ثم نقول أنت تعلم أن من يقول بتقدم البحتري في الصنعة ، به من الشغل في تفضيله على ابن الرّومي ، أو تسوية ما بينهما ما لا يطمع معه في تقديمه على امرئ القيس ومن في طبقته.

وكذلك أبو نواس إنما يعدل شعره بشعر أشكاله ، ويقابل كلامه بكلام أضرابه من أهل عصره. وإنما يقع بينهم التباين اليسير والتفاوت القليل. فأما يظنّ ظانّ أو يتوهم متوهم أن جنس الشعر معارض لنظم القرآن (فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ) (١) وإنما هي خواطر يغير بعضها على بعض ، ويقتدى فيها بعض ببعض ، والغرض الذي يرمي إليه ويصح التوافي عليه ، في الجملة ، فهو قبيل متداول ، وجنس متنازع ، وشريعة مورودة ، وطريقة مسلوكة.

ألا ترى إلى ما روي عن الحسين (٢) بن الضحاك قال : أنشدت أبا نواس (٣) قصيدتي التي فيها :

وشاطريّ اللسان مختلق التّك

ريه زان المجون بالنّسك

كأنه نصب كأنه قمر

يكرع في بعض أنجم الفلك

قال : فأنشدني أبو نواس بعد أيام قصيدته التي يقول فيها :

أعاذل أعتبت الإمام واعتبا

وأعربت عما في الضمير وأعربا

وقلت لساقيها أجزها فلم أكد

ليأبى أمير المؤمنين وأشربا

فجوّزها عني عقارا ترى لها

إلى الشّرف الأعلى شعاعا مطنبا

إذا عبّ فيها شارب القوم خلّته

يقبّل في داج من الليل كوكبا

قال : فقلت له : يا أبا علي هذه مقالتي ، فقال : أتظن أنه يروى لك معنى وأنا حي ..؟ فتأمل هذا الأخذ ، وهذا الوضع ، وهذا الاتباع. أما الخليع فقد رأى الإبداع في المعنى. فأما العبارات فإنها ليست على ما ظنّه ؛ لأن قوله : يكرع ليس بصحيح ، وفيه ثقل بيّن وتفاوت ، وفيه إحالة ؛ لأن القمر لا يصح تصوّرا أن يكرع في نجم.

وأما قول أبي نواس : إذا عب فيها ، فكلمة قد قصد فيها المتانة ، وكان سبيله أن يختار

__________________

(١) آية (٢١) سورة الحج.

(٢) الحسين بن الضحاك ، ولد في البصرة ، ونشأ فيها ، ونادم الخلفاء من بني العباس ، وكان خليعا فاسدا ، وهو أول من نادم الأمين ، وله فيه مدائح كثيرة. مات سنة (٢٥٠ ه‍). له ترجمة في : الأغاني ٦ / ١٧٠ ، ووفيات الأعيان ١ / ١٥٤ ، وشذرات الذهب ٢ / ١٢٣.

(٣) سبقت ترجمته.