أصول الفقه - ج ٩

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٩

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-82-9
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٠٢

اليقين السابق على ظنّ الاصابة ، سواء بقي على شكّه بعد الفحص أو حصل اليقين بالعدم ، فإنّ ذلك اليقين بعد أن زال بالشكّ الحاصل بعد الصلاة لا أثر له ، فلا يكون الاعتماد إلاّعلى قاعدة الاستصحاب بالأخذ باليقين السابق على ظنّ الاصابة ، وبناءً على ذلك تكون الرواية شاملة لما إذا لم يحصل له اليقين بعد الفحص ولما إذا حصل ، ومنحصرة بما إذا لم يحصل له اليقين بعد الفراغ ، وحينئذ يكون مورد تلك الإجماعات والروايات خارجاً عن مفاد الرواية ، وهذا لا يضرّ بأصل الاستدلال بالكبرى الذي تضمّنته الرواية ، أعني أنّ اليقين لا ينقضه الشكّ ، وإن كان أحد موردي الرواية وهو ما لو حصل له اليقين بعد الفحص غير محتاج إلى كبرى الاستصحاب ، فإنّ ذلك لا يضرّ بأصل الكبرى.

قوله في الحاشية : ومن الفروع المترتّبة على الوجهين الأخيرين ... الخ (١).

هذا الفرع ذكره شيخنا الأُستاذ قدس‌سره في الدورة الأخيرة وفي الدورة السابقة عليها. أمّا في الدورة السابقة فقد اقتصر فيها على الإشكال ، لكن أفاد قدس‌سره في الدورة الأخيرة ما ملخّصه على ما حرّرته عنه قدس‌سره (٢) : أنّه بناءً على أنّ المانع هو النجاسة المنجّزة لا يلزمه إلاّ إعادة الأُولى فقط ، إذ لا يتنجّز بالعلم الاجمالي إلاّما تعلّق به ذلك العلم. وبعبارة أُخرى : لا يتنجّز به إلاّ المعلوم بالتفصيل الذي هو ملاك منجّزية العلم الاجمالي ، وليس ذلك إلاّنجاسة أحدهما غير معلّم بعلامة خاصّة ، وهذا يصدق بأوّل وجود منه ، ويكون الآخر من قبيل الزائد على ما تعلّق

__________________

(١) فوائد الأُصول ( الهامش ) ٤ : ٣٤٤.

(٢) ينبغي ملاحظة التقرير المطبوع في صيدا ص ٣٦٧ و ٣٦٨ [ منه قدس‌سره ، راجع أجودالتقريرات ٤ : ٤٧ ـ ٤٩ ].

٦١

به العلم ، ويكون المرجع فيه هو قاعدة الطهارة.

ولا وجه لتوهّم وجوب إعادة الفرضين ، فإنّا وإن قلنا إنّ المانع هو النجاسة المنجّزة ، إلاّ أن ذلك لا يوجب إعادتهما معاً ، إذ لم يكن في البين ما يوجب تنجّز كلا النجاستين ، لما عرفت من أنّ ملاك منجّزية العلم الاجمالي هو ذلك العلم التفصيلي المتعلّق بالقدر المشترك ، ومن الواضح أنّ ذلك العلم إنّما تعلّق بنجاسة أحد الطرفين ، فلابدّ أن تكون نجاسة الآخر خارجة عن حيّز ذلك العلم إلخ (١).

قلت : يمكن أن يقال : إنّ نجاسة الآخر وإن لم تكن منجّزة بالعلم إلاّ أنه لم يكن في البين ما يوجب المعذورية منها ، لعدم إمكان الرجوع إلى قاعدة الطهارة في أطراف العلم الاجمالي ، وذلك كافٍ في التنجّز الذي هو استحقاق العقاب على المخالفة ، لأنّ الارتكاب كان بلا مبرّر على ما تقدّم نظيره في مسألة الفحص ، هذا كلّه بناءً على أنّ المانع هو النجاسة المنجّزة.

وأمّا بناءً على أنّ المانع هو إحراز النجاسة ، فكذلك على الظاهر يلزمه إعادتهما ، بناءً على كفاية الاحراز الاجمالي الموجب للاجتناب عن كلا الطرفين فيكون حاله حال ما لو قلنا إنّ المانع هو النجاسة الواقعية مع فرض العلم الاجمالي بها في أحد الطرفين ، فإنّ ارتكاب كلا الطرفين يوجب تنجّز نجاسة كلّ منهما على ما عرفت من الاكتفاء في لزوم العقاب والاعادة بعدم المعذورية.

وأمّا بناءً على أنّ الشرط هو إحراز الطهارة ، فعلى الظاهر أنّه لا إشكال في

__________________

(١) لكن قد يقال : إنّ الصلاة الثانية لم تكن واجدة للشرط الذي هو إحراز الطهارة ، فيلزم إعادتها.

وفيه : أنّ أصل فرض المسألة إنّما هو في عروض الغفلة بعد العلم وقد عرفت سقوط الشرطية في مقام الغفلة [ منه قدس‌سره ].

٦٢

لزوم إعادتهما معاً.

ثمّ لا يخفى أنّ الأولى في الفرع المذكور هو إسقاط قوله : ثمّ غفل فصلّى (١) ، لأنّ الظاهر من الغفلة هو سقوط تأثير العلم الاجمالي ، إلاّ أن يراد بها ما لا يكون موجباً لخروج العلم عن كونه علماً وجدانياً ، وفي تحقّق هذا الفرض من الغفلة إشكال ، فالأولى إسقاطها وإبدالها بقوله : ثمّ صلّى وتأتّت منه نيّة القربة. ولعلّ نظره في ذلك إلى مسألة العلم وطروّ النسيان ثمّ بعد الفراغ من الصلاة يتذكّر المعلوم الاجمالي ، فراجع ما حرّرناه على صفحة ٣١ من الجزء الأوّل من هذا الكتاب (٢).

قوله : أمّا على الوجه الأوّل وهو كون العلم بالطهارة شرطاً لصحّة الصلاة ، فالتعليل بالاستصحاب ـ إلى قوله ـ يتوقّف على أن يكون التعليل لبيان كبرى كلّية ، وهي عدم وجوب الاعادة على كلّ من كان محرزاً للطهارة ... الخ (٣).

لا يخفى أنّ كلاً من هذه الوجوه الثلاثة راجع إلى أنّ تعليل عدم الاعادة بقوله عليه‌السلام : « لأنّك كنت على يقين » الخ (٤) من قبيل التعليل بصغرى لكبرى مطوية ، غايته أنّه بناءً على كون الشرط هو إحراز الطهارة ، تكون الصغرى أنت محرز للطهارة بالاستصحاب ، وتكون الكبرى المطوية هي أنّ كلّ محرز للطهارة

__________________

(١) ونصّه في هامش فوائد الأُصول ٤ : ٣٤٤ هكذا : « ثمّ غفل المكلّف عن ذلك وصلّى ».

(٢) راجع المجلّد السادس من هذا الكتاب الصفحة : ٢٣٧ وما بعدها.

(٣) فوائد الأُصول ٤ : ٣٤٥ ـ ٣٤٦.

(٤) وسائل الشيعة ٣ : ٤٧٧ / أبواب النجاسات ب ٤١ ح ١.

٦٣

لا يجب عليه الاعادة ، وبناءً على أنّ المانع هو النجاسة المحرزة تكون الصغرى إنّك لم تحرز النجاسة ، وتكون الكبرى المطوية أنّ كلّ من لم يحرز النجاسة لم تجب عليه الاعادة ، وبناءً على أنّ المانع هي النجاسة المنجّزة تكون الصغرى أنّك لم تتنجّز في حقّك النجاسة ، لأنّك مستصحب الطهارة ، وكلّ من لم تتنجّز في حقّه النجاسة لا تجب عليه الاعادة.

نعم ، بناءً على الأوّل تكون الصغرى هي نفس الاستصحاب ، وكذلك بناءً على الثالث ، فإنّ الاستصحاب يكون نافياً للتنجّز وموجباً لالغاء الشكّ في النجاسة. وأمّا بناءً على الثاني فالمورد في نفسه كافٍ في تحقّق الصغرى وهي عدم إحراز النجاسة ، وغاية الفائدة في استصحاب الطهارة هو أنّ إحراز الطهارة يكون ملازماً لنفي نقيضه وهو إحراز النجاسة ، فكأنّه إنّما استند في الحكم بعدم الاعادة إلى استصحاب الطهارة لأجل أنّ إحراز الطهارة به يكون نافياً لنقيضه الموجب للاعادة وهو إحراز النجاسة.

وفيه تأمّل ، لأنّ المانعية حينئذ مقطوعة العدم عند عدم إحراز النجاسة ، فلا مورد فيه لاستصحاب الطهارة ، بل يكون ذلك من قبيل الاحراز التعبّدي لما هو محرز بالوجدان.

ثمّ لا يخفى أنّ في كون تنجّز النجاسة هو المانع من صحّة الصلاة إشكالاً ، وهو أنّ المراد بتنجّز النجاسة ليس هو تنجّز سائر آثارها من حرمة الأكل والشرب ونحو ذلك ، إذ لا مدخلية لتلك الآثار في باب الصلاة ، بل المراد هو تنجّز خصوص هذا الأثر وهو المانعية من صحّة الصلاة ، وحينئذ لا يعقل تقييد المانعية بتنجّز نفسها إلاّبنحو من التقييد غير اللحاظي بمثل متمّم الجعل ونحوه ممّا يصحّح أخذ العلم بالحكم قيداً فيه ، بل هذا أشكل من أخذ العلم قيداً ، بل هو من

٦٤

قبيل أخذ تحقّق الحكم قيداً فيه ، وهو محال.

ثمّ الظاهر من أخذ التنجيز في المانعية هو أنّه على نحو جزء الموضوع ، فلا أثر للنجاسة الواقعية في إبطال الصلاة إذا لم تكن منجّزة ، كما أنّه لو كان في البين منجّز للنجاسة ولم تكن النجاسة موجودة في الواقع وتأتّت منه نيّة القربة ، كما لو صلّى صاحب الثوبين المعلوم نجاسة أحدهما وبعد فراغه من الأوّل ظهر أنّه هو الطاهر ، كانت صلاته صحيحة أيضاً. نعم لو أخذنا التنجّز المذكور تمام الموضوع لكانت الصلاة المذكورة باطلة. وهكذا الحال في أخذ إحراز النجاسة مانعاً.

أمّا أخذ إحراز الطهارة شرطاً فلا يتمّ فيه كونه جزء الموضوع ، لأنّ لازمه هو بطلان الصلاة في صورة إحراز الطهارة مع تبيّن الخلاف بعد ذلك ، وهو مورد الرواية الشريفة ، كما أنّ لازمه هو البطلان أيضاً في صورة عدم إحراز الطهارة مع تبيّن تحقّقها واقعاً ، كما لو غفل وصلّى في النجس غافلاً عن طهارته ونجاسته ، أو كان قد صلّى في أحد طرفي العلم الاجمالي وتأتّت منه نيّة القربة ، بل لو صلّى معتمداً على قاعدة الطهارة في الشبهة البدوية وقد صادف الواقع ، لم تصحّ صلاته لعدم تحقّق الاحراز بناءً على أنّ قاعدة الطهارة ليست من الاحرازيات.

أمّا أخذه تمام الموضوع فهو وإن لم يتوجّه إليه الإشكال في صورة ما لو تحقّق الاحراز ولم يكن مطابقاً للواقع ، إلاّ أنه يتوجّه إليه الإشكال الثاني ، وتكون النتيجة أنّ الشرط هو الأعمّ من إحراز الطهارة وإن لم تكن في الواقع ، أو نفس الطهارة الواقعية وإن لم تكن حين الصلاة محرزة.

وخلاصة المبحث أو تفصيله : هو أنّه ينبغي الجزم ببطلان الوجه الثاني وهو كون المانع إحراز النجاسة ، لما عرفت من أنّ لازمه القطع بعدم المانع بمجرّد عدم العلم بالنجاسة والشكّ ، فلا معنى للرجوع إلى استصحاب الطهارة كما في

٦٥

الرواية أو إلى قاعدتها ، بل يكون ذلك من قبيل الاحراز التعبّدي لما هو محرز وجداناً.

كما أنّه ينبغي الجزم ببطلان الوجه الثالث ، وهو كون المانع هو النجاسة المنجّزة ، لما عرفت في أخذ إحراز النجاسة مانعاً ، فإنّ المانع لو كان هو تنجّز النجاسة لكان مقطوعاً بعدمه في مورد الرواية ، فلا يبقى في موردها محل للاستصحاب ، هذا. مضافاً إلى ما فيه من محالية تقيّد الحكم بتنجّزه ، إذ لا معنى لتنجّز النجاسة إلاّتنجّز آثارها ، والمفروض فيما نحن فيه أنّه لا أثر لنجاسة الثوب إلاّ المانعية ، فلو كانت المانعية موقوفة على التنجّز لكان ذلك عبارة أُخرى عن توقّف الحكم على تنجّزه ، وذلك محال لا يصلحه التقييد الذاتي ولا اللحاظي ولا التقييد بمتمّم الجعل ونحو ذلك من أنحاء التقييد.

فلم يبق إلاّ الوجه الأوّل وهو أخذ الشرط إحراز الطهارة ، وقد عرفت أنّه لابدّ أن يكون على نحو تمام الموضوع ، ولازمه هو ما عرفت من بطلان الصلاة عند الغفلة ، وقد وردت الرواية بصحّتها ، كما في من صلّى في عذرة إنسان أو سنّور وهو لا يعلم (١) ، وعدم جواز الاعتماد على قاعدة الطهارة لعدم كونها من الأُصول الاحرازية.

ولو سلّمنا إصلاح الأوّل بما أُفيد من أنّ شرطية الاحراز مختصّة بحال الالتفات ، وإصلاح الثاني بما أُفيد من تعميم الطهارة إلى الطهارة الواقعية التي يؤدّي إليها الاستصحاب والطهارة الظاهرية التي تؤدّي إليها قاعدة الطهارة ، فلا يخفى ما فيه ، مضافاً إلى التكلّف بل عدم الصحّة خصوصاً الثاني ، أنّ هناك نقضاً آخر وهو ما لو صلّى صاحب الثوبين المعلوم إجمالاً نجاسة أحدهما الباني على

__________________

(١) وسائل الشيعة ٣ : ٤٧٥ / أبواب النجاسات ب ٤٠ ح ٥.

٦٦

تكرار الصلاة فيهما ، لكنّه بعد الفراغ من الأوّل تبيّن أنّ الطاهر هو هذا الذي صلّى فيه ، وأنّ ذلك الآخر هو النجس ، فإنّ مقتضى كون إحراز الطهارة شرطاً هو بطلان الصلاة المفروضة ، هذا. مضافاً إلى أنّ الواقع إذا لم يترتّب عليه [ أثر ] كيف يمكن التعبّد ببقائه في استصحاب الطهارة ، وهو إشكال قيام الأصل مقام العلم المأخوذ في الموضوع على نحو تمام الموضوع ، فراجع وتأمّل.

وربما يقال : إنّ الشرط هو الطهارة الواقعية ، لكن عند خطأ القطع أو الأصل القائم على الطهارة يكون الشرط هو الاحراز الأعمّ من التعبّدي والوجداني ، أو نقول : بسقوط شرطية الطهارة عند خطأ إحرازها أو عند الغفلة ، لكنّه لا يخلو عن شبهة تقييد اشتراط الطهارة الواقعية بصورة اتّفاق وجودها.

ويمكن أن يقال : إنّ الشرط هو الأعمّ من الطهارة الواقعية وإحرازها ، ولابدّ أن يكون المراد باحراز الطهارة الأعمّ من إحرازها الوجداني أو إحرازها بالاستصحاب أو بقاعدة الطهارة. وإن شئت فقل : إنّ الشرط هو الأعمّ من الطهارة الواقعية أو إحرازها أو الطهارة الظاهرية.

أمّا الغفلة فلو خلّينا نحن وتلك الرواية فلا يبعد القول بعدم دلالتها على الغفلة ، لأنّ الظاهر هو القطع بعدم النجاسة واتّفق في الواقع إحدى تلك النجاسات.

ولو سلّمنا دلالتها على الاغتفار حال الغفلة لقلنا بسقوط الشرطية حالها ، فيكون شرطية الأعمّ من الطهارة الواقعية أو إحرازها مختصّة بحال الالتفات.

وما يقال : من عدم الجامع إنّما هو إشكال على ما لو عبّر عن ذلك الشرط الأعمّ بعبارة واحدة ، أمّا إذا كان ذلك بعبارات مختلفة من مجموع روايات متعدّدة فأيّ بأس في القول بأنّ المستفاد من مجموع تلك الروايات هو هذا المعنى ، لكنّه

٦٧

لا يخلو من خدشة في وجه قيام استصحاب الطهارة أو قاعدتها ، فإنّ الشرط إذا كان هو الطهارة الواقعية كان لقيامها معنى محصّل ، وهو لزوم ترتيب آثار الطهارة الواقعية ، أمّا إذا كان الشرط هو الأعمّ فأيّ معنى محصّل يترتّب على قيام الاستصحاب أو قاعدة الطهارة.

وقد يقال : إنّ الشرط هو الطهارة الواقعية ليس إلاّ ، لكن لو اتّفق انخرام هذا الشرط لجهل أو خطأ أصل أو غفلة ، يكون الفاقد في ذلك الحال وافياً بمقدار من المصلحة ، وموجباً لعدم التمكّن من المصلحة الباقية ، ويكون إيجابه لعدم التمكّن من استيفاء مصلحة الواجد لذلك الشرط مختصّاً بتلك الأحوال ، أعني أحوال الجهل العذري.

لكن يتوجّه عليه : أنّ وفاء الفاقد في ذلك الحال بمصلحة نفسه إذا لم يكن متوقّفاً على الشرط كان مرجعه إلى عدم الشرطية في ذلك الحال ، وإن كان متوقّفاً عليه كان مرجعه إلى أنّ الفاقد للشرط في ذلك الحال خال من المصلحة ، وأنّه أجنبي عن المأمور به ، غايته أنّه بوجوده يمنع من التمكّن من استيفاء مصلحة المأمور به ، على حذو ما تقدّم تفصيله في مسألة الجهر والاخفات (١). ولا يخفى أنّ هذا البحث راجع إلى ما ذكره بعنوان تذييل (٢) فنحن نؤخّر الكلام فيه إلى ذلك البحث (٣)

__________________

(١) راجع المجلّد الثامن الصفحة : ٥٥٠ وما بعدها.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٣٥٣ وما بعدها.

(٣) [ وجدنا أوراقاً منفصلة ألحقها المصنّف قدس‌سره بهذه الحاشية ، وقد ارتأينا إدراجها في الهامش ، وإليك نصّ ما في الأوراق : ]

٦٨

__________________

تلخّص : أنّه لو قلنا إنّ المانع هو إحراز النجاسة يلزم عليه القطع بصحّة الصلاة بمجرّد الشكّ في النجاسة ، ولا يحتاج إلى استصحاب الطهارة كما هو مورد الرواية ولا إلى قاعدة الطهارة ، بل يكون كلّ ذلك من قبيل الاحراز التعبّدي لما هو محرز بالوجدان.

ولو قلنا إنّ المانع تنجّز النجاسة توجّه عليه أنّه ليس المراد بها إلاّتنجّز أثرها ، وليس المراد بالأثر إلاّ المنع من الصلاة فيه دون أكله وشربه مثلاً ، وحينئذ يلزم أن يكون تنجّز المانعية موضوعاً لنفس المانعية ، وهذا لا يصلحه التقيّد الذاتي ولا متمّم الجعل.

ولو قلنا إنّ الشرط هو إحراز الطهارة لزمه بطلان الصلاة عند الغفلة ، وعدم الاعتماد على قاعدة الطهارة لعدم كونها من الأُصول الاحرازية ، وأنّه لا يصحّ الاحتياط لذي الثوبين بالتكرار ، وأنّه لو صلّى في المشكوك الذي لم تجر فيه قاعدة الطهارة ولا استصحابها وتبيّن أنّه طاهر ، كانت صلاته باطلة لعدم الاحراز من أوّل الدخول.

ولو أصلحناه بأن دفعنا الأوّل بأنّ هذا الشرط مقيّد بحال الالتفات إن كانت الرواية وهي قوله عليه‌السلام : « وهو لا يعلم » شاملة لحال الغفلة ، ودفعنا البواقي بأنّ الشرط هو الأعمّ من الطهارة الواقعية وإن لم تكن محرزة أو إحرازها بالعلم أو الاستصحاب وإن لم تكن موجودة واقعاً أو الطهارة الظاهرية بقاعدة الطهارة ، لبقي عليه إشكال قيام الاستصحاب مقام العلم المأخوذ تمام الموضوع في أنّه لا أثر للواقع ، فكيف يقوم الاستصحاب مقامه ، فتأمّل.

ثمّ بعد فرض أنّ المحرز للطهارة لا يعيد وإن انكشف أنّه صلّى مع النجاسة ، يكون محصّل قول مدّعي لزوم الاعادة في المقام هو أنّي تلزمني [ الاعادة ] لأنّي كنت غير محرز ، ومرجع كونه غير محرز إلى إنكار الاستصحاب ، ومحصّل إنكار الاستصحاب هو جواز نقض اليقين بالشكّ ، وحينئذ تكون الاعادة سبباً للقول بأنّه غير محرز ، والقول بأنّه غير محرز سبب للقول بأنّ الاستصحاب الذي كان جارياً في حقّه ليس بحجّة ، والقول بأنّه ليس بحجّة سبب للقول بجواز نقض اليقين بالشكّ ، فيكون القول

٦٩

__________________

بلزوم الاعادة في المقام سبباً للقول بجواز نقض اليقين بالشكّ ، وبهذا التقريب ينطبق على الاعادة أنّها نقض لليقين بالشكّ ، كلّ ذلك بعد فرض المفروغية عن أنّ المحرز لا يعيد وأنّ المستصحب محرز ، ليكون طريق القول بالاعادة في المقام منحصراً بانكار حجّية الاستصحاب ، الذي هو عبارة عن جواز نقض اليقين بالشكّ ، فلاحظ وتأمّل.

هذا ما كنّا نشكل به وبنحوه سابقاً ، ولكن في هذه الدورة ( ربيع الثاني ٢٤ سنة ١٣٨٠ ) حرّرنا ما يلي : وهو أنّه يمكن أن يختار الوجه الأوّل أعني كون الشرط هو الأعمّ من إحراز الطهارة بنحو تمام الموضوع أو وجودها الواقعي ، فيتّضح الوجه في الصحّة فيما لو أقدم محرزاً للطهارة ثمّ انكشف الخلاف ، وفيما لو أقدم صاحب الثوبين على التكرار وعند فراغه من الأوّل ظهر أنّه الطاهر ، وفي الحقيقة أنّ الشرط بالدرجة الأُولى هو الطهارة الواقعية ، وهو المصحّح لاجراء الاستصحاب في إحرازها ، لكن بعد اجراء الاستصحاب وانكشاف الخلاف يكون ذلك من باب انكشاف الخطأ في الأمر الظاهري ، ويكون مرجع الدليل في خصوص المقام على كونه مجزياً إلى قناعة الشارع بالبدل ، أو من باب كونه وافياً بمقدار من المصلحة على وجه لا يمكن استيفاء الباقي ، وهذا جارٍ حتّى لو لم يكن في البين أمر ظاهري كما لو قطع بالطهارة ثمّ انكشف الخلاف ، بل يجري في مورد الغفلة وإن لم يكن إحراز للطهارة بالأمر الظاهري أو بالقطع ، كما في رواية من كان على ثوبه [ نجاسة ] وهو لا يعلم ، ففي مقام التعبير يصحّ لنا أن نقول : إنّ الشرط ـ يعني المصحّح ـ هو الأعمّ من الطهارة الواقعية وإن لم يكن إحراز ، أو تحقّق الاحراز أو الغفلة وإن لم يكن طهارة واقعية ، ذلك إن قلنا إنّ مورد الرواية المشار إليها هو الغفلة ، وإلاّ فلا حاجة إلى إدخال الغفلة بناءً على أنّ موردها هو القطع بالطهارة.

كما أنّه يمكن أن يختار الوجه الثاني ، وهو كون المانع إحراز النجاسة أو تنجّزها ، ويكون ذلك على نحو جزء الموضوع ، فلا أثر للنجاسة الواقعية إذا لم تكن محرزة ولا

٧٠

__________________

منجّزة كما في مثال انكشاف الخلاف ، كما أنّه لا أثر للتنجّز إذا لم يكن في البين نجاسة واقعية ، كما في مثال أحد ثوبي العلم الاجمالي ، وكما لو صلّى مستصحب النجاسة وتأتّت منه القربة ثمّ ظهر أنّه طاهر ، وبعد أن تبيّن أنّ إحراز النجاسة أو تنجّزها جزء الموضوع ، وأنّ الجزء الآخر هو النجاسة الواقعية ، يمكن إجراء استصحاب النجاسة باعتبار كونها جزء الموضوع ، كما يمكن إجراء استصحاب الطهارة باعتبار طرده لما هو جزء الموضوع ، الذي هو النجاسة الواقعية ، وحينئذ يصحّح التعليل في الرواية الشريفة.

وإن أبيت عن قبول ذلك ، وأنّ مجرّد طرد استصحاب الطهارة لاحتمال النجاسة لا يخلو عن نحو من الأصل المثبت ، فقل إنّ اليقين بالطهارة قبل ظنّ الاصابة يلازمه اليقين بعدم النجاسة ، فنحن نجعل مركز الاستصحاب هو عدم النجاسة المتيقّن سابقاً ، غايته أنّه في مقام التعبير يصحّ أن نعبّر عن اليقين بعدم النجاسة باليقين بالطهارة ، كما عبّرت الرواية الشريفة بقوله عليه‌السلام : « لأنّك كنت على يقين من طهارتك » حيث إنّه كناية عن لازمه وهو اليقين بعدم النجاسة ، وهذا المعنى جارٍ بناءً على الأوّل وهو كون الطهارة شرطاً ، فإنّه لو كان متيقّن النجاسة لا يتوجّه عليه أنّه لا مورد فيه لاستصحاب النجاسة لعدم الأثر لها ، وحينئذ يكون المرجع قاعدة الطهارة ، ولا يخفى بشاعته وعدم استقامته في المقام ، وذلك لإمكان القول بأنّ المتيقّن بالنجاسة سابقاً يلازمه اليقين بعدم الطهارة ، وحينئذ يكون هو ـ أعني عدم الطهارة ـ هو المستصحب لا النجاسة.

ويمكن أن ينزّل خبر [ وسائل الشيعة ٣ : ٤٢٨ / أبواب النجاسات ب ١٨ ح ١ ] غسل الجارية الثوب والحكم ببطلان الصلاة فيه على هذا القبيل ، أعني استصحاب النجاسة الذي هو عين استصحاب عدم الطهارة ، بناءً على أنّ فعل الجارية أو إخبارها غير نافع في رفع اليد عن الاستصحاب المذكور ، لعدم الاعتماد عليها ، خصوصاً إذا فرضنا عدم

٧١

ثمّ لا يخفى أنّ أصل الإشكال كان في توجيه ظاهر الرواية من تطبيق النقض على الاعادة ، ومن الواضح أنّ كلاً من هذه الوجوه الثلاثة ـ أعني كون الشرط هو إحراز الطهارة ، أو أنّ المانع هو إحراز النجاسة ، أو تنجّز النجاسة ـ بعد فرض جريان استصحاب الطهارة ، إنّما يصحّح عدم وجوب الاعادة ، وليس شيء منها موجباً لانطباق النقض على الاعادة إلاّبتكلّف بعيد ، وهو أنّه بعد الالتزام بأحد هذه الوجوه يكون مرجع الاعادة إلى عدم حجّية الاستصحاب في ظرفه ، إذ لو كان حجّة في ظرفه لم يكن محل للاعادة ، فإذا قلنا بلزوم الاعادة مع قولنا بأحد الوجوه المذكورة ، كان ذلك عبارة أُخرى عن عدم حجّية الاستصحاب ، وهو عبارة أُخرى عن جواز نقض اليقين بالشكّ.

ولا يخفى ما فيه من التكلّف ، بل عدم انطباق النقض حقيقة على الاعادة هذا. مضافاً إلى أنّ الظاهر من سؤال السائل هو أنّه كان جاهلاً بحجّية الاستصحاب ، فكيف يصحّ الحكم بصحّة صلاته الواقعة في ظرف جهله بحجّية الاستصحاب الملازم لعدم استناده إليه ، وقد مرّ فيما سبق من المباحث أنّ الحكم

__________________

علمها بأنّ النجاسة منيّ ، وحينئذ يكون إقدام السائل على الصلاة لا من جهة القطع بحصول الطهارة ، بل من جهة تخيّله أنّ أصالة الصحّة جارية في غسل الجارية ، أو من جهة تخيّله أنّ إخبارها حجّة ، والإمام عليه‌السلام أمره بالاعادة لعدم حجّية ذلك وتخطئته في تخيّل ذلك ، وبيان أنّ الحجّة عليه هو استصحاب النجاسة ، الذي عرفت أنّه عبارة عن استصحاب عدم الطهارة.

وحيث انتهى البحث إلى هنا فلنا أن نرجّح الأوّل على الوجه الثاني ، باعتبار ما عرفت من كونه مستلزماً للتسامح في الرواية بالتعبير عن عدم النجاسة بالطهارة ، بخلاف الوجه الأوّل فإنّه لا يحتاج إلى مثل هذا التسامح في لفظ الرواية الشريفة ، فلاحظ وتأمّل.

٧٢

الظاهري لا يؤثّر في المعذورية ما لم يكن المكلّف مستنداً إليه في ظرفه ، اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ زرارة لم يكن جاهلاً بحجّية الاستصحاب ، وإنّما كان جاهلاً باقتضائه عدم الاعادة مع فرض تبيّن وقوع الصلاة مع النجاسة.

ولكن لا يخفى أنّ فرض كون زرارة عالماً بحجّية الاستصحاب ، وأنّه إنّما كان جاهلاً باقتضائه عدم الاعادة ، لا يناسب تعليل عدم الاعادة بنفس الاستصحاب بل كان المناسب أو الأنسب تعليل ذلك بمثل أنّ المحرز لا يعيد ونحو ذلك من الكبريات. والحاصل : أنّ الاقتصار في التعليل على الصغرى وهي الاستصحاب ، وجعل الكبرى مطوية ، إنّما يناسب الجهل بتلك الصغرى مع مسلّمية الكبرى ، ولو كان الأمر بالعكس ، بحيث كانت الصغرى مسلّمة وكان محلّ الجهل هي الكبرى ، فالمناسب هو ذكر الكبرى لها مع طيّ الصغرى أو مع ذكرهما.

وهذا الإشكال ـ أعني الإشكال في تطبيق النقض على الاعادة ـ إنّما جاء من ناحية حمل قوله : « فصلّيت فرأيت فيه » على أنّ المرئي هو النجاسة السابقة الملازم لعدم إجراء الاستصحاب فعلاً ، بل غايته أنّ الاستصحاب كان جارياً في حقّه عند دخوله في الصلاة.

ولم أجد نسخة مصحّحة ، ففي بعض النسخ : « فصلّيت فيه فرأيت فيه » وبناءً على هذه النسخة يمكن حمل المرئي على مجرّد النجاسة المرئية بعد الصلاة ، المردّدة بين كونها من السابق أو أنّها جديدة ، وحينئذ فيمكن في هذا الحال إجراء الاستصحاب في حقّه بعد الصلاة ، بمعنى أنّه قبل ظنّ الاصابة كان ثوبه طاهراً ، والآن بعد الصلاة لمّا رأى نجاسة على ثوبه فشكّ في كونها من

٧٣

السابق أو من الآن ، فهو الآن يستصحب الطهارة التي كانت قبل ظنّ الاصابة إلى حين رؤيته لتلك النجاسة ، ولا يعيد صلاته إلاّمن جهة احتمال كون تلك النجاسة كانت من حين الدخول في الصلاة ، فيتوجّه المنع من الاعادة لأنّها نقض لليقين بالشكّ ، سواء كان قبل الصلاة قد حصل له القطع بعدم النجاسة أو كان قد بقي على شكّه ، إذ ليس المراد من اليقين اليقين بالعدم الحاصل قبل الصلاة ليكون من قاعدة اليقين ، بل المراد من اليقين بالطهارة هو اليقين بها الحاصل قبل ظنّ الاصابة وهو فعلاً موجود لم يسر الشكّ إليه.

لكن في بعض النسخ : « فصلّيت فرأيته فيه » وهو ظاهر في أنّ المرئي هو النجاسة السابقة ، إلاّ أن هذه النسخة غير معتبرة ، ومع ذلك يمكن التصرّف فيه برجوع الضمير إلى مطلق الدم أو المني ، كما في قوله عليه‌السلام : « وإن لم تشكّ ثمّ رأيته رطباً » (١) فإنّ المراد هو مطلق الدم المحتمل كونه هو السابق أو كونه جديداً (٢) ولكن لا يخفى بُعد ذلك في قوله : « فصلّيت فيه فرأيته فيه ».

فالأولى الالتزام بكون المرئي هو النجاسة السابقة ، وأنّ المراد من الاستصحاب هو الاستصحاب السابق ، ويقال : إنّ الرواية الشريفة ليست صريحة في تطبيق النقض على الاعادة ، بل هي مسوقة لبيان أنّك كنت مستصحب الطهارة ، فقوله عليه‌السلام : « وليس ينبغي لك » الخ ، ليس المقصود به أنّك الآن ليس ينبغي لك أن تنقض اليقين الخ ، كي يكون النقض منطبقاً على الاعادة ، بل

__________________

(١) وسائل الشيعة ٣ : ٤٨٢ ـ ٤٨٣ / أبواب النجاسات ب ٤٤ ح ١.

(٢) وقد نقل الآشتياني عن الشيخ قدس‌سره ترجيحه للوجه الثاني [ بحر الفوائد ٣ : ٣١ ] لكن الظاهر من كلامه هو أنّ النسخة « فرأيت فيه » [ منه قدس‌سره ].

٧٤

المقصود أنّك حال دخولك في الصلاة كنت متيقّناً بالطهارة السابقة وشاكّاً في بقائها ، وكنت بحالة لا ينبغي لك أن تنقض ذلك اليقين بذلك الشكّ ، ومن كانت حاله عند الدخول في الصلاة كذلك ، لم يجب عليه الاعادة بعد الفراغ وانكشاف [ الخلاف ] ، إمّا لكونه واجداً للشرط وهو إحراز الطهارة ، أو لأنّه فاقد للمانع وهو إحراز النجاسة أو تنجّزها ، فيكون قوله عليه‌السلام : « وليس ينبغي لك » داخلاً في ضمن قوله : « كنت » فلا دخل له بانطباق النقض على الاعادة.

وبالجملة : أنّ الرواية الشريفة لا تعرض لها لأزيد من تعليل عدم الاعادة بأنّك كنت عند الدخول مستصحب الطهارة ، وقوله عليه‌السلام : « لأنّك كنت » وقوله عليه‌السلام : « وليس ينبغي لك » كلّ هذه الجمل مسوقة لبيان تحقّق الاستصحاب في حقّه قبل الدخول في الصلاة ، فيكون الحاصل هو التعليل بصغرى لكبرى مطوية ، وحاصله : أنّك كنت مستصحب الطهارة ، ومن الواضح أنّ مستصحب الطهارة لا يعيد لو انكشف الخلاف.

نعم ، يبقى الكلام في توجيه الحكم بأنّ مستصحب الطهارة لا يعيد توجيهاً علمياً لا دخل له بأصل الحكم لكونه معلوماً ، وبأيّ شيء وجّهنا الحكم المزبور لم يكن له دخل في فهم المراد من هذه الرواية الشريفة.

قوله : فعلى الأوّل يجب نقض الصلاة وإعادتها ... الخ (١).

المراد من الأوّل هو ما لو علم بالنجاسة ولم يعيّن موضعها ثمّ رآها في أثناء الصلاة ، فإنّه تجب فيه الاعادة سواء رآها في الأثناء أو أنّه لم يرها حتّى فرغ وذلك للعلم الاجمالي بنجاسة ثوبه.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٣٥٣.

٧٥

قوله : وعلى الثالث يجب نقض الصلاة أيضاً واستئنافها بعد إزالة النجاسة. وهذا الفرض وإن لم يكن مذكوراً في الرواية صريحاً ، إلاّ أنه يستفاد منها ذلك ، لأنّ ما حكم فيها بعدم نقض الصلاة ... الخ (١).

الظاهر أنّه يحمل قول السائل في قوله : « قلت : إن رأيته في ثوبي وأنا في الصلاة » (٢) على ما إذا تقدّم العلم بالنجاسة ، فيكون دليلاً على الحكم الأوّل دون الثالث ، ولأجل ذلك احتاج في الحكم الثالث إلى الاستفادة المذكورة من قوله عليه‌السلام : « لأنّك لا تدري لعلّه شيء أُوقع عليك » الخ ، وهذه الاستفادة وإن كانت صحيحة ، إلاّ أن قول السائل : « قلت : إن رأيته في ثوبي وأنا في الصلاة » الخ ، لا وجه لحمله على ما إذا تقدّم العلم ، لعدم القرينة على ذلك ، فإنّ قوله : « قلت : فإنّي قد علمت أنّه أصابه » الخ ، لا يصلح لذلك لانقطاعه بقوله : « قلت : هل عليَّ إن شككت » الخ ، وحينئذ فيكون قوله بعده « قلت : إن رأيته في ثوبي وأنا في الصلاة » الخ ، متعيّناً للحمل على المسبوقية بالشكّ ، خصوصاً مع ضمّ قوله عليه‌السلام : « تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه » الخ ، لأنّ المراد هو الشكّ في أصل تنجّس الثوب بقرينة قوله عليه‌السلام : « وإن لم تشكّ » فإنّ المراد به القطع بعدم النجاسة.

وكيف كان ، فإنّ هذا الحكم وهو لزوم الاعادة فيما لو رأى في أثناء الصلاة نجاسة يعلم أنّها كانت من السابق مع فرض عدم العلم بها عند الدخول في الصلاة محلّ خلاف ، والمشهور هو الصحّة مع إمكان التبديل أو التطهّر في الأثناء ، وهو

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٣٥٣.

(٢) وسائل الشيعة ٣ : ٤٨٢ و ٤٦٦ / أبواب النجاسات ب ٤٤ ح ١ وب ٣٧ ح ١.

٧٦

المختار لشيخنا قدس‌سره فراجع التقرير المطبوع في صيدا ص ٣٦٢ (١) وراجع حاشية العروة (٢).

ثمّ لا يخفى أنّ قوله عليه‌السلام في آخر هذه الرواية : « فليس ينبغي » الخ من أدلّة الاستصحاب أيضاً ، بناءً على ما هو الظاهر منها من كون المراد من اليقين هو اليقين السابق على احتمال تنجّس الثوب ، لا اليقين الحاصل بعد الفحص ليكون من قبيل قاعدة اليقين. والحاصل : أنّك كنت طاهر الثوب قبل حدوث ذلك الاحتمال ، فيلزم البقاء على ذلك اليقين إلى حين رؤيتك النجاسة. وما أدري لِمَ [ لم ] يتعرّض الأُستاذ قدس‌سره لبيان الاستدلال بهذه الفقرة الشريفة.

قوله : وللقوم في الجمع بين الأدلّة في هذه الموارد مشارب ، الأوّل : هو أن يكون العلم بموضوع الشرط له دخل في الاشتراط واقعاً ، فالشرطية الواقعية تدور مدار العلم بالموضوع ، فلو لم يعلم بنجاسة الثوب ... الخ (٣).

لا يخفى أنّ ما تقدّم عنه من الوجوه الثلاثة ، أعني كون الشرط هو إحراز الطهارة ، أو كون المانع هو إحراز النجاسة أو تنجّزها ، هو عين هذا المبحث المعبّر عنه بالتذييل.

ثمّ لا يخفى أنّ أخذ العلم بالنجاسة شرطاً في مانعيتها له صورة في الجملة وإن كان فيه ما فيه ، إلاّ أن أخذ العلم بالنجاسة شرطاً في شرطية الطهارة غير معقول

__________________

(١) أجود التقريرات ٤ : ٣٩.

(٢) العروة الوثقى ( مع تعليقات عدّة من الفقهاء ) ١ : ١٩٧ ـ ١٩٨ فصل : الصلاة في النجس.

(٣) فوائد الأُصول ٤ : ٣٥٤.

٧٧

بل غير متصوّر ، إذ كيف نتصوّر أنّه عند العلم بنجاسة هذا الثوب المعيّن الذي صلّى فيه المكلّف تكون طهارته شرطاً في صحّة الصلاة. أمّا لو كان المنظور إليه هو الثوب قبل الصلاة فيه ، فإن أُريد أنّ العلم بنجاسته يكون شرطاً في اشتراط كلّية الطهارة في لباس المصلّي فهو غريب ، وإن أُريد أنّ العلم بنجاسته يكون شرطاً في اشتراط طهارة نفس ذلك الثوب في صحّة الصلاة فيه فهو أغرب.

وعلى كلّ حال ، فقد عرفت فيما تقدّم ما يرد على هذا الوجه من أنّه بناءً عليه لا يمكن أن يبقى محل لجريان استصحاب الطهارة أو لجريان قاعدة الطهارة ، بل يكون إجراء الأُصول في ذلك من قبيل الاحراز التعبّدي لما هو محرز بالوجدان. كما أنّه لو أغضينا النظر عن ذلك ـ أعني لزوم الاحراز التعبّدي لما هو محرز بالوجدان ـ لتوجّه عليه ما أُفيد هنا من أنّه خلاف مبنى الفقهاء من إجرائهم هذه الأُصول عند الشكّ في النجاسة.

وأيضاً يرد عليه ما أُفيد هنا من أنّ مقتضاه صحّة الصلاة في أحد أطراف الشبهة المحصورة ، لكن لا داعي لتقييده بالغفلة ، لإمكان التخلّص من ناحية قصد القربة بالبناء على التكرار ، فإذا جاء المكلّف بالأُولى نحكم بصحّة صلاته ، لعدم إحرازه النجاسة فيما صلّى فيه ، بل بناءً على ما أُفيد هنا من أنّ العلم السابق ـ يعني العلم الاجمالي ـ لم يتعلّق بهذا الثوب بخصوصه ، ينبغي على هذا الوجه إسقاط قيد الغفلة وإسقاط قيد البناء على التكرار ، إذ بناءً على الوجه المذكور لا مانع من الإقدام على الصلاة في أحد الثوبين ، لعدم تحقّق شرطية الطهارة ولا مانعية النجاسة ، لأنّ ذلك معلّق ومشروط بالعلم بنجاسة الثوب المذكور ، والمفروض أنّها لم تكن معلومة.

٧٨

قوله : الثاني : هو أن يكون الشرط في مثل هذه الموارد هو الوجود العلمي ، أو الأعمّ منه ومن الوجود الواقعي ... الخ (١).

أمّا أخذ الشرط هو الوجود العلمي فهو عبارة أُخرى عمّا تقدّم من كون الشرط هو إحراز الطهارة ، وقد تقدّم الكلام فيه. وأمّا أخذ الشرط هو الأعمّ من الوجود الواقعي والوجود العلمي فهو أيضاً قدّمنا الكلام فيه ، وهل المراد أنّ الشرط أوّلاً هو الطهارة الواقعية لكن عند خطأ المحرزات يكون الشرط هو الاحراز ، أو أنّ الشرط هو الأعمّ من الطهارة الواقعية وإحرازها ، أو أنّ الشرط هو الطهارة الواقعية وعند خطأ الأصل أو الاعتقاد يسقط الشرط المذكور ، كلّ ذلك قد تقدّم الكلام فيه (٢).

ثمّ لا يخفى أنّ الغرض من هذه الوجوه يحصل بمجرّد الامكان العقلي لأنّ المطلوب بها إنّما هو رفع التناقض بين دليل الاعتبار ودليل الإجزاء ، فلو انحصر الأمر في وجه كفى فيه مجرّد إمكانه وإن كان مخالفاً لظاهر الأدلّة. نعم لو كان غيره أقرب منه إلى الاعتبار أو إلى ظاهر الدليل ، كان هو المتعيّن ، هذا كلّه مع قيام الدليل على الإجزاء.

ولو حصل الشكّ فيه فمقتضى ظاهر دليل الاعتبار هو الاعادة ، لكن لو لم يكن لذلك الدليل ظهور واحتملنا الإجزاء ، كانت النتيجة مختلفة ، فعلى تقدير بعضها يكون المرجع هو البراءة ، وعلى بعضها الآخر يكون المرجع هو أصالة الاشتغال ، لاختلاف هذه الوجوه ، فبعضها يرجع الحكم بالإجزاء فيها إلى عدم الشرطية في حال أحد الاعذار ، وبناءً عليه يكون المرجع هو البراءة من الشرطية في حال العذر ، وبعضها يرجع إلى سقوط الشرطية في ذلك الحال أو إلى الاكتفاء

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٣٥٤.

(٢) في الحاشية المتقدّمة في الصفحة : ٦٣ وما بعدها.

٧٩

بالناقص ، وبناءً عليه يكون المرجع عند الشكّ المزبور هو الاحتياط بالاعادة.

وأمّا ما أُفيد من الوجه الثالث وهو القناعة بالناقص بدلاً عن التامّ ، فإن كان ذلك عبارة عن إسقاط الشرطية في ذلك الحال فقد تقدّم الكلام فيه ، وإن كان مع بقاء الشرطية فلا وجه للقناعة بالناقص إلاّمن جهة أنّه يوجب عدم إمكان استيفاء التامّ ، إمّا لأجل أنّ هذا الفاقد يذهب المصلحة في التامّ ، أو أنّه يكون وافياً بالمهمّ من مصلحته مع بقاء شيء منها لا يمكن استيفاؤه ، بل يمكن القول بأنّ الناقص في هذا الحال ـ أعني حال المعذورية ـ يكون وافياً بتمام مصلحة التامّ ، غايته أنّ ذلك على وجه الطولية ، بمعنى أنّه مع عدم تحقّق ذلك العذر لا يكون وافياً بالمصلحة ، لكنّه عند تحقّق العذر يكون وافياً بها ، فالشرط هو الطهارة الواقعية حتّى في حال العذر المذكور ، لكن الفاقد للطهارة إذا كان ذلك لأحد الأعذار المذكورة يكون وافياً بالمصلحة.

ويرد على هذا الأخير : أنّ الفاقد لو كان وافياً بتمام المصلحة في ذلك الحال لكان ذلك موجباً لسقوط الشرطية في ذلك الحال. وكذا يرد على الثاني أنّه لو كان الفاقد وافياً بمقدار من المصلحة ، لكان وفاؤه بتلك المصلحة في ذلك الحال غير متوقّف على الطهارة ، فيرجع الأمر بالأخرة إلى سقوط الشرطية في ذلك الحال ، فيتعيّن الأوّل وهو كون الفاقد موجباً لذهاب المصلحة في الواجد مع عدم وفائه بشيء من المصلحة ، أو أنّ له مصلحة أُخرى يتدارك بها ما فات من مصلحة الواجد.

قوله : فالتقية إنّما تكون في الاستشهاد لا في الاستصحاب ... الخ (١).

ربما يقال : إنّا نعلم إجمالاً أنّ في البين تقية إمّا في نفس الكبرى ، أعني

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٣٦١.

٨٠