أصول الفقه - ج ٩

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٩

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-82-9
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٠٢

قوله عليه‌السلام : « ولا ينقض اليقين بالشكّ » أو في تطبيق هذه الكبرى على صغرى المورد وهي مسألة الشكّ في عدد الركعات ، وحينئذ يسقط الأصل الجهتي في كلا طرفيه.

وأجاب عنه الأُستاذ العراقي قدس‌سره في مقالته بما حاصله : أنّه لا أثر للأصل الجهتي في ناحية التطبيق ، لسقوطه فيه على كلّ حال ، فقال قدس‌سره : فيبقى الأصل المزبور في أصل الكبرى بلا معارض بلا إحراز العلم الاجمالي بوجود التقية في البين كما لا يخفى (١). وهذه العبارة ـ أعني قوله : بلا إحراز الخ ـ كعبارته في صدر الجواب ، أعني قوله : مدفوع بأنّه كذلك لو كان أصل الجهة في طرف ومعه لم ينطبق حتّى مع فرض كون الكبرى تقية الخ ، لم أتوفّق لمعرفة المراد منها ، ولعلّ فيها سقطاً أو تحريفاً.

وعلى كلّ حال ، إن كان المراد ـ كما هو الظاهر ـ هو أنّ الأصل الجهتي لا يجري في ناحية التطبيق على المورد ، لسقوطه فيه على كلّ من تقديري العلم الاجمالي ، فهو إنّما يصحّ على مسلك شيخنا قدس‌سره من أنّ الموجب لتأثير العلم الاجمالي هو تعارض الأُصول ، أمّا على مسلكه ففيه تأمّل ، إلاّ أن يكون المراد هو أنّ المسألة ليست من العلم الاجمالي في مخالفة التقية في أحد الطرفين ، كما ربما يعطيه قوله : « بلا إحراز العلم الاجمالي بوجود التقية » بل إنّ المسألة من باب العلم الخارجي بأنّ مسألة الشكّ في عدد الركعات لا يجري فيها الاستصحاب ، وحينئذ يبقى الشكّ منحصراً في كون الكبرى تقية ، فيجري فيها الأصل الجهتي بلا معارض.

والحاصل : أنّه ليس المقام من قبيل العلم التفصيلي بسقوط الأصل الجهتي

__________________

(١) مقالات الأُصول ٢ : ٣٥٢.

٨١

في ناحية التطبيق ، المولّد ذلك العلم التفصيلي من العلم الاجمالي المردّد بين سقوطه في خصوص التطبيق ، أو في سقوطه في نفس الكبرى ، ليتوجّه عليه أنّ العلم التفصيلي المتولّد من العلم الاجمالي لا يحقّق انحلاله ، بل إنّ المقام من قبيل العلم الخارجي بأنّ مسألة الشكّ في عدد الركعات لا يجري فيها الاستصحاب ، فلاحظ وتأمّل.

قوله : فإنّ اتّصال الركعة المشكوكة ببقية الركعات إنّما يقتضيه إطلاق الاستصحاب ـ إلى قوله ـ نعم ( إنّ ) إطلاق الاستصحاب يقتضي الاتيان بها موصولة ـ إلى قوله ـ فغاية ما يلزم في الرواية هو تقييد قوله عليه‌السلام : « ولا ينقض اليقين بالشكّ » بفعل ركعة الاحتياط مفصولة ـ إلى قوله ـ فظهر أنّه لا يلزم في الرواية أزيد من تقييد الاطلاق ... الخ (١).

كلّ هذه العبائر متّحدة المفاد مع ما أفاده العلاّمة الخراساني بقوله : غاية الأمر إتيانها مفصولة ينافي إطلاق النقض الخ (٢) وهذه الجهة من التقييد هي التي ردّها شيخنا قدس‌سره على صاحب الكفاية حسبما تضمّنه تحرير السيّد سلّمه الله بقوله : فأدلّة وجوب البناء على الأكثر غير منافية لإطلاق دليل الاستصحاب كما توهّمها المحقّق صاحب الكفاية قدس‌سره فضلاً عن المنافاة لأصله الخ (٣) ، وقوله في هذا التحرير : بل يمكن أن يقال : إنّ هذا أيضاً لا يلزم ، فإنّا لا نسلّم أنّ إطلاق الاستصحاب يقتضي الاتيان بالركعة الموصولة ، بل الاستصحاب لا يقتضي أزيد من البناء على عدم الاتيان بالركعة المشكوكة ، وأمّا الوظيفة بعد ذلك ما هي فهي

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٣٦٢ ـ ٣٦٣.

(٢) كفاية الأُصول : ٣٩٦.

(٣) أجود التقريرات ٤ : ٥١.

٨٢

تتبع الجعل الشرعي الخ (١). وهذا هو الذي بنى عليه شيخنا قدس‌سره في قبال ما بنى عليه في الكفاية من كون المقام من تقييد « لا تنقض » ، وحاصله : أنّ التقييد إنّما يكون بالنسبة إلى الأدلّة الأوّلية القاضي إطلاقها بالوصل. وهذا المطلب هو الذي أشار إليه الأُستاذ العراقي بقوله في المقالة : ثمّ لو أغمض عن تلك الجهة يمكن بطريق آخر توجيه الاستدلال بالرواية على وفق مذهب الخاصّة الخ (٢).

لكنّه أشكل عليه بما حاصله : أنّ الوجوب اللاحق للركعة في ضمن الكل متّصلة مغاير عرفاً للوجوب اللاحق لها منفصلة ، ولكن لا يخفى أنّ هذا إنّما يتوجّه لو كان المستصحب هو وجوب الركعة ، أمّا لو كان المستصحب هو مجرّد عدم الاتيان بها فلا يتّجه الإشكال المزبور ، فلاحظ وتأمّل.

وعلى كلّ حال ، أنّ هذه التوجيهات راجعة إلى شرح قاعدة البناء على الأكثر في مورد الشكّ في عدد الركعات ، وأنّها في الحقيقة عمل بالاستصحاب الحاكم بعدم الاتيان بالركعة المشكوكة ، مع زيادة تصرّف بتبديل الحكم من الوصل إلى الفصل ، لما لاحظه الشارع من محذور الوقوع في زيادة الركعة لو اتّفق خطأ الاستصحاب ، وإن وقع في محذور الفصل بالتشهّد والتسليم والتكبيرة ، بل وباختلاف الكيفية من القيام إلى الجلوس في بعض موارده لو اتّفق مطابقة الاستصحاب للواقع ، لما لاحظه الشارع من كون هذا الثاني أقلّ المحذورين ، مع حكمه باغتفار هذا المقدار من الخلل لو اتّفق.

كلّ ذلك في قبال ما قيل من أنّ قاعدة البناء على الأكثر عندنا حاكمة على الاستصحاب ، نظير حكومة قاعدة التجاوز أو الفراغ على استصحاب عدم الاتيان

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٣٦٣.

(٢) مقالات الأُصول ٢ : ٣٥٢.

٨٣

بما هو المشكوك ، لكن مع ذلك التصرّف الزائد على مجرّد الحكومة الحاصلة في قاعدة التجاوز والفراغ ، وذلك التصرّف الزائد هو ما عرفت من لزوم الاتيان بالركعة المحتملة النقصان بعد الفراغ ، وأنّه لو اتّفق خطأ قاعدة البناء على الأكثر وأنّ صلاته كانت ناقصة ، كان ما أتى به مكمّلاً لها واغتفر ما وقع من الفواصل ، وإن اتّفق مطابقة القاعدة للواقع كان ما أتى به نفلاً مستقلاً.

وكأنّ العمدة في العدول عن كون المطلب من باب حكومة قاعدة البناء على الأكثر على الاستصحاب إلى دعوى كونها عملاً بالاستصحاب ، مع كثرة الأخبار (١) المصرّحة بالبناء على الأكثر الظاهر في الحكومة المذكورة ، هو النظر

__________________

(١) عمّار « متى شككت فخذ بالأكثر ، فإذا سلّمت فأتمّ ما ظننت أنّك نقصت » [ وسائل الشيعة ٨ : ٢١٢ / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب ٨ ح ١ ].

عمّار الساباطي « إذا سهوت فابن على الأكثر ، فإذا فرغت وسلّمت فقم وصلّ » الخ [ المصدر المتقدّم ح ٣ ].

عمّار بن موسى « كلّما دخل عليك من الشكّ في صلاتك فاعمل على الأكثر ، فإذا ... » الخ [ المصدر المتقدّم ح ٤ ].

محمّد بن مسلم ، قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل صلّى ركعتين ، فلا يدري ركعتين هي أو أربع ، قال : يسلّم ثمّ يقوم فيصلّي ركعتين بفاتحة الكتاب ، ويتشهّد وينصرف ، وليس شيء عليه » [ المصدر المتقدّم : ٢٢ / ب ١١ ح ٦ ].

إسحاق بن عمّار « إذا شككت فابن على اليقين ، قلت : هذا أصل؟ قال عليه‌السلام : نعم » [ المصدر المتقدّم : ٢١٢ / ب ٨ ح ٢ ].

عن أبي الحسن عليه‌السلام « عن الرجل لا يدري ثلاثاً صلّى أم اثنتين؟ قال : يبني على النقصان ويأخذ بالجزم ، ويتشهّد بعد انصرافه تشهّداً خفيفاً كذلك في أوّل الصلاة وآخرها » [ المصدر المتقدّم ح ٦ ].

٨٤

إلى ما تضمّنته هذه الصحيحة ، أعني قوله : « إذا لم يدر أنّه في ثلاث هو أو أربع » الخ (١) ، لأجل اشتمالها على الأخذ بالاستصحاب مع تلك الفقرات الأُخر ، فلاحظ.

ولا يخفى أنّ هذا المقدار ـ أعني كون المسألة من باب الأخذ بأصالة عدم الزيادة ، أو كونها من باب حكومة قاعدة البناء على الأكثر على أصالة عدم الزيادة كما هو ظاهر التعبير في كثير من الأخبار بالبناء على الأكثر ـ لا يترتّب عليه أثر عملي ، وسواء قلنا بالأوّل أو قلنا بالثاني لم يكن التبدّل من الاتّصال إلى الانفصال لو صادف الاحتياط الحاجة إلاّحكماً واقعياً لا ظاهرياً ، غايته أنّ الظاهر أنّه حكم اغتفاري ، فلا يضرّه الحكم بالصحّة فيما لو كان المكلّف جاهلاً وبنى على الأقل وأتى بالركعة متّصلة ثمّ تبيّن الحاجة إليها مع فرض تأتّي قصد القربة منه ، وفي

__________________

زرارة عن أحدهما في حديث قال « قلت له : رجل لا يدري اثنتين صلّى أم ثلاثاً ، قال عليه‌السلام : إن دخله الشكّ بعد دخوله في الثالثة ، مضى في الثالثة ثمّ صلّى الأُخرى ولا شيء عليه ويسلّم » [ المصدر المتقدّم : ٢١٤ / ب ٩ ح ١ ].

الطيالسي عن العلاء « رجل صلّى ركعتين وشك في الثالثة ، قال : يبني على اليقين ، فإذا فرغ تشهّد وقام فصلّى ركعة بفاتحة القرآن » [ المصدر المتقدّم ح ٢ ].

الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام إنّه قال عليه‌السلام « إذا لم تدر اثنتين صلّيت أم أربعاً ، ولم يذهب وهمك إلى شيء ، فتشهّد وسلّم ثمّ صلّ ركعتين وأربع سجدات ، تقرأ فيهما بأُمّ الكتاب ، ثمّ تشهّد وسلّم فإن كنت إنّما صلّيت ركعتين كانتا هاتان تمام الأربع ، وإن كنت صلّيت أربعاً كانتا هاتان نافلة » [ المصدر المتقدّم : ٢١٩ / ب ١١ ح ١ ] ومثلها غيرها [ منه قدس‌سره ].

(١) وسائل الشيعة ٨ : ٢١٦ ـ ٢١٧ / أبواب الخلل في الصلاة ب ١٠ ح ٣.

٨٥

الحقيقة يكون المكلّف به واقعاً هو نفس الركعة لا بشرط من حيث هذه الفواصل بل من حيث التبديل إلى الركعتين من الجلوس ، وحاصل الأمر أنّه عند الشكّ المذكور واتّفاق النقصان مكلّف بالركعة ، سواء أتى بها متّصلة أو منفصلة بما ذكر ، أو مبدّلة إلى الركعتين من الجلوس ، فلاحظ وتأمّل.

أمّا ما ربما يبنى على الخلاف في هذه المسألة من بعض فروع أحكام الخلل ، في مثل ما لو كان قائماً وعلم بأنّه إمّا في القيام قبل ركوع الرابعة أو في القيام بعد ركوع الثالثة ، من الحكم بأنّه يبني على الرابعة ويركع ويصلّي الاحتياط ، في حين أنّه يعلم بأنّ الاحتياط في غير محلّه ، إمّا لكون صلاته أربعاً وإمّا لبطلانها بزيادة الركوع ، وجواب شيخنا قدس‌سره بأنّ ذلك من الوظائف الواقعية للشاكّ وإن علم ذلك العلم ، فالظاهر أنّ ذلك توسعة في التبدّل إلى الانفصال ، لا أنّه على تقدير التبدّل يكون الحكم كذلك ، وعلى تقدير كون الحكم لم يتبدّل يكون الحكم هو غير ذلك من لزوم البناء على الأكثر والركوع وعدم الاتيان بالاحتياط أو بطلان الصلاة ونحو ذلك ، فراجع المسألة الثانية عشرة من فروع الختام من العروة (١).

والحاصل : أنّ هذا الحكم ـ وهو أنّه لو أتى بصلاة الاحتياط ، وبعد الفراغ منها علم أنّ صلاته كانت ناقصة ، لم تجب عليه إعادة الصلاة ـ حكم مسلّم عند الكل ، وهو مضمون روايات الباب (٢) ، فلابدّ من القول باغتفار تلك الزيادة واقعاً ، وليس ذلك من مختصّات شيخنا قدس‌سره ، وليس ذلك إلاّعبارة عن أنّ الانفصال حكم واقعي ، وحينئذ يرد المثال المذكور ، وهو ما لو كان جاهلاً بحكم الشكّ في عدد الركعات وبنى على الثلاث وأتى بالرابعة متّصلة وصادف الحاجة إليها أن تكون

__________________

(١) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) ٣ : ٣٣٤.

(٢) وسائل الشيعة ٨ : ٢١٩ / أبواب الخلل في الصلاة ب ٨ وغيره.

٨٦

صلاته باطلة (١).

وهكذا الحال فيما لو كان عالماً بحكم الشكّ ، ولكنّه لم يعتن به وعمد وعمل على الأقل ، وأتى بالركعة متّصلة وصادف الواقع وتأتّت منه نيّة القربة ، والالتزام بالبطلان في مثل ذلك خصوصاً في الجاهل المعذور بعيد.

فلابدّ من الالتزام بما تقدّمت الاشارة إليه من كون الشخص الشاكّ مكلّفاً بالرابعة مطلقة من حيث الاتّصال والانفصال ، فيكون مخيّراً بينهما ، وليس ذلك براجع إلى قول الصدوق بالتخيير (٢) ، فإنّ ذلك القول هو القول بالتخيير في الحكم الظاهري ، بمعنى أنّه يتخيّر في البناء على الأقل والاتيان بالركعة موصولة ، والبناء على الأكثر والاتيان بالركعة مفصولة.

وليس مرادنا بهذا التخيير الذي أصلحنا به المسألة هو هذا التخيير في الحكم الظاهري ، بل مرادنا هو تخيير الشاكّ واقعاً لو كانت صلاته ناقصة بين الاتّصال والانفصال. أمّا حكمه الظاهري فهو حكم واحد تعييني ، وهو البناء على الأكثر والاتيان بالركعة مفصولة حذراً من احتمال زيادة الركعة لو كانت صلاته تامّة ، فهذا الشخص الشاكّ إن كانت صلاته تامّة كان حكمه الواقعي هو التشهّد والتسليم فقط ، وإن كانت صلاته ناقصة فهو بحسب الحكم الأصلي مكلّف بالاتيان بالركعة موصولة ، لكن لأجل كونه فعلاً شاكّاً في العدد مع فرض كون صلاته ناقصة في الواقع ، يكون حكمه الواقعي هو التخيير بين الوصل والفصل ، فليس موضوع هذا التخيير هو مطلق الشاكّ ، بل هو خصوص الشاكّ الذي كانت صلاته في الواقع ناقصة.

__________________

(١) [ هكذا وردت العبارة في الأصل ، والمعنى واضح ].

(٢) من لا يحضره الفقيه ١ : ٣٥١ ذيل ح ١٠٢٤.

٨٧

وحينئذ نقول : لو اتّفق أنّه قد أوصل وتأتّت منه القربة صحّت صلاته لو صادفت النقصان ، لكنّه مع التفاته إلى حكمه الظاهري وهو لزوم البناء على الأكثر ولزوم الفصل خوفاً من محذور زيادة الركعة في الصلاة مع عدم علمه بالنقصان لا يجوز له اختيار الوصل ، وإن كان لو أقدم على اختياره وتأتّت منه نيّة القربة وصادف أنّ صلاته كانت ناقصة كانت صلاته المذكورة صحيحة ، لكن كلّ ذلك لو أحرز النقصان ، فما دام هو لم يحرز النقصان لا يمكن الحكم بصحّة صلاته ، بل إنّ الحكم الظاهري حاكم بفسادها ، ملاحظة لاحتمال أنّها كانت تامّة وأنّ الركعة المتّصلة كانت زيادة فيها ، فلاحظ وتأمّل.

وأمّا الفرع المذكور ، وهو ما إذا شكّ في أنّه بعد الركوع من الثالثة أو قبل الركوع من الرابعة ، فقد قال في العروة في المسألة الثانية عشرة إنّه يجب عليه الركوع ، لأنّه شاكّ فيه مع بقاء محلّه ، وأيضاً هو مقتضى البناء على الأربع في هذه الصورة.

لكن يرد عليه : أنّه بعد الصلاة يعلم أنّه لا موقع لركعة الاحتياط ، لأنّ صلاته إن كانت ثلاثاً فقد بطلت صلاته بزيادة الركوع ، ولا يصلحها الاحتياط بالركعة ، وإن كانت أربعاً فلا محلّ فيها للركعة الاحتياطية ، ولم يعلّق عليه شيخنا قدس‌سره.

ولكن يمكن أن يقال : إنّه على مسلكه من إعمال استصحاب عدم الاتيان بالركعة المشكوكة ، لا يجوز له فعل الركوع ، لأنّه قد علم أنّه دخل في الثالثة وأنّه قد ركع لها ويشكّ في الرابعة ، ومحصّل شكّه في الرابعة هو الشكّ في أنّه بعد ركوعه للثالثة هل سجد لها وقام إلى الرابعة ، أو أنّه الآن بعد ركوع الثالثة ، ومقتضى أصالة عدم الاتيان بالسجود لها وبالقيام إلى الرابعة أن يسجد لها ، فإن سجد كان

٨٨

عليه أن يقوم إلى الرابعة متّصلة ، لكن الروايات (١) قالت إنّه يسلّم على ذلك ويأتي بعده بالركعة منفصلة ، وبناءً على ذلك يتخلّص من الإشكال المذكور ، لأنّ صلاته حينئذ تدور بين الثلاثة الصحيحة فتكون هذه الركعة تكملة لها ، وبين الأربعة الباطلة بنقص الركوع ، وأصالة عدم الرابعة ينفي هذا الاحتمال. نعم لو اتّفق أن علم بعد ذلك أنّ صلاته كانت أربعاً ، كان لازمه الاعادة لبطلانها حينئذ بنقص الركوع ، وهذا أمر آخر غير ما نحن بصدده ، أعني صورة عدم انكشاف الخلاف ، فتأمّل.

ومن ذلك يظهر لك الكلام في عكس هذا الفرع ، بأن يتردّد قيامه بين كونه قبل ركوع الثالثة أو كونه بعد ركوع الرابعة ، فإنّه يسهل الأمر فيه على مسلك شيخنا قدس‌سره ، لأنّه في ذلك الحال يجري أصالة عدم الاتيان بركوع الثالثة وما بعده إلى ما بعد ركوع الرابعة ، وحينئذ يلزمه الركوع والسجود ، ثمّ يبقى عليه الرابعة ولكن لا يأتي بها متّصلة بل يأتي بها منفصلة ، ولا يكون فيه إشكال ، لدوران الأمر حينئذ بين كون صلاته ثلاثاً تامّة فيصلحها الاحتياط ، وكونها أربعاً باطلة بزيادة الركوع فيها ، وهذا الاحتمال منفي بأصالة العدم في ركوع الثالثة وما بعدها إلى ركوع الرابعة. نعم ، لو انكشف الحال قبل صلاة الاحتياط أو بعدها وأنّ صلاته كانت أربعاً قد زاد فيها الركوع ، فحينئذ يكون اللازم عليه الاعادة.

بخلاف ما لو قلنا بمسلك الجماعة فإنّه ـ كما في العروة ـ يلزمه البناء على الأربع بعد الركوع فلا يركع ، وحينئذ يقع في العلم بأنّه لا موقع لاحتياطه ، لأنّها إن كانت ثلاثاً فهي باطلة بنقص الركوع ، وإن كانت أربعاً لم تكن محتاجة إلى الاحتياط. نعم لو قيل إنّه يركع لكونه شاكّاً في ركوع هذه الركعة ، لم يحصل العلم

__________________

(١) وسائل الشيعة ٨ : ٢١٦ / أبواب الخلل في الصلاة ب ١٠.

٨٩

بأنّه لا موقع لاحتياطه ، لإمكان كون صلاته ثلاثاً قد أكمل ركوعها ، لكن يقابله احتمال كونها أربعاً باطلة بزيادة الركوع ، ولا نافي لهذا الاحتمال عندهم لعدم اعتمادهم على أصالة العدم ، لكنّهم أشكلوا على ذلك ـ كما في العروة ـ بالعلم الاجمالي المردّد بين نقص صلاته ركعة وبين بطلانها بزيادة [ الركوع ] ، وفي كونه موجباً للبطلان نظر لسدّ ثغرة النقص بالاحتياط. نعم يبقى احتمال بطلانها بزيادة الركوع ولا نافي له ، وهذا هو العمدة في الحكم بالبطلان. وبالجملة لا أثر لاحتمال النقص الذي هو طرف هذا الاحتمال ، وعمدة الإشكال إنّما هو من ناحية الاحتمال المذكور ، فلاحظ وتأمّل.

قوله : بل الاستصحاب لا يقتضي أزيد من البناء على عدم الاتيان بالركعة المشكوكة ، وأمّا الوظيفة بعد ذلك ما هي فهي تتبع الجعل الشرعي ... الخ (١).

توضيحه : أنّ قاعدة البناء على الأكثر الملزمة بالاتيان بالنقص المحتمل منفصلاً ، لمّا كانت متكفّلة لأنّ الصلاة إن كانت ناقصة كان الاحتياط مكمّلاً لها ، وإن كانت تامّة كان ذلك الاحتياط نافلة ، كان محصّلها هو أنّه على تقدير النقص لم يكن الفصل مضرّاً ، ولازم ذلك أنّ الحكم الواقعي على تقدير مصادفة النقص هو الاتيان بالمكمّل منفصلاً ، فلابدّ أن يكون تسويغ الانفصال في صورة اتّفاق النقص مقيّداً للأدلّة الأوّلية الحاكمة بلزوم وصل الركعات بعضها ببعض ، وحينئذ فلا تكون قاعدة البناء على الأكثر مقيّدة لدليل الاستصحاب ، بل تكون مقيّدة للدليل الأوّلي الحاكم بلزوم وصل الركعات ، وأقصى ما يفيده دليل الاستصحاب هو إحراز النقص الذي [ هو ] موضوع لوجوب الاتيان بالباقي ، ومقتضى تقيّد الدليل الأوّلي هو لزوم الاتيان بالناقص مفصولاً.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٣٦٣.

٩٠

ومن ذلك يظهر لك التأمّل فيما أفاده في الكفاية من أنّ الاتيان بالركعة مفصولة منافٍ لاطلاق النقض الخ (١) ولعلّ قوله في الكفاية : فافهم ، إشارة إلى ذلك. وينبغي مراجعة تحرير السيّد سلّمه الله (٢) في هذه الصحيحة لعلّه أوفى.

وعلى كلّ حال ، ففي هذا التوجيه تأمّل ، لأنّ مقتضاه بطلان صلاة الشاكّ بين الثلاث والأربع مثلاً لو بنى على الثلاث ولو جهلاً منه بالحكم على وجه لا يخلّ بقصد القربة ، وأتى بركعة رابعة متّصلة ، ثمّ بعد الفراغ علم بأنّ هذه الركعة المتّصلة وقعت في محلّها ، وأنّ صلاته كانت ثلاثاً ، والالتزام بالبطلان في هذه الصورة بعيد كما لا يخفى.

اللهمّ إلاّ أن نقول : إنّه لم ينقلب حكمه من الاتّصال إلى الانفصال بقول مطلق ، بل إنّ الشارع المقدّس لاحظ في مقام الشكّ احتمال التمام كما لاحظ احتمال النقصان ، وجمع بينهما بهذه الطريقة ، ولا ينافي أن يكون ذلك من باب الترخيص في الانفصال لأجل هذه العناية ، مع أنّه لو وصل الركعة واتّفق أن صادفت الواقع صحّت صلاته.

قوله : وقد أُورد على الاستدلال بها بما حاصله : أنّ الظاهر من الرواية هو اختلاف زمان الشكّ واليقين ، وسبق زمان اليقين على زمان الشكّ بقرينة قوله عليه‌السلام : « من كان فشكّ » (٣) ... الخ (٤).

وجه دلالة الرواية على تقدّم زمان اليقين على زمان الشكّ هو تخلّل الفاء

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٣٩٦.

(٢) أجود التقريرات ٤ : ٤٩ وما بعدها.

(٣) وسائل الشيعة ١ : ٢٤٦ / أبواب نواقض الوضوء ب ١ ح ٦ ( مع اختلاف عمّا في المصدر ).

(٤) فوائد الأُصول ٤ : ٣٦٤.

٩١

بينهما. ولكن لا يخفى أنّ مجرّد تقدّم زمان اليقين على زمان الشكّ لا يوجب انحصار مدلول الرواية بقاعدة اليقين ، بل هي صالحة مع ذلك للانطباق على الاستصحاب ، ولا تكون منحصرة بقاعدة اليقين ، إلاّ إذا قلنا بأنّ الفاء تعطي انقطاع ما قبلها ، بحيث يكون مفادها هو ارتفاع اليقين وانقطاعه عند حصول الشكّ ، ومن الواضح أنّ الفاء لا تدلّ على الانقطاع المذكور ، كما ترى في قولك : من كان محدثاً فمسّ المصحف ، ونحو ذلك ، وحينئذ فلابدّ من القول بأنّ الرواية صالحة للانطباق على قاعدة اليقين وعلى الاستصحاب ولو في القسم الغالب ، وهو ما إذا تقدّم زمان اليقين المفروض بقاؤه في حال الشكّ ، لكن لابدّ حينئذ من القول بأنّها مسوقة لأحدهما ، لما تقدّم في صدر البحث من عدم الجامع بينهما.

وحينئذ فلو خلّينا نحن وصدر هذه الرواية لكانت مجملة مردّدة بينهما ، لكن بواسطة الذيل الظاهر في بقاء اليقين في حال الشكّ ، للحكم عليه بالبناء على يقينه الملازم لبقائه كما هو الشأن في القضايا الحقيقية التي يكون الحكم فيها على ما هو مفروض الوجود ، يكون ذلك من القرينة المعيّنة لإرادة الاستصحاب ، إذ لا يمكن حملها على قاعدة اليقين إلاّ إذا أُريد من اليقين في قوله : « فليض على يقينه » اليقين السابق باعتبار ما كان ، وهو خلاف الظاهر في المشتقّات فضلاً عمّا هو في غير المشتقّات كالمصادر وأسماء الأعيان ، ومن الواضح أنّ ما نحن فيه من قبيل المصادر.

ثمّ لا يخفى أنّه قد تقدّمت الاشارة (١) إلى أنّ مثل « لا تنقض اليقين بالشكّ » إنّما يكون مسوقاً للتعبّد بعدم نقض اليقين بالشكّ مع فرض كونه قد انتقض به وجداناً ، وحينئذ نقول : إنّ لنا في كلّ من الاستصحاب وقاعدة اليقين يقيناً وشكّاً

__________________

(١) في الصفحة : ١٠ ـ ١١.

٩٢

وأنّ الأوّل قد انتقض بالثاني وجداناً ، وأنّ الشارع عبّدنا بعدم النقض ، كما أنّ لنا في كلّ منهما شيئاً يكون قد تعلّق به اليقين وتعلّق به الشكّ أيضاً ، وذلك مثل قيام زيد مثلاً ، وحينئذ لابدّ أن يكون هناك اختلاف في الزمان في الجملة ، وإلاّ لم يعقل أن يكون الشيء الواحد من جميع الجهات يتعلّق به كلّ من اليقين والشكّ في زمان واحد ، بأن يحصل لك الآن يقين وشكّ متعلّقان بنفس قيام زيد ، من دون اختلاف في الزمان في نفس الشكّ واليقين ، أو في متعلّقهما الذي هو قيام زيد.

وحينئذ نقول : إنّ قيام زيد بالأمس مثلاً إن كان بالأمس متعلّقاً لليقين ، وكان في هذا اليوم متعلّقاً للشكّ ، بأن أكون قد تيقّنت بالأمس بقيام زيد بالأمس ، لكن في هذا اليوم حدث لي شكّ في قيامه بالأمس ، فكان زمان اليقين والشكّ مختلفاً وكان زمان القيام الذي هو المتيقّن والمشكوك متّحداً وهو الأمس ، فهذا هو مورد قاعدة اليقين المعبّر عن الشكّ فيها بالشكّ الساري ، ومن الواضح أنّ اليقين فيها قد انتقض وانهدم وجداناً ، وحينئذ يمكن التعبّد بعدم النقض ، وهذه هي الصورة الأُولى من صور الاختلاف بحسب الزمان.

الصورة الثانية : أن يحصل الاختلاف في كلّ منهما ، بأن يكون قد تيقّن بالأمس بقيام زيد بالأمس ، وفي هذا اليوم حصل له الشكّ بقيامه في هذا اليوم ، وهذه الصورة لا تكون مورداً لقاعدة الشكّ الساري ، إذ لم يسر الشكّ فيها إلى اليقين السابق ، بل إنّ يقينه السابق الذي تعلّق بقيام زيد بالأمس باقٍ إلى اليوم بحاله فهو اليوم متيقّن بقيام أمس ، كما أنّه في هذا اليوم شاكّ ، لكن لا بقيام أمس بل بقيام اليوم ، فقد اجتمع عنده اليقين والشكّ في هذا اليوم ، لكن متعلّق اليقين هو قيام أمس ومتعلّق الشكّ هو قيام اليوم ، فكانت هذه الصورة الثانية راجعة إلى الصورة

٩٣

الثالثة ، وهي عكس الصورة الأُولى.

وهذه الصورة الثالثة لو أبقيناها على ظاهرها من الاختلاف بحسب الزمان في القيام ، فكان متعلّق اليقين هو قيام أمس ومتعلّق الشكّ هو قيام اليوم ، لم يكن الشكّ فيها هادماً وناقضاً لليقين لاختلاف متعلّقهما ، فكما لا تكون مورداً لقاعدة اليقين فكذلك لا تكون مورداً للاستصحاب ، ولو جرّدنا متعلّق الشكّ فيها عن الزمان وأخذنا نفس القيام متعلّقاً لكلّ من اليقين والشكّ الحاصلين في هذا اليوم ، كان راجعاً إلى الصورة الأُولى التي قلنا إنّه لا يعقل اجتماع كلّ من اليقين والشكّ في آن واحد مع فرض وحدة متعلّقهما ، لكن إذا نظرنا إلى صحاح زرارة رأيناها قد طبّقت « لا تنقض اليقين بالشكّ » على مثل هذه الصورة التي كان زمان اليقين والشكّ فيها واحداً ، وكان الاختلاف فيها بالزمان في ناحية المتعلّق فقط.

ومن ذلك يظهر لك التأمّل فيما في الكفاية (١) من تصحيح النقض بتجريد المتعلّق ، مضافاً إلى أنّه مع التجريد لا وجه لكون الشكّ ناقضاً وجداناً لليقين ، فلِمَ لا نقول إنّ اليقين ناقض وجداناً للشكّ ، فلم يبق إلاّدعوى كون كلّ منهما ناقضاً وجداناً للآخر ، مع نهي الشارع عن نقض اليقين بالشكّ ، فيتعيّن نقض اليقين للشكّ ، فتأمّل.

والجواب عن هذا الإشكال هو أن يقال : إنّه ليس المسوّغ لاجتماع اليقين والشكّ في زمان واحد هو اختلاف المتعلّق في الزمان ، بأن يكون المتيقّن هو قيام زيد بالأمس والمشكوك هو قيام زيد اليوم ، مع فرض تخلّل العدم بين القيامين ، وإلاّ لم يكن من الاستصحاب في شيء ، كما أنّه لم يكن من باب قاعدة اليقين ، أمّا الثاني فواضح ، وأمّا الأوّل فلأنّ الشكّ في الاستصحاب لم يتعلّق بقيام زيد اليوم

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٣٩٠ ـ ٣٩١.

٩٤

في قبال قيامه بالأمس ، على وجه يكون قيامه اليوم حادثاً جديداً بعد أن انقضى قيامه بالأمس ، بل إنّ المشكوك في الحقيقة في باب الاستصحاب هو قيام الأمس ، لكن باعتبار بقائه واستمراره ، فالشكّ في الحقيقة إنّما تعلّق ببقاء قيام زيد واستمراره إلى اليوم ، فيكون اليقين في باب الاستصحاب متعلّقاً بنفس القيام أمس أو بحدوثه ، ويكون الشكّ فيه متعلّقاً ببقاء ذلك القيام الذي كان بالأمس أو الذي حدث بالأمس ، وحينئذ ففي الحقيقة لم يكن أحدهما هادماً للآخر ، لكن لمّا كان اليقين بقيام الأمس موجباً ادّعاء لليقين ببقائه إلى اليوم ، فكان هذا الشكّ الوجداني ناقضاً لليقين الادّعائي ، فصحّح ذلك توجّه النهي عن ذلك النقض ، ولأجل هذه الجهة من الادّعاء نقول باختصاص الاستصحاب بموارد الشكّ في الرافع ، فكأنّ الشارع نزّل اليقين بحدوث القيام أمس منزلة اليقين ببقائه إلى اليوم ، فأطلق على الشكّ الحاصل في اليوم أنّه ناقض لليقين ونهى عن ذلك النقض ، ولا ريب أنّ هذا التنزيل يقوى فيما لو كان الحادث له اقتضاء البقاء.

ولعلّه لأجل هذه الجهة من التنزيل زعم البعض شمول « لا تنقض » لقاعدة المقتضي ، بتوهّم أنّ اليقين بوجود المقتضي ـ بالكسر ـ ينزّل تعبّداً منزلة اليقين بوجود المقتضى ، وأنّ الشكّ في وجود المقتضى ـ بالفتح ـ لأجل الشكّ في وجود المانع يكون ناقضاً لذلك اليقين الادّعائي المتعلّق بالمقتضى ـ بالفتح ـ وحينئذ يكون عمدة ما يبطل هذا القول هو عدم الدليل على هذا التنزيل ، أعني تنزيل اليقين بالمقتضي ـ بالكسر ـ منزلة اليقين بالمقتضى ـ بالفتح ـ ، بخلاف تنزيل اليقين بوجود الشيء منزلة اليقين ببقائه ، لأنّ في تطبيق « لا تنقض » على مسألة الوضوء والطهارة من الخبث وعدم الركعة الرابعة كما تضمّنته صحاح زرارة دلالة واضحة على التنزيل المذكور ـ كما عرفت تقريبه ـ من ناحية إطلاق النقض

٩٥

على الشكّ في البقاء.

وخلاصة المبحث : هي أنّ الإمام ( عليه الصلاة والسلام ) في هذه الصحاح الثلاث قد استعار اليقين بالحدوث للازمه الادّعائي ، الذي هو اليقين بالبقاء ، وأطلق عليه شيئاً من لوازم المستعار له وهو كون الشكّ ناقضاً له ، نظير استعارة الأسد للرجل الشجاع وإثبات شيء من لوازمه وهو « يرمي ». هذا على طريقة السكاكي.

وأمّا على طريقة أهل المجاز المفرد فهو أن يقال : إنّه عليه‌السلام استعمل اليقين بالحدوث ـ أعني حدوث الوضوء مثلاً ـ في اليقين بالبقاء ، بعلاقة الملازمة بينهما ملازمة ادّعائية أو ملازمة ناشئة من الغلبة ، لأنّ الغالب أنّ الموجود يبقى ، فيكون اليقين بالوجود ملازماً لليقين بالبقاء ، فصحّ إطلاق اليقين بالوضوء على اليقين ببقائه ، والقرينة على هذا التجوّز وأنّه عليه‌السلام لم يرد بقوله عليه‌السلام : « على يقين من وضوئه » (١) اليقين بأصل الوضوء ، بل أراد اليقين ببقائه ، هو إطلاق النقض أعني كون الشكّ ناقضاً لذلك اليقين.

والأولى أن يخرّج ذلك على طريقة الكناية بأن يقال : إنّ المراد باليقين في مثل قوله عليه‌السلام : « وإلاّ فإنّه على يقين من وضوئه ، ولا ينقض اليقين بالشكّ » هو اليقين بالحدوث ، لكنّه شبّهه باليقين بالبقاء ونزّله منزلته في إثبات لازمه الذي هو النقض ، فيكون من قبيل : أنشبت المنيّة أظفارها ، فإنّه لمّا شبّه المنيّة بالأسد جعل لها أظفاراً.

ويمكن أن يخرّج على التجريد ، بأن يكون قد جرّد من اليقين بالحدوث يقيناً بالبقاء ، ونسب إليه النقض باعتبار ما جرّده واستخلصه منه ، نظير قوله :

__________________

(١) وسائل الشيعة ١ : ٢٤٥ / أبواب نواقض الوضوء ب ١ ح ١.

٩٦

وشوهاء تغدو بي إلى صارخ الوغى

بمستلئم مثل الفنيق المرجل

غير أنّه ذكر المجرّد منه ولم يذكر المجرّد ، ولو قلنا بأنّ المراد من اليقين هو اليقين بالبقاء ، مع أنّه لم يكن في الواقع إلاّ اليقين بالحدوث ، كان من قبيل ذكر المجرّد مع عدم ذكر المجرّد منه.

وعلى كلّ حال ، أنّ هذه الجهات ـ أعني كونه من قبيل الكناية ، أو كونه من قبيل التجريد ، أو كونه من قبيل الاستعارة ، أو كونه من قبيل المجاز المفرد ـ ليست براجعة إلى التعبّد بالبقاء في مقام الشكّ فيه الذي هو حكم شرعي ، بل هي راجعة إلى مرحلة لفظية مصحّحة لاستعمال اليقين بالحدوث في مقام اليقين بالبقاء ، وأنّ المقصود الأصلي هو النهي عن نقض اليقين بالبقاء بالشكّ فيه ، كما هو مقتضى تطبيق هذه الكبرى على ما هو مورد الاستصحاب.

ومن هذا البيان يتّضح لك دفع ما ربما يتوهّم في المقام من أنّ تنزيل اليقين بالحدوث منزلة اليقين بالبقاء إنّما جاء من النهي المذكور بقوله : لا تنقض ، فلا يعقل أن يكون هو المصحّح للنقض المذكور. وبيان الدفع هو ما عرفت من أنّه ليس المراد من تنزيل اليقين بالحدوث منزلة اليقين بالبقاء هو التنزيل التعبّدي الناشئ من الحكم التعبّدي ، أعني النهي عن النقض ، بل المراد هو التنزيل العرفي الاستعمالي الناشئ عن دعوى الملازمة ولو للغلبة بين حدوث الشيء وبقائه ، فالتنزيل المذكور إنّما هو في مرحلة النظر العرفي المصحّح لاستعمال اليقين بالحدوث في اليقين بالبقاء ، فلا يكون هذا التنزيل إلاّراجعاً إلى جهة استعمالية في مقام الاثبات ، دون قيام التعبّد الشرعي في مقام الثبوت.

لا يقال : إنّكم إذا جعلتم اليقين بأصل الوجود كناية عن اليقين بالبقاء عاد الإشكال ، وهو تعلّق الشكّ واليقين بشيء واحد وهو البقاء.

٩٧

لأنّا نقول : ليس المراد من هذه الكناية أنّ اليقين استعمل في اليقين بالبقاء حقيقة ، بل المراد هو رفع اليد عن اليقين بأصل الوجود استناداً إلى الشكّ في البقاء. وبعبارة أُخرى : العمل على طبق الشكّ في البقاء وعدم الالتفات إلى اليقين بأصل الوجود يكون بمنزلة هدم ذلك اليقين ونقضه ، وحيث إنّه في محلّه لم ينهدم ولم ينتقض ، نقول : إنّ المصحّح لاطلاق النقض على ترك الجري على وفقه والأخذ بطرف الشكّ ، هو لحاظ أنّ اليقين بأصل الحدوث يستدعي اليقين بالبقاء ، فالمكلّف لمّا يريد عدم العمل على طبق اليقين بالحدوث مستنداً في ذلك إلى الشكّ في البقاء ، فكأنّه بذلك هادم لليقين السابق وناقض له بالشكّ المزبور ، وبهذه العناية أُطلق على ذلك الترك أنّه نقض ونهي عنه ، وإلاّ ففي الحقيقة لم يكن في البين إلاّ اليقين بأصل الوجود وهو باقٍ مستمرّ ، ولكن بقاء اليقين بأصل الحدوث لا ينافي طروّ الشكّ في البقاء ، والمكلّف لمّا صار يعتني بالشكّ ويرتّب الأثر على الشكّ لم يكن بذلك تاركاً للعمل على طبق اليقين بأصل الحدوث ، بل لو كان لليقين بأصل الحدوث أثر لرتبه فعلاً ، لكن الشارع أطلق على الاعتناء بالشكّ وعدم ترتيب أثر اليقين بالبقاء أنّه هدم ونقض لليقين بأصل الحدوث ، في حين أنّ المكلّف لم يهدم اليقين بأصل الحدوث ، فلابدّ أن نقول إنّ المصحّح لاطلاق نقض اليقين بالحدوث على الأخذ بالشكّ المزبور ، هو ما عرفت من دعوى الملازمة الادّعائية بين اليقين بأصل الحدوث واليقين بالبقاء ، فكأنّ المكلّف باعتنائه بالشكّ قد هدم يقينه بأصل الحدوث.

ويمكن أن يقال : إنّ صحّة نسبة النقض إلى الشكّ في البقاء بالنسبة إلى اليقين بأصل الوجود لا تتوقّف على أخذ اليقين بالوجود كناية عن اليقين بالبقاء بل إنّ نفس الشكّ في البقاء بالنظر العرفي يكون شكّاً في نفس الشيء ، وبهذا

٩٨

الاعتبار صحّ جعله ناقضاً لليقين بنفس الشيء.

وعلى أيّ حال ، لا يكون المنهي عنه واقعاً في هذه الصحاح الثلاث إلاّ الاعتناء بالشكّ في البقاء في قبال اليقين بأصل الحدوث ، فهي منصبّة على الشكّ في البقاء مع اليقين بأصل الحدوث ، فلا تشمل قاعدة المقتضي التي هي منصبّة على اليقين بالمقتضي ـ بالكسر ـ مع الشكّ في المقتضى ـ بالفتح ـ ولا قاعدة اليقين التي هي منصبّة على الشكّ في وجود الشيء بعد اليقين بوجوده ، مع فرض وحدة المتعلّق وتأخّر الشكّ عن اليقين وانتقاض ذلك اليقين وزواله وتبدّله إلى الشكّ في نفس ما تعلّق به اليقين ، ومن الواضح أنّه لا جامع بين الشكّ في البقاء عند اليقين بأصل الحدوث ، وبين أحد الأمرين أو كليهما ، أعني اليقين بوجود المقتضي ـ بالكسر ـ والشكّ في وجود المقتضى ـ بالفتح ـ أو الشكّ في وجود الشيء بعد اليقين بوجوده ، كما أنّه لا جامع بين الأمرين المذكورين.

فقد اتّضح من ذلك كلّه أنّ قوله عليه‌السلام : « لا تنقض اليقين بالشكّ » لو خلّيت ونفسها لكانت منطبقة على مورد اختلاف اليقين والشكّ بحسب الزمان واتّحاد المتيقّن والمشكوك بحسبه انطباقاً حقيقياً ، غير محتاج إلى نحو من العناية والتسامح ، لكن صحاح زرارة قد طبّقت هذه القضية على عكس المورد ، وهو ما لو اتّحد اليقين والشكّ زماناً وكان زمان المتيقّن متقدّماً على زمان المشكوك ، الذي قد عرفت أنّ انطباق النقض فيه محتاج إلى العناية إمّا بتجريد المتعلّق عن الزمان فكأنّه نظر فيه إلى نفس الوضوء ورآه متيقّناً مشكوكاً ، ولابدّ حينئذ أن يكون أحدهما ناقضاً للآخر فقال لا تنقض اليقين بالشكّ ، وعبّر في بعض الروايات بالأمر بنقض الشكّ باليقين (١). لكنّك قد عرفت أنّ اختلاف المتعلّق

__________________

(١) وسائل الشيعة ٨ : ٢١٦ ـ ٢١٧ / أبواب الخلل في الصلاة ب ١٠ ح ٣.

٩٩

بحسب الزمان لا واقعية له ، وإنّما الواقع هو الاختلاف بينهما في جهة الحدوث والبقاء ، فلابدّ أن تكون العناية متوجّهة إلى ناحية البقاء بالغائها من ناحية الشكّ ، أو إلى دعوى وجود اليقين الادّعائي أو التقديري اللولائي متعلّقاً بجهة البقاء.

وأيّاً من هذه العنايات أخذنا بها تكون مانعة من شمول تلك القضية الواردة في ذلك المورد لقاعدة اليقين ، لما عرفت من عدم الاحتياج فيها إلى العناية ، ولا جامع بين ما يتوقّف على العناية وما لا يتوقّف.

أمّا باقي الأخبار فقد عرفت الكلام فيها ، وأنّها أجنبية أيضاً عن قاعدة اليقين ، هذا كلّه ، مضافاً إلى ما هو واضح من عدم سياق تلك الأخبار مساق التعبّد الصرف ، بل هي مسوقة مساق الامضاء لما جرت به الطريقة العقلائية ، ونحن لو رجعنا إلى طريقة العقلاء لم نجدهم يعتمدون على اليقين في موارد الشكّ الساري ، بل إنّما يعتمدون عليه في موارد الشكّ الطارئ ، ولا أقل من الشكّ في اعتمادهم على ذلك ، وهو كاف في الحكم بعدم الحجّية ، وهكذا الحال في ناحية قاعدة المقتضي.

ومن جملة تلك الأخبار قوله عليه‌السلام : « إذا شككت فابن على اليقين » (١) لو لم نحملها على الأخذ بالقدر المتيقّن وإلغاء المشكوك ، كما في الشكّ في عدد الركعات ، فيكون مرجعه إلى البناء على الأقل والتسليم عليه ، ويكمل لزوم الاحتياط بالاتيان بمحتمل النقصان منفصلاً بباقي أخبار الشكّ في عدد الركعات ، وحينئذ تكون مختصّة بباب الاستصحاب ، ولا دلالة لها على شيء من قاعدة اليقين ولا قاعدة المقتضي ، هذا ما كنّا حرّرناه سابقاً.

ولكن لا يخفى أنّ هذه الجملة الشريفة وهي قوله عليه‌السلام : « لا تنقض اليقين

__________________

(١) وسائل الشيعة ٨ : ٢١٢ / أبواب الخلل في الصلاة ب ٨ ح ٢.

١٠٠