في مقارنة الأديان

الدكتور صائب عبد الحميد

في مقارنة الأديان

المؤلف:

الدكتور صائب عبد الحميد


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-11-0
الصفحات: ١٤٦
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

تعارضٍ بين المعطيات القرآنية الخاصة بالخلق وبين المعارف الحديثة عن تكوين الكون. ذلك أمر يستحق الالتفات إليه فيما يخص القرآن.

على حين قد ظهر بجلاء أن نص العهد القديم الذي نملك اليوم قد أعطى عن هذه الأحداث معلومات غير مقبولة من وجهة النظر العلمية. وكيف لاندهش لذلك خاصة إذا علمنا أن النص الأكثر تفصيلية عن رواية الخلق في التوراة (١) قد كتب بأقلام كهنة عصر النفي إلى بابل ، وقد كان لهؤلاء الكهنة الأهداف التشريعية (Leqalistes) التي حددناها أعلاه. فاصطنعوا لتلك الأهداف رواية تتفق ونظراتهم اللاهوتية.

إن وجود هذا الاختلاف بين رواية التوراة والمعطيات القرآنية عن الخلق جدير بالتنويه أمام الاتهامات ـ وكلها عفوية ـ التي لم توفر على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله منذ بدايات الإسلام. والتي تقول بأن محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله قد نقل روايات التوراة. فيما تعلق بموضوع الخلق. فإن الاتهام لايتمتع بأي أساس. كيف كان يمكن لإنسان ، منذ أربعة عشر قرناً تقريباً ، أن يصحح إلى هذا الحد الرواية الشائعة في ذلك العصر ، وذلك باستبعاد أخطاء علمية ، وبالتصريح بمبادرته وحده بمعطيات أثبت العلم أخيراً صحتها في عصرنا ؟! هذا فرض لايمكن الدفاع عنه. إن القرآن يعطي عن الخلق رواية تختلف تماماً عن رواية التوراة.

المبحث الثاني : علم الفلك في القرآن :

يحتوي القرآن على كثير من التأملات في السماوات. وقد رأينا ، في

_______________________

(١) يحجب نص الكهنة هذه السطور القليلة من الرواية الأخرىٰ المسماة باليهودية ، فهي من الإيجاز والغموض بما لايسمح لعقل علمي أن يأخذها في اعتباره.

١٠١

الفصل السابق الخاص بالخلق ، الإشارة إلى تعدد السماوات والكواكب التي قد تشبه الأرض ، وكذلك وجود ما يعرفه القرآن بأنه خلق وسط « بين السماوات والأرض » ، وذلك ما دل العلم الحديث على وجوده. الآيات الخاصة بالخلق إذن قد أعطت بشكل ما فكرة عامة على محتوى السماوات ، أي كل ما هو خارج كوكبنا.

وبالإضافة إلى الآيات التي تصف الخلق بشكل خاص ، فهناك حوالي أربعين آية أخرى تأتي بإيضاحات تكميلية من هذه المعطيات عن علم الفلك. وليس بعض هذه الآيات إلا تأملات في عظمة الخالق ، الذي رتب كل نظم النجوم والكواكب ، تلك التي نعرف أنها موضوعة في مراكز توازن ، وقد شرح نيوتن الثبوت الدائم لهذا التوازن بقانونه عن جاذبية الأجرام.

وتكون هذه الإشارات حدثاً جديداً في التنزيل الإلهي. فلا الإنجيل ولا العهد القديم يعالجان ترتيب الكون (باستثناء المفاهيم التي رأينا مجموع عدم صحتها في رواية التوراة عن الخلق). أما القرآن فهو ينظر طويلاً في هذا الموضوع. فما يحتويه هام ، ومالا يحتويه هام أيضاً. فهو لايحتوي في الواقع على ذكر النظريات السائدة في عصر تنزيله عن تنظيم العالم السماوي ، تلك النظريات التي أثبت العلم فيما بعد عدم صحتها. وسنعطي على ذلك مثالاً في الصفحات التالية. ولابد من التنويه بهذا الجانب ذي الطابع السلبي (١).

_______________________

(١) كثيراً ما سمعت من هؤلاء الذين يحتالون في البحث من تفسير وضعي ـ وتفسير وضعي ـ فقط لكل مشكلة يطرحها القرآن ، بأنه إذا كان يحتوي على

١٠٢

(أ) تأملات عامة في السماء :

( أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ ) (١).

( خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ... ) (٢).

( اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ... ) (٣).

وتدحض الآيتان الأخيرتان الاعتقاد القائل بعدم إطباق السماء على الأرض لقيام الأولى على عمد.

( وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا ... ) (٤).

( ... وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ ... ) (٥).

ومعروف أن ابتعاد الأجرام السماوية على مسافات عظيمة ومتناسبة طرديّاً مع الكتل نفسها يشكل أساس توازنها. فكلما تباعدت الأجرام وهنت

_______________________

إيضاحات مدهشة في علم الفلك ، فذلك لأن العرب كانوا علماء في هذا الميدان ، ذلك يعني أنهم ينسون ببساطة أن تطور العلم عامة في البلاد الإسلامية قد جاء بعد نزول القرآن ، وأن المعارف العلمية ، على أي حال لم تكن لتسمح في ذلك العصر العظيم لكائن بشري بأن يكتب بعض آيات في علم الفلك التي نجدها في الكتاب. وسنقدم الدليل على ذلك في الفقرات التالية.

(١) سورة ق : ٥٠ / ٦.

(٢) سورة لقمان : ٣١ / ١٠.

(٣) سورة الرعد : ١٣ / ٢.

(٤) الرحمن : ٥٥ / ٧.

(٥) سورة الحج : ٢٢ / ٦٥.

١٠٣

قوة جذب كل منها للأخرى. وكلما تقاربت كان لكل منها تأثير على الأخرى ، تلك حالة القمر ، فهو لقربه من الأرض (ذلك بالطبع في سياق علم الفلك) ، يؤثر بقانون الجاذبية على موقع الماء في البحار ، ومن هنا تجيء ظاهرة المد والجزر. إن التقارب الشديد بين جرمين سماويين يؤدي لامحالة إلى اصطدامهما. إن الخضوع للتوازن هو الشرط الأساسي لعدم وجود اضطرابات.

ومن ثم فالقرآن كثيراً ما يذكر خضوع السماوات لأمر الله.

يقول الله للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :

( قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ) (١).

وقد رأينا كيف يجب أن نفهم أن السماوات السبع تعني السماوات متعددة وليس سماوات محدودة بعدد.

( وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) (٢).

( الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ ) (٣).

( ... وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ... ) (٤).

( وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ) (٥).

هنا تكمل الآية الأخرى : فنتيجة الحسابات المذكورة هي انتظام رحلة

_______________________

(١) سورة المؤمنون : ٢٣ / ٨٦.

(٢) سورة الجاثية : ٤٥ / ١٣.

(٣) سورة الرحمن : ٥٥ / ٥.

(٤) سورة الأنعام : ٦ / ٩٦.

(٥) سورة إبراهيم : ١٤ / ٣٣.

١٠٤

الأجرام السماوية ، والقرآن يعبر عن هذا الانتظام بكلمة « دأب » وهي في النص على شكل اسم فاعل لفعل معناه الأول العمل بهمة وبلانقطاع. وقد أعطى هنا المعنى التالي : « الاجتهاد في عمل شيء ما بعناية ، وبشكل دائم لايتغير ، وبحسب عادة ثابتة » (١).

( وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ) (٢).

هذه إشارة إلى تقوس عرجون النخل الذي يتخذ شكل الهلال عندما يجف. وسنكمل التفسير فيما بعد.

( وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) (٣).

ويشير القرآن إلى النتيجة العملية للبنية السماوية مع التأكيد على أهميتها في تسهيل انتقالات الإنسان على الأرض وفي البحر وفي حساب الزمن. وتتضح هذه الملاحظة عندما نتذكر أن القرآن في الأصل كان رسالة موجهة إلى أناس لم يكن في مقدورهم أن يفهموا إلا اللغة السهلة ، لغتهم اليومية. وذلك هو سبب وجود تأملات كالتالية.

( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) (٤).

_______________________

(١) انظر : الكشاف للزمخشري ٢ : ٣٠٣.

(٢) سورة يس : ٣٦ / ٣٩.

(٣) سورة النحل : ١٦ / ١٢.

(٤) سورة الأنعام : ٦ / ٩٧.

١٠٥

( ... وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ) (١).

( هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَٰلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) (٢).

وهنا تحق ملاحظة : على حين وصفت التوراة الشمس والقمر بمنيرين ، مضيفة صفة الكبر إلى الأولى والصغر إلى الثاني ، يخص القرآن كُلاً منهما بفروق غير تلك التي تتعلق بالحجم. ولاشك أن الفرق في القول فقط ولكن كيف كان يمكن مخاطبة الناس في ذلك العصر دون بلبلتهم مع التعبير في الوقت ذاته عن فكرة أن الشمس والقمر ليسا كوكبين منيرين من طبيعة واحدة ...؟

(ب) طبيعة الأجرام السماوية : الشمس والقمر

تسمى الشمس في القرآن بالضياء ، ويسمى القمر بالنور. وإذا شئنا الحقيقة ، ففرق المعنى بين الاثنين ضئيل حتى وإن كان أصل ضياء « ضوءاً » ويعني برق ولمع (يقال ذلك عن النار ... إلى آخره).

ولكن القرآن يحدد الفرق بين الشمس والقمر عبر مقارنات أخرى.

( تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا ) (٣).

( أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا

_______________________

(١) سورة النحل : ١٦ / ١٦.

(٢) سورة يونس : ١٠ / ٥.

(٣) سورة الفرقان : ٢٥ / ٦١.

١٠٦

وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا ) (١).

( وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا * وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا ) (٢).

وواضح تماماً أن السراج الوهاج هو الشمس.

ويعرف القمر هنا باعتباره جرماً منيراً ، وأصل الكلمة « نور » (وهي صفة القمر). أما الشمس فيقارنها القرآن (بالسراج) أو بسراج وهّاج.

وبالتأكيد فإن الإنسان في عصر محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يستطيع التفريق بين الشمس الجرم السماوي الملهب الذي يعرفه جيداً سكان الصحراء ، وبين القمر وهو جرم طراوة الليالي. إذن فالمقارنات الخاصة بهذا الموضوع ، والتي نجدها في القرآن طبيعية تماماً. وماتهم الإشارة إليه هنا هو ذلك الإيجاز في المقارنات. بالإضافة إلى عدم احتواء نص القرآن على أي عنصر مقارن كان سائداً في ذلك العصر ، وأصبح اليوم وهماً.

المعروف أن الشمس نجم ينتج باحتراقه الداخلي حرارة شديدة وضوءاً ، على حين أن ليس القمر مضيئاً بذاته. بل هو يعكس الضوء الذي يستقبله من الشمس كما أنه كوكب خامل (ذلك على الأقل بالنسبة لقشرته الخارجية). لاشيء إذن في القرآن يناقض كل ما نعرف اليوم عن هذين الجرمين السماويين.

(جـ) البنية السماوية :

ما نجد عن هذه المسألة في القرآن يخص النظام الشمسي بشكل رئيسي ، غير أن هناك أيضاً إشارات إلى ظاهرات تفوق النظام الشمسي نفسه ، ولقد

_______________________

(١) سورة نوح : ٧١ / ١٥ ـ ١٦.

(٢) سورة النبأ : ٧٨ / ١٢ ـ ١٣.

١٠٧

اكتشفت هذه الظاهرات في العصر الحديث.

وهناك آيتان ، غاية في الأهمية ، تخصان مداري الشمس والقمر :

( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) (١).

( لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) (٢).

القرآن يذكر بوضوح أمراً جوهرياً. ألا وهو وجود مدار لكل من الشمس والقمر ، كما يشير إلى تنقل هذين الجرمين في الفضاء كل بحركة خاصة.

وبالإضافة إلى ذلك فقراءة هاتين الآيتين تظهر بالسلب أمراً آخر وهو الإشارة إلى تنقل الشمس على مدار دون تفصيل عن هذا المدار بالنسبة إلى الأرض ، فهذا المدار ظاهري فقط بالنسبة للملاحظ. وقد كان يعتقد في عصر تنزيل القرآن أن الشمس تنتقل مع الأرض كنقطة ثابتة. كان ذلك هو نظام المركزية الأرضية السائد منذ بطليموس (Ptolemee) ، أي منذ القرن الثاني قبل الميلاد ، والذي ظل يحظى بالتأكيد حتى قوبرنيق (Copernic) ، في القرن السادس عشر. هذا المفهوم ، برغم التشيع له في عصر محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله لايظهر في أي موضع من القرآن ، لا في الآيات الكونية ولا في مواضع أخرى.

وجود مدارين للقمر والشمس :

ما يفسر هنا بمدار هو فلك في نص القرآن ، وهي كلمة عربية قديمة.

_______________________

(١) الأنبياء : ٢١ / ٣٣.

(٢) سورة يس : ٣٦ / ٤٠.

١٠٨

وكثير من المترجمين ومن المعلقين يعطون لكلمة فلك معنى كرة ويترجمها حميد الله بمدار.

ولقد حيرت الكلمة قدامى مفسري القرآن ، إذ لم يكن بمقدورهم أن يتخيلوا الرحلة الدائرية للقمر والشمس في الفضاء ، وعليه فقد تمثلوا عن مسيرتي هذين الجرمين صوراً مغلوطة تماماً ، أو على درجات مختلفة من الصحة. ويذكر حمزة أبوبكر في ترجمة للقرآن بتنوع التفسيرات المعطاة لكلمة الفلك منها : « هو كهيئة حديد الرحى ، كرة سماوية ، مدار ، بروج ، جري ، سرعة ، موج مكفوف ... » ولكنه يضيف هذه الكلمة الحكيمة التي قالها الطبري مفسر القرن العاشر الشهير : « ... ونسكت عما لاعلم لنا فيه » (١). ذلك يوضح لنا إلى أي حد كان الناس عاجزين عن تمثل فكرة المدار الشمسي والمدار القمري.

ويتضح من هذا أنه إذا كانت كلمة فلك تعني مفهوماً سائداً في عصر محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لما لقي تفسير هذه الآيات مثل هذه المصاعب ، وعليه فقد قدم القرآن في ذلك العصر مفهوماً جديداً لم يتضح إلا بعد قرون عدة.

الإشارة إلى تنقل القمر والشمس في الفضاء بحركة خاصة :

لاوجود لهذا المفهوم في ترجمات وتفسيرات القرآن التي قام بها أدباء ، ولجهلهم بعلم الفلك فإنهم قد فسروا من الكلمة العربية التي تعبر عن هذه الحركة معنى واحداً من معانيها وهو « عام ـ يعوم » : نجد ذلك في التفسيرات الفرنسية والتفسير الإنجليزي سواء ، وهذا الأخير الذي قام به يوسف علي في

_______________________

(١) تفسير الطبري ١٧ : ١٥ و ١٦.

١٠٩

ترجمته الإنجليزية يستحق التقدير.

إن الكلمة العربية التي تشير إلى تنقل بحركة خاصة هي (سبح) (وفي الآيتين : « يَسْبَحُونَ »). إن كل معاني الكلمة تتضمن التنقل بحركة يتميز بها الجرم الذي يتنقل. ويكون المعنى سبح إذا كان هذا التنقل في الماء ، ويكون كذلك أيضا إذا كان التنقل على الأرض بالأقدام. وفيما يتعلق بالحركة في الفضاء فمن العسير التعبير عن هذه الفكرة المتضمنة في الكلمة إلا بأستخدام معناها الأولي. بهذا الشكل لايبدو أنه قد وقع خطأ باستخدام معنى أصلي وذلك للأسباب التالية :

ـ يؤدي القمر دورته حول نفسه في نفس الوقت الذي يتم فيه دورته حول الأرض ، أي فيما يقارب ٢٩ يوماً ونصف يوم ، وبحيث إن وجهه هو دائماً نفس الوجه أمام ناظرينا.

ـ تدور الشمس حول نفسها في ٢٥ يوماً تقريباً ، وهناك بعض صفات خاصة في الدورة بالنسبة لخط الاستواء والقطبين ، ولن نصر على هذه الخواص ، ولكنها مدفوعة بحركة دورية في المجمل العام.

ويظهر إذن أن هناك فرقاً كلامياً دقيقاً يشير فيه القرآن إلى الحركات الخاصة لكل من الشمس والقمر. ولقد أكد العلم الحديث حركات هذين الجرمين السماويين ، ولايمكن تصور أن رجلاً في القرن السابع من عصرنا قد استطاع تخيل هذا مهما يكن عالماً في عصره ، وليس ذلك حال محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ويدفع أحياناً ضد هذه الرؤية بحالات لمفكرين كبار من العصر القديم كانوا قد صرحوا دون أي جدال ببعض الأمور التي اعترف العلم الحديث

١١٠

بصحتها. ومع ذلك فلم يكن باستطاعة هؤلاء المفكرين الاعتماد على الاستنتاج العلمي ، بل كانوا يعتمدون أكثر ما يعتمدون على التعقل الفلسفي. يدفع كثيراً على سبيل المثال بحالة الفيثاغورثيين الذين كانوا يدافعون في القرن السادس قبل الميلاد عن نظرية دوران الأرض حول نفسها وجري الكواكب حول الشمس ، وهي النظرية التي أكد صحتها العلم الحديث. فإذا قمنا بالتقريب بين حالة الفيثاغورثيين والحالة التي تعنينا ، يصبح من اليسير الدفع بالفرض القائل بأن محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله كان مفكراً عبقرياً ، وقد تخيل وحده ما اكتشفه العلم الحديث بعده بقرون. وببساطة فهؤلاء النقاد بتفكيرهم هذا ، ينسون ذكر الجوانب الأخرى للإنتاج العقلي عند عباقرة التفكير الفلسفي ، كما ينسون ذكر الأخطاء الجسيمة التي تشين مؤلفاتهم.

على سبيل المثال يجب ألا ننسى أن الفيثاغورثيين كانوا يدافعون أيضاً عن نظريات ثبات الشمس في الفضاء ، وأنهم جعلوها مركز العالم غير متصورين وجود بنية سماوية إلا حول الشمس. الواقع أن وجود خليط من الأفكار الصحيحة والخاطئة عن الكون أمر جار عند كبار الفلاسفة القدامى ، ويجب ألا يبهرنا بريق المفاهيم المتقدمة في هذه المؤلفات الإنسانية ، وينسينا المفاهيم المغلوطة التي خلقتها أيضاً. ذلك ما يفصلها ـ من وجهة النظر العلمية والعلمية فقط ـ عن القرآن الذي نجد فيه ذكر عديد من الموضوعات المتعلقة بالمعارف الحديثة دون أن تكون به أي دعوى مناقضة لما أثبته العلم في عصرنا.

تعاقب النهار والليل :

من الإنسان من لم يكن ليتحدث عن حركة الشمس فيما يتعلق بتعاقب

١١١

النهار والليل ، في عصر كانوا يعتبرون فيه الأرض مركز العالم ، وأن الشمس متحركة بالنسبة إلى الأرض ، وبرغم ذلك فهذا الأمر لايظهر في القرآن الذي يعالج الموضوع كما يلي :

( يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا  ... ) (١).

( وَآيَةٌ لَّهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ ) (٢).

( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ ) (٣).

( ... يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ ) (٤).

لاتحتاج الآية الأولى إلى تعليق ، والآية الثانية تريد فقط أن تعطي صورة ، أما الآيتان الثالثة والرابعة فيمكن ، بشكل رئيسي ، أن يمثلا أهمية بالنسبة إلى عملية تداخل ، وبالذات تكور الليل على النهار والنهار على الليل (٥).

كوّر يعني لف ، كما يقول ر.بلاشير (R.Blachere) في ترجمته القرآن. والمعنى الأولي لهذا الفعل هو كوّر على الرأس عمامة على هيئة حلزونية. وتحتفظ كل المعاني الأخرى للكلمة بمفهوم التكور.

وعليه ، فماذا يحدث إذن في الفضاء ...؟ إن الشمس تضيء بشكل دائم (فيما عدا فترات الخسوف) نصف الكرة الأرضية التي تقع أمامها ، على حين

_______________________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ٥٤.

(٢) سورة يس : ٣٦ / ٣٧.

(٣) سورة لقمان : ٣١ / ٢٩.

(٤ و ٥) سورة الزمر : ٣٩ / ٥.

١١٢

يظل النصف الآخر مظلماً. وقد رأى رواد الفضاء الأمريكيون هذا وصوروه من مركباتهم الفضائية وخاصة على بعد بعيد عن الأرض ... من على القمر مثلاً. وبدوران الأرض حول نفسها على حين تظل الإضاءة ثابتة ، فإن المنطقة المضاءة منها ـ وهي على شكل نصف كروي ـ تؤدي في أربع وعشرين ساعة دورتها حول الأرض ، على حين يتم النصف الآخر المظلم في نفس الوقت نصف الرحلة. والقرآن يصف بشكل كامل هذه الدورة التي لاتكف أبدا للنهار والليل ، وهي اليوم يسيرة على الإدراك الإنساني ، فنحن نملك اليوم خبرة فكرية عن ثبوت الشمس (١) وعن دورة الأرض. هذه العملية الدائمة في التكور مع الولوج المستمر لقطاع في آخر يعبر القرآن عنها ، وكأن اكتشاف استدارة الأرض كان قد تم في عصر تنزيل القرآن ، وبالطبع لم يكن هذا قد حدث بعد.

ويجب أن نربط بهذه الاعتبارات الخاصة بتعاقب النهار والليل إشارات بعض الآيات القرآنية عن تعدد المشارق والمغارب ، وأهمية هذه الإشارات وصفية فقط وملاحظتها أمر شائع ، ولايشار إليها هنا إلا بهدف النقل الكامل ما أمكن من كمال لما يحتويه القرآن عن هذا الموضوع ، وعلى سبيل المثال فمن هذه الآيات ما يلي :

( ... بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ ... ) (٢).

_______________________

(١) فهو ثبوت نسبي.

(٢) سورة المعارج : ٧٠ / ٤٠.

١١٣

( رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ ) (١).

( ... بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ ... ) (٢) وهي صورة تعبر عن اتساع المسافة بين نقطتين.

إن الملاحظ لشروقات الشمس وغروباتها يعرف جيداً أن الشمس تشرق من نقاط مختلفة في الشرق وتغرب على نقاط مختلفة في الغرب ، وذلك حسب الفصول. إن العلامات التي تتخذ على كل من الأفقين تحدد نقاطاً قصوى تشير إلى مشرقين ومغربين ، توجد بينهما نقاط وسيطة على مدار السنة. ولاشيء غير عادي في هذه الظاهرة. ولكن ما ينبغي للنظر أن يلتفت إليه هو ما يرجع على موضوعات أخرى محل للبحث في هذا الفصل ، ونجد فيها وصف الظاهرات الفلكية المذكورة في القرآن ، وهذا الوصف يبدو متطابقاً مع المفاهيم الحديثة.

(د) تطور العالم السماوي :

بتذكيرنا للأفكار الحديثة عن تشكل الكون عرضنا للتطور الذي حدث من القديم الأولي إلى تشكل المجرات والنجوم فيما يخص النظام الشمسي إلى ظهور الكواكب انطلاقاً من الشمس في مرحلة ما من تطورها. وتسمح المعطيات الحديثة بالتفكير في وجود تطور مستمر حتى الآن للنظام الشمسي ، وللكون بشكل عام.

كيف لانقوم بالتقريب ، عندما نكون عارفين بهذه المفاهيم ، بين بعض المقولات التي نجدها في القرآن عندما نذكر شواهد القدرة الإلهية ...؟

_______________________

(١) سورة الرحمن : ٥٥ / ١٧.

(٢) سورة الزخرف : ٤٣ / ٣٨.

١١٤

القرآن يذكر على مرات متعددة أن الله ( وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى ) ، هذه الجملة نجدها في آيات متعددة في القرآن (١).

أكثر من ذلك ففكرة الأجل المسمى مشتركة بفكرة مكان للوصول إليه محدد ، نجد هذا في : ( وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ) (٢).

والمكان المحدد هو تفسير الكلمة « مستقر ». وليس هناك أدنى شك في أن فكرة المكان المحدد مرتبطة بهذه الكلمة.

كيف تبدو المقابلة بين هذه الدعاوى والمعطيات التي أقرها العلم الحديث ...؟ يعطي القرآن حداً لتطور الشمس ومكاناً لوصولها ، وهو حدد أيضاً نهاية شوط القمر. ولكي تفهم المعنى الممكن لهذه المقولات ، يجب التذكير بالمعارف الحديثة عن تطور النجوم عامة والشمس خاصة ، وبالتالي عن المشكلات السماوية التي تتبع بالضرورة حركة الشمس في القضاء والتي يعد القمر جزءاً منها.

الشمس نجم يقدر علماء الفلك عمره بحوالي ٤.٥ مليار سنة. وكما هو الحال بالنسبة لكل النجوم فيمكن تحديد مرحلة تطوره. الشمس حالياً في مرحلة أولى تتسم بتحول ذرات الهيدروجين إلى ذرات الهليوم : نظرياً يمكن أن تدوم هذه المرحلة ٥.٥ مليار سنة على حسب الحسابات التي أنجزت ،

_______________________

(١) سورة الرعد : ١٣ / ٢ ، سورة لقمان : ٣١ / ٢٩ ، سورة فاطر : ٣٥ / ١٣ ، سورة الزمر : ٣٩ / ٥.

(٢) سورة يس : ٣٦ / ٣٨.

١١٥

والتي تقدر لهذه المرحلة الأولى لنجم من نمط الشمس ديمومة زمنية قدرها ١٠ مليارات سنة. تلي هذه المرحلة ـ كما لوحظ ذلك بالنسبة إلى نجوم أخرى ، من نفس النمط ـ فترة ثانية تتميز بتمام تحول الهيدروجين إلى هليوم ، وتكون نتيجة هذا التحول تمدد الطبقات الخارجية وبرود الشمس النهائية تتناقص ضوئية الشمس بشدة وترتفع كثافتها بشدة أيضاً : ذلك ما يلاحظ في أنماط النجوم المسماة بالأقزام البيضاء.

ما يجب الالتفات إليه في كل هذا ، ليس التواريخ ، فهي لاتهم إلا من حيث إنها تعطي تقديراً تقريبياً لعامل الزمن ، فما يتضح أساساً هو فكرة التطور. إن المعطيات الحديثة تسمح بالتنبؤ بأنه بعد عدة مليارات من السنوات لن تكون ظروف النظام الشمسي ما هي عليه اليوم. وكما حدث بالنسبة لنجوم أخرى سجلت تحولاتها حتى المرحلة الأخيرة فيمكن توقع نهاية للشمس.

تحدثت الآية الثانية المذكورة (١) هنا عن الشمس جارية نحو مكان خاص بها « لمستقرها ».

ويحدد علم الفلك الحديث بشكل كامل هذا المكان ، بل لقد أعطاه اسم (مستقر الشمس) (Apex Solaire). الواقع أن النظام الشمسي يتحرك في الفضاء نحو نقطة في فلك (Constellation) هرقل مجاورة لنجمة فيجا (Vega a Lyrae) التي تحددت تماماً إحداثيتها ، ولقد أمكن تحديد سرعة هذه الحركة تقريباً ١٩ كم / ثانية.

لقد كان من الواجب ذكر معطيات علم الفلك هذه بمناسبة تفسير آيتي

_______________________

(١) سورة يس : ٣٦ / ٣٨.

١١٦

القرآن اللتين نستطيع أن نقول إنهما تتطابقان تماماً فيما يتضح مع المعطيات العلمية الحديثة.

توسع الكون :

توسع الكون هو أعظم ظاهرة اكتشفها العلم الحديث. ذلك مفهوم قد ثبت تماماً ، ولا تعالج المناقشات إلا النموذج الذي يتم به هذا التوسع.

وإذا كانت النسبية العامة هي التي أوحت به ، فإن توسع الكون مفهوم يعتمد على معطيات مادية ، وذلك من خلال دراسات طيف المجرات ، فالانتقال المنهجي نحو اللون الأحمر من الطيف يجد تعليلاً له في تنحي المجرات كل عن الأخرى. وعلى ذلك فامتداد الكون لايكف عن الكبر. وهذا الاتساع على أهمية أكثر خاصة وإن المجرات تبتعد عنا. إن السرعات التي تنتقل بها الأجرام السماوية قد تتراوح من أجزاء من سرعة الضوء إلى مقادير سرعته.

ترى أيمكن أن نقابل الآية التالية ، التي يتحدث فيها الله ، بهذه المفاهيم الحديثة ...؟ ( وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ) (١). ألا تعنى السماء بالتحديد الكون خارج الأرض ؟ « وَمُوسِعُونَ » اسم فاعل لفعل « أوسع » ويعني عرض وجعل الشيء شاسعاً وأكثر رحابة.

وبعض المفسرين ممن لم يقدروا على إدراك معنى الكلمة الأخيرة أعطوها دلالات تبدو لي مَغْلُوطَة كقول ر.بلاشير « كنا رحابة ». وبعض كتاب آخرين يحدسون المعنى دون أن يجرؤوا على التصريح به : فحميد الله يتحدث

_______________________

(١) سورة الذاريات : ٥١ / ٤٧.

١١٧

في ترجمته للقرآن عن اتساع السماء والفضاء ، ولكن مع علامة استفهام. من المفسرين ممن يحتاطون لتفسيراتهم برأي العلماء ويعطون التفسير الذي قدمنا. وذلك حال من وضعوا تفسير المنتخب الذي طبعه المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بالقاهرة. إنهم يتحدثون دون أدنى غموض عن توسع الكون.

المبحث الثالث : أصل الحياة وتناسل الانسان

(أ) أصل الحياة

شغلت هذه المسألة في كل العصور الإنسان ، سواء ما كان يخصه منها أو ما يخص الكائنات الحية المحيطة به.

وعندما يواجه القرآن أصل الحياة على مستوى عام تماماً ، فإنه يذكر ذلك بإيجاز بالغ في آية تخص أيضاً عملية تشكل الكون التي ذكرناها وعلقنا عليها سابقاً.

( أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ )(١)

ليس هناك شك في مفهوم المصدر. فالعبارة يمكن أن تعني أن كل شيء مصدره الماء كمادة جوهرية ، أو أن أصل كل شيء حي هو الماء. ويتفق هذان المعنيان تماماً مع [ المعطيات ] العلمية : فالثابت بالتحديد أن أصل الحياة مائي ، وأن الماء هو العنصر الأول المكون لكل خلية حية ، فلا حياة ممكنة بلا ماء ؛ وإذا ما نوقشت إمكانية الحياة على كوكب ما ، فإن أول سؤال يطرح هو :

_______________________

(١) سورة الأنبياء : ٢١ / ٣٠.

١١٨

أيحتوي هذا الكوكب على كمية [ من الماء ]كافية للحياة عليه ...؟

وتسمح المعطيات الحديثة بالاعتقاد بأن أقدم الكائنات الحية كانت تنتمي إلى عالم النبات ، فقد اكتشفت طحالب ترجع إلى ما قبل العصر الكمبري (Prcambnen) أي في أقدم الأراضي المعروفة ، ولابد أن عناصر عالم الحيوان قد ظهرت بعد ذلك بقليل ، وقد أتت أيضاً من المحيطات.

وتشير كلمة ماء إلى ماء السماء ، كما تعني ماء المحيطات ، أو أي سائل آخر ، وبالمعنى الأول فالماء هو العنصر اللازم لأي حياة نباتية.

( ... وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّىٰ ) (١).

وتلك أول عبارة عن « الزوجية » في النباتات وسنعود فيما بعد إلى هذا المفهوم. إن الكلمة بمعناها الثاني ، أي ذلك الذي يعني « سائل » دون أي تحديد ، مستخدمة في شكلها غير المحدد للدلالة على ما هو أصل تشكل أي حيوان.

( وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِّن مَّاءٍ ) (٢).

وسنرى فيما بعد أن الكلمة تنطبق أيضاً على السائل المنوي (٣).

وإذن فسواء كان المقصود هو أصل الحياة عموماً ، أو العنصر الذي يجعل النباتات تولد في التربة ، أو كان المقصود هو بذرة الحيوان ، فإن كل عبارات القرآن تتفق تماماً مع المعطيات العلمية الحديثة ، ولامكان مطلقاً في نص

_______________________

(١) سورة طه : ٢٠ / ٥٣.

(٢) سورة النور : ٢٤ / ٤٥.

(٣) سائل مفروز بواسطة الغدد الخاصة بالتناسل ، وهو يحتوي على الحيوانات المنوية.

١١٩

القرآن لأي خرافة من الخرافات التي كانت منتشرة في عصر تنزيل القرآن.

(ب) التناسل الإنساني في القرآن :

إن تكوين فكرة عن محتوى القرآن في هذا الموضوع ليس أمراً يسيراً. وتكمن الصعوبة الأولى في أن المقولات الخاصة بالتناسل الإنساني متفرقة في كل الكتابات مثلما أشرنا ، ولكن ليست هذه هي الصعوبة الكبرى ، فأكثر ما قد يضل الباحث ، هنا أيضاً ، هو مشكلة المفردات.

فالواقع أن ترجمات وتفسيرات بعض الفقرات التي مازالت منتشرة في عصرنا تعطي لرجال العلم الذين يقرءونها فكرة مغلوطة تماماً عن الآيات الخاصة بهذا الموضوع ، على سبيل المثال تقول معظم هذه التفسيرات بتشكل الإنسان ابتداء من « جلطة دم » أو ابتداء من « التحام ». وهذه المقولة لايقبلها مطلقاً العالم المتخصص في هذا الميدان ، فلم يكن أصل الإنسان أبداً شيئاً من هذا ، وسنرى في الفقرة التي تعالج تعشيش البويضة في رحم الأم الأسباب التي من أجلها يقع مستعربون بارزون في مثل تلك الأخطاء ، لافتقارهم إلى الثقافة العلمية.

مثل هذه الملاحظة تجعلنا نتصور الأهمية الكبرى لاقتران المعارف اللغوية والمعارف العلمية للوصول إلى إدراك معنى المقولات القرآنية عن التناسل.

يركز القرآن أولاً على التحولات المتوالية التي يمر بها الجنين في رحم الأم حتى نهاية الحمل.

( يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ

١٢٠