أصول الفقه - ج ٩

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٩

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-82-9
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٥٠٢

العقلي مورداً للاستصحاب ، لأنّه ليس بأثر شرعي ولا بموضوع لأثر شرعي ، فلا يجري فيه الاستصحاب ، لأنّ ملاك الاستصحاب هو كون المستصحب بنفسه أثراً شرعياً أو كونه بنفسه موضوعاً لحكم شرعي ، حتّى أنّه لو كان قدراً جامعاً بين حكمين شرعيين لم يجر فيه الاستصحاب ، كما عرفت في مثال الظهر والجمعة لو حصل العلم الاجمالي المردّد بينهما بعد فعله أحدهما.

نعم ، لو كان القدر [ الجامع ] في باب العلم الاجمالي قد اتّفق أنّه بنفسه موضوع لحكم شرعي ، كما في كلّي النجاسة المردّدة بين الدم والبول ، وكلّي الحدث المردّد بين الأكبر والأصغر ، جرى فيه استصحاب ذلك الكلّي بعد ارتفاع الدم بالغسلة الواحدة وارتفاع الأصغر بالوضوء ، وليس كذلك النجاسة المردّدة بين طرفي العباءة أو بين إناءين ، لما عرفت من أنّه لا اختلاف بينهما بالهوية ، بل الاختلاف بينهما إنّما هو في المحل ، والقدر الجامع إنّما هو الجامع بين المحلّين وهو ليس بموضوع أثر لحكم شرعي ، فلاحظ وتأمّل.

ومن ذلك كلّه يظهر أنّ ما أُفيد في تحرير السيّد سلّمه الله (١) من عدم ترتّب الأثر الشرعي على استصحاب الكلّي ، لأنّ عدم جواز الدخول في الصلاة مترتّب على نفس الشكّ ، لا يخلو عن تأمّل أوّلاً : لأنّه مختصّ بما إذا حصل العلم الاجمالي قبل التطهير. وثانياً : أنّ عدم جريان الاستصحاب في موارد أصالة الاشتغال لا دخل له بما نحن فيه ، فإنّ المستصحب فيما نحن فيه هو النجاسة ، ومع ثبوت النجاسة بالاستصحاب لا موقع لأصالة الاشتغال بلزوم إحراز الشرط الذي هو الطهارة ، وهذه القاعدة إنّما هي في مثل استصحاب بقاء التكليف مع أصالة الاشتغال به ، كما في مورد التردّد بين الظهر والجمعة ثمّ صلّى الظهر مثلاً.

__________________

(١) أجود التقريرات ٤ : ٩٤.

٣٢١

وحينئذ فما تضمّنه تحرير المرحوم الشيخ محمّد علي رحمه‌الله (١) من إنكار كون المسألة من استصحاب الكلّي ، وأنّها من قبيل استصحاب الفرد المردّد ، لعلّه أولى ، وإن كان محتاجاً إلى بيان كونه من قبيل الفرد المردّد لا من قبيل الكلّي كما أوضحناه ، فتأمّل.

قوله : والحصّة من الكلّي الموجودة في ضمن الفرد الخاصّ تغاير الحصّة الموجودة في ضمن فرد آخر ... الخ (٢).

لا يخفى أنّ الحصّة من الكلّي ليست هي الموجودة في الخارج ليكون الكلّي منتزعاً عنها ، بل ليس الموجود إلاّنفس الكلّي. نعم ذلك الموجود من الكلّي ينتزع عنه الحصّة ، وحينئذ نقول : إنّ الكلّي الموجود في ذلك الفرد لو كان هو عين الكلّي الموجود في الفرد الآخر ، بحيث إنّه لو وجد الكلّي في ضمن فردين لكان الفردان المذكوران وجوداً واحداً ، على وجه يكون الموجود في هذا الفرد صادقاً على الفرد الآخر ، لأمكن القول بأنّ وجود الكلّي كان متيقّناً ، غايته أنّا تردّدنا في أنّه وجد في ضمن فرد واحد وهو الذي قد ارتفع ، أو أنّه وجد في ضمن فردين ، وحينئذ يصحّ لنا استصحاب وجود الكلّي ، لكن ذلك ـ أعني كون وجود الكلّي في ضمن فردين وجوداً واحداً ـ باطل قطعاً ، فإنّ الفردين وجودان للكلّي لا وجود واحد.

وحينئذ نقول : إنّ المتيقّن إنّما هو وجوده في ضمن ذلك الفرد الذي ارتفع يقيناً ، وأمّا وجوده الآخر في ضمن الفرد الآخر فهو مشكوك من أوّل الأمر ، فكان المتيقّن هو وجوده في ضمن زيد ، وهذا قد ارتفع قطعاً وليس بمشكوك البقاء ،

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٤٢٢.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٤٢٥.

٣٢٢

وأمّا وجوده في ضمن عمرو فهو من أوّل الأمر مشكوك الحدوث ، لا أنّه مشكوك البقاء بعد اليقين بالحدوث ، وبذلك يتمّ الفرق بين هذا القسم وبين القسم الثاني الذي تقدّم البحث فيه ، فإنّ الشكّ في البقاء في ذلك القسم وارد على نفس المتيقّن الحدوث ، أعني الوجود المردّد بين الفردين.

لا يقال : إنّ المستصحب لو كان هو وجود القدر المشترك بين زيد وعمرو لتمّ ما ذكرتم من أنّ المتيقّن إنّما هو الوجود في ضمن زيد ، لا الوجود في ضمن عمرو بعد فرض تباين الوجودين ، أمّا لو كان المستصحب هو القدر المشترك بين الوجود الواحد وبين الوجودين ، ليكون الحاصل أنّ المتيقّن هو نفس وجود الكلّي الذي هو الأعمّ من الوجود الواحد والوجودين ، فهذا القدر الجامع بين الوجود الواحد والوجودين لا مانع من استصحابه ، لأنّه متيقّن الحدوث مشكوك البقاء.

لأنّا نقول : لا معنى لنسبة الوجود إلى القدر الجامع بين الوجود الواحد والوجودين ، إذ الوجود لا وجود له كي نقول إنّ ذلك القدر الجامع بين الوجود الواحد والوجودين كان متيقّن الوجود وقد شكّ في بقائه ، ولو سلّم صحّة نسبة الوجود إلى ذلك القدر الجامع المذكور لما كان ذلك كافياً في صحّة استصحابه ، إذ لا أثر للقدر الجامع بين الوجود الواحد والوجودين ، وإنّما الأثر مترتّب على القدر الجامع بين الفردين أعني زيد وعمرو ، وقد عرفت أنّ المتيقّن من وجود ذلك الكلّي الذي هو القدر الجامع بين زيد وعمرو إنّما هو وجوده في ضمن زيد ، وأمّا وجوده في ضمن عمرو فهو وجود آخر مشكوك الحدوث ، فما هو متيقّن الحدوث مقطوع الارتفاع ، وما يشكّ في بقائه مشكوك الحدوث.

لا يقال : قد التزمتم في باب الأوامر بأنّ الاتيان بالطبيعة المأمور بها في

٣٢٣

ضمن فردين دفعة واحدة لا يكون إلاّ امتثالاً واحداً.

لأنّا نقول : ذلك لأنّ الامتثال يحصل بتحقّق ما هو المطلوب ، وهو إيجاد الطبيعة وإخراجها من العدم ، المفروض تحقّقه في إيجادها بفردين وإن كانا وجودين ، لأنّ وحدة الإيجاد لا تنافي تعدّد الوجود ، هذا.

ولكن في النفس بعدُ شيء من ذلك ، لأنّ المستصحب إنّما هو الطبيعة وهي قد تحقّقت يقيناً ، وقد حصل الشكّ في بقاء نفس ذلك الذي قد تحقّق وهو صرف الطبيعة ، والوجود وإن كان قد تعدّد بتعدّد الأفراد ، بمعنى أنّ الوجود في ضمن زيد لا ينطبق على الوجود في ضمن عمرو ، إلاّ أنه وجود واحد كالخط الطويل والقصير ، والمسألة بعدُ محلّ إشكال وللتأمّل فيها مجال ، والعمدة هو النظر العرفي ، ومجال التشكيك فيه واسع ، إذ يمكن المنع من دعوى المباينة عرفاً ، بل لعلّ النظر العرفي إلى الاتّحاد ـ بعد اطّلاعه على أنّ موضوع الحكم هو الكلّي الطبيعي ـ أقرب منه إلى المباينة ، فلاحظ وتأمّل.

ولعلّ من هذا القبيل ما لو تنجّس الصوف أو الشعر بنجاسة عارضية مع احتمال كونه من نجس العين كالكلب ، فإنّه بعد تطهيره من تلك النجاسة العارضية يحتمل بقاء النجاسة ، فبناء على عدم الاستصحاب الكلّي يكون المرجع فيه قاعدة الطهارة. ومثله ما لو تردّد الحيوان بين الغنم وما يحرم أكله بالذات لكونه كلباً ، فإنّه لو طرأته الحرمة العارضية كالجلل مثلاً ، ثمّ زالت الحرمة العارضية بالاستبراء ، فبناءً على عدم جريان استصحاب الكلّي يكون المرجع فيه قاعدة الحل. ومثله ما لو كان متطهّراً من الحدثين واحتمل الجنابة ، ثمّ أحدث بالأصغر وتوضّأ.

ولكن سيأتي إن شاء الله تعالى أنّ الجميع من قبيل القسم الثاني من

٣٢٤

استصحاب الكلّي ، وأنّه فيها محكوم بقاعدة الطهارة وقاعدة الحل وأصالة عدم الجنابة الجارية في حقّه سابقاً ، هذا هو ما كنّا حرّرناه فيما تقدّم.

ولا يخفى أنّه قد تقدّم مراراً أنّه لا معنى لنسبة الوجود إلى الفرد ، بل لا معنى للفرد إلاّوجود الطبيعي ، غايته أنّ الفرد يكون وجوداً لكلّيات متعدّدة ، لكنّه إنّما يكون وجوداً للكلّي المعيّن بلحاظ إضافته إلى ذلك الكلّي ، فليس الفرد إلاّحصّة من الكلّي ووجوداً لذلك الكلّي ، ونقطة النزاع بين الشيخ قدس‌سره وبين صاحب الكفاية قدس‌سره هي أنّ الفردين هل هما وجود واحد للكلّي ، أو أنّهما وجودان؟

والذي يظهر من الشيخ قدس‌سره (١) هو الأوّل ، فالفرد الواحد عنده وجود للكلّي كما أنّ الفردين أيضاً وجود واحد لذلك الكلّي ، غايته يختلف الوجودان بالضيق والسعة ، وذلك هو السبب في بقاء الكلّي في صورة الفردين عند انتفاء أحدهما ، ولأجل ذلك أرجع الشكّ في الفرد الواحد أو الفردين إلى الشكّ في مقدار استعداد الكلّي للبقاء ، ولذلك أورد عليه شيخنا قدس‌سره في آخر كلامه (٢) بأنّه حينئذ يكون من الشكّ في المقتضي.

ولكن يمكن دفع هذا الإيراد بأنّ الشيخ قدس‌سره ليس مراده أنّه من قبيل الشكّ في الاستعداد حقيقة ، بل أطلق عليه ذلك تسامحاً منه قدس‌سره ، ومراده هو كون المقام من قبيل التردّد بين مقطوع البقاء ومقطوع الارتفاع.

ولا يخفى أنّ هذه الطريقة لو تمّت لأمكن التفصيل فيها بين ما لو كان وجود الفرد المشكوك على تقديره مقارناً لوجود المقطوع ، بخلاف ما لو كان وجوده متأخّراً عن وجوده وإن اجتمعا في الوجود ، ويشهد بذلك ما تقدّمت الاشارة إليه

__________________

(١) فرائد الأُصول ٣ : ١٩٥ ـ ١٩٦.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٤٢٦.

٣٢٥

من كون الفردين امتثالاً واحداً ، وإن أمكن المنع من هذه التفرقة لعدم الأثر للمقارنة والتدرّج فيما نحن فيه بعد أن كان قد تعلّق اليقين في آن بوجود الطبيعي في ضمن الفردين أو في ضمن الفرد ، وأمّا باب الأوامر فلأنّ المدار فيها على الايجاد وهو واحد ، فلا يكون الامتثال إلاّواحداً ، وإن كان الموجود بل الوجود متعدّداً ، بخلاف ما نحن فيه فإنّ المدار فيه على وجود الطبيعي ، وحينئذ لابدّ من النظر في أنّ هذا الوجود واحد ولو مع الفردين ، أو أنّه متعدّد مع الفردين.

والذي يظهر من الشيخ قدس‌سره هو اختيار الأوّل ، والذي بنى عليه في الكفاية (١) هو الثاني ، وهذه نقطة النزاع بينهما ، وهي التي حتّمت على الشيخ قدس‌سره اختيار جريان الاستصحاب في القسم الأوّل من الكلّي بكلا صورتيه ، أعني الاقتران والتدرّج (٢) ، كما أنّها حتّمت على صاحب الكفاية قدس‌سره اختيار المنع من ذلك نظراً إلى تعدّد وجود الطبيعي مع الفردين ، هذا.

ولكن شيخنا قدس‌سره في هذا التحرير (٣) قد سلك في قبال الشيخ قدس‌سره مسلكاً آخر وهو إنكار وجود الكلّي في الفرد ، بل الموجود هو الحصّة ، ولا إشكال في مباينة الحصص وتعدّدها حسب تعدّد الأفراد.

ولكن الذي يظهر من تحرير السيّد ( سلّمه الله تعالى ) أنّه قدس‌سره قد عدل عن هذه الطريقة في قبال الشيخ قدس‌سره وسلك في ذلك مسلك الكفاية ، فإنّ قوله : لا لأنّ

__________________

(١) كفاية الأُصول : ٤٠٦ ـ ٤٠٧.

(٢) [ لا يخفى أنّ المراد بالقسم الأوّل من الكلّي هو القسم الأوّل من القسم الثالث من الكلّي ، كما أنّ المراد بصورتي الاقتران والتدرّج هو اجتماع الوجودين في آنٍ سواء اقترن حدوثهما أو تدرّجا في الحدوث ، وهذا يستفاد من اطلاق كلام الشيخ قدس‌سره فراجع فرائد الأُصول ٣ : ١٩٦ ].

(٣) فوائد الأُصول ٤ : ٤٢٤ ـ ٤٢٥.

٣٢٦

الموجود في الخارج ـ إلى قوله : ـ بل (١) كأنّه تعريض وردّ لما في تحرير المرحوم الشيخ محمّد علي ، ومن قوله : لأنّ الكلّي ... الخ (٢) هو عين ما في الكفاية فلاحظ وتأمّل.

وفي هذا العدول تأمّل ، لأنّ الكلّي لو كان بنفسه وجوداً للفرد لا الحصّة ، لكان لازمه انحصار الطبيعي في الفرد وانعدامه بانعدامه ، ولا يخفى بطلانه.

ولصاحب الدرر (٣) في هذا المقام كلام يؤيّد به كلام الشيخ قدس‌سره ، أو أنّه أوسع من ذلك حتّى في صورة كون المحتمل مقارناً لارتفاع الفرد المعلوم ، وحاصله : أنّ موضوعنا هو صرف الوجود الذي هو ناقض عدم الطبيعة ، وقد تحقّق هذا الموضوع قطعاً ، ولا نرفع اليد عنه إلاّبالعلم بانعدام تمام الأفراد ، إذ لا ينعدم صرف الوجود إلاّبذلك ، ومع احتمال وجود الفرد الآخر وبقائه لا قطع لنا بانعدام صرف الوجود ، وقد كنّا قاطعين بتحقّقه فلا مانع من استصحابه ، ونحن باحتمالنا وجود الفرد الآخر نكون قد احتملنا بقاء صرف الوجود ، لأنّ وجود ذلك الفرد لو كان لا يكون حدوثاً وناقضاً لعدم الطبيعة ، لأنّه مسبوق بناقض العدم المذكور ، بل يكون تحقّق ذلك الفرد الثاني بقاءً لصرف الطبيعة ، فليس الفرد الثاني حدوثاً لصرف وجود الطبيعة كي يتوجّه الإيراد بأنّه لم يكن داخلاً تحت اليقين لكونه مشكوكاً ، بل إنّ حدوث الفرد الثاني بعد حدوث الفرد الأوّل يكون واقعاً في مرتبة البقاء بالنسبة إلى صرف الطبيعة ، وبه تتمّ أركان الاستصحاب من اليقين بالحدوث والشكّ في البقاء.

__________________

(١) أجود التقريرات ٤ : ٩٦.

(٢) أجود التقريرات ٤ : ٩٦.

(٣) درر الفوائد ١ ـ ٢ : ٥٣٧.

٣٢٧

ولا يخفى عليك الفرق بين هذه الطريقة وطريقة الشيخ قدس‌سره ، فإنّ طريقة الشيخ مبنية على أساس أنّ وجود الفردين لا يزيد على وجود الطبيعة ، وأنّ وجود الطبيعة في الفرد ووجودها في الفردين وجود واحد ، وإنّما الاختلاف بينهما في السعة والضيق ، ولأجل ذلك توجّه عليه إيراد الكفاية بأنّهما وجودان لا وجود واحد ، وإيراد شيخنا قدس‌سره بأنّ الطبيعي لا وجود له ، وإنّما الموجود هو الحصّة والحصص متباينة ، بخلاف هذه الطريقة فإنّها مبنية على أنّ موضوع الحكم هو صرف الوجود ، وهو ناقض العدم ، وهذا المعنى ـ أعني صرف الوجود وناقض العدم المطلق ـ لا اختلاف فيه بين وجود الفرد الواحد ووجود الفردين ، لا من حيث السعة والضيق ، ولا من حيث التعدّد والتكثّر.

وعلى كلّ حال ، فقد أورد عليه صاحب نهاية الدراية بما هذا لفظه : والجواب أنّ الوجود المضاف إلى شيء بديل لعدمه وطارد له بحسب ما أُخذ في متعلّقه من القيود ، فناقض العدم المطلق مفهوم لا مطابق له في الخارج ، وأوّل الوجودات ناقض للعدم البديل له والقائم مقامه ، وما يرى من أنّ عدم مثله يوجب بقاء العدم كلّية على حاله ليس من جهة كونه ناقضاً للعدم المطلق ، بل لأنّ عدم أوّل الوجودات يلازم عدم ثاني الوجودات وثالثها إلى الآخر الخ (١).

[ ولا ] يخفى أنّ ناقض الشيء إنّما هو نقيضه ، فالعدم ناقض للوجود لكونه نقيضاً له ، والوجود ناقض للعدم لكونه نقيضاً له ، وحينئذ نقول : إنّ العدم المطلق ليس إلاّعبارة عن عدم الطبيعة ، وهو المعبّر عنه بالسلب الكلّي ، ونقيضه هو الإيجاب الجزئي ، وهو عبارة أُخرى عن صرف الوجود ، ولو كان كلّ وجود نقيضاً لعدم ذلك الوجود الخاصّ ، بقي عدم الطبيعة المعبّر عنه بالعدم المطلق بلا

__________________

(١) نهاية الدارية ٥ ـ ٦ : ١٥١ ـ ١٥٢.

٣٢٨

نقيض ، فلابدّ أن نقول إنّ نقيضه هو صرف الوجود وهو المنطبق على أوّل وجود ، فلو لاحظنا أوّل الوجود بما أنّه وجود خاصّ كان نقيضاً لعدم نفسه ، لكن لو لاحظناه باعتبار كونه صرف الوجود الطارد لعدم الطبيعة ، يكون نقيضاً للعدم المطلق. وهذه الملاحظة الثانية لا تتأتّى في الوجود الثاني بعد الوجود الأوّل المفروض بقاؤه ، لأنّه ليس بطارد للعدم المطلق ، وإنّما يطرد عدم نفسه ، فلا يكون نقيضاً إلاّلعدم نفسه ، ومن هذه العناية يكون وجوده ثانياً مؤكّداً لانطراد العدم المطلق الحاصل بالوجود الأوّل ، وحيث إنّ انطراد العدم المطلق بالوجود الأوّل إنّما هو من جهة كون الوجود الأوّل صرف الوجود ، فيكون هذا الوجود الثاني مؤكّداً ومقرّراً لصرف الوجود.

فمن هذه الجهة صحّ لصاحب الدرر قدس‌سره أن يقول : إنّ الوجود الثاني على تقدير تحقّقه بقاء لصرف وجود الطبيعة ، فلا يرد عليه أنّ هذا الوجود الثاني لو كان بقاءً لصرف الطبيعة لم يكن نقيضاً لشيء ، وهذا غير معقول.

وبيان عدم توجّه هذا الإيراد عليه : هو أنّ هذا الوجود الثاني يكون نقيضاً لعدم نفسه ، ومع ذلك هو داخل في كونه من شؤونات صرف الوجود في كونه نقيضاً للعدم المطلق.

والحاصل : أنّ نقيض العدم المطلق هو صرف الوجود ، وهذا قد حدث بأوّل الوجود ، ويبقى مستمرّاً ما دامت الوجودات متعاقبة ، فكلّ وجود يأتي بعد الوجود الأوّل وينضمّ إليه يكون بقاء واستمراراً لما هو نقيض العدم المطلق ، وسرّه أنّ صرف الوجود واحد مهما تكثّرت أفراده وتعاقبت آحاده ، وأنّه ـ أعني صرف الوجود ـ غير قابل للتعدّد والتكثّر ، لكن هذا إذا لم يتخلّل العدم بين تلك الآحاد ، وحينئذ يخرج القسم الثاني وهو ما لو كان الوجود الثاني المحتمل مقارناً

٣٢٩

لارتفاع الأوّل وانعدامه ، بل يكون الوجود الثاني حينئذ حدوثاً لصرف الوجود ، ولا يكون بقاءً لصرف الوجود ، فلا يتمّ ما هو ظاهر عبارة الدرر ، أعني قوله : وممّا ذكرنا يظهر حال القسم الآخر ، وهو ما لو شكّ في وجود فرد آخر مقارناً لارتفاع الموجود من دون تفاوت أصلاً (١).

ويمكن على بُعد إرجاع قوله : « وممّا ذكرنا » إلى قوله : « نعم لو أُريد استصحاب الوجود الخاصّ ـ إلى قوله ـ فاختلّ أحد ركني الاستصحاب ». وحينئذ يكون قائلاً بعدم جريان الاستصحاب في القسم الثاني لاختلال أحد ركني الاستصحاب فيه ، لأنّ الفرد الثاني لو جاء عند ارتفاع الأوّل فقد جاء في ظرف ارتفاع صرف الوجود ، ويكون الشكّ فيه شكّاً في حدوث صرف الوجود بعد انعدامه ، فلا يجتمع فيه أركان الاستصحاب ، لكن ذلك بعيد عن مساق العبارة فتأمّل.

ثمّ لا يخفى أنّا لو سلّمنا لصاحب الحاشية المذكورة ما ذكره من أنّ أوّل الوجود ليس بناقض للعدم المطلق ، وإنّما هو ناقض لعدم نفسه ، فهل خرج بذلك عن كونه صرف الوجود ، فلو كان لنا أثر مترتّب على صرف الوجود أفلا نرتّبه على هذا الذي هو أوّل وجود ، لا أظنّه يدّعي ذلك ، وإلاّ لتوقّفت أحكامنا المترتّبة على صرف الوجود.

ثمّ بعد تسليم تحقّق صرف الوجود بأوّل وجود ، فهل لو انضمّ إليه فرد آخر مقارن لأوّل الوجود أو متأخّر عنه ، فهل ذلك الوجود الثاني إلاّمنضم للوجود الأوّل في تحقّق صرف الوجود وانطباقه عليهما ، أليس إنّ صرف الوجود مستمرّ من حين الوجود الأوّل إلى ما بعد الوجود الثاني. فإذا تمّت هذه الجهات فقد تمّ ما

__________________

(١) درر الفوائد ١ ـ ٢ : ٥٣٨.

٣٣٠

رامه صاحب الدرر قدس‌سره من كون المسألة حينئذ من قبيل اليقين بصرف الوجود والشكّ في بقائه.

والذي أخاله أنّ هذا المعنى ، أعني كون موضوع الحكم هو صرف وجود طبيعة الإنسان مثلاً ، وأنّه يتحقّق بأوّل وجود ، وأنّه يبقى ويستمرّ ما دامت الأفراد متعاقبة ، وأنّه عند الشكّ في تحقّق الفرد الثاني مقارناً لوجود الفرد الأوّل الذي علم بارتفاعه ، تكون المسألة من باب الشكّ في بقاء صرف الوجود بعد اليقين بحدوثه وتحقّقه ، لا يتفاوت الحال فيها بين القول بوجود الطبيعة والكلّي الطبيعي في ضمن أفراده ، وبين القول بأنّه ليس بموجود ، وأنّ هذا الوجود وجود للحصّة منه ، أو أنّ هذا الوجود هو عبارة عن نفس الفرد ، فإنّا لو قلنا بذلك لم يخرج هذا الفرد عن كونه بالنظر العرفي من باب صرف وجود الإنسان ، أمّا أنّه كيف صار هذا صرف وجود الإنسان ، وهل الإنسان حالّ فيه أو أنّه حصّة من الإنسان أو أنّه فرد من الإنسان ، كلّ هذه الجهات أجنبية عمّا هو مفاد الدليل عرفاً. وهكذا الحال في أصالة الوجود أو أصالة الماهية ، فإنّ جميع هذه الجهات راجعة إلى أُمور أُخر فلسفية.

وبأيّ قلنا لا يمكننا إخراج تلك الأدلّة عن مقتضياتها العرفية كيف ما كانت حقيقتها الواقعية ، فإنّ هذه المقتضيات العرفية تتمشّى مع هذه الأقوال كلّها ، غايته أنّه بنحو من التسامح العرفي الذي هو الملاك في استفادة الأحكام من تلك الأدلّة.

ومن ذلك يظهر لك التأمّل فيما أفاده المحشي بقوله : ولا بشرطية وجود شيء الخ (١) ممّا ظاهره إنكار وجود الطبيعي ، وأنّه ليس في البين إلاّ الانطباق على الوجود الخارجي. وهكذا ما أفاده في الإشكال الثاني وجوابه الذي انتهى بقوله :

__________________

(١) نهاية الدراية ٥ ـ ٦ : ١٥٢.

٣٣١

وصرف الوجود بهذا المعنى لا مطابق له إلاّوجود الباري عزّ اسمه ، وفيضه المقدّس المنبسط على ما سواه ، وأمّا صرف حقيقة الوجوب أو الندب ، أو صرف حقيقة الماء أو النار ، فلا مطابق له خارجاً حتّى يكون لكلّ طبيعة من الطبائع ـ مضافاً إلى وحدتها الماهوية وصرافتها في الماهية ـ وحدة وصرافة في الوجود ، فتدبّره فإنّه حقيق به (١) فلاحظ وتأمّل.

ومن ذلك كلّه يظهر لك التأمّل فيما أفاده شيخنا قدس‌سره بقوله : ثمّ إنّه لو فرض محالاً الخ (٢) فإنّ العرف بعد أن عرف أنّ موضوع الحكم هو صرف وجود الطبيعة وأنّه ليس إلاّناقض عدمها ، وأنّ ذلك لا يتكثّر ولا يتكرّر بتكثّر الأفراد وتكرّر وجودها ، فحينئذ قهراً يعرف أنّه لا ميز بين الفرد الواحد والفردين في الموضوعية لذلك ، ولا يرى المباينة بين الواحد والآخر ، وأنّه يرى تحقّق البقاء لنفس ذلك الموضوع لو وجد أحد الأفراد وانتفى وبقي الآخر ، فعند احتمال وجود الآخر يحتمل البقاء بعد العلم بأصل حدوث صرف الطبيعة ، فيلزمه إجراء الاستصحاب.

قوله : يكون الشكّ في بقاء الكلّي دائماً من الشكّ في المقتضي (٣).

لا يخفى أنّه ليس من الشكّ في المقتضي ، وليس لهذه الدعوى أثر فيما حرّره المحرّر في المطبوع في صيدا (٤) ولا فيما حرّرته عنه قدس‌سره.

__________________

(١) نهاية الدراية ٥ ـ ٦ : ١٥٢.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٤٢٦.

(٣) فوائد الأُصول ٤ : ٤٢٦.

(٤) أجود التقريرات ٤ : ٩٦.

٣٣٢

قوله : ولكن الظاهر أنّه يجوز للمكلّف في المثال فعل كلّ مشروط بالطهارة ـ إلى قوله ـ لا لأنّ الاستصحاب في المثال ليس من القسم الثالث ... الخ (١).

لا يخفى أنّ المكلّف لو كان محدثاً بالأصغر ثمّ عرضته الجنابة فالاحتمالات في ذلك ثلاثة :

الأوّل : أن يكون طروّ الجنابة موجباً لزوال الحدث الأصغر وتبدّله بالحدث الأكبر ، لا من جهة أنّ الحدث الأكبر رافع شرعي للحدث الأصغر ، بل من جهة اندكاكه فيه ، فيكون من قبيل الرافع التكويني للحدث الأصغر.

الثاني : أن يكون ذلك من قبيل الاختلاف بالشدّة والضعف ، فيكون من قبيل ما لو كان في البين سواد ضعيف ثمّ طرأ عليه ما يوجب اشتداده ، فكأنّ تلك المرتبة بقيت بحالها غير أنّها زادت واشتدّت ، ولعلّ هذا عبارة أُخرى عمّا تقدّم من الاندكاك.

الثالث : أن يكون ذلك من قبيل الفردين المتباينين ، بحيث إنّه كان طبيعة الحدث موجودة في ضمن الأصغر وهي باقية إلى الآن ، لكن وجد الحدث في ضمن فرد آخر وهو الأكبر ، فهو نظير ما لو وجد زيد أوّلاً ثمّ وجد عمرو واجتمعا في الوجود.

والظاهر أنّ هذا الوجه بعيد في الغاية ، ولا يرد عليه أنّه يلزم عليه الوضوء والغسل ، فإنّه وإن كان مقتضاه ذلك ، إلاّ أن الدليل دلّ على كفاية الغسل عن الوضوء.

وقد عرفت أنّ الوجه الثاني راجع إلى الأوّل ، لأنّ اجتماع المرتبة الضعيفة

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٤٢٦.

٣٣٣

مع المرتبة القوية يوجب الاندكاك وارتفاع المرتبة الضعيفة بحدّها وإن بقيت بذاتها.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ المراد بالأوّل هو كون الحدث الأكبر موجباً لارتفاع الأصغر ، فإنّ الحدث الأصغر عندما يطرأ عليه الأكبر لا يبقى موجوداً بذاته في ضمن الأكبر ، بل كما ينعدم بحدّه في ضمنه ، كذلك ينعدم بذاته وتتبدّل حالة المكلّف من الحدث الأصغر إلى الأكبر ، فهما في ذلك نظير ما لو ملك الزوج زوجته في كون الملكية مزيلة للزوجية.

والحاصل : أنّ الوجوه المحتملة في طروّ الأكبر على الأصغر ثلاثة : التبدّل والاشتداد واجتماع فردين من طبيعة واحدة ، فبعد الفراغ من الوضوء لو أردنا استصحاب كلّي الحدث ، لم يكن من قبيل القسم الأوّل من الثالث من استصحاب الكلّي إلاّعلى الوجه الثالث ، فإنّه بناءً عليه يكون المتيقّن حين احتمال طروّ الجنابة هو كلّي الحدث المردّد بين الوجود في ضمن فرد واحد وهو الأصغر ، والوجود في ضمن فردين وهما الأصغر والأكبر.

وأمّا بناءً على الوجه الأوّل ، فلا يكون الاستصحاب المذكور إلاّمن قبيل القسم الثاني من الكلّي ، فهو نظير ما لو كان مسبوقاً بالطهارة من الأصغر والأكبر وطرأه حدث مردّد بينهما.

وهكذا الحال بناءً على الوجه الثاني أعني كونه من قبيل الاشتداد ، فإنّه بعد فرض أن كان مسبوقاً بالأصغر فاحتمل طروّ الأكبر ، يكون في ذلك الحال متردّداً بين كون حدثه الفعلي هو الأصغر أو الأكبر.

لا يقال : إنّه بناءً على الأوّل يكون المقام من قبيل القسم الثاني من القسم الثالث من الكلّي ، يعني من قبيل ما لو علم بارتفاع الموجود واحتمل أنّه قام غيره

٣٣٤

مقامه عند ارتفاعه ، بتقريب أنّه بعد الوضوء يحصل له العلم بارتفاع حدثه الأصغر إمّا بالجنابة أو بالوضوء ، وعلى تقدير ارتفاعه بالجنابة يكون قد قام مقامه الحدث الأكبر.

لأنّا نقول : إنّ المستصحب ليس هو كلّي الحدث الذي كان متيقّناً قبل احتمال طروّ الجنابة ، كي يقال إنّا نقطع بارتفاعه ، بل المستصحب إنّما هو الكلّي المتيقّن من حين احتمال طروّ الجنابة إلى حين الوضوء ، وهذا لم يحصل القطع بارتفاعه ، كما أنّه على تقدير ارتفاعه لا يحتمل أن يكون عند ارتفاعه قد قام غيره مقامه (١).

ثمّ لا يخفى أنّه قبل الوضوء لا إشكال في عدم وجوب الغسل عليه ، أمّا على الوجه الثالث فواضح ، للعلم التفصيلي بالحدث الأصغر والشكّ البدوي في الحدث الأكبر. وأمّا على الأوّل وكذا على الثاني فلأنّه وإن علم إجمالاً بوجود أحد الحدثين في ذلك الحال ، ومقتضاه وجوب كلّ من الغسل والوضوء ، إلاّ أن أحد الحدثين وهو الأصغر كان مجرى للأصل المثبت ، والآخر وهو الأكبر مجرى للأصل النافي ، وكان العلم الاجمالي المذكور منحلاً فلا يلزمه إلاّ الوضوء ، وهذا

__________________

(١) والأولى أن يقال : إنّه بعد الوضوء لو لاحظ حالته قبل احتمال طروّ الجنابة ، كان من القسم الثاني من القسم الثالث ، وإن لاحظ حالته ما بعد احتمال الجنابة كان من القسم الثاني من أقسام استصحاب الكلّي ، يعني من المردّد بين ما هو مقطوع البقاء ومقطوع الارتفاع هذا ، ولكن قد حقّقنا في مبحث استصحاب الأحكام التعليقية [ في المجلّد العاشر من هذا الكتاب ، الصفحة : ٤١ وما بعدها ] أنّ هذا النحو من الاستصحاب راجع إلى القسم الثالث من الكلّي فراجع [ منه قدس‌سره ].

٣٣٥

هو الفارق بين هذه الصورة وبين ما لو كانت حالته السابقة غير معلومة أو كانت هي الطهارة من الحدثين ، فإنّه في هاتين الصورتين يكون قبل الوضوء محكوماً بلزوم كلّ منهما للعلم الاجمالي.

وإنّما الإشكال فيما بعد الوضوء ، فإنّه بعد الفراغ من الوضوء يجري استصحاب كلّي الحدث ، غايته أنّه على الوجه الأوّل وكذا على الثاني يكون من قبيل القسم الثاني من الكلّي ، وعلى الثالث يكون من قبيل القسم الأوّل من القسم الثالث بناءً على جريان استصحاب الكلّي فيه ، وحينئذ يحكم عليه بحرمة مسّ المصحف لأجل الاستصحاب المذكور ، وبلزوم الغسل تحصيلاً لما هو الشرط في الصلاة ، وهذا ممّا لم يلتزموا به. مضافاً إلى ما فيه من الغرابة ، وهو كونه قبل الوضوء لا يحكم عليه بلزوم الغسل لكن بعد الوضوء يحكم عليه بذلك.

ولأجل ذلك تصدّى شيخنا قدس‌سره (١) للجواب عن هذا الإشكال بما يرجع إلى جهات ثلاث : الجهة الأُولى : دعوى دلالة الآية الشريفة على أنّ موضوع وجوب الوضوء هو النوم مع عدم الجنابة. الثانية : إلحاق بقية موارد الحدث الأصغر بالنوم. الثالثة : دعوى أنّه إذا وجب عليه الوضوء لم يجب عليه الغسل ، بناءً على أنّه لا يمكن أن يكون حكمه الواقعي هو وجوب كلّ منهما ، إمّا لأجل ما أُفيد من التناقض ، وإمّا لأجل أنّه إذا كان حكم عليه شرعاً بأنّه داخل في من يجب عليه الوضوء ، لم يمكن أن يحكم ثانياً عليه بوجوب الغسل ، بدعوى أنّه ليس في الشريعة الجمع في الواقع بين الطهارتين.

ويمكن التأمّل في سقوط استصحاب الكلّي ، إذ أقصى ما فيه أنّه حينئذ يقع التدافع بينه وبين استصحاب عدم الجنابة ، هذا. مضافاً إلى لزوم إحراز الشرط في

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٤٢٦ ـ ٤٢٧.

٣٣٦

الصلاة.

وقد يقال : ما الداعي للالتزام بهذه الجهات مع أنّه قدس‌سره في غنى عنها بما تقدّم منه قدس‌سره في المسألة السابقة ـ أعني القسم الثاني من الكلّي ـ من كون أصالة عدم الأكبر ممّا يترتّب عليه شرعاً عدم بقاء الكلّي ، لكون السببية في باب الحدث شرعية ، غايته أنّه في ذلك البحث قد أسقط أصالة عدم الجنابة بمعارضتها بأصالة عدم الحدث الأصغر ، أمّا في هذا البحث فحيث إنّ أصالة عدم الأصغر غير جارية في حقّه ، بل كان الجاري في حقّه هو استصحاب الحدث الأصغر ، فلا مانع حينئذ من جريان أصالة عدم الجنابة في حقّه لكونه بلا معارض ، وهي حاكمة على استصحاب بقاء الكلّي وموجبة للحكم بارتفاعه ، لما عرفت من أنّه قدس‌سره بناؤه على كون السببية في باب الحدث شرعية ، فإنّ الحدث وإن كان موضوعاً لأحكام شرعية إلاّ أنه بنفسه حكم شرعي وضعي مترتّب على موضوعه ، فإنّ موضوع الأكبر منه هو الجنابة ، وموضوع الأصغر منه هو البول مثلاً ، فأصالة عدم الجنابة قاضية شرعاً بنفي الحكم الشرعي المرتّب عليها وهو الحدث الأكبر.

ولعلّ الوجه في عدم اعتماده قدس‌سره على ذلك في دفع الإشكال المزبور من جهة أنّه بناءً على الوجه الثالث والثاني يكون المستصحب هو الحدث الأصغر ، لعدم ارتفاعه بالوضوء لو كان قد وجد مع الأكبر ، ولا ريب أنّ أصالة عدم الأكبر حينئذ لا تنفع في رفع استصحاب الحدث الأصغر ، وإن نفعت في رفع استصحاب كلّي الحدث ، وسيأتي إن شاء الله تعالى توضيح ذلك (١).

نعم ، بناءً على ما قدّمناه في ذلك البحث من أنّ ترتّب الحدث الأكبر على الجنابة وإن كان شرعياً ، إلاّ أن ترتّب عدم بقاء الكلّي على عدم الحدث الأكبر ليس

__________________

(١) في الصفحة : ٣٤٣ ـ ٣٤٤.

٣٣٧

بشرعي ، يكون الإشكال علينا متّجهاً ، فلا محيص لنا إلاّعن دفعه بأحد وجوه :

الأوّل : أن نلتزم بذلك التكلّف الذي أفاده قدس‌سره في مفاد الآية الشريفة ، وقد عرفت ما فيه.

الثاني : أن نقول : إنّ ترتّب خصوص الحدث الأكبر على الجنابة لمّا كان شرعياً ، كان ترتّب الكلّي الموجود في ضمنه على الجنابة أيضاً شرعياً وجوداً وعدماً ، فيكون الأصل الجاري في نفي الجنابة حاكماً بارتفاع الكلّي بعد الوضوء.

الثالث : أن نقول : إنّ استصحاب كلّي الحدث وإن جرى في حقّه فيما بعد الوضوء ، إلاّ أن استصحاب عدم الجنابة لمّا كان جارياً في حقّه قبل الوضوء وبعده فلا يترتّب أثر شرعي على بقاء كلّي الحدث بعد فرض أنّ الأكبر كان محكوماً بالعدم ، وأنّ الأصغر الذي كان استصحابه جارياً قبل الوضوء قد ارتفع بالوضوء.

وبالجملة : أنّ الحكم عليه فعلاً ببقاء كلّي الحدث لمّا كان مقروناً بالحكم بعدم الجنابة وباليقين بارتفاع الأصغر ، يكون لغواً لا أثر له حتّى بالنسبة إلى آثار كلّي الحدث الذي هو حرمة المس ، لأنّا نعلم بأنّ غير المجنب وغير المحدث بالأصغر ليس يحرم عليه المس.

لكن هذا الوجه منقوض بما لو كان متطهّراً من الحدثين ، ثمّ صدر منه شيء اعتقده بولاً فتوضّأ ، ثمّ علم إجمالاً بأنّ ذلك الشيء إمّا بول أو جنابة ، فإنّك قد عرفت في ذلك البحث أنّه يجري في حقّه استصحاب كلّي الحدث بالنسبة إلى حرمة المس ، ويلزمه الغسل تحصيلاً لشرط الصلاة ، مع أنّه مثل ما نحن فيه من كونه غير محدث بالأصغر للقطع بالوضوء ، وغير محدث بالأكبر لأصالة عدم الجنابة غير المعارضة بأصالة عدم الأصغر ، لسقوط أصالة عدم الأصغر لعدم الأثر

٣٣٨

له بعد الوضوء.

الرابع (١) : أن نقول : إنّ اختلاف الأصغر والأكبر من قبيل الاختلاف بالشدّة والضعف ، فلو كان متطهّراً من الحدث الأصغر والأكبر ، وعلم بانتقاض طهارته إمّا بالأصغر أو بالأكبر ، كانا من قبيل المتباينين ، لأنّ وجود المرتبة الضعيفة من السواد مثلاً مباين لوجود المرتبة الشديدة. أمّا لو كان مسبوقاً بالحدث الأصغر ، واحتمل أن قد طرأه الأكبر ، فحيث إنّ طروّ المرتبة الشديدة من السواد على المرتبة الضعيفة منه لا يوجب إعدام ذات المرتبة الضعيفة ، بل تبقى الضعيفة بذاتها في ضمن المرتبة الشديدة وإن انعدم حدّها ، ففي هذه الصورة يكون من الأقل والأكثر ، واليقين إنّما تعلّق بذات الأقل ، أمّا الزائد عليه فهو مشكوك من أوّل [ الأمر ] فالمتيقّن من وجود السواد هو المرتبة الضعيفة ، وحينئذ فبعد العلم بزوال المرتبة الضعيفة لا يمكن استصحاب كلّي السواد ، ففيما نحن فيه نقول إنّ المتيقّن من الحدث قبل الوضوء هو تلك المرتبة الضعيفة ، ولا يقين بأزيد منها ، وبعد الوضوء يحصل القطع بارتفاع تلك المرتبة ، وما زاد على تلك المرتبة لم يتعلّق به اليقين ، فلا يكون الاستصحاب جارياً.

لكن هذا الوجه لو تمّ لكان مقتضاه عدم جريان الاستصحاب في القسم الأوّل من الثالث ، فإنّ هذا التقريب هو عين التقريب الذي تقدّم لمنع جريان الاستصحاب في القسم المذكور ، والمفروض أنّا نريد أن ندفع الإشكال عن الشيخ الذي يقول بجريان الاستصحاب في هذا القسم.

مضافاً إلى أنّ تلك المرتبة الضعيفة لا نقطع بزوالها بالوضوء ، لأنّها على

__________________

(١) هذا الوجه هو ما استفدناه من الأُستاذ العلاّمة العراقي ( سلّمه الله ) في درسه على ما حرّرته عنه في درس ٢٩ ج ١ سنة ١٣٤١ [ منه قدس‌سره ].

٣٣٩

تقدير اشتدادها بالجنابة لا يكون الوضوء مؤثّراً في رفع شيء حتّى نفس تلك المرتبة الضعيفة.

وهذا الإشكال بعينه متوجّه فيما لو قلنا بالوجه الثالث وهو اجتماع الحدث الأصغر والأكبر ، وقلنا بعدم جريان الاستصحاب في القسم الأوّل من الكلّي ، فإنّه حينئذ يحتمل أنّ حدثه الأصغر قد اجتمع مع الأكبر ، وعلى هذا التقدير لا يرتفع حدثه الأصغر بالوضوء ، بل لا يرتفع إلاّبالغسل ، وحينئذ فبعد الوضوء وإن لم يجر في حقّه استصحاب كلّي الحدث ، إلاّ أنه يشكّ في ارتفاع حدثه الأصغر بذلك الوضوء ، لاحتمال اجتماعه مع الأكبر ، فلا أقل من استصحابه لحدثه الأصغر بعد البناء على أنّ أصالة عدم الجنابة لا تثبت أنّ حدثه الأصغر كان وحده ، إلاّ أن نعتمد على ما أفاده الأُستاذ قدس‌سره (١) من كون موضوع وجوب الوضوء هو المركّب من الأصغر وعدم الجنابة ، وأنّه إذا تحقّق وجوب الوضوء لم يجب الغسل ، وهو ما عرفت من الوجه الأوّل.

أمّا الوجه الثاني فهو غير نافع ، لأنّه لو تمّ فإنّما ينفع في إسقاط استصحاب كلّي الحدث ، ولسنا نريد استصحاب كلّي الحدث ، وإنّما نريد استصحاب الحدث الأصغر ، وهكذا الحال في الوجه الثالث ، فتأمّل.

وممّا ذكرناه في هذا الفرع ، أعني ما لو كان محدثاً بالأصغر ثمّ احتمل الجنابة وتوضّأ ، يظهر لك الجواب عن جريان الاستصحاب في فرع آخر وهو عكس الفرع المذكور ، بأن يكون متطهّراً من الحدثين ثمّ احتمل الجنابة وجرى في حقّه استصحاب عدمها ، ثمّ إنّه أحدث بالأصغر ، فإنّه حينئذ يعلم إجمالاً بأنّه محدث إمّا بالأصغر أو بالأكبر ، لكن استصحاب طهارته إلى ما قبل الحدث

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٤٢٧.

٣٤٠