في مقارنة الأديان

الدكتور صائب عبد الحميد

في مقارنة الأديان

المؤلف:

الدكتور صائب عبد الحميد


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-11-0
الصفحات: ١٤٦
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

وكثر الحفاظ ، حفاظ السور المتعددة ، وحفاظ القرآن كله ، كاملاً ، وامتاز من بين هؤلاء عدد من الصحابة جمعوا القرآن كتابة اضافة إلى الحفظ ، ومن مجموع الأخبار التي تحدثت عن هؤلاء يصل مجموعهم إلى تسعة عشر ، ثمانية عشر رجلاً ، وامرأة واحدة هي ورقة بنت عبدالله بن الحارث (١).

من أدلة تدوين القرآن في عهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله :

الادلة كثيرة ومتواترة على أن القرآن الكريم كان يكتب في عهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ومنذ وقت مبكر ، وغالباً ما كان يكتب بين يديه ، أو يعرض عليه ، نختار طائفة من هذه الأدلة :

١ ـ قال زيد بن ثابت ، أحد كبار الحفاظ والكتاب : «كنا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نؤلف القرآن من الرقاع » (٢). أي نجمعه في كتاب واحد من مجموع الرقاع التي كتبت عليها سور القرآن وآياته وقت النزول ، وهي متواترة عند مئات الأصحاب. وهو كلام واضح في الكشف عن مرحلتين للتدوين ؛ مرحلة أولى مبكرة ومباشرة ، تدون فيها الآيات والسور المنزلة على الرقاع ، ثمّ مرحلة ثانية يتم فيها جمع آيات السور وترتيبها بإشراف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في كتاب واحد.

٢ ـ قال زيد بن ثابت نفسه : كنت أكتب الوحي لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ... فكنت أدخل عليه بقطعة الكتف أو كسرة ، فاكتب وهو يملي عليّ ، فإذا فرغتُ قال :

_______________________

(١) سلامة القرآن من التحريف / علي موسى الكعبي : ٩٢ ـ ٩٣ ، إصدار مركز الرسالة ، قم ، ط ١ ، ١٤١٧ هـ.

(٢) المستدرك على الصحيحين ٢ : ٢٢٩ و ٦١١.

٨١

اقرأه. فأقرؤه ، فإذا كان فيه سقط أقامه ، ثم أخرج إلى الناس (١).

٣ ـ قال عبد الله بن عباس ، وكان له مصحف جمعه بنفسه : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان إذا نزل عليه الشيء دعا من كان يكتب فيقول : ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا (٢).

٤ ـ وقد كان تدوين القرآن عملاً مبكراً جداً ، مصاحباً لنزوله ، تدل عليه القصة الشهيرة في إسلام عمر بن الخطاب ، إذ وجد عند اخته وزوجها صحيفة مكتوب عليها سورة الحديد ، وصحيفة أخرى مكتوب عليها سورة طه (٣). فلم يكن المسلمون الأوائل يعتمدون على الحافظة وحدها ، بل اعتمدوا التدوين المبكر أيضاً.

٥ ـ تفيد طائفة من الأحاديث أن المصاحف كانت موجودة على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، متوافرة ، عند المسلمين ، حتى لو كان بعضها يحتوي على بعض سور القرآن لاكلها ، فقد كانت هذه المصاحف وسيلتهم في التلاوة اليومية للقرآن الكريم ، وطائفة الأحاديث الواسعة التي تؤكد هذا ، تؤكد قبله على حثّ الرسول نفسه صلى‌الله‌عليه‌وآله على كتابة القرآن وجمعه ، ومن هذه الأحاديث النبوية الشريفة :

ـ « النظر في المصحف عبادة ».

ـ « أديموا النظر في المصحف ».

_______________________

(١) مجمع الزوائد ١ : ١٥٢.

(٢) الجامع الصحيح للترمذي ٥ : ٢٧٣ ، المستدرك ٢ : ٢٢٢ ، مسند أحمد ١ : ٥٧ و ٦٩ ، تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٣.

(٣) الموسوعة القرآنية ١ : ٣٥٢ ، والقصة ثابتة في سائر كتب السير.

٨٢

ـ « أعطوا أعينكم حظّها من العبادة » قالوا : وما حظّها من العبادة ؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « النظر في المصحف ، والمتفكر فيه ، والاعتبار عند عجائبه ». ولاريب أنّ حظ العين محفوظ في المهمة الاولى « النظر في المصحف » ، فوجود مصحف يتلا منه القرآن كان مفضلاً على تلاوة من الحافظة ، ولا تخفى حقيقة الغرض الأهم من هذا وهي حفظ القرآن للأجيال القادمة (١).

هذه أدلة كافية على أن القرآن الكريم كان يدون في وقت نزوله ، ويجمع ويرتّب مباشرة باشراف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، الأمر الذي وفّر له سلامته من النقصان ومن التحريف ومن التصرف. وإضافة إلى هذا فإن عملية مراجعة شاملة لكل ما نزل من القرآن كانت تجري سنوياً ، وفي السنة التي توفي فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كررت هذه العملية مرتين ، وفي حينها كان القرآن قد اكتمل نزوله (٢). هذا غير مبادرات الصحابة أنفسهم لعرض مصاحفهم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد عرف هذا في تاريخ عدد غير قليل منهم ، عدّهم الذهبي سبعة : « عثمان بن عفان ، وعلي بن أبي طالب ، وعبد الله بن مسعود ، وأُبي بن كعب ، وزيد بن ثابت ، وأبو موسى الأشعري ، وأبو الدرداء » (٣). ولايعني اشتهار أخبار هؤلاء السبعة أن الأمر كان مقصوراً عليهم ، بل قد يعني فقط أن الأمر معهم أكثر ثباتاً وشهرةً وأهمية.

_______________________

(١) سلامة القرآن من التحريف / علي موسى الكعبي : ٩٣ ـ ٩٤.

(٢) راجع : صحيح البخاري ٦ : ٣١٩ ، مجمع الزوائد ٩ : ٢٣ ، كنز العمال ، الحديث ٣٤٢١٤.

(٣) البرهان في علوم القرآن / الزركشي ١ : ٣٠٦.

٨٣

يتضح من كل هذا ، وهو بعض الأدلة الثابتة فقط لا كلها ، أن مهمة حفظ القرآن الكريم وتدوينه كانت واحدة من المهمات التي تبناها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بنفسه ، فأشرف عليها مدة حياته كلها ، فكأنه كان يرعى مؤسسة ناشطة مهمتها تدوين القرآن والتحقق المستمر من كل ماتم تدوينه بين الآونة والأخرى ، وهي مؤسسة عظمى تلك التي يرعاها الرسول المكرم بنفسه ، وينتمي إليها رجال من عمالقة الصحابة علماً ومعرفةً وإخلاصاً.

من هنا كانت المهمة اللاحقة ، وهي إعادة تدوين القرآن في مصحف واحد ، وبترتيب واحد ، هو الترتيب الذي عرضه الرسول الأكرم في عرضه الأخير ، مهمة يسيرة للغاية ، لم تتطلب إلّا أياماً معدودة في عهد أبي بكر ، أنجزها طائفة من هؤلاء النفر الذين كتبوا القرآن كله وعرضوه أكثر من مرة على الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله « وقد كانت اُلوف المصاحف رقيبة على الحفاظ ، وألوف الحفاظ رقباء على المصاحف ، وتكون الألوف من كلا القسمين رقيبة على المتجدد منها ، نقول الألوف ولكنها مئات الألوف وألوف الألوف ، فلم يتفق لأمر تاريخي من التواتر وبداهة البقاء مثل ما اتفق للقرآن الكريم » (١).

لعل هذه أول وأهم مزية امتاز بها القرآن على ما سواه من الكتب السماوية ، وخاصة التوراة والانجيل ، التي لم تحظ بشيء من هذه العناية لا في الحفظ ، ولا في التدوين ، الأمر الذي جعلها عرضةً لكل ما أصابها مما وقفت على أطراف منه.

يقول موريس بوكاي : إن لتنزيل القرآن تاريخا يختلف تماماً عن تاريخ

_______________________

(١) آلاء الرحمن / البلاغي : ٥١ ـ ٥٢.

٨٤

العهد القديم والأناجيل ، فتنزيله يمتد على مدى عشرين عاماً تقريباً ، وبمجرد نزول جبريل على النبي كان المؤمنون يحفظونه عن ظهر قلب ، بل قد سُجّل كتابةً حتى في حياة محمد.

إن التجميعات الأخيرة للقرآن التي تمت في خلافة عثمان ، فيمابين ١٢ ـ ٢٤ عاماً من بعد وفاة النبي قد أفيدت من الرقابة التي مارسها هؤلاء الذين كانوا يعرفون أن النصّ منذ ذلك العصر قد ظلّ محفوظاً بشكل دقيق.

إن القرآن لايطرح مشاكل تتعلق بالصحة (١).

هذا المزية حفظت للقرآن الكريم مزيتيه اللاحقتين لها ، وهما : إعجاز القرآن ، وخلوه من الاختلاف والتعارض والتناقض الذي رأينا بعض أمثلته في التوراة والانجيل. فإعجاز القرآن في نصه الموحىٰ ونسقه الموحىٰ لم يكن يتحقق له الحفظ إلّا بهذا الاسلوب الذي تم فيه حفظ القرآن وتدوينه ، فبقي النص القرآني ثابتاً كما أنزل في كل مفرداته ، وليس آياته فقط ، وهذه مزية لايستطيع أن يدعيها أحد للتوراة أو للانجيل.

ثم عدم الاختلاف أيضاً ، وعدم التعارض ، هو الأمر الآخر الذي سيترتب على حفظ النص المنزل بحرفه ومفردته ونسقه وسياقه ، دون أدنى مجال لتصرف بشري فيه ، وهذا ما تحقق للقرآن وحده ، بفضل ذلك الجهد الجبار المبكر والمتواصل ، وحرمت منه التوراة والانجيل لغياب هذا النوع من الجهد وانعدامه ، فكانت الابواب مشرعة للتدوين بالمعنى وبحسب القدرة على الحفظ والتذكر ، ناهيك عن احتمال تدخل الاهواء في الغض عن بعضها أو

_______________________

(١) موريس بوكاي : ٣٠١.

٨٥

التصرف في بعضها ، مما وقفنا على نماذج منه على كلا الكتابين.

فبقي القرآن هو الكتاب السماوي الوحيد الذي ( لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ) (١) ولا يدخل إلى ساحته قدح في صحة نصوصه وثباتها وقطعيتها. وهكذا كان وعد الله تعالى مع القرآن : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) (٢) و ( إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ) (٣). هذا العهد الذي لم يدعيه أحد من كتاب التوراة والانجيل ، ولو ادعاه لكان محلاً للنقد ، بل ربما للسخرية أيضاً.

هذه المزايا التي اختص بها القرآن جعلته في منأى عن كل اضطراب وتناقض في مضامينه عامة ، دون استثناء ، مما يوفر علينا مهمة البحث في قضايا عقائدية تناولناها كما هي في التوراة أو في الانجيل ، فالقرآن الموحى من الله تعالى حفظت نصوصه الموحاة بحرفها ، فجاءت معاني التوحيد فيه متسقة منتظمة منسجمة كل الانسجام ، فكلها تتحدث عن إله واحد ، خالق السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما ، لاشريك له ، متعالٍ على خلقه ، لاتدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ، عليم بذات الصدور وما تخفي الاعين ، لايخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ، قادر ، مهيمن ، مريد ، فعال لما يريد.

وقد اصطفى من بين خلقه رسلاً وأنبياء بين الأمم ، في أجيالها المتعاقبة ، فكانوا جميعاً وبلا استثناء أكثر أبناء عهودهم كمالاً وحلماً وعلماً ومعرفةً ،

_______________________

(١) سورة فصلت : ٤١ / ٤٢.

(٢) سورة الحجر : ١٥ / ٩.

(٣) سورة القيامة : ٧٥ / ١٧.

٨٦

اختارهم الله لتبليغ رسالاته وهداية البشر ، فسدد خطاهم ، فكانوا على أتم الخُلُق وأكرمها ، أخلصوا قلوبهم لله الذي عرفوه أتم معرفة يبلغها بنو الانسان ، فكانوا النماذج المثلى في كل عهد وفي كل مكان. وهكذا اتسقت الصورة التوحيدية ، مع صورة النبوة وخصائص الأنبياء في القرآن الكريم ، على نحو لايناله قدح ، ولايشبهه شيء مما عرضته التوراة خاصة من قصص في غاية الغرابة والنكارة.

فالتوحيد في القرآن هو التوحيد الخالص النقي الذي يأخذ بمجامع القلوب ... والنبوّة في القرآن هي المهمة التي تحتل موقعها الحقيقي ومنزلتها العظمى دون خدش أو ريب أو اضطراب.

وهكذا جاءت سائر مواضيع العقيدة والأخلاق في القرآن ، في أعلى درجات النظم والتكامل والاتساق والانسجام ، على خلاف ما رأيناه في العهدين ووقفنا على أسبابه ومصادره.

(٢)

القرآن والعلم الحديث

نظرة مقارنة

نعود في هذا المبحث إلى موريس بوكاي الذي استوفاه في مئة وخمسين صفحة (١) ، بالرغم من وفرة الكتابات الاسلامية في هذا الاتجاه (٢) ، ذلك أن

_______________________

(١) موريس بوكاي / المصدر نفسه : ١٥٠ ـ ٢٩٩.

(٢) نظير : تفسير الجواهر ، والاسلام يتحدىٰ ، والعلم والايمان ، والطب والقرآن ، والتكامل في الاسلام ، وغيرها كثير.

٨٧

كتابة محقق مسيحي ستكون أدعى للقبول. وقد تناول بوكاي مباحث متعددة في هذا الباب أثبت في جميعها موافقة العلوم الحديثة لما عرضه القرآن من قضايا كونية ، وعضوية ، وتاريخية دقيقة ، مقدماً بالقول : « لقد أثارت هذه الجوانب العلمية التي يختص بها القرآن دهشتي العميقة في البداية ، فلم أكن أعتقد قط بإمكان اكتشاف عدد كبير إلى هذا الحد من الدعاوى الخاصة بموضوعات شديدة التنوع ، ومطابقة تماماً للمعارف الحديثة ، وذلك في نصٍّ كتب منذ أكثر من ثلاثة عشر قرناً ».

ويؤكد موضوعيته بقوله : « في البداية لم يكن لي إيمان بالاسلام ، وقد طرقت هذه النصوص بروح متحررة من كل حكم مسبق وبموضوعية تامة ، وإذا كان هناك تأثير ما قد مورس ، فهو بالتأكيد تأثير التعاليم التي تلقيتها في شبابي حيث لم تكن الغالبية تتحدث عن المسلمين ، وإنما عن المحمّديين لتأكيد الاشارة إلى أن المعني به دين أسسه رجل ! وبالتالي فهو دين عديم القيمة تماماً إزاء الله !! » (١).

ومن هذه المباحث المتعددة التي توقف عندها بوكاي ، نختار نماذج قليلة فقط ، مناسبة لهذا الكتيّب المختصر ، وكما بحثها هو واختار عناوينها ، مع الاختصار الشديد احياناً لما اخترناه أيضاً من مباحث :

المبحث الأوّل : خلق السماوات والأرض :

نقاط الاختلاف والتجانس مع رواية التوراة

يختلف القرآن عن العهد القديم من حيث إنه يقدم رواية كاملة عن

_______________________

(١) موريس بوكاي : ١٥٠ ـ ١٥١.

٨٨

الخلق. فبدلاً من الرواية الواحدة المستمرة نجد في أماكن متعددة من القرآن فقرات تذكر بعض جوانب رواية الخلق. وهي تشتمل على كثير أو قليل من التفصيلات حول أحداث الخلق. ولكي تكون هناك فكرة واضحة عن الطريقة التي سيقت بها هذه الأحداث ، لابد من تجميع الفقرات المتناثرة في عدد هام من السُّور. والقرآن يعالج بهذا الشكل عديداً من الموضوعات الهامة ، سواء أكان المقصود ظاهرات دنيوية ، أو سماوية ، أو مسائل خاصة بالإنسان تهم رجل العلم ، وسيجد القارئ في الصفحات التالية مجموعات الآيات الخاصة بكل موضوع من هذه الموضوعات.

يدّعي كثير من المؤلفين الأوربيين أن رواية القرآن عن الخلق قريبة إلى حد كبير من رواية التوراة (١) ، وينشرحون لتقديم الروايتين بالتوازي. إني أعتقد أن هذا مفهوم خاطئ ، فهناك اختلافات جلية ، ففيما يتعلق بمسائل ليست ثانوية مطلقاً من وجهة النظر العلمية نكتشف في القرآن دعاوى لايجدي البحث عن معادل لها في التوراة. كما أن التوراة ، من ناحية أخرى ، تحتوي على معالجات تفصيلية لامعادل لها في القرآن.

إن التجانسات الظاهرية بين النصين معروفة جداً ، فبين هذه التجانسات نجد في الوهلة الأولى أن ترقيم مراحل الخلق المتعاقبة هو نفسه في النصين ؛ فأيام الخلق الستة في التوراة تعادل الأيام الستة في القرآن. ولكن المشكلة ،

_______________________

(١) رواية التوراة المقصودة هنا هي الرواية المسماة بالكهنوتية ، أما الرواية المسماة باليهودية فهي شديدة الإيجاز في نص التوراة الحالي. بحيث إنها لاتستحق الاعتبار في هذا المقام.

٨٩

في الواقع ، أكثر تشابكاً وتستحق وقفة عندها :

تذكر رواية التوراة ، ودون أي غموض ، تمام الخلق في ستة أيام يتبعها يوم الراحة ، يوم السبت ، وذلك بالتجانس مع أيام الأسبوع. ولقد رأينا أن هذه الطريقة في السرد التي استخدمها كهنة القرن السادس قبل الميلاد تستجيب لنيات الحض على ممارسة سبت الراحة : فعلى كل يهودي أن يستريح يوم السبت (١) كما فعل الرب بعد أن عمل طيلة أيام الأسبوع الستة.

إن كلمة « يوم » كما يفهم من التوراة تعرف المسافة الزمنية بين إشراقين متواليين للشمس أو غروبين متواليين ، وذلك بالنسبة لسكان الأرض. إن اليوم ، وقد تحدد بهذا المعنى ، يرتبط وظيفياً بدوران الأرض حول نفسها. وواضح تماماً أنه من المستحيل منطقياً أن نتحدث عن « الأيام » بهذا المعنى ذلك أن وجود الأرض ودورانها حول الشمس ، لم تكن قد أنشئت بعد عند أول مراحل الخلق وذلك بحسب رواية التوراة.

أما إذا رجعنا إلى نصوص غالبية ترجمات القرآن فإننا نقرأ فيها ـ بالتجانس مع ما تعلمنا التوراة به ـ أن القرآن يقول هو أيضاً بامتداد عملية الخلق على مدة ستة أيام. ولا يمكن بالطبع أن نعتب على المترجمين أنهم قد ترجموا كلمة « يوم » بالكلمة المعادلة لأكثر المعاني شيوعاً للكلمة العربية. وهكذا تعبر عنها الترجمات عادة مادمنا نقرأ : ( إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ) (٢).

_______________________

(١) أتت كلمة « سبت » من فعل في العبرية يعني الأرتياح.

(٢) سورة الأعراف : ٧ / ٥٤.

٩٠

وقليلة حقّاً ترجمات القرآن أو التعليقات التي تنبه إلى أن كلمة أيام ، في الواقع ، يجب أن تفهم على أنها تعني « مراحل ». بل لقد ادعى البعض القول بأنه إذا كانت نصوص القرآن الخاصة بالخلق قد قسمت مراحل الخلق في « أيام » فقد كان ذلك يهدف عن قصد إلى استئناف ما كان الكل ، من يهود ومسيحيين في فجر الإسلام ، يعتقد به ، وذلك تجنباً لمجابهة اعتقاد منتشر.

إن الكلمة مفردة تنحو إلى الدلالة على النهار أكثر منها للدلالة على فترة زمنية بين غروب الشمس وغروبها في اليوم التالي. أما إذا جمعت فلا تعني فقط أيام ، أي وحدات تتكون كل منها من أربع وعشرين ساعة ، بل تعني أيضاً دهراً طويلاً أو فترة من الزمن غير محدودة وإن طالت. ومن ناحية أخرى فمعنى « فترة زمنية » التي يمكن للكلمة أن تدل عليها موجودة أيضاً في القرآن : ( فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ) (١).

ومما هو جدير بالملاحظة أن الآية السابقة على الآية ٥ تذكر بالتحديد الخلق في ستة « أَيّامٍ ».

( ... فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) (٢).

وهذا قد بهر كثيراً من المفسرين القدامي الذين كانوا لايملكون بالطبع أي معارف من تلك التي نملكها اليوم عن مدة مراحل تكوّن الكون ، فظن أبو السعود (٣) ، الذي لم يكن يملك معرفة عن اليوم كما يحدده علم الفلك

_______________________

(١) سورة السجدة : ٣٢ / ٥.

(٢) سورة المعارج : ٧٠ / ٤.

(٣) مفسّر ، توفي سنة ٩٨٢ هـ.

٩١

بالاستناد إلى دورة الأرض ، أن من الواجب تصور تقسيم « مراحل » ليس إلى أيام بالمعنى الذي نفهم عادة بل إلى « نوبات ».

وهناك مفسرون محدثون قد أخذوا بهذا التفسير. فيوسف علي (١٩٣٤) في تفسيره لكل آية تعالج مراحل الخلق يصر على ضرورة اعتبار أن الكلمات التي تفسر في سياق آخر بمعنى أيام تفسر هنا في الواقع بمعنى « فترات طويلة » أو « عصور ».

فمن حقنا إذن أن نقبل ، فيما يتعلق بخلق العالم ، بقول القرآن ضمناً بفترات زمنية طويلة رقمها بالعدد ٦. ولا شك أن العلم الحديث لم يسمح للناس بتقرير أن عدد المراحل المختلفة للعمليات المعقّدة التي أدت إلى تشكل العالم هو ست مراحل ، ولكنه قد أثبت بشكل قاطع أنها فترات زمنية طويلة جداً ، تتضاءل إلى جانبها الأيام كما نفهمها وتصبح شيئاً تافهاً.

إن واحدة من أطول فقرات القرآن التي تتناول الخلق تذكر ذلك ، واضعة جنباً إلى جنب رواية خاصة بأحداث دنيوية وأخرى سماوية. إن في هذه الآيات يقول الله للنبي :

( قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَٰلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِّلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا

٩٢

بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ) (١).

هذه الآيات الأربع من سورة فصّلت تقدم جوانب متعددة : تعني الحالة الغازية الأوّلية للمادة السماوية ، والتعريف الرمزي للسماوات بالعدد ٧ ، وسنرى معنى الرقم. ورمزيٌّ أيضا الحوار بين الله من جانب والسماء والأرض البدائيين من ناحية أخرى ، المقصود هنا هو التعبير عن خضوع السماوات والأرض للأوامر الإلهية بعد تشكلها.

وقد بدا لي أن هناك فقرة واحدة في القرآن تقرر بشكل واضح وجود ترتيب في أحداث الخلق ، ونعني بذلك هذه الآيات :

( أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَٰلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ ) (٢).

إن وصف نعم الله الدنيوية على الناس. ذلك الذي يعبر عنه القرآن ، في لغة تناسب مزارعاً أو بدوياً من شبه الجزيرة العربية ، مسبوق بدعوة للتأمل في خلق السماء. ولكن المرحلة التي مد فيها الله الأرض وأخصبها تأتي بالتحديد زمنياً بعد إنجاز عملية توالي الليل والنهار. المذكور هنا إذن هو مجموعتان من الظاهرات جزء منها أرضي والآخر سماوي ، وقد حدث كلاهما في اتصال مع الآخر. وبالتالي فذكر هاتين المجموعتين من الظاهرات يعني أن الأرض كانت بالضرورة موجودة قبل أن تمدّ ، وعليه فقد كانت موجودة حين بنى الله

_______________________

(١) سورة فصلت : ٤١ / ٩ ـ ١٢.

(٢) سورة النازعات : ٧٩ / ٢٧ ـ ٣٣.

٩٣

السماوات. وينتج من هذا فكرة المصاحبة الزمنية لنمو كل من السماوات والأرض بشكل تتداخل فيهما الظاهرتان. وبناء عليه فلا يجب أن ترى أي دلالة خاصة في إشارة النص القرآني إلى خلق الأرض قبل السماوات أو خلق السماوات قبل الأرض ، فمواضع الكلمات لا تبين وجود ترتيب تحقق الخلق في إطاره ، إلا أن تكون تفصيلات أخرى معطاة.

عملية تشكل الكون الأساسية وانتهاؤها إلى تكوين العوالم :

يقدم القرآن في آيتين خلاصة مركبة ومختصرة للظاهرات التي كونت العمليه الأساسية لتشكل الكون.

( أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ) (١).

ويدعو الله إلى التأمل في خلق الأرض ثم يأمر النبي بأن يقول :

( ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ... ) (٢).

ويتبع ذلك الوصايا بالطاعة التي أشير إليها أعلاه.

وسنعود فيما بعد إلى الأصل المائي للحياة ، وسندرس ذلك مع مشاكل بيولوجية أخرى مذكورة في القرآن. أما الآن فيجب الالتفات إلى ما يلي :

(أ) الدعوى بوجود كتلة غازية ذات جزيئات. فكذلك يجب تفسير كلمة « دخان ». إذ يتكون الدخان عموماً من قوام غازي. حيث تعلق به بشكل أكثر أو أقل ثبوتاً جزيئات دقيقة قد تنتمي إلى حالات المواد الصلبة أو حتى

_______________________

(١) سورة الأنبياء : ٢١ / ٣٠.

(٢) سورة فصلت : ٤١ / ١١.

٩٤

السائلة مع درجة في الحرارة قد تقل أو تكثر.

(ب) الإشارة إلى عملية الفتق للكتلة الفريدة الأولى التي كانت عناصرها في البداية ملتحمة (يقول القرآن الرتق). ولنحدد جيداً أن « فتق » هو فعل القطع أو فك اللحام أو الفصل ، وأن « رتق » فعل اللحام ووصل العناصر بهدف تكوين كل.

هذا المفهوم في تفصيل الكل إلى أجزاء يتحدد بشكل دقيق في فقرات أخرى من القرآن ، وذلك بذكر عوالم متعددة. إن الآية الاولى من أول سورة في القرآن بعد فاتحة : ( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ ) (١) هِيَ : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) (٢).

ويتكرر تعبير ( الْعَالَمِينَ ) عشرات من المرات في القرآن. وكذلك السماوات فهي تذكر باعتبارها متعددة ، وليس ذلك فقط في صيغة الجمع بل تذكر أيضا مع ترقيم رمزي وذلك بالاستعانة بالعدد ٧.

الرقم ٧ مستخدم ٢٤ مرة في كل القرآن لتعدادات مختلفة ، وكثيراً ما يعني التعدد دون أن نعرف بشكل محدد سبب هذا الاستخدام بذلك المعنى. إن الرقم ٧ يبدو عند اليونان والرومان وكان له نفس معنى التعدد غير المحدد. وفي القرآن يعود الرقم ٧ على السماوات بمعناها الصرف سبع مرات. كما يشير الرقم مرة واحدة بشكل ضمني إلى السماوات. كما يشير مرة واحدة إلى طرق السماء السبعة ، وبالنسبة لكل هذه الآيات يجمع مفسرو القرآن على أن الرقم

_______________________

(١) سورة الفاتحة : ١ / ١.

(٢) سورة الفاتحة : ١ / ٢.

٩٥

« ٧ » يشير إلى تعدد دون تحديد آخر (١).

السماوات إذن متعددة وكذلك الكواكب المشابهة للأرض. وليس أقل ما يثير دهشة قارئ القرآن في العصر الحديث أن يجد في نص من هذا العصر تصريحاً بإمكان وجود كواكب أخرى تشبه الأرض في الكون ، وهذا مالم يتحقق منه الناس بعد في عصرنا.

( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ) (٢).

وبما أن الرقم « ٧ » يشير إلى تعدد غير محدود ، فيمكن استنتاج أن النص القرآني يشير بوضوح إلى أنه لايوجد إلا الأرض فقط ، أرض البشر ، بل هناك في الكون كواكب أخرى تشبه الأرض.

سبب آخر لإثارة دهشة قارئ القرآن في القرن العشرين ، تلك التي تشير إلى ثلاث مجموعات من المخلوقات وهي :

ـ تلك التي توجد في السماء.

ـ تلك التي توجد على الأرض.

ـ تلك التي توجد بين السماوات والأرض.

وإليكم بعض هذه الآيات :

_______________________

(١) إلى جانب القرآن وفي نصوص عصر محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أو في نصوص القرون الأولى التالية التي أوردت أحاديث محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نجد أن الرقم « ٧ » كثيراً ما يستخدم لمجرد الدلالة على التعدد.

(٢) سورة الطلاق : ٦٥ / ١٢.

٩٦

( لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَىٰ ) (١).

( الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ) (٢).

( وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ ) (٣).

إن الأشارة في القرآن إلى « ما بين السماوات والأرض » موجودة في آيات أخرى (٤).

بديهي قد يبدو هذا الخلق خارج السماوات وخارج الأرض والذي أشير إليه مرات عدة ، قد يبدو قليل التصور. ولكن ، لكي نفهم معاني تلك الآيات يجب الاستعانة بأحدث الملاحظات البشرية حول وجود مادة كونية « خارج المجرات » (Extra - galactique) كما يجب ، لنفس هذا السبب ، أن نتناول من جديد المعارف التي أثبتها العلم المعاصر حول تشكل الكون ـ منتقلين في

_______________________

(١) سورة طه : ٢٠ / ٦.

(٢) سورة الفرقان : ٢٥ / ٥٩.

(٣) تبدو هذه المقولة التي تصرح بأن الخلق لم يتعب الله مطلقا ، تبدو كأنها رد واضح على فقرة رواية التوراة التي ذكرناها في بداية هذا الكتاب ، والتي تقول بأن الله قد استراح في اليوم السابع بعد العمل الذي أنجز في الأيام التي سبقت ، والآية من سورة ق : ٥٠ / ٣٨.

(٤) راجع : سورة الأنبياء : ٢١ / ١٦ ، وسورة الدخان : ٤٤ / ٧ و ٣٨ ، وسورة النبأ : ٧٨ / ٣٧ ، وسورة الحجر : ١٥ / ٨٥ ، وسورة الأحقاف : ٤٦ / ٣ ، وسورة الزخرف : ٤٣ / ٨٥.

٩٧

ذلك من الأبسط إلى الأعقد ـ وسيكون هذا موضوع الفقرة التالية.

ولكن ، قبل أن ننتقل إلى هذه التأملات العلمية الصرف يحسن أن نلخص النقاط الأساسية التي يعلمنا بها القرآن فيما يتعلق بالخلق. بالاستناد إلى ما سبق ، فهذه النقاط هي :

١ ـ وجود ست مراحل للخلق عموماً.

٢ ـ تداخل مراحل خلق السماوات مع مراحل خلق الأرض.

٣ ـ خلق الكون ابتداء من كومة أولية فريدة كانت تشكل كتلة متماسكة تفصلت بعد ذلك.

٤ ـ تعدد السماوات وتعدد الكواكب التي تشبه الأرض.

٥ ـ وجود خَلقٍ وَسيطٍ « بين السماوات والأرض ».

المادة الكونية المنتشرة بين النجوم :

إن عملية تشكل الكون الأساسية من تكاثف للسديم الأولي ثم من انفصاله إلى أجزاء كوّنت في الأصل كتلاً مجريّة بدورها تجزأت هذه الأخيرة إلى نجوم صنعت منتجات ثانوية هي الكواكب ، وقد تركت هذه الانفصالات المتعاقبة بين مجموعات العناصر الرئيسية ما يمكن تسميته بالبواقي ، وهذه البواقي تسمى علميّاً بالمادة الكونية المنتشرة بين النجوم ، وقد وصفت هذه المادة بأشكال مختلفة : فمرة توصف على أنها سُدُم براقة تنشر ضوءاً استقبلته من نجوم أخرى ، وقد تتكون من « غبار » أو « أدخنة » على حساب تعبير علماء الفلك ، ومرة أخرى توصف على أنها سُدُم مظلمة ذات كثافة شديدة الضعف ، أو على أنها مادة كونية منتشرة بين النجوم تتميز بأنها شديدة الخفاء ، وبأنها تعوق

٩٨

المقاييس الفوتومترية في علم الفلك.

إن وجود جسور من تلك المادة بين المجرات لايشوبه أي شك ، وبرغم ندرة هذه الغازات ، وبسبب الفضاء الهائل الذي تحتله ـ إذ إن الفضاء الذي يفصل بين المجرات متناه في البعد ـ فإنها تستطيع أن تعادل كتلة قد تفوق مجموع كتل المجرات ، حتى وإن كانت هذه الغازات قليلة الكثافة. ويعلق ا.بواشو (A.Boichot) على وجود هذه الكتل المنتشرة بين المجرات أهمية أولى. فقد يكون من شأنها أن « تعدل إلى حد بعيد الأفكار الخاصة بتطور الكون ».

مقابلة مع المعطيات القرآنية عن الخلق :

ولنفحص الآن النقاط الجوهرية الخمس التي يعين القرآن عليها معلومات دقيقة خاصة بالخلق.

١ ـ لقد تخطى المراحل الست لخلق السماوات والأرض ، في قول القرآن ، تكوين الأجرام السماوية ، وتكوين الأرض ، والتطور الذي لحق بهذه الأخيرة بما جعلها بأقواتها قابلة لسكنى الإنسان. لقد وقعت الأحداث الخاصة بالأرض ، في رواية القرآن ، على أربع مراحل. ترى أيجب أن نرى في هذه المراحل معادلاً للعصور الجيولوجية التي يصفها العلم الحديث والتي ظهر الانسان في الرابع منها كما نعلم ...؟ ليس هذا إلا مجرد فرض. والله أعلم.

ولكن ينبغي ملاحظة أن تكوين الأجرام السماوية والأرض قد تطلب مرحلتين كما تشرح ذلك الآيات من ٩ إلى ١٢ من سورة فصلت ٤١. ويعرفنا العلم بأننا إذا أخذنا كمثال (وهو المثال الوحيد الممكن) اعتبار تكوين الشمس ونتاجها الثانوي ، أي الأرض ، نجد أن العملية قد تمت من خلال تكاثف

٩٩

السديم الأولي وانفصالهما. وذلك بالتحديد ما يعبر عنه القرآن بشكل صريح عندما يشير إلى العملية التي أنتجب ابتداء من « الدخان » السماوي « رتقاً ثم فتقاً ». إننا نسجل هنا التطابق الكامل بين المعطية القرآنية والمعطية العلمانية.

٢ ـ أوضح العلم تشابك حدثي تكوين نجم (مثل الشمس) وتابعه ، أو واحد من توابعه (مثل الأرض). ألا يتضح هذا التشابك في النص القرآني مثلما رأينا ...؟

٣ ـ إن المطابقة واضحة بين مفهوم السديم الأولي في العلم الحديث ، والدخان على حسب القرآن للدلالة على الحالة الغازية الغالبة للمادة التي كونت الكون في هذه المرحلة الأولى.

٤ ـ إن تعدد السماوات ، الذي عبر عنه القرآن بالرقم الرمزي « ٧ » والذي رأينا دلالته ، يتلقى من العلم الحديث تأكيداً له ، وذلك بفضل ملاحظات علماء الفلك عن نظم المجرات وعددها العظيم. وعلى العكس فإن تعدد الكواكب التي تشبه أرضنا ـ على الأقل في بعض الجوانب ـ هو مفهوم مستخلص من النص القرآني ، ولكن لم يثبت العلم وجوده حتى الآن. ومع ذلك فيرى المتخصصون أن هذا مفهوم معقول تماماً.

٥ ـ يمكن التقريب بين وجود الخلق الوسط بين « السماوات » و « الأرض » المعبر عنه في القرآن ، وبين اكتشاف جسور المادة التي توجد خارج النظم الفلكية المنظمة.

بناء على ذلك : فإذا كانت المسائل التي تطرحها رواية القرآن لم تتلق تماماً حتى يومنا توكيداً من المعطيات العلمية ، فإنه لايوجد على أي حال أقل

١٠٠