزئت
بغيرنا يا بوزع
|
فقال : أفسدت شعرك
بهذا الاسم ، وأما قوله :
هصرت بغصني دوحة
فتمايلت
|
|
عليّ هضيم الكشح
ريّا المخلخل
|
مهفهفة بيضاء
غير مفاضة
|
|
ترائبها مصقولة
كالسّجنجل
|
فمعنى قوله : هصرت
: جذبت وثنيت.
__________________
وقوله : «بغصني
دوحة» تعسّف ، ولم يكن من سبيله أن يجعلهما اثنين.
والمصراع الثاني
أصح ، وليس فيه شيء إلا ما يتكرر على ألسنة الناس من هاتين الصفتين. وأنت تجد ذلك
في وصف كل شاعر ، ولكنه مع تكرره على الألسن صالح.
وأما معنى قوله :
مهفهفة أنها مخففة ليست مثقلة ، والمفاضة التي اضطرب طولها ، والبيت مع مخالفته في
الطبع الأبيات المتقدمة ونزوعه فيه إلى الألفاظ المستكرهة ، وما فيه من الخلل من
تخصيص الترائب بالضوء بعد ذكر جميعها بالبياض ، فليس بطائل ؛ ولكنه قريب متوسط ،
وقوله :
تصدّ وتبدي عن
أسيل وتتّقي
|
|
بناظرة من وحش
وجرة مطفل
|
وجيد كجيد
الرّيم ليس بفاحش
|
|
إذا هي نضته ولا
بمعطّل
|
معنى قوله : عن
أسيل ، أي بأسيل ، وإنما يريد خدا ليس بكرا.
وقوله : تتقي يقال
اتقاه بترسه أي جعله بينه وبينه ، وقوله : تصد وتبدي عن أسيل متفاوت لأن الكشف عن
الوجه مع الوصل دون الصد.
وقوله : تتقي
بناظرة ، لفظة مليحة ، ولكن أضافها إلى ما نظم به كلامه وهو مختل ، وهو قوله : من
وحش وجرة ، وكان يجب أن تكون العبارة بخلاف هذا. كان من سبيله أن يضيف إلى عيون
الظبا أو المها دون إطلاق الوحش ، ففيهن ما تستنكر عيونها.
وقوله : «مطفل»
فسروه على أنها ليست بصبية وأنها قد استحكمت ، وهذا اعتذار متعسف. وقوله مطفل
زيادة لا فائدة فيها على هذا التفسير الذي ذكره الأصمعي. ولكن قد يحتمل عندي أن
يفيد غير هذه الفائدة. فيقال : إنها إذا كانت مطفلا لحظت أطفالها بعين رقة ، ففي
نظر هذه رقة نظر المودة ، ويقع الكلام معلقا تعليقا متوسطا.
وأما البيت الثاني
فمعنى قوله : ليس بفاحش ، أي ليس بفاحش الطول ، ومعنى قوله : نضته ، رفعته ، ومعنى
قوله : ليس بفاحش في مدح الأعناق ، كلام فاحش موضوع منه. وإذا نظرت في أشعار العرب
رأيت في وصف الأعناق ما يشبه السحر. فكيف وقع على هذه الكلمة ودفع إلى هذه اللفظة
..؟ وهلا قال كقول أبي نواس؟
مثل الظباء سمت
إلى
|
|
روض صوادر عن
غدير
|
ولست أطول عليك ،
فتستثقل ، ولا أكثر القول في ذمه ، فتستوحش. وأكلك الآن إلى جملة من القول ، فإن
كنت من أهل الصنعة ، فطنت واكتفيت وعرفت ما رمينا إليه واستغنيت.
وإن كنت عن الطبقة
خارجا ، وعن الإتقان بهذا الشأن خاليا ، فلا يكفيك البيان ، وإن استقرينا جميع
شعره ، وتتبعنا عامة ألفاظه ، ودللنا على ما في كل حرف منه. اعلم أن هذه القصيدة
قد ترددت بين أبيات سوقية مبتذلة ، وأبيات متوسطة ، وأبيات ضعيفة مرذولة ، وأبيات
وحشية غامضة مستكرهة ، وأبيات معدودة بديعة.
وقد دللنا على
المبتذل منها ، ولا يشتبه عليك الوحشي المستنكر الذي يروع السمع ، ويهول القلب ،
ويكدّ اللسان ، ويعبس معناه في وجه كل خاطر ، ويكفهر مطلعه على كل متأمل وناظر ،
ولا يقع بمثله التمدح والتفاصح وهو مجانب لما وضع له أصل الإفهام ، ومخالف لما بنى
عليه التفاهم الكلام. فيجب أن يسقط عن الغرض المقصود ، ويلحق باللغز والإشارة
المستبهمة. فأما الذي زعموا أنه من بديع هذا الشعر ، فهو قوله :
ويصحى فتيت
المسك فوق فراشها
|
|
تؤم الضّحى لم
تنتطق عن تفضّل
|
والمصراع الأخير
عندهم بديع ، ومعنى ذلك : أنها مترفة متنعمة ، لها من يكفيها.
ومعنى قوله : لم
تنتطق عن تفضل ، يقول : لم تنتطق وهو فضل. و «عن» هي بمعنى «بعد». قال أبو عبيدة :
لم تنتطق فتعمل ، ولكنها تتفضل. ومما يعدونه من محاسنها :
وليل كموج البحر
أرخى سدوله
|
|
عليّ بأنواع
الهموم ليبتلى
|
فقلت له لما
تمطى بصلبه
|
|
وأردف أعجازا
وناء بكلكل
|
ألا أيها الليل
الطويل ألا انجلي
|
|
بصبح ، وما
الإصباح منك بأمثل
|
وكان بعضهم يعارض
هذا بقول النابغة :
كليني لهم يا
أميمة ناصب
|
|
وليل أقاسيه
بطيء الكواكب
|
وصدر أراح الليل
عازب همّه
|
|
تضاعف فيه الحزن
من كلّ جانب
|
تقاعس حتى قلت
ليس بمنقض
|
|
وليس الذي يتلو
النجوم بآئب
|
وقد جرى ذلك بين
يدي بعض الخلفاء ، فقدمت أبيات امرئ القيس ، واستحسن استعارتها ، وقد جعل لليل
صدرا يثقل تنحيه ، ويبطئ تقضيه. وجعل له أردافا كثيرة ، وجعل له صلبا يمتد
ويتطاول. ورأوا هذا بخلاف ما يستعيره أبو تمام من الاستعارات الوحشية البعيدة
المستنكرة. ورأوا أن الألفاظ جميلة.
واعلم أن هذا صالح
جميل ، وليس من الباب الذي يقال إنه متناه عجيب وفيه إلمام بالتكلف. ودخول في
التعمل. وقد خرجوا له في البديع من القصيدة قوله :
وقد اغتدي
والطير في وكناتها
|
|
بمنجرد قيد
الأوابد هيكل
|
مكرّ مفرّ مقبل
مدبر معا
|
|
كجلمود صخر حطّه
السيل من عل
|
وقوله أيضا :
به أيطلا ظبي
وساقا نعامة
|
|
وإرخاء سرحان
وتقريب تنفل
|
فأما قوله : قيد
الأوابد ، فهو مليح ، ومثله في كلام الشعراء وأهل الفصاحة كثير. والتعمل بمثله
ممكن.
وأهل زماننا الآن
يصنفون نحو هذا تصنيفا ، ويؤلفون المحاسن تأليفا ، ثم يوشحون به كلامهم. والذين
كانوا من قبل لغزارتهم وتمكّنهم لم يكونوا يتصنّعون لذلك ، إنما كان يتفق لهم
اتفاقا ، ويطّرد في كلامهم اطرادا.
وأما قوله في وصفه
: «مكرّ مفرّ» فقد جمع فيه طباقا وتشبيها ، وفي سرعة جري الفرس للشعراء ما هو أحسن
من هذا وألطف. وكذلك في جمعه بين أربعة وجوه من التشبيه في بيت واحد صنعة. ولكن قد
عورض فيه وزوحم ، والتوصل إليه يسير ، وتطلبه سهل قريب.
وقد بيّنا لك أن
هذه القصيدة ونظائرها تتفاوت في أبياتها تفاوتا بيّنا في الجودة والرداءة ،
والسلاسة والانعقاد ، والسلامة والانحلال ، والتمكن والتسهيل ، والاسترسال ،
والتوحش والاستكراه. وله شركاء في نظائرها ومنازعون في محاسنها ، ومعارضون في
بدائعها. ولا سواء كلام ينحت عن الصخر تارة ، ويذوب تارة ، ويتلوّن تلوّن الحرباء
، ويختلف اختلاف الأهواء ، ويكثر في تصرفه اضطرابه ، وتتقاذف به أسبابه وبين قول
يجري في سبكه على نظام ، وفي رصفه على منهاج ، وفي وضعه على حدّ ، وفي صفائه على
باب ، وفي بهجته ورونقه على طريق ، مختلفه مؤتلف ، ومؤتلفه متّحد ، ومتباعده
متقارب ، وشارده مطيع ، ومطيعه شارد. وهو على متصرّفاته واحد ، لا يستصعب في حال ،
ولا يتعقد في شأن.
وكنا أردنا أن
نتصرّف في قصائد مشهورة ، فنتكلم عليها ، وندلّ على معانيها ومحاسنها ، ونذكر لك
من فضائلها ونقائصها ، ونبسط لك القول في هذا الجنس ، ونفتح عليك في هذا النهج.
ثم رأينا هذا
خارجا عن غرض كتابنا ، والكلام فيه يتصل بنقد الشعر وعياره ، ووزنه بميزانه
ومعياره ؛ ولذلك كتب وإن لم تكن مستوفاة ، وتصانيف وإن لم تكن مستقصاة.
وهذا القدر يكفي
في كتابنا. ولم نحب أن ننسخ لك ما سطره الأدباء في خطأ امرئ القيس في العروض
والنحو والمعاني ، وما عابوه عليه في أشعاره ، وتكلموا به على ديوانه ، لأن ذلك
أيضا خارج عن غرض كتابنا ، ومجانب لمقصوده.
وإنما أردنا أن
نبين الجملة التي بيّناها ، لتعرف أن طريقة الشعر شريعة مورودة ، ومنزلة مشهودة ،
يأخذ منها أصحابها على مقادير أسبابهم ، ويتناول منها ذووها على حسب أحوالهم. وأنت
تجد للمتقدم معنى قد طمسه المتأخر بما أبرّ عليه فيه. وتجد للمتأخر معنى قد أغفله
المتقدم. وتجد معنى قد توافدا عليه ، وتوافيا إليه. فهما فيه شريكا عنان ، وكأنهما
فيه رضيعا لبان. والله يؤتي فضله من يشاء.
فأما نهج القرآن
ونظمه وتأليفه ورصفه ؛ فإن العقول تتيه في جهته ، وتحار في بحره ، وتضل دون وصفه.
ونحن نذكر لك في تفصيل هذا ما تستدل به على الغرض ، وتستولي به على الأمد. وتصل به
إلى المقصد. وتتصور إعجازه كما تتصور الشمس ، وتتيقن تناهي بلاغته كما تتيقن الفجر.
وأقرّب عليك الغامض ، وأسهّل لك العسير.
واعلم أن هذا علم
شريف المحل. عظيم المكان. قليل الطلاب. ضعيف الأصحاب ليست له عشيرة تحميه ، ولا
أهل عصمة تفطن لما فيه. وهو أدق من السحر ، وأهول من البحر ، وأعجب من الشعر.
وكيف لا يكون كذلك
، وأنت تحسب أن وضع الصبح في موضع الفجر يحسن في كل كلام ، إلا أن يكون شعرا أو
سجعا ، وليس كذلك. فإن إحدى اللفظتين قد تنفر في وضع وتزل عن مكان لا تزل عنه
اللفظة الأخرى. بل تتمكن فيه وتضرب بجرانها ، وتراها في مظانها ، وتجدها فيه غير
منازعة إلى أوطانها. وتجد الأخرى لو وضعت موضعها في محل نفار ، ومرمى شراد ،
ونابية عن استقرار.
ولا أكثر عليك
المثال ، ولا أضرب لك فيه الأمثال ، وأرجع بك إلى ما وعدتك من الدلالة. وضمنت لك
من تقريب المقالة. فإن كنت لا تعرف الفصل الذي بيّنا بين اللفظتين على اختلاف
مواقع الكلام ، ومصرفات مجاري النظام ، لم تستفد مما نقر به عليك شيئا ، وكان
التقليد أولى بك ، والاتباع موجب عليك. ولكل شيء سبب ، ولكل علم طريق ، ولا سبيل
إلى الوصول إلى الشيء من غير طريقه. ولا بلوغ غايته من غير سبيله. خذ الآن ، هداك
الله ، في تفريغ الفكر وتخلية البال ، وانظر فيما نعرض عليك ونهديه إليك ، متوكلا
على الله ، ومعتصما به ، ومستعيذا به من الشيطان الرجيم ، حتى تقف على إعجاز
القرآن العظيم ، سماه الله ، عز ذكره ، حكيما وعظيما ومجيدا.
وقال : (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ
يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) وقال :
__________________
(لَوْ أَنْزَلْنا هذَا
الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ
وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) وقال : (وَلَوْ أَنَّ
قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ
بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً) وقال : (قُلْ لَئِنِ
اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا
يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) .
وأخبرنا أحمد بن
محمد بن الحسين القزوينيّ ، حدثنا أبو عبد الرحمن أحمد بن عثمان ، حدثنا أبو يوسف
الصيدلانيّ ، حدثنا محمد بن سلمة عن أبي سنان ، عن عمرو بن مرّة ، عن أبي البحتري
الطائي ، عن الحارث الأعور ، عن علي رضي الله عنه قال : «قيل يا رسول الله إن أمتك
ستفتتن من بعدك ، فسأل أو سئل ما المخرج من ذلك؟
فقال : عليكم
بكتاب الله العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، تنزيل من حكيم
حميد ، من ابتغى العلم في غيره أضله الله ، ومن ولى هذا من جبار فحكم بغيره قصمه
الله ، وهو الذكر الحكيم ، والنور المبين ، والصراط المستقيم ، فيه خبر من قبلكم ،
وتبيان من بعدكم ، وهو فصل ليس بالهزل ، وهو الذي سمعته الجن فقالوا : (إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً
يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ) ، لا يخلق على طول الرد ، ولا تنقضي عبره ، ولا تفنى عجائبه».
وأخبرني أحمد بن
علي بن الحسن ، أخبرنا أبي ، أخبرنا بشر بن عبد الوهاب ، أخبرنا هشام بن عبيد الله
، حدثنا المسيّب بن شريك ، عن عبيدة عن أسامة بن أبي عطاء ، قال : «أرسل النبي صلىاللهعليهوسلم إلى علي رضي الله عنه في ليلة فذكر نحو ذلك في المعنى ، وفي
بعض ألفاظه اختلاف».
وأخبرنا أحمد بن
علي بن الحسن ، أخبرنا أبي ، أخبرنا بشر بن عبد الوهاب ، أخبرنا هشام بن عبيد الله
، حدثنا المسيّب بن شريك ، عن بشر بن نمير ، عن القاسم ، عن أبي أمامة ، قال :
«قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم من قرأ ثلث القرآن أعطي ثلث النبوة ، ومن قرأ نصف القرآن ،
أعطي نصف النبوة ، ومن قرأ القرآن كله أعطي النبوة كلها ، غير أنه لا يوحى إليه» وذكر الحديث.
__________________
ولو لم يكن من عظم
شأنه إلا أنه طبّق الأرض أنواره ، وجلل الآفاق ضياؤه ، ونفذ في العالم حكمه ، وقبل
في الدنيا رسمه ، وطمس ظلام الكفر بعد أن كان مضروب الرّواق. ممدود الأطناب ،
مبسوط الباع ، مرفوع العماد ، ليس على الأرض من يعرف الله حق معرفته ، أو يعبده حق
عبادته ، أو يدين بعظمته ، أو يعلم علوّ جلالته ، أو يتفكّر في حكمته ، فكان كما
وصفه الله تعالى جل ذكره من أنه نور فقال : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا
إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ
وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ
لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) فانظر إن شئت إلى شريف هذا النظم ، وبديع هذا التأليف ،
وعظيم هذا الرصف ، كل كلمة من هذه الآية تامة ، وكل لفظ بديع واقع قوله : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً
مِنْ أَمْرِنا) يدل على صدوره من الربوبية ، ويبين عن وروده عن الإلهية ،
وهذه الكلمة بمنفردها ، وأخواتها ، كل واحدة منها لو وقعت بين كلام كثير تميز عن
جميعه ، وكان واسطة عقده ، وفاتحة عقده ، وغرة شهره ، وعين دهره ، وكذلك قوله :
(وَلكِنْ جَعَلْناهُ
نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) فجعله روحا لأنه يحيي الخلق ، فله فضل الأرواح في الأجساد.
وجعله نورا لأنه يضيء ضياء الشمس في الآفاق. ثم أضاف وقوع الهداية به إلى مشيئته.
ووقف وقوف الاسترشاد به على إرادته ، وبيّن أنه لم يكن ليهتدي إليه لو لا توفيقه.
ولم يكن ليعلم ما في الكتاب ولا الإيمان لو لا تعليمه. وأنه لم يكن ليهتدي ، فكيف
كان يهدى لولاه؟ فقد صار يهدي ولم يكن من قبل ذلك ليهتدي.
فقال (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.
صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى
اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) فانظر إلى هذه الكلمات الثلاث : فالكلمتان الأولتان
مؤتلفتان ، وقوله : (أَلا إِلَى اللهِ
تَصِيرُ الْأُمُورُ) كلمة منفصلة مباينة للأولى قد صيرهما شريف النظم أشد
ائتلافا من الكلام المؤلف ، وألطف انتظاما من الحديث الملائم.
وبهذا يبين فضل
الكلام ، وتظهر فصاحته وبلاغته. الأمر أظهر ، والحمد لله ، والحال أبين من أن
يحتاج إلى كشف.
تأمل قوله : (فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ
سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) انظر إلى هذه الكلمات الأربع التي ألف بينها ، واحتج بها
على ظهور
__________________
قدرته ونفاذ أمره.
أليس كل كلمة منها
في نفسها غرة ، وبمنفردها درة؟ وهو مع ذلك يبين أنه يصدر عن علو الأمر ، ونفاذ
القهر ، ويتجلى في بهجة القدرة ، ويتحلى بخالصة العزة ، ويجمع السلاسة إلى الرصانة
، والسلامة إلى المتانة ، والرونق الصافي والبهاء الضافي.
ولست أقول إنه شمل
الإطباق المليح ، والإيجاز اللطيف ، والتعديل والتمثيل ، والتقريب والتشكيل ، وإن
كان قد جمع ذلك وأكثر منه ، لأن العجيب ما بيّنا من انفراد كل كلمة بنفسها حتى
تصلح أن تكون عين رسالة ، أو خطبة ، أو وجه قصيدة ، أو فقرة. فإذا ألفت ازدادت
حسنا وزادتك إذا تأملت معرفة وإيمانا.
ثم تأمل قوله : (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ
مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ. وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ
لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ
حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) هل تجد كل لفظة وهل تعلم كل كلمة تستقل بالاشتمال على
نهاية البديع ، وتتضمن شرط القول البليغ؟ فإذا كانت الآية تنتظم من البديع ،
وتتألف من البلاغات ، فكيف لا تفوت حد المعهود ، ولا تجوز شأو المألوف؟ وكيف لا
تجوز قصب السبق ، ولا تتعالى عن كلام الخلق؟
ثم اقصد إلى سورة
تامة فتصرّف في معرفة قصصها ، وراع ما فيها من براهينها وقصصها. تأمل السورة التي
يذكر فيها النمل وانظر في كل كلمة كلمة ، وفصل فصل بدأ بذكر السورة ، إلى أن بيّن
أن القرآن من عنده ، فقال : (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى
الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) ثم وصل بذلك قصة موسى عليهالسلام وأنه رأى نارا (إِذْ قالَ مُوسى
لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ
بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) .
وقال في سورة طه
في هذه القصة : (لَعَلِّي آتِيكُمْ
مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً) وفي موضع : (لَعَلِّي آتِيكُمْ
مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) قد تصرف في وجوه ، وأتى بذكر القصة على ضروب ليعلمهم عجزهم
عن جميع طرق ذلك. ولهذا قال (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ
مِثْلِهِ) ليكون أبلغ في تعجيزهم وأظهر للحجة عليهم. وكل
__________________
كلمة من هذه
الكلمات وإن أنبأت عن قصة فهي بليغة بنفسها ، تامة في معناها.
ثم قال : (فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ
مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) فانظر إلى ما أجرى له الكلام من علو أمر هذا النداء ، وعظم
شأن هذا الثناء ، وكيف انتظم مع الكلام الأول ، وكيف اتصل بتلك المقدمة ، وكيف وصل
بها ما بعدها من الإخبار عن الربوبية ، وما دل به عليها ؛ من قلب العصا حية ،
وجعلها دليلا يدله عليه ، ومعجزة تهديه إليه.
وانظر إلى الكلمات
المفردة القائمة بأنفسها في الحسن ، وفيما تتضمنه من المعاني الشريفة ، ثم ما شفع
به هذه الآية ، وقرن به هذه الدلالة من اليد البيضاء عن نور البرهان من غير سوء.
ثم انظر في آية
آية ، وكلمة كلمة ، هل تجدها كما وصفنا من عجيب النظم وبديع الرصف؟ فكل كلمة لو
أفردت كانت في الجمال غاية ، وفي الدلالة آية. فكيف إذا قارنتها أخواتها وضامّتها
ذواتها ، تجري في الحسن مجراها ، وتأخذ في معناها؟
ثم من قصة إلى قصة
، ومن باب إلى باب ، من غير خلل يقع في نظم الفصل إلى الفصل ، وحتى يصوّر لك الفصل
وصلا ، ببديع التأليف ، وبليغ التنزيل.
وإن أردت أن تتبين
ما قلناه فضل تبيّن ، وتتحقق بما ادعيناه زيادة تحقّق ، فإن كنت من أهل الصنعة ،
فاعمد إلى قصة من هذه القصص ، وحديث من هذه الأحاديث ، فعبّر عنهن بعبارة من جهتك
، وأخبر عنه بألفاظ من عندك. حتى ترى فيما جئت به النقص الظاهر ، وتتبين في نظم
القرآن الدليل الباهر. ولذلك أعاد قصة موسى في سور ، وعلى طرق شتى ، وفواصل مختلفة
، مع اتفاق المعنى.
فعلك ترجع إلى
عقلك ، وتستر ما عندك ، إن غلطت في أمرك ، أو ذهبت في مذاهب وهمك ، أو سلّطت على
نفسك وجه ظنك. متى تهيأ البليغ أن يتصرف في قدر آية في أشياء مختلفة ، فيجعلها
مؤتلفة من غير أن يبين على كلامه إعياء الخروج والتنقل. أو يظهر على خطابه آثار
التكلف والتعمّل.
وأحسب أنه لا يسلم
من هذا ، ومحال أن يسلم منه حتى يظفر بمثل تلك الكلمات ، الأفراد ، والألفاظ
الأعلام ، حتى يجمع بينها ، فيجلو فيها فقرة من كلامه ، وقطعة من قوله. ولو اتفق
له في أحرف معدودة ، وأسطر قليلة ، فمتى يتّفق له في قدر ما نقول : إنه من القرآن
معجز؟
__________________
هيهات هيهات!! إن
الصبح يطمس النجوم وإن كانت زاهرة ، والبحر يغمر الأنهار وإن كانت زاخرة.
متى تهيأ للآدمي
أن يقول في وصف كتاب سليمان عليهالسلام ، بعد ذكر العنوان والتسمية ، هذه الكلمة الشريفة العالية
: (أَلَّا تَعْلُوا
عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) والخلوص من ذلك إلى ما صارت إليه من التدبير ، واشتغلت به
من المشورة ، ومن تعظيمها أمر المستشار ، ومن تعظيمهم أمرها ، وطاعتها بتلك
الألفاظ البديعة ، والكلمات العجيبة البليغة.
ثم كلامها بعد ذلك
لتعلم تمكن قولها : (يا أَيُّهَا
الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ) وذكر قولهم : قالوا : (نَحْنُ أُولُوا
قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ما ذا
تَأْمُرِينَ) لا تجد في صفتهم أنفسهم أبدع مما وصفهم به.
وقوله : (وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ) تعلم براعته بنفسه ، وعجيب معناه ، وموضع اتفاقه في هذا
الكلام ، وتمكن الفاصلة ، وملاءمته لما قبله ، وذلك قوله : (فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ) ثم إلى هذا الاختصار ، وإلى البيان مع الإيجاز ، فإن
الكلام قد يفسد الاختصار ويعميه التخفيف منه والإيجاز. وهذا مما يزيده الاختصار
بسطا لتمكنه ووقوعه موقعه. ويتضمن الإيجاز منه تصرفا يتجاوز محله وموضعه.
وكم جئت إلى كلام
مبسوط يضيق عن الإفهام ، ووقعت على حديث طويل يقصر عما يراد به من التمام ، ثم لو
وقع على الإفهام والتمام ، أخلّ بما يجب فيه من شروط الإحكام ، أو بمعاني القصة
وما تقتضي من الإعظام ثم لو ظفرت بذلك كله رأيته ناقصا في وجه الحكمة ، أو مدخولا
في باب السياسة ، أو مصفوفا في طريق السيادة ، أو مشترك العبارات إن كان مستجود
المعنى ، أو جيد البلاغة ، مستجلب المعنى ، أو مستجلب البلاغة ، جيد المعنى ، أو
مستنكر اللفظ ، وحشي العبارة ، أو مستبهم الجانب ، مستكره الوضع.
وأنت لا تجد في
جميع ما تلونا عليك إلا ما إذا بسط أفاد. وإذا اختصر كمل في بابه وجاد. وإذا سرّح
الحكيم في جوانبه طرف خاطبه ، وبعث العليم في أطرافه عيون مباحثه ، لم يقع إلا على
محاسن تتوالى ، وبدائع تترى ، ثم فكر بعد ذلك في آية آية ، أو كلمة كلمة ،
__________________
في قوله : (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً
أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ) .
هذه الكلمات
الثلاث ؛ كل واحدة منها كالنجم في علوه ونوره ، وكالياقوت يتلألأ بين شذوره. ثم
تأمل تمكن الفاصلة ، وهي الكلمة الثالثة ، وحسن موقعها ، وعجيب حكمها ، وبارع
معناها.
وإن شرحت لك ما في
كل آية طال عليك الأمر ، ولكني قد بينت بما فسرت ، وقررت بما فصلت الوجه الذي سلكت
، والنحو الذي قصدت ، والغرض الذي إليه رميت ، والسمت الذي إليه دعوت.
ثم فكر بعد ذلك في
شيء أدلك عليه ، وهو تعادل هذا النظم في الإعجاز في مواقع الآيات القصيرة والطويلة
والمتوسطة. فأجل الرأي في سورة سورة ، وآية آية ، وفاصلة فاصلة ، وتدبر الخواتم
والفواتح ، والبوادي والمقاطع ، ومواضع الفصل والوصل ، ومواضع التنقل والتحول ، ثم
اقض ما أنت قاض. وإن طال عليك تأمل الجميع ، فاقتصر على سورة واحدة ، أو على بعض
سور.
ما رأيك في قوله :
(إِنَّ فِرْعَوْنَ
عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً. يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ
يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ
الْمُفْسِدِينَ) هذه تشتمل على ست كلمات ، سناؤها وضياؤها على ما ترى ،
وسلاستها وماؤها على ما تشاهد ، ورونقها على ما تعاين ، وفصاحتها على ما تعرف. وهي
تشتمل على جملة وتفصيل ، وتفسير ذكر العلو في الأرض باستضعاف الخلق ، بذبح الولدان
، وسبي النساء. وإذا تحكّم في هذين الأمرين ، فما ظنك بما دونهما؟ لأن النفوس لا
تطمئن على هذا الظلم ، والقلوب لا تقرّ على هذا الجور.
ثم ذكر الفاصلة
التي أوغلت في التأكيد ، وكفت في التظليم ، وردت آخر الكلام على أوله ، وعطفت عجزه
على صدره.
ثم ذكر وعده
تخليصهم بقوله : (وَنُرِيدُ أَنْ
نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً
وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) وهذا من التأليف بين المؤتلف ، والجمع بين المستأنس ، كما
أن قوله : (وَابْتَغِ فِيما
آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا
__________________
وَأَحْسِنْ
كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا
يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) وهي خمس كلمات متباعدة في المواقع ، نائية المطارح ، قد
جعلها النظم البديع أشد من الشيء المؤتلف في الأصل. وأحسن توافقا من المتطابق في
أول الوضع.
ومثل هذه الآية
قوله : (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ
ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا
يُشْرِكُونَ) ومثلها : (وَكَمْ أَهْلَكْنا
مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ
بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ) ومن المؤتلف قوله : (فَخَسَفْنا بِهِ
وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ
وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ) وهذه الثلاث كلمات كل كلمة منها أعز من الكبريت الأحمر.
ومن الباب الآخر
قوله تعالى : (وَلا تَدْعُ مَعَ
اللهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ
لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) كل سورة من هذه السور تتضمن من القصص ما لو تكلفت العبارة
عنها بأضعاف كلماتها لم تستوف ما استوفته.
ثم تجد فيما تنظم
ثقل النظم ، ونفور الطبع ، وشراد الكلام ، وتهافت القول ، وتمنّع جانبه ، وقصورك
في الإيضاح عن واجبه. ثم لا تقدر على أن تنتقل من قصة إلى قصة ، ومن فصل إلى فصل
حتى تتبين عليك مواضع الوصل ، ويستصعب عليك أماكن الفصل. ثم لا يمكنك أن تصل
بالقصص مواعظ زاجرة ، وأمثالا سائرة وحكما جليلة ، وأدلة على التوحيد بينة ،
وكلمات في التنزيه والتحميد شريفة.
وإن أردت أن تتحقق
ما وصفت لك فتأمل شعر من شئت من الشعراء المفلقين ، هل تجد كلامه في المديح والغزل
والفخر والهجو يجري مجرى كلامه في ذكر القصص؟ إنك لتراه إذا جاء إلى وصف واقعة ،
أو نقل خبر عامي الكلام ، سوقي الخطاب ، مسترسلا في أمره ، متساهلا في كلامه ،
عادلا عن المألوف من طبعه ، وناكبا عن المعهود من سجيته. فإن اتفق له في قصة كلام
جيد ، كان قدر ثنتين أو ثلاثة. وكان ما زاد عليها حشوا ، وما تجاوزها لغوا ، ولا
أقول إنها تخرج من عادته عفوا ، لأنه يقصر عن العفو ، ويقف دون العرف ، ويتعرض
للركاكة.
__________________
فإن لم تقنع بما
قلت لك من الأبيات فتأمل غير ذلك من السور. هل تجد الجميع على ما وصفت لك. لو لم
تكن إلا سورة واحدة لكفت في الإعجاز. فكيف بالقرآن العظيم؟ ولو لم يكن إلا حديث من
سورة لكفى ، وأقنع ، وشفى.
ولو عرفت قدر قصة
موسى وحدها من سورة الشعراء ، لما طلبت بينة سواها. بل قصة من قصصه وهي قوله : (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ
بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) إلى قوله : (فَأَخْرَجْناهُمْ
مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ. كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها
بَنِي)
(إِسْرائِيلَ.
فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ) حتى قال : (فَأَوْحَيْنا إِلى
مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ
كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) ثم قصة إبراهيم عليهالسلام.
ثم لو لم تكن إلا
الآيات التي انتهى إليها القول في ذكر القرآن ، وهي قوله : (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ
الْعالَمِينَ ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ، عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ
الْمُنْذِرِينَ ، بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) وهذه كلمات مفردة بفواصلها ؛ منها ما يتضمن فاتحة وفاصلة ،
ومنها ما هي فاتحة وواصلة ، وفاصلة. ومنها كلمة بفاصلتها تامة ، دل على أنه نزله
على قلبه ليكون نذيرا. وبيّن أنه آية لكونه نبينا. ثم وصل بذلك كيفية النذارة فقال
: (وَأَنْذِرْ
عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ. وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ) .
فتأمل آية آية ،
لتعرف الإعجاز ، وتتبين التصرف البديع ، والتنقل في الفصول إلى آخر السورة. ثم راع
المقطع العجيب وهو قوله : (وَسَيَعْلَمُ
الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) هل يحسن أن تأتي بمثل هذا الوعيد وأن تنظم مثل هذا النظم ،
وأن تجد مثل هذه النظائر السابقة ، وتصادف مثل هذه الكلمات المتقدمة؟
ولو لا كراهة
الإملال ، لجئت إلى كل فصل فاستقريت على الترتيب كلماته ، وبينت لك ما في كل واحدة
منها من البراعة ، ومن عجيب البلاغة. ولعلك تستدل بما قلنا على ما بعده ، وتستضيء
بنوره وتهتدي بهداه. ونحن نذكر آيات أخر ، لتزداد استبصارا وتتقدم تيقنا.
__________________
تأمل من الكلام
المؤتلف قوله : (حم. تَنْزِيلُ
الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ
شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) .
أنت قد تدربت الآن
بحفظ أسماء الله تعالى ، وصفاته ، فانظر متى وجدت في كلام البشر وخطبهم مثل هذا
النظم في هذا القدر ، وما يجمع ما تجمع هذه الآية من شريف المعاني وحسن الفاتحة
والخاتمة.
ثم اتل ما بعدها
من الآي ، واعرف وجه الخلوص من شيء إلى شيء ؛ من احتجاج إلى وعيد ، ومن إعذار إلى
إنذار ، ومن فنون من الأمر شتى ، مختلفة تأتلف بشريف النظم ، ومتباعدة تتقارب
بعليّ الضم.
ثم جاء إلى قوله :
(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ
قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ
بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ
فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ
كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ) الآية الأولى أربعة فصول ، والثانية فصلان ، وجه الوقوف
على شرف الكلام : أن تتأمل موقع قوله : (وَهَمَّتْ كُلُّ
أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ) وهل تقع في الحسن موقع قوله : (لِيَأْخُذُوهُ) كلمة؟ وهل تقوم مقامه في الجزالة لفظة؟ وهل يسد مسده في
الأصالة نكتة؟ لو وضع موضع ذلك «ليقتلوه» أو «ليرجموه» أو «لينفوه» أو «ليطردوه»
أو «ليهلكوه» أو «ليذلوه».؟ ونحو هذا ما كان ذلك بعيدا ، ولا بارعا ، ولا عجيبا ،
ولا بالغا.
فانقد موضع هذه
الكلمة ، وتعلم بها ما تذهب إليه من تخير الكلام ، وجميل الألفاظ ، والاهتداء
للمعاني. فإن كنت تقدر أن شيئا من هذه الكلمات التي عددناها عليك أو غيرها لا تقف
بك على غرضنا من هذا الكتاب ، فلا سبيل لك إلى الوقوف على تصاريف الخطاب ، فافزع
إلى التقليد ، وأكف نفسك مئونة التفكير. وإن فطنت فانظر إلى ما قال من رد عجز
الخطاب إلى صدره بقوله : (فَأَخَذْتُهُمْ
فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) ثم ذكر عقيبها العذاب في الآخرة ، واتلاها تلو العذاب في
الدنيا ، على الإحكام الذي رأيت.
ثم ذكر المؤمنين
بالقرآن ، بعد ذكر المكذبين بالآيات والرسل ، فقال : (الَّذِينَ
__________________
يَحْمِلُونَ
الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) إلى أن ذكر ثلاث آيات ، وهذا كلام مفصول ، تعلم عجيب
اتصاله بما سبق ومضى ، وانتسابه إلى ما تقدم وتقضى ، وعظم موضعه في معناه ، ورفيع
ما يتضمن من تحميدهم وتسبيحهم. وحكاية كيفية دعاء الملائكة بقوله : (رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً
وَعِلْماً) .
هل تعرف شرف هذه
الكلمة لفظا ومعنى؟ ولطيف هذه الحكاية ، وتلاؤم هذا الكلام ، وتشاكل هذا النظام.
وكيف يهتدي إلى وضع هذه المعاني بشري؟ وإلى تركيب ما يلائمها من الألفاظ إنسي ، ثم
ذكر ثلاث آيات في أمر الكافرين على ما ترى ، ثم نبه على أمر القرآن وأنه من آياته
بقوله : (هُوَ الَّذِي
يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ
إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) .
وإنما ذكر هذين
الأمرين اللذين يختص بالقدرة عليهما ، لتناسبهما في أنهما من تنزيله من السماء ،
ولأن الرزّاق الذي لو لم يرزق لم يكن بقاء النفس ، تجب طاعته ، والنظر في آياته.
ثم قال : (فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ
الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ. رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي
الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ
التَّلاقِ. يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ
الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) ، قف على هذه الدلالة وفكر فيها ، وراجع نفسك في مراعاة
معاني هذه الصفات العالية والكلمات السامية ، والحكم البالغة ، والمعاني الشريفة ،
تعلم ورودها عن الإلهية ، ودلالتها على الربوبية ، وتتحقق أن الخطب المنقولة عنهم
، والأخبار المأثورة في كلماتهم الفصيحة ، من الكلام الذي تعلق به الهمم البشرية ،
وما تحوم عليه الأفكار الآدمية ، وتعرف مباينتها لهذا الضرب من القول.
أي خاطر يتشوف إلى
أن يقول : (يُلْقِي الرُّوحَ
مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ.
يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ) وأي لفظ يدرك هذا المضمار ، وأي حكيم يهتدي إلى ما لهذا من
الغور ، وأي فصيح يهتدي إلى هذا النظم؟ ثم استقرئ الآية إلى آخرها ، واعتبر
كلماتها ، وراع بعدها قوله : (الْيَوْمَ تُجْزى
كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ
__________________
الْحِسابِ) .
من يقدر على تأليف
هذه الكلمات الثلاث على قربها ، وعلى خفتها في النظم وموقعها من القلب؟
ثم تأمل قوله : (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ
الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ، ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا
شَفِيعٍ يُطاعُ. يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ. وَاللهُ
يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ
إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) .
كل كلمة من ذلك ما
قد وصفتها من أنه إذا رآها الإنسان في رسالة كانت عينها ، أو في خطبة كانت وجهها ،
أو قصيدة كانت غرة غرتها ، وبيت قصيدتها ، كالياقوتة التي تكون فريدة العقد ، وعين
القلادة ودرة الشذر. إذا وقع بين كلام وشّحه ، وإذا ضمّن في نظام زيّنه ، وإذا
اعترض في خطاب تميز عنه ، وبان بحسنه منه.
ولست أقول هذا لك
في آية دون آية ، وسورة دون سورة ، وفصل دون فصل ، وقصة دون قصة ، ومعنى دون معنى
؛ لأني قد شرحت لك أن الكلام في حكاية القصص والأخبار ، وفي الشرائع والأحكام ،
وفي الديانة والتوحيد ، وفي الحجج والتثبيت ، هو خلاف الكلام فيما عدا هذه الأمور.
ألا ترى أن الشاعر
المفلق إذا جاء إلى الزهد قصّر. والأديب إذا تكلم في بيان الأحكام وذكر الحلال
والحرام لم يكن كلامه على حسب كلامه في غيره ..؟ ونظم القرآن لا يتفاوت في شيء ،
ولا يتباين في أمر ، ولا يختل في حال. بل له المثل الأعلى ، والفضل الأسنى. وفيما
شرحناه لك كفاية وفيما بيناه بلاغ.
ونذكر في
الأحكاميات وغيرها آيات أخر منها قوله : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا
أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ
الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا
مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللهَ
إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) .
أنت تجد في هذه
الآية من الحكمة والتصرف العجيب والنظم البارع ما يدل لك إن شئت على الإعجاز مع
هذا الاختيار ، والإيجاز. فكيف إذا بلغ ذلك آيات وكانت سورة شئت على الإعجاز مع
هذا الاختيار ، والإيجاز. فكيف إذا بلغ ذلك آيات وكانت سورة ونحو هذه الآية قوله :
(الَّذِينَ
يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً
عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ
عَلَيْهِمُ
__________________
الْخَبائِثَ
وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ ،
فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي
أُنْزِلَ مَعَهُ ، أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) وكالآية التي بعدها في التوحيد وإثبات النبوة كالآيات
الثلاث في المواريث. أي بارع يقدر على جمع أحكام الفرائض في قدرها من الكلام؟ ثم
كيف يقدر على ما فيها من بديع النظم؟
وإن جئت إلى آيات
الاحتجاج كقوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما
آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا
يَصِفُونَ. لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) .
وكالآيات في
التوحيد كقوله : (هُوَ الْحَيُّ لا
إِلهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
الْعالَمِينَ) وكقوله : (تَبارَكَ الَّذِي
نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً. الَّذِي
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ
شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) وكقوله : (تَبارَكَ الَّذِي
بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) إلى آخرها ، وكقوله : (وَالصَّافَّاتِ
صَفًّا. فَالزَّاجِراتِ زَجْراً. فَالتَّالِياتِ ذِكْراً. إِنَّ إِلهَكُمْ
لَواحِدٌ. رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ.
إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ. وَحِفْظاً مِنْ
كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ. لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ
مِنْ كُلِّ جانِبٍ. دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ. إِلَّا مَنْ خَطِفَ
الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ) هذه من الآيات التي قال فيها الله تعالى ذكره : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ
كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ
رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ ذلِكَ هُدَى
اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) .
وانظر بعين عقلك ،
وراجع جليّة بصيرتك ، إذا تفكرت في كل كلمة مما نقلناه إليك ، وعرضناه عليك ، ثم
فيما ينتظم من الكلمات ، ثم إلى أن يتكامل فصلا وقصة ، أو يتم حديثا وسورة. لا ،
بل فكر في جميع القرآن على هذا الترتيب ، وتدبّره على نحو هذا التنزيل ، فلم ندّع
ما ادعيناه لبعضه ، ولم نصف ما وصفناه إلا في كلّه ، وإن كانت الدلالة في البعض
أبين وأظهر ، والآية أكشف وأبهر.
__________________
وإذا تأملت على ما
هديناك إليه ، ووقفناك عليه ، فانظر هل ترى وقع هذا النور في قلبك واشتماله على
لبّك ، وسريانه في حسك ، ونفوذه في عروقك ، وامتلاءك به إيقانا وإحاطة ، واهتداءك
به إيمانا وبصيرة؟ أم هل تجد العرب يأخذ منك مأخذه من وجه. والهزة تعمل في جوانبك
من لون ، والأريحيّة تستولي عليك من باب؟ وهل تجد الطرب يستفزّك للطيف ما فطنت له
، والسرور يحركك من عجيب ما وقفت عليه ، وتجد في نفسك من المعرفة التي حدثت لك
عزّة ، وفي أعطافك ارتياحا وهزّة. وترى لك في الفضل تقدما وتبريزا ، وفي اليقين
سبقا وتحقيقا ، وترى مطارح الجهال تحت أقدام الغفلة ، ومهاويهم في ظلال القلة
والذلة ، وأقدارهم بالعين التي يجب أن تلحظ بها مراتبهم ، بحيث يجب أن ترتبها؟ هذا
كله في تأمل الكلام ، ونظامه ، وعجيب معانيه وأحكامه.
فإن جئت إلى ما
انبسط في العالم من بركته وأنواره ، وتمكن في الآفاق من يمنه وأضوائه ، وثبت في
القلوب من إكباره وإعظامه ، وتقرر في النفوس من حتم أمره ونهيه.
ومضى في الدماء من
مفروض حكمه ، وإلى أنه جعل عماد الصلاة التي هي تلو الإيمان في التأكيد ، وثانية
التوحيد في الوجوب ، وفرض حفظه ، ووكل الصغار والكبار بتلاوته ، وأمر عند افتتاحه
بما أمر به لتعظيمه من قوله : (فَإِذا قَرَأْتَ
الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) لم يؤمر بالتعوذ لافتتاح أمر كما أمر به لافتتاحه ، فهل
يدلك هذا على عظيم شأنه ، وراجح ميزانه ، وعالي مكانه ..؟ وجملة الأمر أنّ نقد
الكلام شديد ، وتمييزه صعب.
ومما كتب إلى
الحسن بن عبد الله العسكري أخبرني أبو بكر بن دريد ، قال : سمعت أبا حاتم يقول :
سمعت الأصمعي يقول : فرسان الشعراء أقل من فرسان الحرب.
وقال : سمعت أبا
عمرو بن العلاء يقول : العلماء بالشعر أعز من الكبريت الأحمر. وإذا كان الكلام
المتعارف المتداول بين الناس يشق تمييزه ، ويصعب نقده ، ويذهب عن محاسنه الكثير ،
وينظرون إلى كثير من قبيحه بعين الحسن ، وكثير من حسنه بعين القبح. ثم يختلفون في
الأحسن منه اختلافا كثيرا ، وتتباين آراؤهم في تفضيل ما يفضل منه. فكيف لا يتحيرون
فيما لا يحيط به علمهم ، ولا يتأتى في مقدورهم ، ولا يمثل بخواطرهم؟ وقد حيّر
القوم الذين لم يكن أحد أفصح منهم ، ولا أتم بلاغة ، ولا أحسن براعة ، حتى دهشوا
حين ورد عليهم ، وولهت عقولهم. ولم يكن عندهم فيه جواب غير ضرب الأمثال ، والتحرّض
عليه ، والتوهم فيه ، وتقسيمه أقساما ، وجعله عضين.
__________________
وكيف لا يكون أحسن
الكلام ، وقد قال الله تعالى : (اللهُ نَزَّلَ
أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ
الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى
ذِكْرِ اللهِ ، ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ
فَما لَهُ مِنْ هادٍ) استغنم فهم هذه الآية ، وكفاك. استفد علم هذه الكلمات ،
وقد أغناك ، فليس يوقف على حسن الكلام بطوله ، ولا تعرف براعته بكثرة فصوله. إن
القليل يدل على الكثير ، والقريب قد يهجم بك على البعيد.
ثم إنه سبحانه
وتعالى لما علم من عظم شأن هذه المعرفة ، وكبر محلها ، وذهابها على أقوام ، ذكر في
آخر هذه الآية ما ذكر ، وبيّن ما بيّن ، فقال : (ذلِكَ هُدَى اللهِ
يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ) فلا يعلم ما وصفنا لك إلا بداية من العزيز الحميد ، وقال :
(وَمَنْ يُضْلِلِ
اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) وقال : (يُضِلُّ بِهِ
كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) وقد بسطنا لك القول ، رجاء إفهامك. وهذا المنهاج الذي
رأيته إن سلكته يأخذ بيدك ، ويدلك على رشدك ، ويغنيك عن ذكر براعته ، آية ، آية
لك.
واعلم أنا لم نقصد
فيما سطرناه من الآيات ، وسميناه من السور والدلالات ، ذكر الأحسن والأكشف والأظهر
؛ لأنا نعتقد في كل سورة ذكرناها ، أو أضربنا عن ذكرها ، اعتقادا واحدا في الدلالة
على الإعجاز ، والكفاية في التمنع والبرهان. ولكن لم يكن بدّ من ذكر بعض ، فذكرنا
ما تيسر ، وقلنا فيما اتجه في الحال وخطر. وإن كنا نعتقد أن الإعجاز في بعض القرآن
أظهر ، وفي بعض أدق وأغمض. والكلام في هذا الفصل يجيء بعد هذا.
فاحفظ عنا في
الجملة ما كررنا ، والسير بعد ذلك في التفصيل إليك. وحصل ما أعطيناك من العلامة ،
ثم النظر عليك.
قد اعتمدنا على أن
الآيات تنقسم إلى قسمين : أحدهما ما يتم بنفسه ، أو بنفسه وفاصلته. فينير في
الكلام إنارة النجم في الظلام ، والثاني : ما يشتمل على كلمتين أو كلمات إذا
تأملتها وجدت كل كلمة منها في نهاية البراعة ، وغاية البلاغة.
وإنما يبين ذلك
بأن تتصور هذه الكلمة مضمّنة بين أضعاف كلام كثير ، أو خطاب طويل ، فتراها ما
بينها تدل على نفسها ، وتعلو على ما قد قرن منها لعلو جنسها. فإذا ضمت إلى أخواتها
، وجاءت في ذواتها ، أرتك القلائد منظومة ، كما كانت تريك عند تأمل الأفراد
__________________
منها اليواقيت
منثورة ، والجواهر مبثوثة.
ولو لا ما أكره من
تضمين القرآن في الشعر لأنشدتك ألفاظا وقعت مضمّنة لتعلم كيف تلوح عليه ، وكيف ترى
بهجتها في أثنائه ، وكيف تمتاز منه ، حتى أنه لو تأمله من لم يقرأ القرآن ، لتبين
أنه أجنبي من الكلام الذي تضمنه ، والباب الذي توسطه ، وأنكر مكانه ، واستكبر
موضعه. ثم تناسبها في البلاغة والإبداع ، وتماثلها في السلاسة والإغراب. ثم
انفرادها بذلك الأسلوب ، وتخصصها بذلك الترتيب. ثم سائر ما قدمنا ذكره مما نكره
إعادته.
وأنت ترى غيره من
الكلام يضطرب في مجاريه ، ويختل تصرفه في معانيه ، ويتفاوت التفاوت الكثير في طرقه
، ويضيق به النطاق في مذاهبه ، ويرتبك في أطرافه وجوانبه ، ويسلمه للتكلف الوحشي
كثرة تصرفه ، ويحيله على التصنع الظاهر موارد تنقله وتخلصه.
ونظم القرآن في
مؤتلفه ومختلفه ، وفي فصله ووصله ، وافتتاحه واختتامه ، وفي كل نهج يسلكه ، وطريق
يأخذ فيه ، وباب يتهجم عليه ، ووجه يؤمه على ما وصفه تعالى به ، لا يتفاوت ، كما
قال : (وَلَوْ كانَ مِنْ
عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) ولا يخرج عن تشابهه وتماثله كما قال : (قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) وكما قال : (كِتاباً مُتَشابِهاً) ولا يخرج عن إبانته كما قال : (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) وغيره من الكلام كثير التلون ، دائم التغير ، يقف بك على
بديع مستحسن ، ويعقبه قبيح مستهجن ، ويطلع عليك بوجه الحسناء ، ثم يعرض للهجر بخد
القبيحة الشوهاء ، ويأتيك باللفظة المستنكرة بين الكلمات التي هي كاللآلئ الزّهر.
وقد يأتيك باللفظة
الحسنة بين الكلمات البهم. قد يقع إليك منه الكلام المثبج والنظم المشوّش ،
والحديث المشوّه. وقد تجد منه ما لا يتناسب ولا يتشابه ، ولا يتآلف ولا يتماثل.
وقد قيل في وصف ما
جرى هذا المجرى :
وشعر كبعر الكبش
فرّق بينه
|
|
لسان دعيّ في
القريض دخيل
|
وقال آخر :
__________________
وبعض قريض القوم
أولاد علّة
|
|
يكدّ لسان
الناطق المتحفّظ
|
فإن قال قائل :
فقد نجد في آيات القرآن ما يكون نظمه بخلاف ما وصفت ، ولا تتميز الكلمات بوجه
البراعة ، وإنما تكون البراعة عندك منه في مقدار يزيد على الكلمات المفردة ، وحدّ
يتجاوز حدّ الألفاظ المستندة. وإن كان الأكثر على ما وصفته به؟ قيل له : نحن نعلم
أن قوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ
أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ) إلى آخر الآية ليس من القبيل الذي يمكن إظهار البراعة فيه
وإبانة الفصاحة ، وذاك يجري عندنا مجرى ما يحتاج إلى ذكره من الأسماء والألقاب ،
فلا يمكن إظهار البلاغة فيه. فطلبها في نحو هذا ضرب من الجهالة ، بل الذي يعتبر في
نحو ذلك تنزيل الخطاب ، وظهور الحكمة في الترتيب والمعنى. وذلك حاصل في هذه الآية
إن تأملت.
ألا ترى أنه بدأ
بذكر الأم ، لعظم حرمتها ، وإدلائها بنفسها ، ومكان بعضيّتها ، فهي أصل لكل من
يدلي بنفسه منهن ، لأنه ليس في ذوات الأنساب أقرب منها.
ولما جاء إلى ذوات
الأسباب ألحق بها حكم الأم من الرضاع ، لأن الرحم ينشره اللبن بما يغذوه. فيحصل
بذلك أيضا لها حكم البعضية ، فنشر الحرمة بهذا المعنى ، وألحقها بالوالدة. وذكر
الأخوات من الرضاعة ، فنبه بها على كل من يدلي بغيرها وجعلها تلو الأم من الرضاع.
والكلام في إظهار
حكم هذه الآية وفوائدها يطول ، ولم نضع كتابنا لهذا. وسبيل هذا أن نذكره في كتاب
معاني القرآن إن سهل الله لنا إملاءه وجمعه ، فلم تنفك هذه الآية من الحكم التي
تخلف حكمة الإعجاز في النظم والتأليف.
والفائدة التي
تنوب مناب العدول عن البراعة في وجه الترصيف. فقد علم السائل أنه لم يأت بشيء ،
ولم يهتد للأغراض في دلالات الكلام ، وفوائده ومتصرفاته وفنونه ومتوجهاته. وقد
يتفق في الشعر ذكر الأسامي فيحسن موقعه ، كقول أبي داود الأسدي :
إن يقتلوك فقد
ثللت عروشهم
|
|
بعتبة بن الحارث
بن شهاب
|
بأشدهم كلبا على
أعدائه
|
|
وأعزّهم فقدا
على الأصحاب
|
وقد يتفق ذكر
الأسامي فيفسد النظم ، ويقبح الوزن. والآيات الأحكاميات التي لا بد فيها من أمر
البلاغة ، يعتبر فيها من الألفاظ ما يعتبر في غيرها. وقد يمكن فيها ، وكل موضع
أمكن ذلك ، فقد وجد في القرآن في بابه ما ليس عليه مزيد في البلاغة وعجيب النظم.
__________________
ثم في جملة الآيات
ما إن لم تراع البديع البليغ في الكلمات الأفراد والألفاظ الآحاد ، فقد تجد ذلك مع
تركب الكلمتين والثلاث. ويطرد ذلك في الابتداء والخروج ، والفواصل ، وما يقع بين
الفاتحة والخاتمة من الواسطة ، أو باجتماع ذلك أو في بعض ذلك ما يخلف الإبداع في
أفراد الكلمات. وإن كانت الجملة والمعظم على ما سبق الوصف فيه.
وإذا عرف ما يجري
إليه الكلام ، وينهى إليه الخطاب ، ويقف عليه الأسلوب ، ويختص به القبيل بان عند
أهل الصنعة تميّز بابه ، وانفراد سبيله. ولم يشك البليغ في انتمائه إلى الجهة التي
ينتمي إليها ، ولم يرتب الأديب البارع في انتسابه إلى ما عرف من نهجه.
وهذا كما يعرف
طريقه مترسّل في رسالته ، فهو لا يخفى عليه بناء قاعدته وأساسه ، فكأنه يرى أنه
يعد عليه مجارى حركاته وأنفاسه. وكذلك في الشعر واختلاف ضروبه ، يعرف المتحقق به طبع
كل أحد ، وسبيل كل شاعر.
وفي نظم القرآن
أبواب كثيرة لم نستوفها ، وتقصيها يطول ، وعجائبها لا تنقضي. فمنها اللفظ
والإشارات. وإذا بلغ الكلام من هذا القبيل مبلغا ربما زاد الإفهام به على الإيضاح
، أو ساوى مواقع التفسير والشرح مع استيفائه شروطه ، كان النهاية في معناه ، وذلك
كقوله : (سُبْحانَ الَّذِي
أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ
الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ
السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) فصول هذه الآية وكلماتها على ما شرحناه من قبل البلاغة
واللطف في التقدم ، وفي تضمن هذا الأمر العظيم ، والمقام الكريم.
ويتلو هذه قوله : (وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ
وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) هذا خروج ، لو كان في غير هذا الكلام ، لتصور في صورة
المنقطع. وقد تمثل في هذا النظم لبراعته ، وعجيب أمره ، وموقع ما لا ينفك منه
القول.
وقد يتبرأ الكلام
المتصل بعضه من بعض ، ويظهر عليه التثبيج والتباين للخلل الواقع في النظم. وقد
تصوّر هذا الفصل للطفه وصلا ، ولم يبن عليه تميز الخروج. ثم انظر كيف أجرى هذا
الخطاب إلى ذكر نوح ، وكيف أثنى عليه ، وكيف يليق صفته بالفاصلة ، ويتم النظم بها
، مع خروجها مخرج البروز من الكلام الأول إلى ذكره ، وإجرائه إلى مدحه بشكره ،
وكونهم من ذريته يوجب عليهم أن يسيروا بسيرته ، وأن يستنوا بسنته في أن يشكروا
__________________
كشكره ، ولا
يتخذوا من دون الله وكيلا ، وأن يعتقدوا تعظيم تخليصه إياهم من الطوفان لمّا حملهم
عليه ، ونجاهم فيه ، حين أهلك من عداهم به. وقد عرفهم أنه إنما مؤاخذهم بذنوبهم
وفسادهم فيما سلط عليهم من قبلهم وعاقبهم.
ثم عاد عليهم
بالإفضال والإحسان حتى يتذكروا ويعرفوا قدر نعمة الله عليهم ، وعلى نوح الذي ولدهم
، وهم من ذريته. فلما عادوا إلى جهالتهم وتمردوا في طغيانهم ، عاد عليهم بالتعذيب.
ثم ذكر الله عزوجل في ثلاث آيات بعد ذلك معنى هذه القصة ، التي كانت لهم
بكلمات قليلة في العدد ، كثيرة الفوائد ، لا يمكن شرحها إلا بالتفصيل الكثير
والكلام الطويل.
ثم لم يخل تضاعف
الكلام مما ترى من الموعظة على أعجب تدرج ، وأبدع تاريخ بقوله (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ
لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) ولم ينقطع بذلك الكلام. وأنت ترى الكلام يتبدد مع اتصاله ،
وينتشر مع انتظامه. فكيف بإلقاء ما ليس منه في أثنائه ، وطرح ما بعده في أدراجه
إلى أن خرج إلى قوله : (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ
يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا) يعني إن عدتم إلى الطاعة عدنا إلى العفو ، ثم خرج خروجا
آخر إلى ذكر القرآن. وعلى هذا فقس بحثك عن شرف الكلام ، وما له من علو الشأن ، لا
يطلب مطلبا إلا انفتح ، ولا يسلك قلبا إلا انشرح ، ولا يذهب مذهبا إلا استنار
وأضاء ، ولا يضرب مضربا إلا بلغ فيه السماء. لا تقع منه على فائدة ، فقدّرت أنها
أقصى فوائدها إلا قصّرت. ولا تظفر بحكمة فظننت أنها زبدة حكمها إلا وقد أخللت.
إن الذي عارض
القرآن بشعر امرئ القيس لأضل من حمار أهله ، وأحمق من هبنّقة ، لو كان شعره كله
كالأبيات المختارة التي قدمناها ، لأوجب البراءة من قوله :
وسنّ كسنّيق
سناء وسنّم
|
|
ذعرت بمدلاج
الهجير نهوض
|
قال الأصمعي : لا أدري ما السنّ ، ولا السنيق ، ولا التسنم؟! وقال
بعضهم : السنق أكمة ، وقال فيها له قصريا عنز ، وساقا نعامة كفحل الهجان القيصري
العضوض وقوله :
عصافير وذبان
ودود
|
|
وأجرأ من مجلّحة
الذّئاب
|
__________________
وزاد في تقبيح ذلك
وقوعه في أبيات فيها :
فقد طوّفت في
الآفاق حتّى
|
|
رضيت من الغنيمة
بالإياب
|
وكل مكارم
الأخلاق صارت
|
|
إليه همّتي وبه
اكتسابي
|
وكقوله في قصيدة
قالها في نهاية السقوط :
أزمان فوها كلما
نبهتها
|
|
كالمسك فاح وظل
في القدّام
|
أفلا ترى
أظعانهنّ بواكرا
|
|
كالنّخل من
شوكان حين صرام
|
وكأن شاربها
أصاب لسانه
|
|
موم يخالط جسمه
بسقام
|
وكقوله :
لم يفعلوا فعل
آل حنظلة
|
|
إنهم جير بئسما
ائتمروا
|
لا حميريّ وفى
ولا عدس ولا اس
|
|
ت غير يحكّها
الثّفر
|
إن بنى عوف
ابتنوا حسبا
|
|
ضيّعه الداخلون
إذ غدروا
|
وكقوله :
أبلغ شهابا
وأبلغ
|
|
هل أتاك الحيز
مال
|
إنا تركنا منكم
قتلى
|
|
بخوعي وسبيا
كالسعالي
|
يمشين بين
رحالنا
|
|
معترفات بجوع
وهزال
|
ولم يقع مثل ذلك
له وحده فقد قال الأعشى :
فأدخلك الله برد
الجنان
|
|
جذلان في مدخل
طيب
|
وقال أيضا :
فرميت غفلة عينه
عن شأنه
|
|
فأصبت حبة قلبها
وطحالها
|
وقال في فرسه :
ويأمر لليحموم
كل عشيّة
|
|
بقتّ وتعليق فقد
كاد يسنق
|
وقال : «شاو مشلّ
شلول شلشل شول».
وهذه الألفاظ في
معنى واحد وقد وقع لزهير نحوه كقوله :
فأقسمت جهدا
بالمنازل من منى
|
|
وما سحفت فيه
المقاديم والقمل
|
كيف يقال هذا في
قصيدة يقول فيها :
وهل ينبت الخطى
إلا وشيجه
|
|
وتغرس إلا في
منابتها النّخل
|
__________________
وكقول الطرماح :
سوف تدنيك من
لميس سبنتا
|
|
ة أمارت بالبول
ماء الكراض
|
السبنتاة : الناقة
الصلبة. والكراض : ماء الفحل. أسالت ماء الفحل مع البول فلم تعقد عليه ، ولم تحمل
فتضعف. والمائر : السائل.
فإن قال قائل :
أجدك تحاملت على امرئ القيس ، ورأيت أن شعره يتفاوت بين اللين والشراسة ، وبين
اللطف والشكاسة ، وبين التوحش والاستئناس ، والتقارب والتباعد.
ورأيت الكلام
الأعدل أفضل ، والنظام المستوثق أكمل ، وأنت تجد البحتري يسبق في هذا الميدان ، ويفوت الغاية في هذا الشأن. وأنت
ترى الكتاب يفضلون كلامه على كل كلام ، ويقدمون رأيه في البلاغة على كل رأي.
وكذلك تجد لأبي
نواس من بهجة اللفظ ، ودقيق المعنى ما يتحير فيه أهل اللفظ ، ويقدمه الشطار والظرف
على كل شاعر ، ويرون لنظمه روعة لا يرون لنظم غيره ، وزبرجا لا يتّفق لسواه. فكيف
يعرف فضل ما سواه عليه؟
فالجواب أن الكلام
في أن الشعر لا يجوز أن يوازن به القرآن وقد تقدم. وإذ كنا قد بينا أن شعر امرئ
القيس وهو كبيرهم الذي يقرون بتقدمه ، وشيخهم الذي يعترفون بفضله ، وقائدهم الذي
يأتمون به ، وإمامهم الذي يرجعون إليه. كيف سبيله؟ وكيف طريق منزلته عن منزلة نظم
القرآن؟ وإنه لا يخلط بشعره غبار ذلك النظم. وهو إذا لحظ ذلك كان كما قال :
فأصبحت من ليلى
الغداة كناظر
|
|
مع الصبح في
إعجاز نجم مغرّب
|
وكما قال أيضا :
راحت مشرقة ورحت
مغرّبا
|
|
فمتى التقاء
مشرق ومغرّب
|
وإذا كنا قد
أبّنّا في القاعدة ما علمت ، وفصلنا لك في شعره ما عرفت ، لم نحتج إلى أن نتكلم
على شعر شاعر ، وكلام كل بليغ. والقليل يدل على الكثير.
وقد بيّنا في
الجملة مباينة أسلوب نظم القرآن جميع الأساليب ، ومزيته عليها في النظم والترتيب ،
وتقدمه عليها في كل حكمة وبراعة. ثم تكلمنا على التفصيل على ما شهدت ، ولا يبقى
علينا بعد ذلك سؤال.
__________________
ثم نقول أنت تعلم
أن من يقول بتقدم البحتري في الصنعة ، به من الشغل في تفضيله على ابن الرّومي ، أو
تسوية ما بينهما ما لا يطمع معه في تقديمه على امرئ القيس ومن في طبقته.
وكذلك أبو نواس
إنما يعدل شعره بشعر أشكاله ، ويقابل كلامه بكلام أضرابه من أهل عصره. وإنما يقع
بينهم التباين اليسير والتفاوت القليل. فأما يظنّ ظانّ أو يتوهم متوهم أن جنس
الشعر معارض لنظم القرآن (فَكَأَنَّما خَرَّ
مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ
سَحِيقٍ) وإنما هي خواطر يغير بعضها على بعض ، ويقتدى فيها بعض ببعض
، والغرض الذي يرمي إليه ويصح التوافي عليه ، في الجملة ، فهو قبيل متداول ، وجنس
متنازع ، وشريعة مورودة ، وطريقة مسلوكة.
ألا ترى إلى ما
روي عن الحسين بن الضحاك قال : أنشدت أبا نواس قصيدتي التي فيها :
وشاطريّ اللسان
مختلق التّك
|
|
ريه زان المجون
بالنّسك
|
كأنه نصب كأنه
قمر
|
|
يكرع في بعض
أنجم الفلك
|
قال : فأنشدني أبو
نواس بعد أيام قصيدته التي يقول فيها :
أعاذل أعتبت
الإمام واعتبا
|
|
وأعربت عما في
الضمير وأعربا
|
وقلت لساقيها
أجزها فلم أكد
|
|
ليأبى أمير
المؤمنين وأشربا
|
فجوّزها عني
عقارا ترى لها
|
|
إلى الشّرف
الأعلى شعاعا مطنبا
|
إذا عبّ فيها
شارب القوم خلّته
|
|
يقبّل في داج من
الليل كوكبا
|
قال : فقلت له :
يا أبا علي هذه مقالتي ، فقال : أتظن أنه يروى لك معنى وأنا حي ..؟ فتأمل هذا
الأخذ ، وهذا الوضع ، وهذا الاتباع. أما الخليع فقد رأى الإبداع في المعنى. فأما
العبارات فإنها ليست على ما ظنّه ؛ لأن قوله : يكرع ليس بصحيح ، وفيه ثقل بيّن
وتفاوت ، وفيه إحالة ؛ لأن القمر لا يصح تصوّرا أن يكرع في نجم.
وأما قول أبي نواس
: إذا عب فيها ، فكلمة قد قصد فيها المتانة ، وكان سبيله أن يختار
__________________
سواها من ألفاظ
الشرب ، ولو فعل ذلك كان أملح. وقوله شارب القوم فيه ضرب من التكلف الذي لا بد له
منه ، أو من مثله ، لإقامة الوزن.
ثم قوله : «خلته
يقبل في داج من الليل كوكبا» تشبيه بحالة واحدة من أحواله ، وهي أن يشرب حيث لا
ضوء هناك ، وإنما يتناوله ليلا فليس بتشبيه مستوفي على ما فيه من الوقوع والملاحة.
وقد قال ابن الرومي ما هو أوقع منه وأملح وأبدع :
ومهفهف تمّت
محاسنه
|
|
حتى تجاوز منية
النّفس
|
تصبو الكئوس إلى
مراشفه
|
|
ونحن في يده إلى
الحبس
|
أبصرته والكأس
بين فم
|
|
منه وبين أنامل
خمس
|
وكأنها وكأن
شاربها
|
|
قمر يقبّل عارض
الشمس
|
ولا شك في أن
تشبيه ابن الرومي أحسن وأعجب ، إلا أنه تمكن من إيراده في بيتين وهما مع سبقهما
إلى المعنى أتيا به في بيت واحد.
وإنما أردت بهذا
أن أعرفك أن هذه أمور متقاربة ، يقع فيها التنافس والتعارض والأطماع ، متعلقة بها
، والهمم تسمو إليها. وهي ألف طباعنا ، وطوع مداركنا ، ومجانس لكلامنا.
وإعجاب قوم بنحو
هذا وما يجري مجراها ، وإيثار أقوام لشعر البحتري على أبي تمام ، وعبد الصمد ،
وابن الرومي ، وتقديم قوم كل هؤلاء أو بعضهم عليه ، وذهاب قوم عند التفرقة ليس
بأمر يضرّ بنا ، ولا سبب يعترض على أفهامنا.
ونحن نعمد إلى بعض
قصائد البحتري فنتكلم عليها كما تكلمنا على قصيدة امرئ القيس ، ليزداد الناظر في
كتابنا بصيرة ، ويستخلص من سر المعرفة سريرة ، ويعلم كيف تكون الموازنة ، وكيف تقع
المشابهة والمقاربة ، ونجعل تلك القصيدة التي نذكرها أجود شعره.
سمعت الصّاحب
إسماعيل بن عباد يقول : سمعت أبا الفضل بن العميد يقول : سمعت أبا مسلم الرّستمي
يقول : سمعت البحتري يذكر أن أجود شعر قاله :
«أهلا بذلكم
الخيال المقبل».
قال : وسمعت أبا
الفضل بن العميد يقول : أجود شعره هو قوله :
«في الشيب زجر له
لو كان ينزجر».
__________________
قال : وسئلت عن
ذلك فقلت : البحتري أعرف بشعر نفسه من غيره. فنحن الآن نقول في هذه القصيدة ما
يصلح في مثل هذا قوله :
أهلا بذلكم
الخيال المقبل
|
|
فعل الذي نهواه
أو لم يفعل
|
برق سرى في بطن
وجرة فاهتدت
|
|
بسناه أعناق
الرّكاب الضّلّل
|
البيت الأول في
قوله : ذلكم الخيال ، ثقل روح ، وتطويل وحشو ، وغيره أصلح له ، وأخف منه قول
الصّنوبري :
أهلا بذاك
الزّور من زور
|
|
شمس بدت في فلك
الدّور
|
وعذوبة الشعر تذهب
بزيادة حرف أو نقصان حرف ، فيصير إلى الكزازة ، وتعود ملاحته بذلك ملوحة ، وفصاحته
عيا ، وبراعته تكلفا ، وسلاسته تعسفا ، وملامسته تلويا وتعقدا. فهذا فصل وفيه شيء
آخر ، وهو : أن هذا الخطاب إنما يستقيم مهما خوطب به الخيال ، حال إقباله. فأما أن
يحكى الحال التي كانت وسلفت على هذه العيادة ، ففيه عهدة. وفي تركيب الكلام عن هذا
المعنى عقدة ، وهو لبراعته وحذقه في هذه الصنعة يعلق نحو هذا الكلام ، ولا ينظر في
عواقبه ، لأن ملاحة قوله تغطي على عيون الناظرين فيه نحو هذه الأمور.
ثم قوله : «فعل
الذي نهواه أو لم يفعل» ليست بكلمة رشيقة ، ولا لفظة ظريفة ، وإن كانت كسائر
الكلام.
فأما بيته الثاني
فهو عظيم الموقع في البهجة وبديع المأخذ ، حسن الرواء ، أنيق المنظر والمسمع ،
يملأ القلب والفهم ويفرح الخاطر. وترى بشاشته في العروق ، وكان البحتري يسمي نحو
هذه الأبيات : «عروق الذهب». وفي نحوه ما يدل على براعته في الصناعة ، وحذقه في
البلاغة.
ومع هذا كله فيه
ما نشرحه من الخلل ، مع الديباجة الحسنة ، والرونق المليح. وذلك أنه جعل الخيال
كالبرق لإشراقه في مسراه ، كما يقال : إنه يسري كنسيم الصبا فيطيب ما مر به. كذلك
يضيء ما مر حوله وينور ما مر به. وهذا غلوّ في الصنعة ، إلا أن ذكره : «بطن وجرة»
حشو ، وفي ذكره خلل ؛ لأن النور القليل يؤثر في بطون الأرض وما اطمأن منها ، بخلاف
ما يؤثر في غيرها. فلم يكن من سبيله أن يربط ذلك ببطن وجرة ، وتحديده المكان على
الحشو أحمد من تحديد امرئ القيس من ذكر : «سقط اللوى بين الدخول فحومل ، فتوضح
فالمقراة» لم يقنع بذكر حد حتى حده بأربع حدود. كأنه يريد بيع المنزل ، فيخشى إن
أخل بحد أن يكون بيعه فاسدا أو شرطه باطلا. فهذا باب.
ثم إنما يذكر
الخيال بخفاء الأثر ودقة المطلب ولطف المسلك. وهذا الذي ذكر يضاد هذا الوجه ،
ويخالف ما يوضع عليه أصل الباب.
ولا يجوز أن يقدر
مقدر أن البحتري قطع الكلام الأول وابتدأ بذكر برق لمع من ناحية حبيبه ، من جهة
بطن وجرة ، لأن هذا القطع إن كان فعله كان خارجا به عن النظم المحمود ، ولم يكن
مبدعا. ثم كان لا تكون فيه فائدة ، لأن كل برق شعل وتكرر وقع الاهتداء به في
الظلام. وكان لا يكون بما نظمه مفيدا ، ولا متقدما ، وهو على ما كان من مقصده ،
فهو ذو لفظ محمود ، ومعنى مستحب غير مقصود. ويعلم بمثله أنه طلب العبارات ، وتعليق
القول بالإشارات.
وهذا من الشعر
الحسن الذي يحلو لفظه وتقل فوائده كقول القائل :
ولما قضينا من
منى كل حاجة
|
|
ومسّح بالأركان
من هو ماسح
|
وشدّت على حدب
المهارى رحالنا
|
|
ولا ينظر الغادي
الذي هو رائح
|
أخذنا بأطراف
الأحاديث بيننا
|
|
وسالت بأعناق
المطيّ الأباطح
|
هذه ألفاظ بعيدة
المطالع والمقاطع ، حلوة المجاني والمواقع ، قليلة المعاني والفوائد. فأما قول
البحتري بعد ذلك :
من غادة منعت
وتمنع نيلها
|
|
فلو أنها بذلت
لنا لم تبذل
|
كالبدر غير مخيل
والغصن غ
|
|
ير مميل والدّعص
غير مهيّل
|
فالبيت الأول على
ما تكلف فيه من المطابقة وتجشم الصنعة ألفاظه أوفر من معانيه ، وكلماته أكثر من
فوائده. وتعلم أن القصد وضع العبارات في مثله. ولو قال : هي ممنوعة مانعة ، كان
ينوب عن تطويله ، وتكثيره الكلام وتهويله ثم هو معنى متداول مكرر على كل لسان.
وأما البيت الثاني
فأنت تعلم أن التشبيه بالبدر والغصن والدعص أمر منقول متداول ولا فضيلة في التشبيه
بنحو ذلك. وإنما يبقى تشبيهة ثلاثة أشياء في البيت ، وهذا أيضا قريب لأن المعنى
مكرر ويبقى له بعد ذلك شيء آخر ، وهو تعلمه للترصيع في البيت كله.
إلا أن هذه
الاستثناءات فيها ضرب من التكلف ، لأن التشبيه بالغصن كاف. فإذا زاد فقال كالغصن
غير معوج ، كان ذلك من باب التكلف خللا. وكان ذلك زيادة يستغنى عنها.
وكذلك قوله : كالدعص
غير مهيل ، لأنه إذا انهال خرج عن أن يكون مطلق التشبيه مصروفا إليه. فلا يكون
لتقييده معنى وأما قوله :
ما الحسن عندك
يا سعاد بمحسن
|
|
فيما أتاه ولا
الجمال بمجمل
|
عذل المشوق وإن
من سيما الهوى
|
|
في حيث يجهله
لجاج العذّل
|
قوله في البيت
الأول : عندك حشو. وليس بواقع ولا بديع ، وفيه كلفة. والمعنى الذي قصده أنت تعلم
أنه متكرر على لسان الشعراء.
وفيه شيء آخر لأنه
يذكر أن حسنا لم يحسن في تهييج وجده ، وتهييم قلبه. وضد هذا المعنى هو الذي يميل
إليه أهل الهوى والحب. وبيت كشاجم أسلم من هذا وأبعد من الخلل وهو قوله :
بحياة حسنك
أحسنى ، وبحق من
|
|
جعل الجمال عليك
وقفا أجملي
|
وأما البيت الثاني
فإن قوله : في حيث حشا بقوله : في ، ووقع ذلك مستنكرا وحشيا نافرا عن طبعه ، جافيا
في وضعه ، فهو كرقعة من جلد في ديباج حسن. فهو يمحو حسنه ، ويأتي على جماله.
ثم في المعنى شيء
، لأن لجاج العذل لا يدل على هوى مجهول ولو كان مجهولا لم يهتد. والعذل عليه ،
فعلم أن المقصد استجلاب العبارات دون المعاني. ثم لو سلم من هذا الخلل ، لم يكن في
البيت معنى بديع ولا شيء يفوت قول الشعراء في العذل ، فإن ذلك جملهم الذلول ،
وقولهم المكرر ، وأما قوله :
ما ذا عليك من
انتظار متيّم؟
|
|
بل ما يضرّك
وقفة في منزل؟
|
إن سيل عيّ عن
الجواب فلم يطق
|
|
رجعا فكيف يكون
إن لم يسأل؟
|
لست أنكر حسن
البيتين وظرفهما ، ورشاقتهما ولطفهما وماءهما وبهجتهما ، إلا أن البيت الأول منقطع
عن الكلام المتقدم ضربا من الانقطاع ، لأنه لم يجر لمشافهة العاذل ذكر ، وإنما جرى
ذكر العذّال على وجه لا يتصل هذا البيت به ولا يلائمه.
ثم الذي ذكره من
الانتظار وإن كان مليحا في اللفظ فهو في المعنى متكلف ، لأن الواقف في الدار لا
ينتظر أمرا ، وإنما يقف تحسرا وتذللا وتحيرا.
والشطر الأخير من
البيت واقع ، والأول مستجلب ، وفيه تعليق على أمر لم يجر له ذكر. لأن وضع البيت
يقتضي تقدم عذل على الوقوف ، ولم يحصل ذلك مذكورا في شعره من قبل.
وأما البيت الثاني
: فإنه معلق بالأول لا يستقل إلا به. وهم يعيبون وقوف البيت على غيره ، ويرون أن
البيت التام هو المحمود ، والمصراع التام بنفسه بحيث لا يقف على المصراع الآخر
أفضل وأتم وأحسن.
وقوله : فكيف يكون
إن لم يسأل ، مليح جدا ، ولا تستمر ملاحة ما قبله عليه ، ولا يطرد فيه الماء
اطراده فيه.
وفيه شيء آخر ،
لأنه لا يصلح أن يكون السؤال سببا لأن يعيا عن الجواب. وظاهر القول يقتضيه ، فأما
قوله :
لا تكلفنّ لي
الدموع فإن لي
|
|
دمعا ينمّ عليه
إن لم يفضل
|
ولقد سكنت إلى
الصدود من النوى
|
|
والشّري أري عند
طعم الحنظل
|
وكذاك طرفه حين
أوجس ضربة
|
|
في الرأس هان
عليه فصد الأكحل
|
فالبيت الأول
مخالف لما عليه مذهبهم في طلب الإسعاد بالدموع والإسعاف بالبكاء. ومخالف لأول
كلامه لأنه يفيد مخاطبة العذل. وهذا يفيد مخاطبة الرفيق. وقد بينت لك أن القوم
يسلكون حفظ الألفاظ وتصنيعها دون ضبط المعاني وترتيبها.
ولذلك قال الله عزوجل : (وَالشُّعَراءُ
يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ. أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ.
وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ) فأخبر أنهم يتبعون القول حيث توجه بهم ، واللفظ كيف أطاعهم
، والمعاني كيف تتبع ألفاظهم. وذلك خلاف ما وضع عليه الإبانة عن المقاصد بالخطاب.
ولذلك كان طلب الفصاحة فيه أسهل وأمكن ، فصار بهذا أبلغ خطابهم. ثم لو أن هذا
البيت وما يتلوه من البيتين سلم من نحو هذا ، لم يكن في ذلك شيء يفوت شعر شاعر ،
أو كلام متكلم.
وأما قوله :
والشرى أرى ، فإنه وإن كان قد تصنع له من جهة الطباق ، ومن جهة التجنيس المقارب ،
فهي كلمة ثقيلة على اللسان ، وهم يذمون نحو هذا. كما عابوا على أبي تمام قوله :
كريم متى أمدحه
أمدحه والورى معي
|
|
ومتى ما لمته
لمته وحدي
|
ذكر لي الصاحب بن
عباد : أنه جارى أبا الفضل بن العميد في محاسن القصيدة ، حتى انتهى إلى هذا البيت
، فذكر له أن قوله : أمدحه ، أمدحه ، معيب لثقله من جهة تدارك حروف الحلق.
ثم رأيت بعد ذلك
المتقدمين قد تكلموا في هذه النكتة ، فعلمت أن ذلك شيء عند أهل الصنعة معروف. ثم
إن قوله : عند أكل الحنظل ليس بحسن ولا واقع.
__________________
وأما البيت الثالث
فهو أجنبي من كلامه ، غريب في طباعه ، نافر من جملة شعره ، وفيه كزازة وفجاجة ،
وإن كان المعنى صالحا. فأما قوله :
وأغرّ في الزمن
البهيم محجّل
|
|
قد رحت منه على
أغرّ محجّل
|
كالهيكل المبنيّ
إلا أنه
|
|
في الحسن جاء
كصورة في هيكل
|
فالبيت الأول لم
يتفق له فيه خروج حسن ، بل هو مقطوع عما سلف من الكلام. وعامّة خروجه نحو هذا ،
وهو غير بارع في هذا الباب ، وهذا مذموم معيب منه ، لأن من كان صناعته الشعر وهو
يأكل به ، وتغافل عما يدفع إليه في كل قصيدة ، واستهان بأحكامه وتجويده مع تتبعه
لأن يكون عامة ما يصدر به أشعاره من النسيب عشرة أبيات ، وتتبعه للصنعة الكثيرة ،
وتركيب العبارات وتنقيح الألفاظ وتزويرها ، كان ذلك أدخل في عيبه ، وأدل على
تقصيره أو قصوره ، وإنه لا يقع له الخروج منه.
وأما قوله : «وأغرّ
في الزمن البهيم محجل» فإن ذكر التحجيل في الممدوح قريب ، وليس بجيد. وقد يمكن أن
يقال : بأنه إذا قرن بالأغر حسن وجرى مجراه ، وانخرط في سلكه ، وأهوى إلى مضماره ،
ولم ينكر لمكانه من جواره. فهذا عذر ، والعدول عنه أحسن.
وإنما أراد أن يرد
العجز على الصدر ، ويأتي بوجه في التجنيس. وفيه شيء ؛ لأن ظاهر كلامه يوهم أنه قد
صار ممتطي الأغر الأول ، ورائحا عليه. ولو سلم من ذلك لم يكن فيه ما يفوت حدود
الشعراء وأقاويل الناس. فأما ذكر الهيكل في البيت الثاني ورده عجز البيت عليه ،
وظنه أنه قد ظفر بهذه اللفظة ، وعمل شيئا حتى كررها ، فهي كلمة فيها ثقل ، ونحن
نجدهم إذا أرادوا أن يصنعوا نحو هذا قالوا : ما هو إلا صورة ، وما هو إلا تمثال ،
وما هو إلا دمية ، وما هو إلا ظبية ، ونحو ذلك من الكلمات الخفيفة على القلب
واللسان.
وقد استدرك هو
أيضا على نفسه فذكر أنه كصورة في هيكل ، ولو اقتصر على ذكر الصورة وحذف الهيكل كان
أولى وأجمل. ولو أن هذه الكلمة كررها أصحاب العزائم على الشياطين لراعوهم بها
وأفزعوهم بذكرها وذلك من كلامهم ، وشبيه بصناعتهم ، وأما قوله :
وافي الضّلوع
يشدّ عقد حزامه
|
|
يوم اللقاء على
معمّ مخول
|
أخواله
للرّستمين بفارس
|
|
وجدوده
للتّبّعين بموكل
|
نبل المحزم مما
يمدح به الخيل ، فهو لم يأت فيه ببديع. وقوله : يشد عقد حزامه داخل في التكلف ،
والتعسف لا يقبل من مثله. وإن قبلناه من غيره لأنه يتتبع الألفاظ وينقدها نقدا
شديدا. فهلا قال : يشد حزامه ، أو يأتي بحشو آخر سوى العقد. فقد عقد هذا
البيت بذكر العقد.
ثم قوله : «يوم اللقاء» حشو آخر لا يحتاج إليه. وأما البيت الثاني : فمعناه أصلح
من ألفاظه ، لأنها غير مجانسة لطباعه ، وفيها غلظ ونفار وأما قوله :
يهوى كما تهوى
العقاب وقد رأت
|
|
صيدا وينقض
انقضاض الأجدل
|
متوجس برقيقتين
كأنما
|
|
تريان من ورق
عليه موصل
|
ما إن يعاف قذى
ولو أوردته
|
|
يوما خلائق
حمدويه الأحول
|
البيت الأول صالح
وقد قاله الناس ، ولم يسبق إليه ، ولم يقل ما لم يقولوه ، بل هو منقول. وفي سرعة
عدو الفرس تشبيهات ليس هذا بأبدعها ، وقد يقولون : يفوت الطرف ويسبق الريح ،
ويجاري الوهم ، ويكدّ النظر ، ولو لا أن الإتيان على محاسن ما قالوه في ذلك يخرج
الكلام عن غرض الكتاب ، نقلت لك جملة مما ذهبوا إليه في هذا المعنى ، فتتّبع تعلم
أنه لم يأت فيها بما يجل عن الوصف ، أو يفوت منتهى الحد.
على أن الهوىّ
يذكر عند الانقضاض خاصة ، وليس للفرس هذه الصفة في الحقيقة إلا أن يشبه جده في
العدو بحالة انقضاض البازي والعقاب. وليست تلك الحالة بأسرع أحوال طيرانها.
وأما البيت الثاني
فقوله : إن الأذنين كأنهما من ورق موصل ، وإنما أراد بذلك حدتهما ، وسرعة حركتهما
، وإحساسهما بالصوت ، كما يحس الورق بحفيف الريح. وظاهر التشبيه غير واقع ، وإذا
ضمن ما ذكرنا من المعنى كان المعنى حسنا. ولكن لا يدل عليه اللفظ ، وإنما يجري
مجرى المضمن. وليس هذا البيت برائق اللفظ ، ولا مشاكل فيه لطيفة غير قوله : متوجس
برقيقتين. فإن هذا القدر هو حسن.
وأما البيت الثالث
: فقد ذكرنا فيما مضى من الكتاب أنه من باب الاستطراد ، ونقلنا نظائر ذلك من قول
أبي تمام وغيره. وقطعة أبي تمام في نهاية الحسن في هذا المعنى. والذي وقع للبحتري
في هذا البيت عندي ليس يجيد في لفظ ولا معنى. وهو بيت وحش جدا ، قد صار قذى في عين
هذه القصيدة ، بل وخزا فيها ووبالا عليها ، قد كدر صفاءها ، وأذهب بهاءها وماءها ،
وطمس بظلمته سناها.
وما وجه مدح الفرس
بأنه لا يعاف قذى من المياه إذا وردها؟ كأنه أراد أن يسلك مسلك بشار في قوله : «ولا
يشرب الماء إلا بدم» وإذا كان لهذا الباب مجانبا ، وعن هذا السمت بعيدا ، فهلا
وصفها بعزة الشرب كما وصفها المتنبي في قوله :
وصول إلى
المستصعبات بخيله
|
|
فلو كان قرن
الشمس ماء لأوردا
|
وهلا سلك فيه مسلك
القائل :
وإني للماء الذي
شابه القذى
|
|
إذا كثرت ورّاده
لعيوف
|
ثم قوله : «ولو
أردته يوما حشو بارد» ثم قوله : «حمدويه الأحول» وحش جدا فما أمقت هذا البيت
وأبغضه وما أثقله وأسخفه. وإنما غطى على عينه عيبه ، وزين له إيراده طمعه في الاستطراد.
وهلا طمع فيه على وجه لا يفض من بهجة كلامه ، ولا معنى ألفاظه. فقد كان يمكن ذلك
ولا يتعذر. فأما قوله :
ذنب كما سحب
الرداء يذبّ عن
|
|
عرف وعرف
كالقناع المسبل
|
تتوهم الجوزاء
في أرساغه
|
|
والبدر فوق
جبينه المتهلل
|
فالبيت الأول :
وحش الابتداء ، منقطع عما سبق من الكلام. وقد ذكرنا أنه لا يهتدي لوصل الكلام
ونظام بعضه إلى بعض. وإنما يتصنع لغير هذا الوجه ، وكان يحتاج أن يقول : ذنب
كالرداء ، فقد حذف الوصل غير متسق ولا مليح ، وكان من سبيله أن لا يخفى عليه ، ولا
يذهب عن مثله. ثم قوله : «كما سحب الرداء» قبيح في تحقيق التشبيه ، وليس بواقع ولا
مستقيم في العبارة إلا على إضمار أنه ذنب يسحبه كما يسحب الرداء. وقوله : «يذب عن
عرف» ليس بحسن ولا صادق ، والمحمود ما ذكره امرؤ القيس وهو قوله : «فويق الأرض ليس
بأعزل» وأن قوله : «تتوهم الجوزاء في أرساغه» فهو تشبيه مليح ، ولكنه لم يسبق إليه
ولا انفرد به.
ولو نسخت لك ما
قاله الشعراء في تشبيه الغرة بالهلال ، والبدر والنجم ، وغير ذلك من الأمور ،
وتشبيه الحجول ، لتعجبت من بدائع قد وقعوا عليها ، وأمور مليحة قد ذهبوا إليها.
وليس ذلك موضع كلامنا ، فتتبع ذلك في أشعارهم تعلم ما وصفت لك.
واعلم أنا تركنا
بقية كلامه في وصف الفرس ، لأنه ذكر عشرين بيتا في ذلك. والذي ذكرناه في هذا
المعنى يدل على ما بعده ، ولا يعدو ما تركناه أن يكون متوسطا إلى حد لا يفوت طريقة
الشعراء.
ولو تتبعت أقاويل
الشعراء في وصف الخيل علمت أنه وإن جمع فأوعى وحشر فنادى ، ففيهم من سبقه في
ميدانه ، ومنهم من ساواه في شأوه ، ومنهم من داناه. فالقبيل واحد ، والنسيج متشاكل
، ولو لا كراهة التطويل ، لنقلت جملة من أشعارهم في ذلك لتقف على ما قلت. فتجاوزنا
إلى الكلام على ما قاله في المدح في هذه القصيدة قال :
لمحمد بن عليّ
الشرف الذي
|
|
لا يلحظ الجوزاء
إلا من عل
|
وسحابة لو لا
تتابع مزنها
|
|
فينا لراح المزن
غير مبخّل
|
والجود يعذله
عليه حاتم
|
|
سرفا ولا جود
لمن لم يعذل
|
البيت الأول منقطع
عما قبله ، على ما وصفنا به شعره : من قطعه المعاني ، وفصله بينها ، وقلة تأنيه
لتجويد الخروج والوصل. وذلك نقصان في الصناعة ، وتخلف في البراعة ، وهذا إذا وقع
في مواضع قليلة عذر فيها. وأما إذا كان بناء الغالب من كلامه على هذا فلا عذر له.
وأما المعنى الذي
ذكره فليس بشيء مما سبق إليه. وهو شيء مشترك فيه. وقد قالوا في نحوه وإن مجده سماء
المساء ، وقالوا في نحوه الكثير الذي يصعب نقل جميعه ، وكما قال المتنبي :
وعزمة بعثتها
همّة زحل
|
|
من تحتها بمكان
الترب من زحل
|
وحدثني إسماعيل بن
عباد أنه رأى أبا الفضل بن العميد قام لرجل قال لمن حضره : أتدري من هذا؟ هو الذي
قال فيه أبيه البحتري :
«لمحمد بن القاسم
الشرف الذي».
فذلك يدل على
استعظامه للميت بما مدح به من البيت.
والبيت الثاني في
تشبيه جوده بالسحاب قريب. وهو حديث مكرر ليس ينفك مديح شاعر منه. وكان من سبيله أن
يبدع فيه زيادة إبداع كما قد يقع لهم في نحو هذا. ولكنه لم يتصنع له وأرسله
إرسالا.
وقد وقع في
المصراع الثاني ضرب من الخلل ، وذلك أن المزن إنما يبخل إذا منع نيله. فذلك موجود
في كل نيل ممنوع ، وكلاهما محمود مع الإسعاف. فإن أسعف أحدهما ومنع الآخر لم يمكن
التشبيه. وإن كان إنما شبه غالب أحدهما بالآخر. وذكر قصور أحدهما عن صاحبه ، حتى
أنه قد يبخل في وقت والآخر لا يبخل بحال ، فهذا جيد وليس في حمل الألفاظ على
الإشارة إلى هذا شيء.
والبيت الثالث :
وإن كان معناه مكررا فلفظه مضطرب بالتأخير والتقديم. يشبه ألفاظ المبتدئين وأما
قوله :
فضل وإفضال وما
أخذ المدى
|
|
بعد المدى
كالفاضل المتفضّل
|
سار إذا ادّلج
العفاة إلى الندى
|
|
لا يصنع المعروف
غير معجّل
|
فالبيت الأول
منقطع عما قبله ، وليس فيه شيء غير التجنيس ، الذي ليس ببديع لتكرره على كل لسان.
وقوله : ما أخذ المدى فإنه لفظ مليح وهو كقول القائل :
«قد أركب الآلة
بعد الآلة» ، وروي : «الحالة بعد الحالة».
وكقول امرئ القيس
: «سموّ حباب الماء حالا على حال» ولكنها طريقة مذلّلة. فهو فيها تابع. وأما البيت
الثاني فقريب في اللفظ والمعنى. وقوله : «لا يصنع المعروف» ليس بلفظ محمود ، وأما
قوله :
عال على نظر
الحسود كأنما
|
|
جذبته أفراد
النجوم بأحبل
|
أو ما رأيت
المجد ألقى رحله
|
|
في آل طلحة ثمّ
لم يتحوّل
|
فالبيت الأول منكر
جدا في جر النجوم بالأرسان موضعه إلى العلو. والتكلف فيه واقع.
والبيت الثاني
أجنبي عنه ، بعيد منه. وافتتاحه رديء ، وما وجه الاستفهام والتقرير والاستبانة
والتوقيف؟ والبيتان أجنبيان من كلامه ، غريبان في قصيدته ، ولم يقع له في المدح في
هذه القصيدة شيء جيد. ألا ترى أنه قال بعد ذلك :
نفسي فداؤك يا
محمد من فتى
|
|
يوفى على ظلم
الخطوب فتنجلي
|
إني أريد أبا
سعيد والعدا
|
|
بيني وبين سحابه
المتهلّل
|
كأن هذا ليس من
طبعه ولا من سبكه وقوله :
مضر الجزيرة
كلّها وربيعة ال
|
|
خابور توعدني
وأزد الموصل
|
قد جدت بالطرف
الجواد فثنه
|
|
لأخيك من أدد
أبيك بمنصل
|
البيت الأول حسن
المعنى ، وإن كانت ألفاظه بذكر الأماكن لا يتأتى فيه التحسين. وهذا المعنى قد يمكن
إيراده بأحسن من هذا اللفظ وأبدع منه وأرق منه كقوله :
إذا أغصبت عليك
بنو تميم
|
|
رأيت الناس
كلّهم غضابا
|
والبيت الثاني قد
تعذر عليه وصله بما سبق من الكلام على وجه يلطف ، وهو قبيح اللفظ ، حيث يقول فيه :
فثنّه لأخيك من أدد أبيك. ومن آخذه بهذا التعرض لهذا السجع وذكر هذا النسب حتى
أفسد به شعره.
وأما قوله بعد ذلك
في وصف السيف يقول :
يتناول الروح
البعيد مثالها
|
|
عفوا ويفتح في
القضاء المقفل
|
بإبانة في كل
حتف مظلم
|
|
وهداية في كل
نفس مجهل
|
ماض وإن لم تمضه
يد فارس
|
|
بطل ومصقول وإن
لم يصقل
|
ليس لفظ البيت
الأول بمضاه لديباجة شعره ، ولا له بهجة نظمه ، لظهور أثر التكلف عليه ، وتبين ثقل
فيه.
وأما «القضاء
المقفل» وفتحه ، فكلام غير محمود ولا مرضي! واستعارة لو لم يستعرها كانت أولى به!
وهلّا عيب عليه كما عيب على أبي تمام قوله :
فضربت في أخدعيه
|
|
ضربة غادرته
عودا ركوبا
|
وقالوا : يستحق
بهذه الاستعارة أن يصفع في أخدعيه! وقد اتبعه البحتري في استعارة الأخدع ولوعا
باتباعه ، فقال في الفتح :
وإني وقد بلغتني
الشرف العلى
|
|
وأعتقت من ذلّ
المطامع أخدعي
|
إن شيطانه ، حيث
زين له هذه الكلمة ، تابعه حين حسن عنده هذه اللفظة ، لخبيث مارد ورديء معاند ،
أراد أن يطلق أعنة الذم فيه ، ويسرّح جيوش العتب إليه. ولم يقع بقفل القضاء ، حتى
جعل للحتف ظلمة تجلى بالسيف ، وجعل السيف هاديا في النفس المجهل الذي لا يهتدي
إليه! وليس في هذا مع تحسين اللفظ وتنميقه شيء. لأن السلاح وإن كان معيبا فإنه
يهتدي إلى النفس. وكان يجب أن يبدع في هذا إبداع المتنبي في قوله :
كأنّ إلهام في
الهيجا عيون
|
|
وقد طبعت سيوفك
من رقاد
|
وقد صغت الأسنة
من هموم
|
|
فما يخطرن إلا
في فؤاد
|
فالاهتداء على هذا
الوجه في التشبيه بديع حسن ، وفي البيت الأول شيء آخر ، وذلك أن قوله : «ويفتح في
القضاء» في هذا الموضع حشو رديء يلحق بصاحبه اللكنة ، ويلزمه الهجنة.
أما البيت الثالث
: فإنه أصلح هذه الأبيات. وإن كان ذكر الفارس حشوا وتكلفا ولغوا. لأن هذا لا يتغير
بالفارس والراجل. على أنه ليس فيه بديع ، وأما قوله :
يغشى الوغى
والتّرس بجنة
|
|
من حدّه والدّرع
ليس بمعقل
|
مصغ إلى حكم
الردى فإذا مضى
|
|
لم يلتفت ، وإذا
قضى لم يعدل
|
متوقد يبري
بأوّل ضربة
|
|
ما أدركت ، ولو
أنها في يذبل
|
البيتان الأولان
من الجنس الذي يكثر كلامه عليه ، وهي طريقه الذي يجتنبها ، وذلك من السبك الكتابي
، والكلام المعتدل. إلا أنه لم يبدع فيها بشيء ، وقد زيد عليه فيها ومن قصد إلى أن
يكمل عشرة أبيات في وصف السيف فليس من حكمه أن يأتي بأشياء منقولة ، وأمور مذكورة.
وسبيله أن يغرب ويبدع كما أبدع المتنبي في قوله :
سلّه والركض بعد
وهن بنجد
|
|
فتصدّى للغيث
أهل الحجاز
|
هذا في باب صقاله
، وأضوائه وكثرة مائه ، وكقوله :
ريان لو قذف
الذي أسقيته
|
|
لجرى من المهجات
بحر مزبد
|
وقوله : «مصغ إلى
حكم الردى إن تأملته» مقلوب كان ينبغي أن يقول يصغي الردى إلى حكمه كما قال الآخر
: «فالسيف يأمر والأقدار تنتظر». وقوله : «وإذا قضى لم يعدل» متكرر على ألسنتهم في
الشعر خاصة في نفس هذا المعنى. والبيت الثالث سليم ، وهو كالأولين في خلوه عن
البديع ، فأما قوله :
فإذا أصاب فكلّ
شيء مقتل
|
|
وإذا أصيب فما
له من مقتل
|
وكأنما سود
النمال وحمرها
|
|
دبّت بأيد في
قراه وأرجل
|
البيت الأول يقصد
به صنيعة اللفظ ، وهو في المعنى متفاوت ، لأن المضرب قد لا يكون مقتلا. وقد يطلق
الشعراء ذلك ، ويرون أن هذا أبدع من قول المتنبي ، وإنه بضده :
يقتل السيف في
جشم القتيل به
|
|
وللسّيوف كما
للنّاس آجال
|
وهذه طريقة لهم
يتمدحون بها في قصف الرمح طعنا ، وتقطيع السيف ضربا ، وفي قوله : «وإذا أصيب فما
له من مقتل» ، تعسف لأنه يريد بذلك أنه لا يتكسر. فالتعبير بما عبر به عن المعنى
الذي ذكرناه يتضمن ضربا من التكلف ، وضربا من المحال. وليس بالنادر ، والذي عليه
الجملة ما حكيناه عن غيره ونحوه. قال بعض أهل الزمان :
يقصّف في الفارس
السّمهريّ
|
|
وصدر الحسام
فريقا فريقا
|
البيت الثاني أيضا
: هو معنى مكرر على ألسنة الشعراء ، وأما تصنيعه بسود النمال وحمرها ، فليس بشيء ؛
ولعله أراد بالحمر الذّرّ. والتفصيل بارد! والإعراب به منكر! وهو كما حكى عن بعضهم
أنه قال : كان كذا حين كانت الثريا بحذاء رأسي على سواء ، أو منحرفا قدر شبر أو
نصف شبر ، أو إصبع أو ما يقارب ذلك. فقيل له : هذا من الورع الذي يبغضه الله ،
ويمقته الناس ، ورب زيادة كانت نقصانا. وصفه النمل بالسواد والحمرة في هذا من ذلك
الجنس ، وعليه خرج بقية البيت في قوله : «دبّت بأيد في قراه وأرجل».
وكان يكفي ذكره
الأرجل عن ذكر الأيدي ، ووصف الفرند بمدبّ النمل شيء لا يشذّ عن أحد منهم ، وأما
قوله :
وكأن شاهره إذا
استضوي به الزّ
|
|
حفان يعصى
بالسّماك الأعزل
|
حملت حمائله
القديمة بقلة
|
|
من عهد عاد غضّة
لم تذبل
|
البيت الأول منهما
فيه ضرب من التكلف ، وهو منقول من أشعارهم وألفاظهم ، وإنما
يقول : «قمر يشد
على الرجال بكوكب» فجعل ذلك الكوكب السماك واحتاج إلى أن يجعله أعزل للقافية.
ولو لم يحتج إلى
ذلك كان خيرا له ؛ لأن هذه الصفة في هذا الموضع تفضه من الموضع. وموضع التكلف الذي
ادعيناه الحشو الذي ذكره من قوله : «إذا استضوى به الزحفان». وكان يكفي أن يقول
كان صاحبه يعصي بالسماك ، وهذا وإن كان قد تعمل فيه للفظ ، فهو لغو على ما بينا.
وأما البيت
الثاني. ففيه لغو من جهة قوله : حمائله قديمة ، ولا فضيلة له في ذلك. ثم تشبيه
السيف بالبقلة من تشبيهات العامة ، والكلام الرّذل النّذل ؛ لأن العامة قد يتفق
منها تشبيه واقع حسن.
ثم انظر إلى هذا
المقطع الذي هو بالعيّ أشبه منه بالفصاحة ، وإلى اللكنة أقرب منه إلى البراعة. وقد
بينا أن مراعاة الفواتح ، والخواتم ، والمطالع ، والمقاطع ، والفصل ، والوصل بعد
صحة الكلام ، ووجود الفصاحة فيه ، مما لا بد منه. وأن الإخلال بذلك يخل بالنظم ،
ويذهب رونقه ، ويحيل بهجته ، ويأخذ ماءه وبهاءه.
وقد اطلعت عليك
فيما نقلت ، وتكلفت ما سطرت ، لأن هذا القبيل ، قبيل موضوع متعمل مصنوع. وأصل
الباب في الشعر على أن ينظر إلى جملة القصة ، ثم يتأمل الألفاظ ولا ينظر بعد ذلك
إلى مواقعها ولا يتأمل مطارحها ، وقد يقصد تارة إلى تحقيق الأغراض وتصوير المعاني
التي في النفوس. ولكنه يلحق بأصل بابه ، ويميل بك إلى موضعه ، ويحسب الاهتمام
بالصنعة يقع فيها التفاضل.
وإن أردت أن تعرف
أوصاف الفرس فقد ذكرت لك أن الشعراء قد تصرفوا في ذلك بما يقع إليك إن كنت من أهل
الصنعة ، مما يطول على نقله ، وكذلك في السيف. وذكر لي بعض أهل الأدب أن أحسن قطعة
في السيف قول أبي الهول الحميري :
حاز صمصامة
الزّبيدي من بي
|
|
ن جميع الأنام
موسى الأمين
|
سيف عمرو وكان
فيما سمعنا
|
|
خير ما أطبقت
عليه الجفون
|
أخضر اللّون بين
برديه حدّ
|
|
من ذعاف تميس
فيه المنون
|
أوقدت فوقه
الصواعق نارا
|
|
ثمّ شابت له
الذّعاف القيون
|
فإذا ما شهرته
بهر الشّم
|
|
س ضياء فلم تكد
تستبين
|
يستطير الأبصار
كالقبس المش
|
|
عل لا تستقيم
فيه العيون
|
وكأنّ الفرند
والرّونق الجا
|
|
ري في صحفتيه
ماء معين
|
نعم مخراق ذي
الحفيظة في الهي
|
|
جاء يعصي به
ونعم القرين
|
ما يبالي إذا
انتحاه بضرب
|
|
أشمال سطت به أم
يمين
|
وإنما يوازن شعر
البحتري بشعر شاعر من طبقته ، ومن أهل عصره ، ومن هو في مضماره ، أو في منزلته ،
ومعرفته أجناس الكلام ، والوقوف على أسراره ، والوقوع على مقداره شيء. وإن كان
عزيزا ، وأمر وإن كان بعيدا فهو سهل على أهله ، مستجيب لأصحابه ، مطيع لأربابه ،
ينقدون الحروف ، ويعرفون الصروف ، وإنما يتقي الشبهة في ترتيب الحال بين البحتري
وأبي تمام وابن الرومي وغيره.
ونحن وإن كنا نفضل
البحتري بديباجة شعره على ابن الرومي وغيره من أهل زمانه ، ونقدمه بحسن عبارته
وسلاسة كلامه ، وعذوبة ألفاظه ، وقلة تعقد قوله.
والشعر قبيل ملتمس
مستدرك ، وأمر ممكن منطبع. ونظم القرآن عال عن أن يعلق به الوهم ، أو يسمو إليه
الفكر ، أو يطمع فيه طامع ، أو يطلبه طالب. (لا يَأْتِيهِ
الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ
حَمِيدٍ) وكنت قد ذكرت لك قبل هذا أنك إن كنت بصنعة علم اللسان
متدربا ، وفيه متوجها متقدما ، أمكنك الوقوف على ما ذكرنا ، والنفوذ فيما وصفنا.
وإلا فاجلس في مجلس المقلدين ، وارض بمواقف المتحيرين.
ونصحت لك حيث قلت
؛ انظر ، هل تعرف عروق الذهب ، ومحاسن الجوهر ، وبدائع الياقوت ، ودقائق السحر ،
من غير معرفة بأسباب هذه الأمور ومقدماتها؟ وهل يقطع سمت البلاد من غير اهتداء
فيها؟
ولكل شيء طريق
يتوصل إليه به ، وباب يؤخذ نحوه فيه ، ووجه يؤتى منه. ومعرفة الكلام أشد من
المعرفة بجميع ما وصفت لك ، وأغمض وأدق وألطف. وتصوير ما في النفس وتشكيل ما في
القلب حتى تعلمه وكأنك مشاهده وإن كان قد يقع بالإشارة ويحصل بالدلالة والإمارة ،
كما يحصل بالنطق الصريح ، والقول الفصيح. فللإشارة أيضا مراتب ، وللسان منازل. رب
وصف يصور لك الموصوف كما هو على جهته ، لا خلف فيه. ورب وصف يربو عليه ويتعداه ورب
وصف يقصر عنه.
ثم إذا صدق الوصف
انقسم إلى صحة وإتقان ، وحسن وإحسان ، وإلى إجمال وشرح ، وإلى استيفاء وتقريب ،
وإلى غير ذلك من الوجوه.
وكل مذهب وطريق له
باب وسبيل ، فوصف الجملة الواقعة كقوله تعالى :
(لَوِ
__________________
اطَّلَعْتَ
عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً) والتفسير كقوله : (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ
الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ
أَحَداً) إلى آخر الآيات في هذا المعنى.
وكنحو قوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا
رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ. يَوْمَ تَرَوْنَها
تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها
، وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ) هذا مما يصور الشيء على جهته ويمثل أهوال ذلك اليوم ، ومما
يصور لك الكلام الواقع في الصفة كقوله حكاية عن السحرة ، لما توعدهم فرعون بما
توعدهم به حين آمنوا قالوا : (إِنَّا إِلى رَبِّنا
لَمُنْقَلِبُونَ. إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ
كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ) .
وقال في موضع آخر
: (إِنَّا إِلى رَبِّنا
مُنْقَلِبُونَ. وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا
جاءَتْنا ، رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ) وهذا ينبئ عن كلام الحزين لما ناله ، الجازع لما مسه.
ومن باب التسخير
والتكوين قوله تعالى : (إِنَّما أَمْرُهُ
إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) وقوله : (فَقُلْنا لَهُمْ
كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) وكقوله : (فَأَوْحَيْنا إِلى
مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ
كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) وتقصي أقسام ذلك مما يطول ، ولم أقصد استيفاء ذلك ، وإنما
ضربت لك المثل بما ذكرت لتستدل ، وأشرت إليك بما أشرت لتتأمل.
وإنما اقتصرنا على
ذكر قصيدة البحتري لأن الكتاب يفضلونه على أهل دهره ، ويقدمونه على من في عصره.
ومنهم من يدّعى له الإعجاز غلوا ، ويزعم أنه يناجي النجم في قوله علوا. والملحدة
تستظهر بشعره ، وتتكثر بقوله ، وتدّعى كلامه من شبهاتهم ، وعباراته مضافا إلى ما
عندهم من ترهاتهم. فبيّنا قدر درجته ، وموضع رتبته ، وحد كلامه.
__________________
وهيهات أن يكون
المطموع فيه كالميئوس منه. وأن يكون الليل كالنهار ، والباطل كالحق ، وكلام رب
العالمين ككلام البشر.
فإن قال قائل :
فقد قدح الملحد في نظم القرآن ، وادّعى عليه الخلل في البيان ، وأضاف إليه الخطأ في
المعنى واللفظ ، وقال ما قال فهل من فصل؟
قيل : الكلام على
مطاعن الملحدة في القرآن ، مما قد سبقنا إليه ، وصنّف أهل الأدب في بعضه فكفوا.
وأتى المتكلمون على ما وقع إليهم فشفوا ، ولو لا ذلك لاستقصينا القول فيه في
كتابنا.
وأما الغرض الذي
صنفنا فيه في التفصيل والكشف عن إعجاز القرآن ، فلم نجده على التقريب الذي قصدنا ،
وقد رجونا أن يكون ذلك مغنيا ووافيا ، وإن سهّل الله لنا ما نويناه من إملاء معاني
القرآن ، ذكرنا في ذلك ما يشتبه من الجنس الذي ذكروه ، لأن أكثر ما يقع من الطعن
عليه ، فإنما يقع على جهل القوم بالمعاني أو بطريقة كلام العرب.
وليس ذلك من مقصود
كتابنا هذا ، وقد قال النبي صلىاللهعليهوسلم : (فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه) وقد قصدنا فيما أمليناه الاختصار ، ومهدنا الطريق ، فمن
كمل طبعه للوقوف على فصل أجناس الكلام استدرك ما بينا ، ومن تعذر عليه الحكم بين
شعر جرير والفرزدق والأخطل ، والحكم بين فضل زهير والنابغة أو الفضل بين البحتري
وأصحابه ، ولم يعرف سخف مسيلمة في نظمه ، ولم يعلم أنه من الباب الذي يهزأ به
ويسخر منه كشعر أبي العيس في جملة الشعر ، وشعر علي بن صلاة فكيف يمكنه النظر فيما
وصفنا ، والحكم على ما بينا؟
فإن قال قائل :
فاذكر لنا من هؤلاء الشعراء الذين سميتهم الأشعر ، والأبلغ ، قيل له : هذا أيضا
خارج عن غرض هذا الكتاب ، وقد تكلم فيه الأدباء ويحتاج أن يجدد لنحو هذا كتاب ،
ويفرد له باب ، وليس من قبيل ما نحن فيه بسبيل.
وليس لقائل أن يقول
: قد يسلم بعض الكلام من العوارض والعيوب ، ويبلغ أمده في الفصاحة والنظم العجيب ،
ولا يبلغ عندكم حد المعجز ، فلم قضيتم بما قضيتم به في القرآن دون غيره من الكلام؟
وإنما لم يصح هذا
السؤال ، وما نذكر فيه من أشعار في نهاية الحسن ، وخطب
__________________
ورسائل في غاية
الفضل ، لأنا قد بينا أن هذه الأجناس قد وقع النزاع فيها ، والمساماة عليها ،
والتنافس في طرقها ، والتنافر في بابها. وكان البون بين البعض والبعض في الطبقة
الواحدة قريبا ، والتفاوت خفيفا ، وذلك القدر من السبق إن ذهب عند الواحد لم ييأس
منه الباقون ، ولم ينقطع الطمع في مثله.
وليس كذلك سمت
القرآن ، لأنه قد عرف أن الوهم ينقطع دون مجاراته ، والطمع يرتفع عن مباراته
ومساماته ، وأن الكل في العجز عنه على حد واحد. وكذلك قد يزعم زاعمون أن كلام
الجاحظ من السمت الذي لا يأخذ فيه ، والباب الذي لا يذهب عنه. وأنت تجد قوما يرون
كلامه قريبا ومنهاجه معيبا ، ونطاق قوله ضيقا حتى يستعين بكلام غيره ، ويفرغ إلى
ما يوشح به كلامه من بيت سائر ، ومثل نادر ، وحكمة ممهدة منقولة ، وقصة عجيبة
مأثورة.
وأما كلامه في
أثناء ذلك فسطور قليلة وألفاظ يسيرة ، فإذا أحوج إلى تطويل الكلام خاليا عن شيء
يستعين به فيخلطه بقوله من قول غيره كان كلاما ككلام غيره.
فإن أردت أن تحقق
هذا ، فانظر في كتبه في نظم القرآن ، وفي الرد على النصارى ، وفي خبر الواحد ،
وغير ذلك مما يجري هذا المجرى. هل تجد في ذلك كله ورقة تشتمل على نظم بديع؟ أو
كلام مليح؟ على أن متأخري الكتاب قد نازعوه في طريقته. وجاذبوه على منهجه. فمنهم
من ساواه حين ساماه ، ومنهم من أبر عليه إذا باراه. هذا أبو الفضل بن العميد قد
سلك مسلكه ، وأخذ طريقه ، فلم يقصر عنه ، ولعله قد بان تقدمه عليه لأنه يأخذ في
الرسالة الطويلة فيستوفيها على حدود مذهبه ، ويكملها على شروط صنعته ، ولا يقتصر
على أن يأتي بالأسطر من نحو كلامه ، كما ترى الجاحظ يفعله في كتبه ، متى ذكر من
كلامه سطرا اتبعه من كلام الناس أوراقا. وإذا ذكر منه صفحة بني عليه من قول غيره
كتابا.
وهذا يدلك على أن
الشيء إذا استحسن اتبع ، وإذا استملح قصد له وتعمّد ، وهذا الشيء يرجع إلى الأخذ
بالفضل والتنافس في التقدم.
فلو كان في مقدور
البشر معارضة القرآن لهذا الغرض وحده ، لكثرت المعارضات ، ودامت المنافسات.
فكيف وهناك دواع
لا انتهاء لها ، وجوالب لا حد لكثرتها ؛ لأنهم لو كانوا عارضوه لتوصلوا إلى تكذيبه
، ثم إلى قطع المحامين دونه عنه ، أو تنفيرهم عليه ، وإدخال الشبهات على قلوبهم.
وكان القوم يكتفون بذلك عن بذل النفوس ، ونصب الأرواح ، والأخطار بالأموال
والذراري في وجه عدواته. ويستغنون بكلام هو طبعهم وعادتهم وصناعتهم عن
محاربته ، وطول
منافسته ومجاذبته. وهذا الذي عرضناه على قلبك يكفي إن هديت لرشدك. ويشفي إن دللت
على قصدك ، ونسأل الله حسن التوفيق والعصمة والتسديد ، إنه لا معرفة إلا بهدايته ،
ولا عصمة إلا بكفايته ، وهو على ما يشاء قدير ، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
فصل :
في جوانب إعجاز القرآن
فإن قال قائل : قد
يجوز أن يكون أهل عصر النبي صلىاللهعليهوسلم قد عجزوا عن الإتيان بمثل القرآن ، وإن كان من بعدهم من
أهل الأعصار لم يعجزوا ، قيل : هذا سؤال معروف ، وقد أجيب عنه بوجوه ، منها ما هو
صواب ، ومنها ما فيه خلل.
لأن من كان يجيب
عنه بأنهم لا يقدرون على معارضته في الإخبار عن الغيوب ، إن قدروا على مثل نظمه ،
فقد سلّم المسألة. لأنا ذكرنا أن نظمه معجز لا يقدر عليه. فإذا أجاب بما قدمناه
فقد وافق السائل عن مراده ، والوجه أن يقال : فيه طرق ، منها أنا إذا علمنا أن أهل
ذلك العصر كانوا عاجزين عن الإتيان بمثله ، فمن بعدهم أعجز ؛ لأن فصاحة أولئك في
وجوه ما كانوا يتفننون فيه من القول ، مما لا يزيد عليه فصاحة من بعدهم ، وأحسن
أحوالهم أن يقاربوهم أو يساووهم. فأمّا أن يتقدموهم أو يسبقوهم فلا.
ومنها أنا قد
علمنا عجز أهل سائر الأعصار كعلمنا بعجز أهل العصر الأول. والطريق في العلم بكل
واحد من الأمرين طريق واحد ، لأن التحدي في الكل على جهة واحدة ، والتنافر في
الطباع على حد. والتكلف على منهاج لا يختلف. ولذلك قال الله تبارك وتعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ
وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ
وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً)
التحدي
يجب أن تعلم أنّ
من حكم المعجزات إذا ظهرت على الأنبياء أن يدّعوا فيها أنها من دلالتهم وآياتهم ،
لأنه لا يصح بعثة النبي من غير أن يؤتى دلالة ، ويؤيّد بآية. لأن النبي لا يتميز
من الكاذب بصورته ، ولا بقول نفسه ، ولا بشيء آخر سوى البرهان الذي يظهر عليه ،
فيستدل به على صدقه.
فإذا ذكر لهم أن
هذه آيتي ، وكانوا عاجزين عنها ، صح له ما ادعاه. ولو كانوا غير عاجزين عنها ، لم
يصح أن يكون برهانا له.
__________________
وليس يكون ذلك
معجزا إلا بأن يتحداهم إلى أن يأتوا. فإذا تحداهم وبان عجزهم صار ذلك معجزا. وإنما
احتيج في باب القرآن إلى التحدي ؛ لأن من الناس من لا يعرف كونه معجزا ، فإنما
يعرف أولا إعجازه بطريقه ، لأن الكلام المعجز لا يتميز من غيره بحروفه وصورته.
وإنما يحتاج إلى علم وطريق يتوصل به إلى معرفة كونه معجزا. فإن كان لا يعرف بعضهم
إعجازه فيجب أن يعرف هذا ، حتى يمكنه أن يستدل به. ومتى رأى أهل ذلك اللسان قد
عجزوا عنه بأجمعهم مع التحدي إليه والتقريع به ، والتمكين منه ، صار حينئذ بمنزلة
من رأى اليد البيضاء ، وانقلاب العصا ثعبانا تتلقف ما يأفكون.
وأما ما كان من
أهل صنعة العربية ، والتقدم في البلاغة ، ومعرفة فنون القول ، ووجوه المنطق ، فإنه
يعرف حين يسمعه عجزه عن الإتيان بمثله. ويعرف أيضا أهل عصره ممن هو في طبقته ، أو
يدانيه في صناعته عجزهم عنه. فلا يحتاج إلى التحدي حتى يعلم به كونه معجزا.
ولو كان أهل
الصنعة الذين صفتهم ما بينا لا يعرفون كونه معجزا حتى يعرفوا عجز غيرهم عنه ، لم
يجز أن يعرف النبي صلىاللهعليهوسلم أن القرآن معجز ، حتى يرى عجز قريش عنه بعد التحدي إليه.
وإذا عرف عجز قريش لم يعرف عجز سائر العرب عنه حتى ينتهي إلى التحدي إلى أقصاهم ،
وحتى يعرف عجز مسيلمة الكذاب عنه. ثم يعرف حينئذ كونه معجزا.
وهذا القول إن قيل
أفحش ما يكون من الخطأ. فيجب أن تكون منزلة أهل الصنعة في معرفة إعجاز القرآن
بأنفسهم منزلة من رأى اليد البيضاء ، وفلق البحر ، بأن ذلك معجز.
وأما من لم يكن من
أهل الصنعة ، فلا بد له من مرتبة قبل هذه المرتبة ، يعرف بها كونه معجزا ، فيساوي
حينئذ أهل الصنعة ، فيكون استدلالها في تلك الحالة به على صدق من ظهر ذلك عليه
سواه ، إذا ادعاه ، دلالة على نبوته ، وبرهانا على صدقه.
فأما من قدّر أن
القرآن لا يصير معجزا إلا بالتحدي إليه ، فهو كتقدير من ظن أن جميع آيات موسى
وعيسى عليهماالسلام ، ليست بآيات حتى يقع التحدي إليها والحض عليها ، ثم يقع
العجز عنها فيعلم حينئذ أنها معجزات. وقد سلف من كلامنا في هذا المعنى ما يغني عن
الإعادة.
ويبين ما ذكرناه
في غير البليغ أن الأعجمي الآن لا يعرف إعجاز القرآن إلا بأمور زائدة على الأعجمي
الذي كان في ذلك الزمان مشاهدا له. لأن من هو من أهل العصر يحتاج أن يعرف أولا أن
العرب عجزوا عنه. وإنما يعلم عجزهم عنه بنقل الناقلة إليه ، أنّ النبي صلىاللهعليهوسلم قد تحدى العرب إليه ، فعجزوا عنه. ويحتاج في النقل إلى
شروط وليس يصير القرآن بهذا
النقل معجزا. كذلك
لا يصير معجزا بأن يعلم العربي الذي ليس ببليغ أنهم قد عجزوا عنه بأبلغهم ، بل هو
معجز في نفسه. وإنما طريق معرفة هذا وقوعهم على العلم بعجزهم عنه.
قدر المعجز من القرآن
الذي ذهب إليه
عامة أصحابنا ، وهو قول أبي الحسن الأشعري في كتبه ، أن أقل ما يعجز عنه من القرآن
السورة قصيرة كانت أو طويلة ، أو ما كان بقدرها. قال : فإذا كانت الآية بقدر حروف
سورة ، وإن كانت سورة الكوثر فذلك معجز.
قال : ولم يقم
دليل على عجزهم عن المعارضة في أقل من هذا القدر. وذهبت المعتزلة إلى أن كل سورة
برأسها فهي معجزة. وقد حكى عنهم نحو قولنا ، إلا أن منهم من لم يشترط كون الآية
بقدر السورة بل شرط الآيات الكثيرة. وقد علمنا أنه تحداهم تحديا إلى السور كلها ،
ولم يخصّ. ولم يأتوا الشيء منها بمثل. فعلم أن جميع ذلك معجز.
وأما قوله عزوجل : (فَلْيَأْتُوا
بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ) فليس بمخالف لهذا. لأن الحديث التام لا تتحصل حكايته في
أقل من كلمات سورة قصيرة. وهذا يؤكد ما ذهب إليه أصحابنا ، ويؤيده. وإن كان قد
يتأول قوله : (فَلْيَأْتُوا
بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ) على أن يكون راجعا إلى القبيل دون التفصيل.
وكذلك يحمل قوله
تعالى : (قُلْ لَئِنِ
اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا
يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) على القبيل. لأنه لم يجعل الحجة عليهم عجزهم عن الإتيان
بجميعه من أوله إلى آخره.
فإن قيل : هل
تعرفون إعجاز السور القصار ، بما تعرفون به إعجاز السور الطوال؟ وهل تعرفون إعجاز
كل قدر من القرآن بلغ الحد الذي قدرتموه بمثل ما تعرفوه إعجاز سورة البقرة ونحوها؟
فالجواب : أن أبا
الحسن الأشعري ـ رحمهالله ـ أجاب عن ذلك : بأن كل سورة قد علم كونها معجزة بعجز
العرب عنها. وسمعت بعض الكبراء من أهل هذا الشأن يقول : إنّ ذلك يصح أن يكون علم
ذلك توقيفا.
__________________
والطريقة الأولى
أسدّ. وليس هذا الذي ذكرناه أخيرا بمناف له ، لأنه لا يمتنع أن يعلم إعجازه بطرق
مختلفة تتوافى عليه ، وتجتمع فيه.
واعلم أن تحت
اختلاف هذه الأجوبة ضربا من الفائدة ، لأن الطريقة الأولى تبين أن ما علم به كون
جميع القرآن معجزا. موجود في كل سورة صغرت أو كبرت. فيجب أن يكون الحكم في الكل
واحدا.
والطريقة الأخيرة
تتضمن تعذر معرفة إعجاز القرآن بالطريقة التي سلكناها في بناء من التفصيل الذي
بينا ، فيما تعرف به في الكلام الفصاحة ، وتتبين به البلاغة ، حتى يعلم ذلك بوجه
آخر ، فيستوي في هذا القدر البليغ وغيره في أن لا يعلمه معجزا ، حتى يستدلّ به من
وجه آخر ، سوى ما يعلمه البلغاء من التقدم في الصنعة ، وهذا غير ممتنع.
ألا ترى أن
الإعجاز في بعض السور والآيات أظهر ، وفي بعضها أغمض وأدق ، فلا يفتقر البليغ في
النظر في حال بعضها إلى تأمّل كثير ، ولا بحث شديد ، حتى يتبين له الإعجاز ، ويفتقر
في بعضها إلى نظر دقيق ، وبحث لطيف ، حتى يقع على الجليّة ، ويصل إلى المطلب. ولا
يمتنع أن يذهب عليه الوجه في بعض السور ، فيحتاج أن يفزع فيه إلى إجماع أو توقيف ،
أو ما علمه من عجز العرب قاطبة عنه. فإن ادّعى ملحد ، أو زعم زنديق أنه لا يقع
العجز عن الإتيان بمثل السور القصار أو الآيات بهذا المقدار ، قلنا له : إن
الإعجاز قد حصل بما بيناه ، وعرف بما وقفنا عليه من عجز العرب عنه.
ثم فيه شيء آخر ،
وهو : أن هذا سؤال لا يستقيم للملحد ، لأنه يزعم أنه ليس في القرآن كله إعجاز.
فكيف يجوز أن يناظره؟! على تفصيله ، وإذا ثبت لنا معه إعجازه في السور الطوال ،
قامت الحجة عليه ، وثبتت المعجزة. ولا معنى لطلبه لكثرة الأدلة والمعجزات. ونحن
نعلم أن إعجاز البعض بما بيناه ، والبعض الآخر بأنه إذا ثبت الأصل ، لم يبق بعد
ذلك إلا قولنا ، لأنا عرفنا في البعض الإعجاز بما بينا. ثم عرفنا في الباقي
بالتّوقيف ونحو ذلك ، وليس بممتنع اختلاف حال الكلام حتى يكون الإعجاز على بعضه
أظهر ، وفي بعضه أغمض ، ومن آمن ببعض دون بعض ، كان مذموما على ما قال الله تعالى
: (أَفَتُؤْمِنُونَ
بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) وقال : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ
ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) فظاهره عند بعض أهل التأويل كالدليل على أن الشفاء ببعضه
أوقع ، وإن كنا نقول إنه يدل على أن الشفاء في جميعه. واعلم أن الكلام يقع فيه
الأبلغ
__________________
والبليغ ، ولذلك
كانوا يسمون الكلمة يتيمة ، ويسمون البيت الواحد يتيما.
سمعت إسماعيل بن
عباد يقول : سمعت أبا بكر بن مقسم يقول : سمعت ثعلبا يقول : سمعت الفراء يقول : العرب تسمي البيت الواحد يتيما ، وكذلك يقال :
الدرة اليتيمة لانفرادها. فإذا بلغ البيتين والثلاثة فهي نتفة ، وإلى العشرة تسمى
قطعة ، وإذا بلغ العشرين استحق أن يسمى قصيدا. وذلك مأخوذ من المخ القصيد ، وهو
المتراكم بعضه على بعض. وهو ضد الرار ومثله الرثيد. انتهت الحكاية. ثم استشهد بقول
لبيد :
فتذكرا ثقلا
رثيدا بعد ما
|
|
ألقت ذكاء يمينها
في كافر
|
يريد بيض النعام
لأنه ينضد بعضه على بعض ، وكذلك يقع في الكلام البيت الوحشي والنادر ، والمثل
السائر ، والمعنى الغريب ، والشيء الذي لو اجتهد له لم يقع عليه فيتفق له ويصادفه.
قال لي بعض علماء هذه الصنعة وجاريته في ذلك : إن هذا مما لا سبب له يخصه ، وإنما
سببه القرارة في أصل الصنعة ، والتقدم في عيون المعرفة. فإذا وجد ذلك وقع له من
الباب ما يطرد عن حساب وما يشذ عن تفصيل الحساب ، فأما ما قلنا من أن ما بلغ قدر
السورة معجز فإن ذلك صحيح.
__________________
فصل :
في أنه هل العلم بإعجاز القرآن ضرورة؟
ذهب أبو الحسن
الأشعري إلى أن ظهور ذلك على النبي صلىاللهعليهوسلم يعلم ضرورة. وكونه معجزا يعلم باستدلال. وهذا المذهب محكي
عن المخالفين. والذي نقوله في هذا : إن الأعجمي لا يمكنه أن يعلم إعجازه إلا
استدلالا. وكذلك من لم يكن بليغا. فأما البليغ الذي قد أحاط بمذاهب العربية وغرائب
الصنعة ، فإنه يعلم من نفسه ضرورة عجزه عن الإتيان بمثله. ويعلم عجز غيره بمثل ما
يعرف عجز نفسه. كما أنه إذا علم الواحد منا أنه لا يقدر على ذلك فهو يعلم عجز غيره
استدلالا.
فصل :
فيما
يتعلق به الإعجاز
إن قال قائل :
بيّنوا لنا ما الذي وقع التحدي إليه؟ أهو الحروف المنظومة؟ أو الكلام القائم
بالذات أو غير ذلك؟ قيل : الذي تحداهم به : أن يأتوا بمثل الحروف التي هي نظم
القرآن ، منظومة كنظمها ، متتابعة كتتابعها ، مطّردة كاطّرادها ، ولم يتحدهم إلى
أن يأتوا بمثل الكلام القديم الذي لا مثل له.
وإن كان كذلك
فالتحدي واقع إلى أن يأتوا بمثل الحروف المنظومة ، التي هي عبارة عن كلام الله
تعالى في نظمها وتأليفها. وهي حكاية لكلامه ودلالات عليه ، وأمارات له ، على أن
يكونوا مستأنفين لذلك ، لا حاكين بما أتى به النبي صلىاللهعليهوسلم.
ولا يجب أن يقدّر
مقدر ، أو يظن ظانّ أنا حين قلنا : إن القرآن معجز ، وإنّه تحداهم إلى أن يأتوا
بمثله ، أردنا غير ما فسرناه من العبارات عن الكلام القديم القائم بالذات.
وقد بينا قبل هذا
أنه لم يكن ذلك معجزا ، لكونه عبارة عن الكلام القديم ؛ لأن التوراة والإنجيل
عبارة عن الكلام القديم ، وليس ذلك بمعجز في النظم والتأليف. وكذلك ما دون الآية ،
كاللفظة عبارة عن كلامه ، وليست بمنفردها بمعجزة.
وقد جوز بعض
أصحابنا أن يتحداهم إلى مثل كلامه القديم القائم بنفسه ، والذي عول عليه مشايخنا
ما قدمنا ذكره. وعلى ذلك أكثر مذاهب الناس. ولم يجب أن نفسر ونذكر موجب هذا المذهب
الذي حكيناه وما يتصل به ؛ لأنه خارج عن غرض كتابنا ، لأن الإعجاز وقع في نظم
الحروف التي هي دلالات وعبارات عن كلامه. وإلى مثل هذا النظم وقع التحدي ، فبيّنا
وجه ذلك ، وكيفية ما يتصور القول فيه ، وأزلنا توهم من يتوهم أن الكلام القديم
حروف منظومة ، أو حروف غير منظومة ، أو شيء مؤلّف أو غير ذلك مما يصح أن يتوهّم
على ما سبق من إطلاق القول فيما مضى.
فصل :
في
وصف وجوه من البلاغة
ذكر بعض أهل الأدب
والكلام : أن البلاغة على عشرة أقسام : الإيجاز ، والتشبيه ، والاستعارة ،
والتلاؤم ، والفواصل ، والتجانس ، والتصريف ، والتضمين ، والمبالغة ، وحسن البيان.
فأما الإيجاز
فإنما يسن مع ترك الإخلال باللفظ والمعنى. فيأتي باللفظ القليل الشامل لأمور
كثيرة. وذلك ينقسم إلى حذف وقصر. فالحذف : الإسقاط للتخفيف كقوله :
(وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) وقوله : (طاعَةٌ وَقَوْلٌ
مَعْرُوفٌ) وحذف الجواب كقوله : (وَلَوْ أَنَّ
قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ
بِهِ الْمَوْتى) كأنه قيل : لكان هذا القرآن ، والحذف أبلغ من الذكر ، لأن
النفس تذهب كل مذهب في القصد من الجواب. والإيجاز بالقصد كقوله : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) وقوله : (يَحْسَبُونَ كُلَّ
صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ) وقوله : (إِنَّما بَغْيُكُمْ
عَلى أَنْفُسِكُمْ) وقوله : (وَلا يَحِيقُ
الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) .
والإطناب فيه
بلاغة ، فأما التطويل ففيه عيّ.
وأما التشبيه
بالعقد على أن أحد الشيئين يسد مسد الآخر في حس أو عقل ، كقوله :
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا
أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ
لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) وقوله : (مَثَلُ الَّذِينَ
كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ
عاصِفٍ)
__________________
وقوله : (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ
كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ) وقوله : (إِنَّما مَثَلُ
الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ
الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ
زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها
أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ
بِالْأَمْسِ) وقوله : (إِنَّا أَرْسَلْنا
عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ ، تَنْزِعُ النَّاسَ
كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) وقوله : (فَإِذَا انْشَقَّتِ
السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ) وقوله : (أَنَّمَا الْحَياةُ
الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي
الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ
يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً) وقوله : (وَجَنَّةٍ عَرْضُها
كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) وقوله : (مَثَلُ الَّذِينَ
حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ
أَسْفاراً) وقوله تعالى : (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ
الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ) وقوله : (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ
نَخْلٍ خاوِيَةٍ) وقوله : (مَثَلُ الَّذِينَ
اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ
بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ) وقوله : (وَلَهُ الْجَوارِ
الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) وقوله : (خَلَقَ الْإِنْسانَ
مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ) ونحو ذلك.
ومن ذلك باب
الاستعارة : وهو بيان التشبيه كقوله تعالى : (وَقَدِمْنا إِلى ما
عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) وكقوله : (فَاصْدَعْ بِما
تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) وكقوله : (إِنَّا لَمَّا طَغَى
الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ) وقوله : (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ
مُوسَى
__________________
الْغَضَبُ) وكقوله : (فَمَحَوْنا آيَةَ
اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً) وقوله : (بَلْ نَقْذِفُ
بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ) فالدمغ والقذف مستعار ، وقوله : (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ
مِنْهُ النَّهارَ) وقوله : (وَتَوَدُّونَ أَنَّ
غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ) وقوله : (فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) وقوله : (حَتَّى تَضَعَ
الْحَرْبُ أَوْزارَها) وقوله : (وَالصُّبْحِ إِذا
تَنَفَّسَ) وقوله : (مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ
وَالضَّرَّاءُ) وقوله : (فَنَبَذُوهُ وَراءَ
ظُهُورِهِمْ) وقوله : (أَتاها أَمْرُنا
لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً) وقوله : (حَصِيداً خامِدِينَ) وقوله : (أَلَمْ تَرَ
أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ) وقوله : (وَداعِياً إِلَى
اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً) وقوله : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ
مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ) وقوله : (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ
مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ) وقوله : (فَضَرَبْنا عَلَى
آذانِهِمْ) يريد أن لا إحساس بآذانهم من غير صمم. وقوله : (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ) .
وهذا أوقع من
اللفظ الظاهر ، وأبلغ من الكلام الموضوع.
وأما التلاؤم فهو
تعديل الحروف في التأليف ، وهو نقيض التنافر. كقول الشاعر :
وقبر حرب بمكان
قفر
|
|
وليس قرب قبر
حرب قبر
|
__________________
قالوا : هو من شعر
الجن ، حروفه متنافرة ، لا يمكن إنشاده إلا بتتعتع فيه. والتلاؤم على ضربين أحدهما
: في الطبقة الوسطى ، كقوله :
رمتني وستر الله
بيني وبينها
|
|
عشية آرام
الكناس رميم
|
رميم التي قالت
لجارات بيتها
|
|
ضمنت لكم أن لا
يزال يهيم
|
ألا ربّ يوم لو
رمتني رميتها
|
|
ولكن عهدي
بالنضال قديم
|
قالوا : والمتلائم
في الطبقة العليا القرآن كله ، وإن كان بعض الناس أحسن إحساسا من بعض ، كما أن
بعضهم يفطن للموزون بخلاف بعض.
والتلاؤم حسن
الكلام في السمع ، وسهولته في اللفظ ، ووقع المعنى في القلب. وذلك كالخط الحسن ،
والبيان الشافي ، والمتنافر كالخط القبيح. فإذا انضاف إلى التلاؤم حسن البيان ،
وصحة البرهان في أعلى الطبقات ، ظهر الإعجاز لمن كان جيد الطبع ، وبصيرا بجودة
الكلام ، كما يظهر له أعلى طبقة الشعر.
«والمتنافر» : ذهب
الخليل إلى أنه من بعد شديد ، أو قرب شديد ، فإذا بعد فهو كالظّفر. وإذا قرب جدا
كان بمنزلة مشي المقيد. ويبين ذلك بقرب مخارج الحروف وتباعدها.
وأما الفواصل فهي
حروف متشاكلة في المقاطع يقع بها إفهام المعاني ، وفيها بلاغة ، والإسجاع عيب ؛
لأن السجع يتبع المعنى. والفواصل تابعة للمعاني. والسجع كقول مسيلمة.
ثم الفواصل قد تقع
على حروف متجانسة ، كما قد تقع على حروف متقاربة. ولا تحتمل القوافي ما تحتمل
الفواصل ؛ لأنها ليست في الطبقة العليا في البلاغة. لأن الكلام يحسن فيها بمجانسة
القوافي ، وإقامة الوزن.
وأما التجانس فإنه
بيان بأنواع الكلام الذي يجمعه أصل واحد. وهو على وجهين مزاوجة ومناسبة. فالمزاوجة
كقوله تعالى : (فَمَنِ اعْتَدى
عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) وقوله : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ
اللهُ) وكقول عمرو بن كلثوم :
__________________
ألا لا يجهلن
أحد علينا
|
|
فنجهل فوق جهل
الجاهلينا
|
وأما المناسبة فهي
كقوله تعالى : (ثُمَّ انْصَرَفُوا
صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) وقوله : (يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ
الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ) .
وأما «التصريف»
فهو تصريف الكلام في المعاني ، كتصريفه في الدلالات المختلفة ، كتصريف «الملك» في
معاني الصفات ، فصرّف في معنى «مالك» ، و «ملك» ، و «ذي الملكوت» ، و «المليك».
وفي معنى : «التمليك» و «التملك» ، و «الإملاك». وتصريف المعنى في الدلالات
المختلفة. كما كرر من قصة موسى في مواضع.
وأما التضمين فهو
حصول معنى فيه ، من غير ذكره له باسم أو صفة هي عبارة عنه.
وذلك على وجهين :
تضمين توجيه البنية. كقولنا : معلوم يوجب أنه لا بد من عالم. وتضمين يوجبه معنى
العبارة من حيث لا يصح إلا به ؛ كالصفة بضارب يدل على مضروب.
والتضمين كله
إنجاز. والتضمين الذي تدل عليه دلالات القياس أيضا إنجاز وذكر أن : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) من باب التضمين لأنه تضمن تعليم الاستفتاح في الأمور باسمه
على جهة التعظيم لله تبارك وتعالى ، أو التبرك باسمه.
وأما «المبالغة»
فهي الدلالة على كثرة المعنى ، وذلك على وجوه منها مبالغة في الصفة المبينة. لذلك
كقولك : «رحمن» عدل عن ذلك للمبالغة ، وكقوله : (لَغَفَّارٌ) وكذلك فعّال وفعول كقولهم «شكور وغفور» وفعيل كقوله : (الرَّحِيمِ) و (قَدِيرٌ) ومن ذلك أن يبالغ باللفظة التي هي صفة عامة كقوله : (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) وكقوله : (فَأَتَى اللهُ
بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ) وكقوله : (وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى
يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) وكقوله : (إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً
أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) وقد يدخل فيه الحذف الذي تقدم ذكره للمبالغة ، وأما حسن
البيان فالبيان على أربعة أقسام : كلام ، وحال ، وإشارة ، وعلامة.
ويقع التفاضل في
البيان ، ولذلك قال عز من قائل : (الرَّحْمنُ عَلَّمَ
الْقُرْآنَ خَلَقَ
__________________
الْإِنْسانَ
عَلَّمَهُ الْبَيانَ) وقيل : «أعيا من باقل» سئل عن ظبية في يده ، بكم اشتراها
فأراد أن يقول : بأحد عشر ، فأشار بيديه مادا أصابعه العشر ، ثم أدلع لسانه وأفلت
الظبي من يده.
ثم البيان على
مراتب : قلنا قد كنا حكينا أن من الناس من يريد أن يأخذ إعجاز القرآن من وجوه
البلاغة التي ذكرنا أنها تسمى البديع في أول الكتاب مما مضت أمثلته في الشعر.
ومن الناس من زعم
: أنه يأخذ ذلك من هذه الوجوه التي عددناها في الفضل. واعلم أن الذي بيناه قبل هذا
، وذهبنا إليه هو سديد. وهو أن هذه الأمور تنقسم. فمنها ما يمكن الوقوع عليه
والتعمل له ، ويدرك بالتعلم. فما كان كذلك فلا سبيل إلى معرفة إعجاز القرآن به.
وأما ما لا سبيل
إليه بالتعلم والتعمل من البلاغات ، فذلك هو الذي يدل على إعجازه ، ونحن نضرب لذلك
أمثلة لتقف على ما ذهبنا إليه.
وذكرنا في هذا
الفصل عن هذا القائل : إن التشبيه تعرف به البلاغة. وذلك مسلّم ، ولكن إن قلنا ما
وقع من التشبيه في القرآن معجز ، عرض علينا من التشبيهات الجارية في الأشعار ما لا
يخفى عليك. وأنت تجد في شعر ابن المعتز من التشبيه البديع الذي يشبه السحر ، وقد
تتبّع في هذا ما لم يتتبع غيره ، واتفق له ما لم يتفق لغيره من الشعراء. وكذلك
كثير من وجوه البلاغة قد بيّنا أن تعلمها يمكن ، وليس تقع البلاغة بوجه واحد منها
دون غيره.
فإن كان إنما يعني
هذا القائل أنه إذا أتى في كل معنى يتفق في كلامه بالطبقة العالية. ثم كان ما يصل
به كلامه بعضه ببعض ، وينتهي منه إلى متصرفاته على أتم البلاغة ، وأبدع البراعة.
فهذا مما لا نأباه بل نقول به.
وإنما ننكر أن
يقول قائل : إن بعض هذه الوجوه بانفرادها قد حصل فيه الإعجاز من غير أن يقارنه ما
يتصل به الكلام ، ويفضي إليه. مثل ما يقول : إن ما أقسم به وحده بنفسه معجز ، وإن
التشبيه معجز ، وإن التجنيس معجز ، والمطابقة بنفسها معجزة.
فأما الآية التي
فيها ذكر للتشبيه ، فإن ادعى إعجازها لألفاظها ونظمها وتأليفها ، فإني لا أدفع ذلك
وأصححه ، ولكن لا أدعي إعجازها لموضع التشبيه.
وصاحب «المقالة»
التي حكيناها ، أضاف ذلك إلى موضع التشبيه ، وما قرن به من الوجوه. ومن تلك الوجوه
ما قد بيّنا أن الإعجاز يتعلق به كالبيان. وذلك لا يختص بجنس
__________________
من المبيّن دون
جنس. ولذلك قال : (هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ) وقال : (تِبْياناً لِكُلِّ
شَيْءٍ) وقال : (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ
مُبِينٍ) فكرر في مواضع ذكره أنه مبين.
فالقرآن أعلى
منازل البيان ، وأعلى مراتبه ما جمع وجوه الحسن وأسبابه وطرقه وأبوابه ، من تعديل
النظم وسلامته ، وحسنه وبهجته ، وحسن موقعه في السمع ، وسهولته على اللسان ،
ووقوعه في النفس موقع القبول ، وتصوره تصور المشاهد ، وتشكله على جهته حتى يحل محل
البرهان ودلالة التأليف ، مما لا ينحصر حسنا وبهجة وسناء ورفعة.
وإذا علا الكلام
في نفسه كان له من الوقع في القلوب والتمكن في النفوس ، ما يذهل ويبهج ، ويقلق
ويؤنس ، ويطمع ويؤيس ، ويضحك ويبكي ، ويحزن ويفرح ، ويسكن ويزعج ، ويشجي ويطرب ،
ويهز الأعطاف ، ويستميل نحوه الأسماع ، ويورث الأريحيّة والعزّة. وقد يبعث على بذل
المهج والأموال شجاعة وجودا ، ويرمي السامع من وراء رأيه مرمى بعيدا. وله مسالك في
النفوس لطيفة ، ومداخل إلى القلوب دقيقة.
وبحسب ما يترتب في
نظمه ، ويتنزل في موقعه ، ويجري على سمت مطلعه ومقطعه يكون عجيب تأثيراته ، وبديع
مقتضياته. وكذلك على حسب مصادره ، يتصور وجوه موارده.
وقد ينبئ الكلام
عن محل صاحبه ، ويدل على مكان متكلمه ، وينبه على عظيم شأن أهله ، وعلى علو محله.
ألا ترى أن الشعر
في الغزل ، إذا صدر عن محب كان أرق وأحسن ، وإذا صدر عن متغزل وحصل من متصنع نادى
على نفسه بالمداجاة ، وأخبر عن خبيئه في المراءاة. وكذلك قد يصدر الشعر في وصف
الحرب عن الشجاع ، فيعلم وجه صدوره ، ويدل على كنهه وحقيقته.
وقد يصدر عن
المتشبه ، ويخرج عن المتصنع ، فيعرف من حاله ما ظن أنه يخفيه ، ويظهر من أمره خلاف
ما يبديه ، وأنت تعرف قول المتنبي :
فالخيل والليل
والبيداء تعرفني
|
|
والحرب والطّعن
والقرطاس والقلم
|
__________________
من الواقع في
القلب لما يعلم أنه من أهل الشجاعة ما لا تجده للبحتري في قوله :
وأنا الشجاع وقد
بدا لك موقفي
|
|
بعقرقس
والمشرفية مشهدي
|
وتجد لابن المعتز في موقع شعره من القلب في الفخر وغيره ما لا تجده لغيره
لأنه إذا قال :
إذا شئت أوقرت
البلاد حوافرا
|
|
وسارت ورائي
هاشم ونزار
|
وعمّ سماء
النّقع حتى كأنه
|
|
دخان وأطراف
الرماح شرار
|
وقال :
قد تردّيت
بالمكارم دهرا
|
|
وكفتني نفسي من
الافتخار
|
أنا جيش إذا
غزوت وحيدا
|
|
ووحيد في الجحفل
الجرّار
|
وقال :
أيها السائلي عن
الحسب الأط
|
|
يب ما فوقه لخلق
مزيد
|
نحن آل الرسول
والعترة الح
|
|
ق وأهل القربى
فما ذا تريد ..؟
|
ولنا ما أضاء
صبح عليه
|
|
وأتته رايات ليل
سود
|
وكما أنشدني الحسن
بن عبد الله قال : أنشدنا محمد بن يحيى لابن المعتز قصيدته التي يقول فيها :
أنا ابن الذي
سادهم في الحيا
|
|
ة وسادهم بي تحت
الثّرى
|
وما لي في أحد
مرغب
|
|
بلى فيّ يرغب
كلّ الورى
|
واسهر للمجد
والمكرمات
|
|
إذا اكتحلت أعين
بالكرى
|
فانظر في القصيدة
كلّها ، ثم في جميع شعره ، تعلم أنه ملك الشعر ، وأنه يليق به من الفخر خاصة. ثم
مما يتبعه مما يتعاطاه مما لا يليق بغيره. بل ينفر عن سواه. ولم أحب أن أكثر عليك
فأطول الكتاب بما يخرج عن غرضه. وكما ترى من قول أبي فراس الحمداني في نفسك إذا
قال :
ولا أصبح الحيّ
الخلوف بغارة
|
|
ولا الجيش ما لم
يأته قبلي النّذر
|
ويا رب دار لم
تخفني منيعة
|
|
طلعت عليها
بالرديء أنا والفجر
|
وساحبة الأذيال
نحوي لقيتها
|
|
فلم يلقها جافي
اللقاء ولا وعر
|
وهبت لها ما
حازه الجيش كله
|
|
وأبت ولم يكشف
لأبياتها ستر
|
__________________
وما راح يطغيني
بأثوابه الغنى
|
|
ولا بات يثنيني
عن الكرم الفقر
|
وما حاجتي في
المال أبغي وفوره
|
|
إذا لم أفر وفري
فلا وفر الوفر
|
والشيء إذا صدر من
أهله ، وبدا من أصله ، وانتسب إلى ذويه سلم في نفسه ، وبانت فخامته ، وشواهد أثر
الاستحقاق فيه.
وإذا صدر من مكلف
وبدا من متصنع بان أثر الغرابة عليه ، وظهرت مخايل الاستنحاس فيه ، وعرف شمائل
التخير منه.
إنا نعرف في شعر
أبي نواس أثر الشطارة ، وتمكن البطالة ، وموقع كلامه في وصف ما هو بسبيله من أمر
العبارة ، ووصف الخمر والخمار. كما نعرف موقع كلام ذي الرّمّة في وصف المهامة
والبوادي ، والجمال والاتساع والأزمّة.
وعيب أبي نواس
التصرف في وصف الطلول والرّباع والوحش. ففكر في قوله :
ودع الأطلال
تسقيها الجنوب
|
|
وتبلي عهد
جدّتها الخطوب
|
وخلّ لراكب
الوجناء أرضا
|
|
تخبّ به
النّجيبة والنجيب
|
بلاد نبتها عشر
وطلح
|
|
وأكثر صيدها ضبع
وذيب
|
ولا تأخذ عن
الأعراف لهوا
|
|
ولا عيشا ،
فعيشهم جديب
|
دع الألبان
يشربها رجال
|
|
رقيق العيش
عندهم غريب
|
إذا راب الحليب
فبل عليه
|
|
ولا تحرج فما في
ذاك حوب
|
فأطيب منه صافية
شمول
|
|
يطوف بكأسها ساق
أديب
|
كأنّ هديرها في
الدّنّ يحكي
|
|
قراءة القس
قابله الصّليب
|
أعاذل أقصري عن
طول لومي
|
|
فراجى توبتي
عندي يخيب
|
تعيبين الذنوب
وأي حرّ
|
|
من الفتيان ليس
له ذنوب؟!
|
وقوله :
صفة الطلول
بلاغة القدم
|
|
فاجعل صفاتك
لابنة الكرم
|
وسمعت الصاحب
إسماعيل بن عباد يقول : سمعت براكويه الزنجاني يقول : أنشد بعض الشعراء هلال بن
يزيد قصيدة على وزن قصيدة الأعشى :
ودّع هريرة إن
الركب مرتحل
|
|
وهل تطيق وداعا
أيها الرجل ..؟
|
__________________
وكان وصف فيها
الطلل ، قال براكويه : فقال لي هلال : فقلت بديها :
إذا سمعت فتى
يبكي على طلل
|
|
من أهل زنجان
فاعلم أنه طلل
|
وإنما ذكرت لك هذه
الأمور ، لتعلم أن الشيء في معدنه أعز ، وفي مظانه أحسن ، وإلى أصله أنزع ،
وبأسبابه أليق. وهو يدل على ما صدر منه ، وينبه ما أنتج عنه ، ويكون قراره على
موجب صورته وأنواره على حسب محله. ولكل شيء حد ومذهب. ولكل كلام سبيل ومنهج.
وقد ذكر أبو بكر الصديق رضي الله عنه في كلام مسيلمة ما أخبرتك به ، فقال :
(إن هذا كلام لم يخرج من إله) فدل على أن الكلام الصادر عن عزة الربوبية ورفعة
الإلهية يتميز عما لم يكن كذلك.
ثم رجع الكلام بنا
إلى ما ابتدأنا به من عظيم شأن البيان. ولو لم يكن فيه إلا ما منّ به الله على
خلقه بقوله : (خَلَقَ الْإِنْسانَ
عَلَّمَهُ الْبَيانَ) فأما بيان القرآن فهو أشرف بيان ، وأهداه وأكمله .. وأعلاه
وأبلغه وأسناه.
تأمل قوله تعالى :
(أَفَنَضْرِبُ
عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ) في شدة التنبيه على تركهم الحق ، والإعراض عنه. وموضع
امتنانه بالذكر والتحذير.
وقوله : (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ
ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) وهذا بليغ في التحسير وقوله : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا
عَنْهُ) وهذا يدل على كونهم مجبولين على الشر ، معوّدين لمخالفة
النهي والأمر ، وقوله : (الْأَخِلَّاءُ
يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) هو في نهاية الوضع من الخلة الأعلى التقوى.
وقوله : (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى
ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) وهذا نهاية في التحذير من التفريط.
وقوله : (أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ
أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما
__________________
تَعْمَلُونَ
بَصِيرٌ) هو النهاية في الوعيد والتهديد.
وقوله : (وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا
الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ
عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ) نهاية في الوعيد. وقوله :
(وَفِيها ما
تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ) نهاية في الترغيب.
وقوله : (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ
مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ
عَلى بَعْضٍ) وكذلك قوله : (لَوْ كانَ فِيهِما
آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) نهاية في الحجاج ، وقوله : (وَأَسِرُّوا
قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ، أَلا
يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) نهاية في الدلالة على علمه بالخفيات.
ولا وجه للتطويل ،
فإن بيان الجميع في الرفعة وكبر المنزلة على سواء. وقد ذكرنا من قبل : أن البيان
يصح أن يتعلق به الإعجاز ، وهو معجز من القرآن.
وما حكينا عن صاحب
الكلام من المبالغة في اللفظ. فليس ذلك بطريق الإعجاز ، لأن الوجوه التي ذكرها قد
تتفق في كلام غيره ، وليس ذلك بمعجز. بل قد يصح أن يقع في المبالغة في المعنى
والصفة ، وجوه من اللفظ يثمر الإعجاز.
و «تضمين المعاني»
أيضا ، قد يتعلق به الإعجاز إذا حصلت للعبارة طريق البلاغة في أعلى درجاتها.
وأما «الفواصل»
فقد بيّنا أنه يصح أن يتعلق بها الإعجاز ، وكذلك قد بيّنا في المقاطع والمطالع نحو
هذا. وبيّنا في تلاؤم الكلام ما سبق من صحة تعلق الإعجاز به.
والتصرّف في «الاستعارة»
البديعة يصح أن يتعلق به الإعجاز ، كما يصح مثل ذلك في حقائق الكلام ، لأن البلاغة
في كل واحد من البابين تجري مجرى واحدا ، وتأخذ مأخذا مفردا.
وأما «الإيجاز
والبسط» فيصح أن يتعلق بهما الإعجاز كما يتعلق بالحقائق. و «الاستعارة» و «البيان»
في كل واحد منهما ما لا يضبط حدّه ، ولا يقدّر قدره ، ولا يمكن
__________________
التوصل إلى ساحل
بحره بالتعلم ، ولا يتطرّق إلى غوره بالتسبّب. وكلّ ما يمكن تعلمه ، ويتهيأ تلقنه
، ويمكن تخليصه ، ويستدرك أخذه فلا يجب أن يطلب وقوع الإعجاز به.
ولذلك قلنا : «السجع»
مما ليس يلتمس فيه الإعجاز ؛ لأن ذلك أمر محدود وسبيل مورود. ومتى تدرب الإنسان به
واعتاده لم يستصعب عليه أن يجعل جميع كلامه منه.
وكذلك «التجنيس» و
«التطبيق» متى أخذ أحدهما وطلب وجههما استوفى ما شاء ، ولم يتعذر عليه أن يملأ
خطابه منه ، كما أولع بذلك أبو تمام والبحتري. وإن كان البحتري أشغف بالمطابق ،
وأقل طلبا للمجانس.
فإن قال قائل :
هلا قلت : إن هذين البابين يقع فيهما مرتبة عالية ، لا يوصل إليها بالتعلّم ، ولا
تملك بالتعمّل ؛ كما ذكرتم في البيان وغير ذلك؟
قلنا : لو عمد إلى
كتاب «الأجناس» ، ونظر في كتاب «العين» ، لم يتعذر عليه التجنيس الكثير.
فأما «الإطباق»
فهو أقرب منه ، وليس كذلك البيان. والوجوه التي رأينا الإعجاز فيها ؛ لأنها لا
تستوفي بالتعلم. فإن قيل : فالبيان قد يتعلم؟ قيل : إن الذي يمكن أن يتوصل إليه
بالتعلم يتفاوت فيه الناس ، وتتناهى فيه العادات. وهو كما يعلم من مقادير القوى في
حمل الثقيل. وأن الناس يتقاربون في ذلك فيرمون فيه إلى حد ، فإذا تجاوزوه وقفوا
بعده ولم يمكنهم التخطي ، ولم يقدروا على التعدي إلا أن يحصل ما يخرق العادة وينقض
العرف. ولن يكون ذلك إلا للدلالة على النبوات على شروط في ذلك.
والقدر الذي يفوت
الحد في البيان ، ويتجاوز الوهم ، ويشذ عن الصنعة ، ويقذفه الطبع في النادر القليل
، كالبيت البديع ، والقطعة الشريفة التي تتفق في ديوان شاعر ، والفقرة تتفق في
رسالة كاتب. حتى يكون الشاعر ابن بيت أو بيتين أو قطعة أو قطعتين ، والأديب شهيد
كلمة أو كلمتين. وذلك أمر قليل.
ولو كان كلامه كله
يطرد على ذلك المسلك ، ويستمر على ذلك المنهج ، أمكن أن يدّعى فيه الإعجاز.
ولكنك إن كنت من
أهل الصنعة تعلم قلة الأبيات الشوارد ، والكلمات الفرائد ، وأمهات القلائد.
فإن أردت أن تجد
قصيدة كلها وحشية ، وأردت أن تراها مثل بيت من أبياتها مرضية ، لم تجد ذلك في
الدواوين ، ولم تظفر بذلك إلى يوم الدين.
ونحن لم ننكر أن
يستدرك البشر كلمة شريفة ، ولفظة بديعة ، وإنما أنكرنا أن يقدروا على مثل نظم سورة
أو نحوها. وأحلنا أن يتمكنوا من حد في البلاغة ومقدار في الخطابة. وهذا كما قلناه
من أن صورة الشعر قد تتفق في القرآن وإن لم يكن له حكم الشعر.
فأما قدر المعجز
فقد بيّنا أنها السورة طالت أو قصرت. وبعد ذلك خلاف من الناس ، من قال مقدار كل سورة
أو أطول آية فهو معجز. وعندنا كل واحد من الأمرين معجز ، والدلالة عليه ما تقدم ،
والبلاغة لا تتبين بأقل من ذلك. فلذلك لم نحكم بإعجازه ، وما صح أن تتبين فيه
البلاغة ، ومحصولها الإبانة في الإبلاغ عن ذات النفس على أحسن معنى ، وأجزل لفظ ،
وبلوغ الغاية في المقصود بالكلام.
فإذا بلغ الكلام
غايته في هذا المعنى ، كان بالغا وبليغا. فإذا تجاوز حد البلاغة إلى حيث لا يقدر
عليه أهل الصناعة ، وانتهى إلى أمر يعجز عنه الكامل في البراعة ، صح أن يكون له
حكم المعجزات ، وجاز أن يقع موقع الدلالات.
وقد ذكرنا أنه
بجنسه وأسلوبه مباين لسائر كلامهم. ثم بما يتضمن من تجاوزه في البلاغة الحد الذي
يقدر عليه البشر.
فإن قيل : فإذا
كان يجوز عندكم أن يتفق في شعر الشاعر قطعة عجيبة شاردة ، تباين جميع ديوانه في
البلاغة ، ويقع في ديوانه بيت واحد يخالف مألوف طبعه ، ولا يكون سبب ذلك البيت ،
ولا تلك القطعة في التفصيل ، ولو أراد أن يأتي بمثل ذلك ويجعل جميع كلامه من ذلك
النمط ، لم يجد إلى ذلك سبيلا. وله سبب في الجملة وهو التقدم في الصنعة ، لأنه
يتفق من المتأخر فيها. فهلّا قلتم : إنه إذا بلغ في العلم بالصناعة مبالغة القصوى
، كان جميع كلامه من نمط ذلك البيت وسمت تلك القطعة؟ وهلا قلتم : إن القرآن من هذا
الباب؟
فالجواب : إنا لم
نجد أحدا بلغ الحد الذي وصفتم في العادة ، وهؤلاء الناس أهل البلاغة أشعارهم عندنا
محفوظة ، وخطبهم منقولة ، ورسائلهم مأثورة ، وبلاغاتهم مروية ، وحكمهم مشهورة.
وكذلك أهل الكهانة والبلاغة مثل قسّ بن ساعدة ، وسحبان وائل ، ومثل : شقّ وسطيح
وغيرهم. كلامهم معروف عندنا ، وموضوع بين أيدينا ، لا يخفى علينا في الجملة بلاغة
بليغ ، ولا خطابة خطيب ، ولا براعة شاعر مفلق ، ولا كتابة كاتب مدقق.
فلما لم نجد في
شيء من ذلك ما يداني القرآن في البلاغة ، أو يشاكله في الإعجاز مع ما وقع من
التحدي إليه المدة الطويلة. وتقدّم من التقريع والمجازاة الأمد المديد ، وثبت له
وحده خاصة قصب السبق ، والاستيلاء على الأمر ، وعجز الكل عنه ، ووقفوا دونه حيارى
، يعرفون عجزهم وإن جهل قوم سببه ، ويعلمون نقصهم وإن أغفل قوم وجهه.
رأينا أنه ناقض
للعادة ، ورأينا أنه خارق للمعروف في الجبلّة. وخرق العادة إنما تقع بالمعجزات على
وجه إقامة البرهان على النبوات ، وعلى أن من ظهرت عليه ، ووقعت موقع الهداية إليه.
صادق فيما يدعيه من نبوته ، ومحق في قوله ، ومصيب في هديه ، قد سادت له الحجة
البالغة ، والكلمة التامة ، والبرهان النير ، والدليل البين.
فصل :
في حقيقة المعجز
معنى قولنا : «إن
القرآن معجز» على أصولنا أنه لا يقدر العباد عليه. وقد ثبت أن المعجز الدال على
صدق النبي صلىاللهعليهوسلم ، لا يصح دخوله تحت قدرة العباد. وإنما ينفرد الله تعالى
بالقدرة عليه ، ولا يجوز أن يعجز العباد عما تستحيل قدرتهم عليه ، كما يستحيل
عجزهم عن فعل الأجسام. فنحن لا نقدر على ذلك وإن لم يصح وصفنا بأنا عاجزون عن ذلك
حقيقة. وكذلك معجزات سائر الأنبياء على هذا.
فلما لم يقدر عليه
أحد ، شبه بما يعجز عنه العاجز. وإنما لا يقدر العباد على الإتيان بمثله ؛ لأنه لو
صح أن يقدروا عليه بطلت دلالة المعجز. وقد أجرى الله العادة بأن يتعذر فعل ذلك
منهم ، وأن لا يقدروا عليه. ولو كان غير خارج عن العادة لأتوا بمثله ، أو عرضوا
عليه من كلام فصحائهم وبلغائهم ما يعارضه.
فلما لم يشتغلوا
بذلك ، علم أنهم فطنوا إلى خروج ذلك عن أوزان كلامهم ، وأساليب نظامهم ، وزالت
أطماعهم عنه.
وقد كنا بيّنا أن
التواضع ليس يجب أن يقع على قول الشعر ، ووجوه النظم المستحسنة في الأوزان المطربة
للسمع. ولا يحتاج في مثله إلى توقيف ، وأنه يتبين أن مثل ذلك يجري في الخطاب ،
فلما جرى فيه فطنوا له واختاروه وطلبوا أنواع الأوزان والقوافي.
ثم وقفوا على حسن
ذلك ، وقدروا عليه بتوفيق الله عزوجل. وهو الذي جمع خواطرهم عليه ، وهداهم له ، وهيّأ دواعيهم
إليه. ولكنه أقدرهم على حد محدود ، وغاية في العرف مضروبة ، لعلمه بأنه سيجعل
القرآن معجزا. ودل على عظم شأنه ، بأنهم قدروا على ما بيّنا من التأليف ، وعلى ما
وصفناه من النظم من غير توقيف ولا اقتضاء أثر ، ولا تحدّ إليه ، ولا تقريع.
فلو كان هذا من
ذلك القبيل ، أو من الجنس الذي عرفوه وألفوه ، لم تزل أطماعهم عنه. ولم يدهشوا عند
وروده عليهم ، فكيف وقد أمهلهم وفسح لهم الوقت ، وكان يدعو إليه سنين كثيرة.
وقال عز من قائل :
(أَوَلَمْ
نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ
النَّذِيرُ) وبظهور العجز عنه بعد طول التقريع والتحدي ، بان أنّه خارج
عن عادتهم ، وأنهم لا يقدرون عليه.
وقد ذكرنا أن
العرب كانت تعرف ما يباين عاداتها من الكلام البليغ ، لأن ذلك طبعهم ولغتهم ، فلم
يحتاجوا إلى تجربة عند سماع القرآن. وهذا في البلغاء منهم دون المتأخرين في
الصنعة.
والذي ذكرناه بذلك
على أنه لا كلام أزيد في قدر البلاغة من القرآن. وكل من جوز أن يكون للبشر قدرة
على أن يأتوا بمثله في البلاغة لم يمكنه أن يعرف أن القرآن معجز بحال.
ولو لم يكن جرى في
المعلوم أنه سيجعل القرآن معجزا ، لكان يجوز أن تجري عادات البشر بقدر زائد على ما
ألفوه من البلاغة ، وأمر يفوق ما عرفوه من الفصاحة.
وأما «نظم القرآن»
فقد قال أصحابنا فيه : إن الله تعالى يقدر على نظم القرآن في الرتبة التي لا مزيد
عليها ، فقد قال مخالفونا : إن هذا غير ممتنع لأن فيه من الكلمات الشريفة الجامعة
للمعاني البديعة ، وانضاف إلى ذلك حسن الموقع ، فيجب أن يكون قد بلغ النهاية لأنه
عندهم ، وإن زاد على ما في العادة ، فإن الزائد عليها وإن تفاوت ، فلا بد من أن
ينتهي إلى حد لا مزيد عليه. والذي نقوله إنه لا يمتنع أن يقال : يقدر الله تعالى
على أن يأتي بنظم أبلغ وأبدع من القرآن كله.
وأما قدرة العباد
فهي متناهية في كل ما يقدرون عليه مما تصح قدرتهم عليه.
__________________
فصل :
في
كلام النبي صلىاللهعليهوسلم وأمور تتصل بالإعجاز
إن قال قائل : إذا
كان النبي صلىاللهعليهوسلم أفصح العرب ، وقد قال هذا في حديث مشهور ، وهو صادق في
قوله ، فهلا قلتم : إن القرآن من نظمه لقدرته في الفصاحة على مقدار لا يبلغه غيره؟
قيل : قد علمنا أنه لم يتحداهم إلى مثل قوله وفصاحته ، والقدر الذي بينه وبين كلام
غيره من الفصحاء ، كقدر ما بين شعر الشاعرين ، وكلام الخطيبين في الفصاحة ؛ وذلك
مما لا يقع به الإعجاز.
وقد بينا قبل هذا
: أنا إذا وازنّا بين خطبه ، ورسائله ، وكلامه المنثور ، وبين نظم القرآن ، تبين
من البون بينهما ، مثل ما بين كلام الله عزوجل ، وكلام الناس. ولا معنى لقول من ادعى أن كلام النبي صلىاللهعليهوسلم معجز ، وإن كان دون القرآن في الإعجاز.
فإن قيل : لو لا
أن كلامه معجز لم يشتبه على ابن مسعود الفصل بين المعوذتين وبين غيرهما من القرآن.
وكذلك لم يشتبه دعاء القنوت في أنه هل هو من القرآن أم لا؟ ولا يجوز أن يخفى عليهم
القرآن من غيره ، وعدد السور عندهم محفوظ مضبوط.
وقد يجوز أن يكون
شذّ عن مصحفه ، لا لأنه نفاه من القرآن ، بل عوّل على حفظ الكل إياه.
على أن الذي
يروونه خبر واحد لا يسكن إليه في مثل هذا ، ولا يعمل عليه.
ويجوز أن يكتب على
ظهر مصحفه دعاء القنوت لئلا ينساه كما يكتب الواحد منا بعض الأدعية على ظهر مصحفه.
وهذا نحو ما يذكره
الجهال من اختلاف كثير بين مصحف ابن مسعود وبين مصحف عثمان رضوان الله عليهما.
ونحن لا ننكر أن
يغلط في حروف معدودة ، كما يغلط الحافظ في حروف ، وينسى ، ما لا نجيزه على الحفاظ
مما لم نجزه عليه.
ولو كان قد أنكر
السورتين على ما ادعوا لكانت الصحابة تناظره على ذلك. وكان يظهر وينتشر. فقد
تناظروا في أقل من هذا ، وهذا أمر يوجب التكفير والتضليل. فكيف
يجوز أن يقع التخفيف
فيه؟! وقد علمنا إجماعهم على ما جمعوه في المصحف ، فكيف يقدح بمثل هذه الحكايات
الشاذة المولّدة بالإجماع المتقرر ، والاتفاق المعروف؟
ويجوز أن يكون
الناقل اشتبه عليه ، لأنه خالف في النظم والترتيب ، فلم يثبتهما في آخر القرآن.
والاختلاف بينهم في موضع الاثبات غير الكلام في الأصل. ألا ترى أنهم قد اختلفوا في
أول ما نزل من القرآن.
فمنهم من قال قوله
: (اقْرَأْ بِاسْمِ
رَبِّكَ) ، ومنهم من قال : (يا أَيُّهَا
الْمُدَّثِّرُ) ومنهم من قال : فاتحة الكتاب.
واختلفوا أيضا في
آخر ما أنزل فقال ابن عباس : (إِذا جاءَ نَصْرُ
اللهِ) وقالت عائشة : سورة المائدة. وقال البراء بن عازب آخر ما نزل سورة براءة ، وقال سعيد بن جبير آخر ما أنزل قوله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ
إِلَى اللهِ) وقال السّدّيّ آخر ما أنزل : (فَإِنْ تَوَلَّوْا
فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ)
ويجوز أن يكون في
مثل هذا خلاف ، وأن يكون كل واحد ذكر آخر ما سمع. ولو كان القرآن من كلامه ، لكان
البون بين كلامه وبينه ، مثل ما بين خطبة وخطبة ينشئها رجل واحد ، وكانوا يعارضونه
لأنا قد علمنا أن القدر الذي بين كلامهم ، وبين كلام النبي صلىاللهعليهوسلم لا يخرج إلى حد الإعجاز ، ولا يتفاوت التفاوت الكثير. ولا
يخفى كلام من جنس أوزان كلامهم. وليس كذلك نظم القرآن. لأنه خارج من جميع ذلك.
فإن قيل : لو كان
غير ما ادعيتم لعرفنا بالضرورة أنه معجز دون غيره ، قبل معرفة الفصل من وزن الشعر
ووزنه ، والفرق بينه وبين غيره من الأوزان إلى نظر وتأمل ، وفكر وروية
__________________
واكتساب .. وإن
كان النظم المختلف الشديد التباين إذا وجد أدرك اختلافه بالحاسة ، إلا أن كل وزن
وقبيل إذا أردنا تمييزه من غيره احتجنا فيه إلى الفكرة والتأمل.
فإن قيل : لو كان
معجزا لم يختلف أهل الملة في وجه إعجازه؟ قيل : قد يثبت الشيء دليلا وإن اختلفوا
في وجه دلالة البرهان ، كما قد يختلفون في الاستدلال على حدوث العالم من الحركة
والسكون ، والاجتماع والافتراق.
فأما المخالفون ،
فإنه يتعذر عليهم أن يعرفوا أن القرآن كلام الله ؛ لأن مذهبهم أنه لا فرق بين أن
يكون القرآن من قبل الرسول أو من قبل الله عزوجل في كونه معجزا ؛ لأنه إن خصه بقدر من العلم لم تجر العادة
بمثله ، أمكنه أن يأتي بما له هذه الرتبة. وكان متعذرا على غيره لفقد علمه بكيفية
النظم.
وليس القوم
بعاجزين عن الكلام ، ولا عن النظم والتأليف. والمعنى المؤثر عندهم في تعذر مثل نظم
القرآن علينا : فقد العلم بكيفية النظم. وقد بيّنا قبل هذا أن المانع هو أنهم لا
يقدرون عليه. والمفحم قد يعلم كيفية الأوزان واختلافها ، وكيفية التركيب. وهو لا
يقدر على نظم الشعر.
وقد يعلم الشاعر
وجوه الفصاحة. وإذا قالا الشعر جاء شعر أحدهما في الطبقة العالية وشعر الآخر في
الطبقة الوضيعة.
وقد يطّرد في شعر
المبتدى والمتأخر في الحذق القطعة الشريفة والبيت النادر ، ومما لا يتفق للشاعر
المتقدم.
والعلم بهذا الشأن
في التفصيل لا يغني ، ويحتاج معه إلى مادة من الطبع ، وتوفيق من الأصل.
وقد يتساوى
العالمان بكيفية الصناعة والنّساجة ، ثم يتفق لأحدهما من اللطف في الصنعة ، ما لا
يتفق في الآخر.
وكذلك أهل نظم
الكلام يتفاضلون مع العلم بكيفية النظم. وكذلك أهل الرمي يتفاضلون في الإصابة ، مع
العلم بكيفية الإصابة.
وإذا وجدت للشاعر
بيتا أو قطعة أحسن من شعر امرئ القيس ، لم يدل ذلك على أنه أعلم بالنظم منه. لأنه
لو كان كذلك كان يجب أن يكون جميع شعره على ذلك الحد.
ويحسب ذلك البيت
في الشرف والحسن والبراعة ، ولا يجوز أن يعلم نظم قطعة ويجهل نظم مثلها. وإن كان
كذلك علم أن هذا لا يرجع إلى ما قدروه من العلم. أو لسنا نقول إنه يستغني عن العلم
في النظم ، بل يكفي علم به في الجملة ، ثم يقف الأمر على القدرة.
وهذا يبين لك بأنه
قد يعلم الخط فيكتب سطرا ، فلو أراد أن يأتي بمثله بحيث لا يغادر منه شيئا لتعذّر.
والعلم حاصل.
وكذلك قد يحسن
كيفية الخط ، والجيد منه من الردىء. ولا يمكنه أن يأتي بأرفع درجات الجيد.
وقد يعلم قوم
كيفية إدارة الأقلام ، وكيفية تصور الخطّ. ثم يتفاوتون في التفصيل ، ويختلفون في
التصوير.
وألزمهم أصحابنا
أن يقولوا بقدرتنا على إحداث الأجسام ، وإنما يتعذر وقوع ذلك منا لأنا لا نعلم
الأسباب التي إذا عرفنا إيقاعها على وجوه اتفق لنا فعل الأجسام.
وقد ذهب بعض
المخالفين إلى أن العادة انتقضت بأن أنزله جبريل ، فصار القرآن معجزا لنزوله على
هذا الوجه. ومن قبله لم يكن معجزا.
وهذا قول أبي هاشم
، وهو الظاهر الخطأ ، لأنه يلزم أن يكونوا قادرين على مثل القرآن ، وإن لم يتعذر
عليهم فعل مثله. وإنما تعذر بإنزاله ، ولو كانوا قادرين على مثل ذلك ، كان قد اتفق
مع بعضهم مثله.
وإن كانوا في
الحقيقة غير قادرين قبل نزوله ولا بعده على مثله فهو قولنا.
وأما قول كثير من
المخالفين فهو على ما بيّنا ، لأن معنى المعجز عندهم تعذر فعل مثله. وكان ذلك
متعذرا قبل نزوله وبعده. فأما الكلام في أن التأليف ، هل له نهاية؟ فقد اختلف
المخالفون من المتكلمين فيه. فمنهم من قال : ليس لذلك نهاية ، كالعدد ، فلا يمكن
أن يقال : إنه لا يتأتى قول قصيدة إلا وقد قيلت من قبل.
ومنهم من قال : إن
ما جرت به العادة فله نهاية ، وما لم تجر به العادة فلا يمكن أن نعلم نهاية الرتبة
فيه. وقد بيّنا أن على أصولنا قد تقرر لكلامنا حد في العادة ، ولا سبيل إلى تجاوزه
، ولا يقدر. فإن القرآن خرق العادة فزاد عليها.
فصل : إن قيل هل
من شرط المعجز أن يعلم أنه أتى به من ظهر عليه؟ قيل : لا بد من ذلك. لأنا لو نعلم
أن النبي صلىاللهعليهوسلم هو الذي أتى بالقرآن وظهر ذلك من جهته ، لم يمكن أن يستدل
به على نبوته. وعلى هذا ، لو تلقى رجل منه سورة ، فأتى بها بلدا وادعى ظهورها عليه
، وأنها معجزة له ، لم تقم الحجة عليهم ، حتى يبحثوا أو يتبينوا أنها ظهرت عليه.
وقد تحققنا أن القرآن أتى به النبي صلىاللهعليهوسلم وظهر من جهته ، وجعله علما على نبوته ، وعلمنا ذلك ضرورة
فصار حجة علينا.
خاتمة
قد ذكرنا في
الإبانة عن معجز القرآن وجيزا من القول ، رجونا أن يكفي ، وأمّلنا أن يقنع.
والكلام في أوصافه إن استقصي بعيد الأطراف ، واسع الأكناف ، لعلو شأنه ، وشريف
مكانه.
والذي سطرناه في
الكتاب ، وإن كان موجزا ، وأمليناه فيه ، وإن كان خفيفا ، فإنه ينبه على الطريقة ،
ويدل على الوجه ، ويهدي إلى الحجة.
ومتى عظم محل لشيء
فقد يكون الإسهاب فيه عيّا ، والإكثار في وصفه تقصيرا.
وقد قال الحكيم ،
وقد سئل عن البليغ ، متى يكون عيبا؟ فقال : متى وصف هوى أو حبيبا.
وضلّ أعرابي في
سفر له ليلا وطلع القمر فاهتدى به ، فقال : ما أقول لك؟ أقول : رفعك الله؟ وقد
رفعك ، أم أقول : نورك الله؟ وقد نورك ، أم أقول : أجملك الله؟ وقد جملك!
ولو لا أن العقول
تختلف ، والأفهام تتباين ، والمعارف تتفاضل ، لم نحتج إلى ما تكلفنا. ولكن الناس
يتفاوتون في المعرفة ، ولو اتفقوا فيها ، لم يجز أن يتفقوا في معرفة هذا الفن ، أو
يجتمعوا في الهداية إلى هذا العلم لاتصاله بأسباب ، وتعلقه بعلوم غامضة الغور ،
عميقة القعر ، كثيرة المذاهب ، قليلة الطلاب ، ضعيفة الأصحاب ، وبحسب تأتّي مواقعه
، يقع الإفهام دونه. وعلى قدر لطف مسالكه ، يكون القصور عنه.
أنشدني أبو القاسم
الزعفراني قال : أنشدني المتنبي لنفسه ، القطعة التي يقول فيها :
وكم من عائب
قولا صحيحا
|
|
وآفته من الفهم
السقيم
|
ولكن تأخذ
الآذان منه
|
|
على قدر القرائح
والعلوم
|
وأنشدني الحسن بن
عبد الله قال : أنشدنا بعض مشايخنا للبحتري :
أهزّ بالشعر
أقواما ذوي سنة
|
|
لو أنهم ضربوا
بالسيف ما شعروا
|
عليّ نحت القوافي
من مقاطعها
|
|
وما عليّ لهم أن
تفهم البقر
|
فإذا كان نقد
الكلام كله صعبا ، وتمييزه شديدا ، والوقوع على اختلاف فنونه متعذرا ، وهذا في
كلام الآدمي. فما ظنك بكلام رب العالمين؟
قد أبنّا لك أن من
قدّر أن البلاغة في عشرة أوجه من الكلام ، لا يعرف من البلاغة إلا القليل ، ولا
يفطن منها إلا اليسير.
ومن زعم أن البديع
يقتصر على ما ذكرناه من قبل عنهم في الشعر ، فهو متطرّف.
بلى إن كانوا
يقولون إن هذه من وجوه البلاغة وغرر البديع ، وأصول اللطيف. وإن ما يجري مجرى ذلك
ويشاكله ملحق بالأصل ومردود على القاعدة. فهذا قريب.
وقد بيّنا في نظم
القرآن أن الجملة تشتمل على بلاغة منفردة ، والأسلوب يختص بمعنى آخر من الشرف.
ثم الفواتح
والخواتم ، والمبادي والمثاني ، والطوالع والمقاطع ، والوسائط والفواصل.
ثم الكلام في نظم
السور والآيات ، ثم في تفاصيل التفاصيل. ثم في الكثير والقليل ، ثم الكلام الموشح
والمرصع ، والمفصّل والمصرّع ، والمجنس والموشى ، والمحلى والمكلل ، والمطوق
والمتوج ، والموزون والخارج عن الوزن ، والمعتدل في النظم والمتشابه فيه.
ثم الخروج من فصل
إلى فصل ، ووصل إلى وصل ، ومعنى إلى معنى ، ومعنى في معنى ، والجمع بين المؤتلف والمختلف
، والمتفق والمتسق ، وكثرة التصرف ، وسلامة القول في ذلك كله من التعسف ، وخروجه
عن التعمق والتشدق ، وبعده عن التعمل والتكلف. والألفاظ المفردة والإبداع في
الحروف والأدوات ، كالإبداع في المعاني والكلمات. والبسط والقبض ، والبناء والنقض
، والاختصار والشرح ، والتشبيه والوصف ، وتميز الإبداع من الاتباع ؛ كتميز المطبوع
عن المصنوع.
والقول الواقع عن
غير تكلف ، ولا تعمّل. وأنت تتبينه في كل ما تصرف فيه من الأنواع أنه على سمت شريف
، ومرقب منيف ، يبهر إذا أخذ في النوع الربي ، والأمر الشرعي ، والكلام الإلهي
الدال على أنه يصدر عن عزة الملكوت ، وشرف الجبروت ، وما لا يبلغ الوهم مواقعه من
حكمة وأحكام ، واحتجاج وتقرير واستشهاد ، وتقريع وإعذار وإنذار ، وتبشير وتحذير
وتنبيه ، وتلويح وإشباع وتصريح ، وإشارة ودلالة ، وتعلم أخلاق زكية ، وأسباب رضية
، وسياسات جامعة ، ومواعظ نافعة ، وأوامر صادعة ، وقصص مفيدة ، وثناء على الله عزوجل بما هو أهله ، وأوصاف كما يستحقه ، وتحميد كما يستوجبه ،
وأخبار عن كائنات في التأني صدقت ، وأحاديث عن المؤتنف تحققت ، ونواه زاجرة عن
القبائح والفواحش ، وإباحة الطيبات وتحريم المضار والخبائث ، وحث على الجميل
والإحسان.
تجد فيه الحكمة
وفصل الخطاب ، مجلوة عليك في منظر بهيج ، ونظم أنيق ، ومعرض رشيق ، غير متعاص على
الأسماع ، ولا متلو على الأفهام ، ولا مستكره في اللفظ ولا متوحش في المنظر غريب
في الجنس ، غير غريب في القبيل ، ممتلئ ماء ونضارة ولطفا وغضارة ، يسري في القلب
كما يسري السرور ، يمر إلى مواقعه كما يمر السهم ، ويضيء كما يضيء الفجر ، ويزخر
كما يزخر البحر ، طموح العباب ، جموح على المتناول المنتاب ، كالروح في البدن ،
والنور المستطير في الأفق ، والغيث الشامل ، والضياء الباهر. (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ
يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ ، تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) .
من توهم أن الشعر
يلحق شأوه بان ضلاله. وصح جهله. إذ الشعر سمت قد تناولته الألسن ، وتداولته القلوب
، وانثالت عليه الهواجس ، وضرب الشيطان فيه بسهمه ، وأخذ منه بحظه. وما دونه من
كلامهم ، فهو أدنى محلا ، وأقرب مأخذا ، وأسهل مطلبا. ولذلك قالوا : فلان مفحم ،
فأخرجوه مخرج العيب. كما قالوا : فلان عيي ، فأوردوه مورد النقص.
والقرآن كتاب دل
على صدق متحمله ، ورسالة دلت على صحة قول المرسل بها ، وبرهان شهد له برهان
الأنبياء المتقدمين. وبينة على طريقة من سلف من الأولين ، حيرهم به إذا كان من جنس
القول الذي زعموا أنهم أدركوا فيه النهاية. وبلغوا فيه الغاية. فعرفوا عجزهم ، كما
عرف قوم عيسى نقصانهم. فيما قدروا من بلوغ أقصى الممكن في العلاج ، والوصول إلى
أعلى مراتب الطب. فجاءهم بما بهرهم من إحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص. وكما
أتى موسى بالعصا التي تلقفت ما دققوا فيه من سحرهم ، وأتت على ما أجمعوا عليه من
أمرهم. وكما سخّر لسليمان من الرياح والطير والجن حين كانوا يولعون بدقائق الحكمة
، وبدائع من اللطف. ثم كانت هذه المعجزة مما يقف عليه الأول والآخر وقوفا واحدا. وبقى
حكمها إلى يوم القيامة.
انظر وفقك الله
لما هديناك إليه ، وفكر في الذي دللناك عليه ، فالحق منهج واضح ، والدين ميزان
راجح ، والجهل لا يزيد إلا غما ، ولا يورث إلا ندما. قال الله عزوجل : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي
الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا
الْأَلْبابِ) وقال : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا
إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ
وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) وقال : (يُضِلُّ بِهِ
كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ
__________________
كَثِيراً) على حسب ما آتى من الفضل ، وأعطى من الكمال والعقل ، تقع
الهداية والتبيين. فإن الأمور تتم بأسبابها ، وتحصل بآلتها ، ومن سلبه التوفيق
وحرمه الإرشاد والتسديد فكأنما : (خَرَّ مِنَ السَّماءِ
فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ) لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فاحمد الله على ما رزقك
من الفهم إن فهمت. وقل : (رَبِّ زِدْنِي
عِلْماً) وقل : (رَبِّ أَعُوذُ بِكَ
مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ) وإن ارتبت فيما بيناه فازدد في تعلم الصنعة ، وتقدم في
المعرفة الأرشد ، ويقف بك على الوجه الأحمد. فإنك إذا فعلت ذلك أحطت علما ، وتيقنت
فهما.
ولا يوسوس إليك
الشيطان بأنه قد كان من هو أعلم منك بالعربية ، وأرجح منك في الفصاحة أقوام وأقوام
، ورجال ورجال ، فكذبوا وارتابوا لأن القوم لم يذهبوا عن الإعجاز. ولكن اختلفت
أحوالهم ، فكانوا بين جاهل وجاحد. وبين كافر نعمة وحاسد ، وبين ذاهب عن طريق
الاستدلال بالمعجزات ، وحائد عن النظر في الدلالات ، وناقص في باب البحث ، ومختل
الآلة في وجه الفحص ، ومستهين بأمر الأديان ، وغاو تحت حبالة الشيطان ، ومقذوف
بخذلان الرحمن. وأسباب الخذلان والجهالة كثيرة ، ودرجات الحرمان مختلفة.
وهلا جعلت بإزاء
الكفرة مثل : «لبيد بن ربيعة العامري» في حسن إسلامه ، و «كعب بن زهير» في صدق إيمانه ، و «حسان بن ثابت» وغيرهم من الشعراء والخطباء الذين أسلموا؟
على أن الصدر
الأول ما فيهم إلا نجم زاهر ، أو بحر زاخر. وقد بينا أن لا اعتصام إلا بهداية الله
، ولا توفيق إلا بنعمة الله ، (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ
يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) ، فتأمّل ما عرّفناك في كتابنا ، وفرغ له قلبك ، واجمع له
لبك ، ثم اعتصم بالله يهدك ، وتوكل عليه يغنك ويجرك ، واسترشده يرشدك ، وهو حسبي
وحسبك ونعم الوكيل.
__________________
فهرس
الكتاب
ترجمة المؤلف..................................................................... ٣
بسم
الله الرّحمن الرّحيم............................................................ ٥
في أن نبوة النبي صلىاللهعليهوسلم.............................................................. ٩
معجزتها القرآن................................................................... ٩
في
الدلالة على أنّ.............................................................. ١٥
القرآن
معجزة.................................................................. ١٥
في
جملة وجوه إعجاز القرآن...................................................... ٢٨
في
شرح ما بيّنا من.............................................................. ٤٠
وجوه
إعجاز القرآن............................................................. ٤٠
في
نفي الشعر من القرآن........................................................ ٤٣
في
نفي السجع من القرآن....................................................... ٤٨
في
ذكر البديع من الكلام........................................................ ٥٥
في
كيفية الوقوف............................................................... ٨٢
على
إعجاز القرآن.............................................................. ٨٢
باب : أيهما أبلغ .. الشعر
أم النثر؟!........................................... ١٠٤
في
جوانب إعجاز القرآن....................................................... ١٦٠
في
أنه هل العلم بإعجاز القرآن ضرورة؟.......................................... ١٦٥
فيما يتعلق به الإعجاز......................................................... ١٦٦
في وصف وجوه من البلاغة..................................................... ١٦٧
في
حقيقة المعجز.............................................................. ١٨١
في كلام النبي صلىاللهعليهوسلم وأمور تتصل بالإعجاز........................................ ١٨٣
خاتمة........................................................................ ١٨٧
|