في مقارنة الأديان

الدكتور صائب عبد الحميد

في مقارنة الأديان

المؤلف:

الدكتور صائب عبد الحميد


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-11-0
الصفحات: ١٤٦
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

* فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ ) (١).

( وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا ) (٢).

وإلى جانب هذه الملاحظة العامة يلفت نص القرآن الانتباه نحو نقاط عدة خاصة بالتناسل البشري ، ويمكن تصنيفها كما يلي :

١ ـ يتم الإخصاب بفضل كمية من سائل ضئيلة جداً.

٢ ـ طبيعة السائل المخصب.

٣ ـ تعشش البيضة المخصبة.

٤ ـ تطور الجنين.

١ ـ تمام الإخصاب بفضل كمية من سائل ضئيلة جداً :

يكرر القرآن هذه المعلومة ١١ مرة مستخدماً التعبير الذي نجده في : ( خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ ... ) (٣).

نطفة : تأتي الكلمة من فعل يعني سال ، ونض ، وتستخدم في الإشارة إلى ما يمكن أن يتبقى في دلو بعد تفريغه. وهي إذن تشير إلى كمية من سائل ضئيلة جداً ، ومن هنا كان المعنى الثاني « قطرة ماء ». المقصود هنا قطرة من مَنِيّ. ذلك أن نفس هذه الكلمة تقترن بكلمة منيّ في آية أخرى هي : ( أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَىٰ ) (٤).

_______________________

(١) سورة الانفطار : ٨٢ / ٦ ـ ٨.

(٢) سورة نوح : ٧١ / ١٤.

(٣) سورة النحل : ١٦ / ٤.

(٤) سورة القيامة : ٧٥ / ٣٧.

١٢١

وهناك آية أخرى تشير إلى أن النطفة المقصودة توضع في « قرار ». وهذا القرار كما هو واضح تماماً يدل على الجهاز التناسلي : ( ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ) (١).

وتعبر صفة « مكين » التي يصف بها النص القرار عن فكرة مكان متقرر. وعلى أي حال فالمقصود هو المكان الذي ينمو فيه الإنسان في جهاز الأم. ولكن مايهم التأكيد عليه بوجه خاص هو تلك المعلومة عن الكمية الضئيلة جداً اللازمة للإخصاب ، وهي تتفق تماماً مع ما نعرف اليوم.

٢ ـ طبيعة السائل المخصب :

يذكر القرآن هذا السائل الذي يضمن الإخصاب بصفات تستحق الدراسة :

(أ) ( مَّنِيٍّ ) كما حددنا لتوّنا (٢).

(ب) « مَّاءٍ دَافِقٍ » : ( خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ ) (٣).

(ج) ( مَّاءٍ مَّهِينٍ ) (٤).

يمكن تفسير صفة مهين ، فيما يبدو ، ليس على أنها للسائل نفسه ، وإنما بسبب خروجه من نهاية الجهاز البولي ، فهو إذن يتخذ الطريق الذي يخرج منه البول.

_______________________

(١) سورة المؤمنون : ٢٣ / ١٣.

(٢) سورة القيامة : ٧٥ / ٣٧.

(٣) سورة الطارق : ٨٦ / ٦.

(٤) سورة المرسلات : ٧٧ / ٢٠ ، سورة السجدة : ٣٢ / ٨.

١٢٢

(د) ( أَمْشَاجٍ ) أي المخاليط أو ما هو مخلوط : ( إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ ... ) (١).

ويرى كثير من المفسرين أن المقصود بهذا المخلوط هو عنصر الذكر ، وعنصر الأنثى. وكذلك الأمر بالنسبة للكتاب القدماء ، إذ لم تكن لديهم أدنى فكرة عن فسيولوجيا الإخصاب ولا عن ظروف الإخصاب البيولوجية من ناحية الأنثى ، وكانوا يعتبرون أن الكلمة تشير لمجرد اجتماع عنصرين.

أما المفسرون المحدثون ، مثل صاحب المنتخب الذي نشره المجلس الأعلى للشئون الاسلامية بالقاهرة ، فإنهم يعدلون عن هذه الطريقة ، ويميزون هنا أن نقطة المنيّ « ذات عناصر شتى ». ولايعطي تفسير المنتخب تفصيلات أخرى عن ذلك ، ولكن ملاحظته ، في رأيي ، سديدة تماماً.

ما هي إذن عناصر المَنِيّ المختلفة ...؟

يتشكل السائل المنوي من إفرازات مختلفة تأتي من الغدد التالية :

(أ) الخصيتان (يحتوي إفراز الغدة التناسلية للذكر على الحيوانات المنوية ، وهي خلايا مستطيلة مزودة بهدب طويل ، وتسبح في سائل مصلي).

(ب) الحويصلات المنوية : تخزن هذه الأعضاء الحيوانات المنوية ، وتقع على مقربة من البروستاتا ، وتفرز إفرازا خاصا لكنه لايحتوي على عناصر مخصبة.

(ج) البروستاتا : وتفرز سائلاً يعطي للسائل المنوي قوامه الغليظ ورائحته الخاصة.

_______________________

(١) سورة الإنسان : ٧٦ / ٢.

١٢٣

(د) الغدد الملحقة بالمسالك البولية : وهي الغدد المعروفة باسم كوبر (Cooper) أو ميري (Mery) وتفرز سائلاً جارياً ، وغدد ليتري (Littre) وتفرز المخاط. تلك هي أصول هذه المخاليط « الأمشاج » التي يبدو فعلاً أن القرآن يتحدث عنها.

بل هناك أكثر من هذا ، إذا كان القرآن يتحدث عن سائل مخصب يتكون من عناصر مختلفة ، فإنه يلفت نظرنا إلى أن نسل الإنسان يستمر بواسطة شيء يمكن استخراجه من هذا السائل. وذلك هو معنى الآية : ( ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ ... ) (١).

سلالة : تدل الكلمة على شيء مستخرج أو خرج من شيء آخر ، أو هو أحسن جزء من شيء. وأيّا كانت طريقة التفسير فالمقصود هو جزء من كل.

إن ما يتسبب في إخصاب البويضة ، ويكفل التناسل هو خلية شديدة الاستطالة يقاس طولها بمقياس ١ : ١٠٠٠٠ ملم. إن عنصراً واحداً من بين عشرات الملايين الصادرة من رجل في ظروف عادية (٢). يصل إلى الولوج في البويضة. ويتبقى عدد كبير في الطريق ولاينجح في قطع المسافة التي تؤدي من المهبل إلى البويضة عبر تجويف الرحم والبوق (بوق فالوب). إنه إذن متناهٍ في الصغر صادر من السائل معقد التركيب هو الذي يحقق نشاطه.

فكيف لاندهش أمام الاتفاق بين العنصر القرآني والمعرفة العلمية التي

_______________________

(١) سورة السجدة : ٣٢ / ٨.

(٢) يمكن تقدير أن ١ سم ٣ من السائل المنوي يحتوي على ٢٥ مليون حيوان منوي في الظروف العادية لعملية قذف قدرها عدة سنتيمترات مكعبة.

١٢٤

اكتسبناها من هذه الظاهرات.

٣ ـ تعشش البويضة في جهاز الأنثى التناسلي

تنزل البويضة لتعشش في التجويف الرحمي بعد أن تخصب ، وذلك مايسمى بتعشش البويضة. ويسمى القرآن الرحم الذي تتخذ فيه البويضة مكاناً. ( ... وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ... ) (١).

ويتحقق استقرار البويضة بالرحم بواسطة امتدادات حقيقية ، وكما لو كانت بذوراً تضرب في الأرض ، فإنها تنهل من جدار العضو ما يلزم لنمو الجنين. وهذه الامتدادات هي التي تجعل البويضة تتعلق بالرحم. ويرجع تاريخ معرفتها إلى العصور الحديثة.

ويشير القرآن خمس مرات إلى هذا التعلق : أولاً في الآيتين :

( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ ) (٢).

علق : تشير الكلمة إلى ما يعلق (ما يتشبث بشيء). ذلك هو المعنى الأول. وجلطة الدم معنى مشتق من هذا المعنى ، وكثيراً ما نراه في التفاسير ، غير أن هذا أمر غير صحيح ينبغي التحذير منه : فالإنسان لايمر مطلقاً بمرحلة جلطة الدم. وينطبق نفس الأمر على تفسير آخر وهو « التصاق ». تلك لفظة غير صحيحة. والمعنى الأول للكلمة ، أي شيء يعلق ويتشبث ، هو المعنى الذي يستجيب تماماً للواقع الثابت اليوم.

ويذكر القرآن تلك المعلومة في أربع آيات أخرى تتحدث عن التحولات

_______________________

(١) سورة الحج : ٢٢ / ٥.

(٢) سورة العلق : ٩٦ / ١ ـ ٢.

١٢٥

المتوالية ابتداء من قطرة المَنِيّ حتى نهاية الحمل.

( ... فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ... ) (١).

( ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً ... ) (٢).

( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ... ) (٣).

( أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَىٰ * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّىٰ ) (٤).

يصف القرآن العضو الذي يقع الحمل به بكلمة في العربية تدل اليوم على الرحم كما رأينا ذلك. وفي بعض الآيات يسميه قراراً (٥).

٤ ـ تطور الجنين في الرحم

تطور الجنين في الرحم كما يصفه القرآن يستجيب تماماً لما نعرف اليوم عن بعض مراحل تطور الجنين ، ولا يحتوى هذا الوصف على أي مقولة يستطيع العلم الحديث أن ينقذها.

إذ يقول القرآن إن الجنين ، بعد مرحلة التشبث ، وهو التعبير الذي رأينا إلى أي حد هو مؤسس على الحقيقة ، يمر بمرحلة « المضغة » (أي اللحم الممضوغ) ثم يظهر بعد ذلك النسيج العظمي الذي يغلف باللحم ، ويعني لحماً نضراً.

( ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا

_______________________

(١) سورة الحج : ٢٢ / ٥.

(٢) سورة المؤمنون : ٢٣ / ١٤.

(٣) سورة غافر : ٤٠ / ٦٧.

(٤) سورة القيامة : ٧٥ / ٣٧ و ٣٨.

(٥) سورة المؤمنون : ٢٣ / ١٣ ، سورة المرسلات : ٧٧ / ٢١.

١٢٦

فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ... ) (١).

المُضْغَة : تشير إلى ما يشبه اللحم الممضوغ ، أما اللحم فيعني اللحم النضر. ويستحق هذا التمييز الالتفات. إذ إن الجنين في مرحلة أولى من تطوره كتلة صغيرة تبدو فعلاً للعين المجردة كلحم ممضوغ ، ويتطور الهيكل العظمي في هذه الكتلة ، وبعد أن تشكل العظام ، تتغطى بالعضلات ، وعلى العضلات توافق كلمة لحم.

والمعروف أن بعض الأجزاء ، في أثناء مدة تطور الجنين ، تبدو غير متناسبة مع ماسيكون عليه الفرد في المستقبل على حين تظل أجزاء أخرى متناسبة.

ذلك هو معنى كلمة « مخلق » ؛ هي تعني مشكل بنسب ، وقد جاءت الآية لتشير إلى هذه الظاهرة :

( ... فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم ... ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ ) (٢).

ويذكر القرآن أيضاً ظهور الحواس والأحشاء : ( ... وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ... ) (٣).

ويشير أيضاً إلى تشكل الجنس : ( وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ

_______________________

(١) سورة المؤمنون : ٢٣ / ١٤.

(٢) سورة الحج : ٢٢ / ٥.

(٣) سورة السجدة : ٣٢ / ٩.

١٢٧

وَالْأُنثَىٰ * مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَىٰ ) (١).

وتذكر آيات أخرى تشكل الجنس أيضاً (٢).

وكما قلنا فلا بد من مقارنة كل هذه المقولات القرآنية بالمعلومات التي تثبت في العصر الحديث ، إن توافق المقولات القرآنية مع المعلومات الحديثة يتضح ، ولكن من المهم أيضاً مقابلتها بالمعتقدات العامة في هذا الموضوع ، والتي كانت سائدة في عصر تنزيل القرآن حتى ندرك إلى أي حد كان معاصرو هذه الفترة بعيدين عن حيازة معلومات تشبه تلك التي يعرضها القرآن في هذه المسائل. وليس هناك أدنى شك في أن هؤلاء المعاصرين لم يعرفوا في ذلك العصر تفسير هذا الوحي مثلما ندركه نحن اليوم ، ذلك أن معطيات المعرفة الحديثة تعيننا على تفسيره. الواقع أن المتخصصين لم يكتسبوا معرفة واضحة إلى حد ما عن هذه المسائل إلا خلال القرن التاسع عشر.

فطيلة كل القرون الوسطى كانت الخرافات والأفكار النظرية التي لاتتمتع بأي أساس هي قاعدة مختلف المعتقدات في هذا الموضوع ، بل لقد سادت أيضاً لقرون عديدة حتى بعد العصور الوسطى. إن المرحلة الحاسمة في تاريخ علم الأجنة بدأت بدعوى هارفي (Harvey) الذي قال في عام ١٦٥١ ، بأن كل شيء حي يأتي أولاً من بويضة ، وأن الجنين يتخلق تدريجياً جزءاً بعد جزء. في هذا العصر كان العلم الوليد قد أفيد كثيراً ، في الموضوع المعني هنا ، باختراع المجهر الذي كان قد تم في عصر سابق بقليل ، وبرغم ذلك فقد كان النقاش

_______________________

(١) سورة النجم : ٥٣ / ٤٥ ـ ٤٦.

(٢) سورة فاطر : ٣٥ / ١١ ، سورة القيامة : ٧٥ / ٣٩.

١٢٨

دائراً حول دوري كل من البويضة والحيوان المنوي. وكان بوفون (Buffon) عالم الطبيعيات الكبير ينتمي إلى أشياع فكرة البويضة ، وكان من بينهم أيضاً بوني (Bonnet) الذي كان يدافع عن نظرية اندماج البذور القائلة بأن مبيض حواء ، أو الجنس البشري ، كان يحتوي على بذور كل الكائنات الإنسانية متداخلة كل في الآخر. وقد حظي هذا الفرض ببعض التأييدات في القرن الثامن عشر.

عرف الناس القرآن بما يربو على ألف عام من قبل هذا العصر الذي كانت المعتقدات الوهمية تسوده. إن مقولات القرآن عن التناسل البشري تعبر في ألفاظ بسيطة عن حقائق أولى أنفقت مئات من السنوات لمعرفتها ...

المبحث الرابع : موازنة بين القرآن والعهد القديم والمعارف الحديثة

ـ رواية الطوفان نموذجاً

قادت دراسة رواية الطوفان على حسب العهد القديم إلى الملاحظات التالية :

ليس في التوراة رواية واحدة فقط عن الطوفان. بل هناك روايتان ، ولكنهما حررتا في عصور مختلفة :

١ ـ الرواية اليهودية التي ترجع إلى القرن التاسع قبل الميلاد.

٢ ـ الرواية الكهنوتية التي ترجع إلى القرن السادس قبل الميلاد ، والتي أخذت هذا الاسم لأنها مؤلف لكهنة ذلك العصر.

إن رواية الطوفان في العهد القديم غير مقبولة في إطارها العام ، وذلك لسببين يتضحان على ضوء المعارف الحديثة :

١٢٩

(أ) يعطي العهد القديم للطوفان طابعاً عالمياً.

(ب) وعلى حين لاتعطي فقرات المصدر اليهووي للطوفان تاريخاً ، تحدد الرواية الكهنوتية زمن الطوفان في عصر لم يكن من الممكن أن تقع به كارثة من هذا النوع.

والحجج التي يستند إليها هذا الحكم هي ما يلي :

تحدد الرواية الكهنوتية أن الطوفان قد حدث عندما كان عمر نوح ٦٠٠ عام ، غير أنه من المعروف ، بحسب الأنساب المذكورة في الإصحاح الخامس من سفر التكوين أن نوحاً قد ولد بعد آدم بـ ١٠٥٦ عاماً (وهذه الأنساب كهنوتية المصدر هي أيضاً ، وقد ذكرناها في الجزء الأول من هذا الكتاب). وينتج عن ذلك أن الطوفان قد وقع بعد ١٦٥٦ عاماً من خلق آدم. ومن ناحية أخرى فجدول نسب إبراهيم الذي يعطيه سفر التكوين (١١ ، ١٠ ـ ٣٢) ، على حسب نفس المصدر ، يسمح بتقدير أن إبراهيم قد ولد بعد الطوفان بـ ٢٩٢ عاماً. ولما كنا نعرف أن إبراهيم كان يعيش في حوالي ١٨٥٠ ق.م. فإن زمن الطوفان يتحدد إذن ، على حسب التوراة ، بـ ٢١ أو ٢٢ قرناً قبل المسيح. وهذا الحساب يتفق بمنتهى الدقة مع إشارات كتب التوراة القديمة التي تحتل فيها هذه التحديدات التاريخية المتسلسلة مكاناً طيباً قبل نص التوراة ، وذلك في عصر كان الافتقاد إلى المعلومات الانسانية في هذا الموضوع يجعل معطيات هذا التسلسل التاريخي للأحداث مقبولة بلاجدال لدى قرائها (١) ـ

_______________________

(١) منذ أن حصل المتخصصون على بعض المعلومات عن تسلسل الأحداث في

١٣٠

حيث إنه لم يكن هناك أيضاً أي حجج مضادة.

كيف يمكن اليوم تصور أن كارثة عالمية قد دمرت الحياة على كل سطح الأرض (باستثناء ركاب السفينة) في القرن ٢١ أو ٢٢ ق.م. ؟ ففي ذلك العصر كانت هناك على نقاط عدة من الأرض حضارات قد ازدهرت وانتقلت أطلالها إلى الأجيال التالية. وبالنسبة لمصر ، على سبيل المثال ، كان ذلك في الفترة الوسطى التي تلت نهاية الدولة القديمة وبداية الدولة الوسطى. وبالنظر إلى مانعرف عن تاريخ هذا العصر فإنه يكون مضحكاً القول بأن الطوفان قد دمر في ذلك العصر كل الحضارات.

وعلى ذلك ، ومن وجهة النظر التاريخية ، فيمكن تأكيد أن رواية الطوفان ، مثلما تقدمها التوراة ، تتناقض بشكل واضح مع المعارف الحديثة. إن وجود روايتين هو دليل حاسم على تعديل البشر للكتب المقدسة.

رواية الطوفان في القرآن :

يقدم القرآن رواية شاملة مختلفة ، ولاتثير أي نقد من وجهة النظر التاريخية.

لايقدم القرآن عن الطوفان رواية مستمرة ، فهناك سور عديدة تتحدث عن العقاب الذي وقع على شعب نوح ، أما أكثر الروايات كمالاً فهي في سورة

_______________________

العصور القديمة ، ومنذ كفت هذه الحوليات الوهمية لكتاب العهد القديم الكهنوتيين عن أن تكون موضع تصديق ، سارع المسئولون بحذفها من كتب التوراة. لكن المعلقين المحدثين على هذه الأنساب التي احتفظ بها لايلفتون انتباه قراء كتب التعليم الديني العامة نحو الأخطاء التي تحتويها.

١٣١

هود (١١) الآيات من ٢٥ إلى ٤٩ ، أما سورة نوح (٧١) فهي تذكر بشكل خاص موعظة نوح ، كما تفعل ذلك الآيات من ١٠٥ إلى ١١٥ من سورة الشعراء (٢٦).

ولكن قبل أن ننظر في مجرى الأحداث بالمعنى الحقيقي علينا أن نحدد الطوفان مثلما يخبر به القرآن بالنسبة إلى السياق العام للعقوبات التي أنزلها الله على جماعات أذنبت بشكل خطير بتعديها على وصايا الله.

على حين تتحدث التوراة عن طوفان عالمي لعقاب كل البشرية الكافرة ، يشير القرآن على العكس ، إلى عقوبات عديدة نزلت على جماعات محددة جيداً.

تشير إلى ذلك هذه الآيات : ( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا * فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا * وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا * وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَٰلِكَ كَثِيرًا * وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا ) (١).

أما سورة الأعراف (٢) فتقدم العقوبات التي نزلت على شعب نوح وعاد وثمود وسدوم ومدين كل على حدة.

وعلى ذلك فالقرآن يقدم كارثة الطوفان باعتبارها عقاباً نزل بشكل خاص على شعب نوح ، وهذا يشكل الفرق الأساسي الأول بين الروايتين.

_______________________

(١) سورة الفرقان : ٢٥ / ٣٥ ـ ٣٩.

(٢) سورة الأعراف : ٧ / ٥٩ ـ ٩٣.

١٣٢

أما الفرق الجوهري الثاني فهو أن القرآن ، على عكس التوراة ، لايحدد زمن الطوفان ، ولايعطي أية إشارة عن مدة الكارثة نفسها.

وأما أسباب السيل فهي نفسها تقريباً في الروايتين ، وتذكر الرواية الكهنوتية للتوراة (التكوين ٧ ، ١١) سببين مقترنين. تقول : « في ذلك اليوم انبثقت عيون الماء من الهوة السحيقة ، وانفتحت هواويس السماء. » أما القرآن فيحدد في الآيتين ما يلي : ( فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ) (١).

والقرآن يحدد بشكل صريح محتوى سفينة نوح ، فقد أعطى الله أمراً لنوح بأن يضع في السفينة كل ما سيعيش بعد الطوفان ، وقد أنجز نوح هذا الأمر بأمانة : ( احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ ) (٢).

ومن سبق عليه القول هنا ، أي من استبعد من الأسرة ، فهو ابن ملعون لنوح ، تقول عنه الآيتان ٤٥ و ٤٦ من نفس هذه السورة إن تضرع نوح لربه لم يغيّر من الأمر شيئاً ، والقرآن يشير إلى من يوجد على السفينة ، بالإضافة إلى الأسرة التي قطع منها هذا الابن الملعون ، وهم قليلون ممن آمنوا بالله.

ولاتشير التوراة إلى هؤلاء من بين ركاب السفينة. إن التوراة ، في الواقع ، تقدم ثلاث روايات عن محتوى السفينة.

ـ على حسب الرواية الكهنوتية : نوح واسرته دون أي استثناء وزوج من

_______________________

(١) القمر : ٥٤ / ١١ ـ ١٢.

(٢) سورة هود : ١١ / ٤٠.

١٣٣

كل نوع.

ـ على حسب الرواية اليهووية : هناك تمييز من ناحية بين الحيوانات الطاهرة والطيور وبين الحيوانات النجسة من ناحية أخرى (والسفينة تحتوي على سبعة (١) أزواج من الفئة الأولى ، ذكر وأنثى ، وعلى زوج واحد فقط من الفئة الثانية).

ـ على حسب روايات يهووية معدلة (التكوين ٧ ، ٨) : زوج من كل نوع طاهر أو نجس.

أما رواية الطوفان الفعلي التي تحتوي عليها سورة هود (١١) الآيات من ٤١ إلى ٤٩ ، وسورة المؤمنون (٢٣) ، الآيات من ٢٣ إلى ٣٠ ورواية التوراة فلا تقدمان اختلافات ذات دلالة خاصة.

وتقول التوراة بأن المكان الذي جنحت إليه السفينة نحو جبل أرارات (التكوين ٨ ، ٤) أما القرآن فيقول إنه ( الْجُودِيِّ ) (٢). وهذا الجبل هو قمة جبال أرارات بأرمنيا ، ولكن لاشيء يثبت أن البشر لم يغيروا من الأسماء للتوفيق بين الروايتين. ويؤكد ر.بلاشير (Blachere) هذا : وفي رأي هذا الكاتب أن هناك كتلة جبلية بهذا الاسم بالجزيرة العربية. ولكن ربما كان اتفاق الأسماء أمراً مصطنعاً.

في نهاية الأمر ، فالاختلافات بين روايات القرآن وروايات التوراة موجودة ، وهي هامة. وبعض هذه الاختلافات يفلت من أي فحص نقدي. إذ

_______________________

(١) ألم يكن العدد ٧ يعني في اللغات السامية في ذلك العصر كثرة غير محددة ؟

(٢) سورة هود : ١١ / ٤٤.

١٣٤

هناك افتقاد للمعطيات الموضوعية. ولكن إذا كان بالإمكان التحقق من معطيات الكتب المقدسة ، وذلك بمعونة معطيات أكيدة ، يصبح واضحاً تمام الوضوح عدم إمكانية اتفاق رواية التوراة ـ في تقديمها للطوفان بزمنه ومدته ـ مع مكتسبات المعرفة الحديثة. وعلى العكس من ذلك فإن رواية القرآن تتضح خالية من أي عنصر مثير للنقد الموضوعي. فمن عصر رواة التوراة إلى عصر تنزيل القرآن هل حصل الناس على معلومات من شأنها أن تلقى نوراً على حدث مثل هذا ؟ بالتأكيد لا ، فمن العهد القديم إلى القرآن كانت الوثيقة الوحيدة التي في حوزة الناس عن هذه الحكاية القديمة هي التوراة بالتحديد. وإذا لم تكن العوامل الإنسانية تستطيع أن تشرح التغيرات التي طرأت على الروايات لتتجه بها إلى التوافق مع المعارف الحديثة ، فيجب أن نقبل شرحاً آخر ، وهو أن هناك تنزيلاً من الله قد جاء بعد التنزيل الذي تحتوي التوراة عليه.

(٣)

الموقف من الاسلام

وثيقة الفاتكان الحديثة ، والخاتمة

كشف العديد من المستشرقين ، المحدثين والمعاصرين ، عن أن الأحكام التي كان يصدرها الغرب ، ممثلاً برجال الدين ورجال الفكر ورجال السياسة ، إنما هي أحكام مغلوطة ، ناتجة عن الجهل بالاسلام حيناً ، وعن العصبية حيناً آخر ، ولقد كان كل شكل من أشكال معاداة الاسلام ، حتى وإن صدر من أعداء صريحين للكنيسة ، فإنه كان يُتلقى في فترة ما بتأييد حار حتى من كبار

١٣٥

شخصيات الكنيسة ، فالبابا نينوا الرابع عشر ، الذي اشتهر بكونه أكبر حبر في القرن الثامن عشر ، لم يتردد في مباركة توليتر ، لأنه أهداه مسرحيته التراجيدية « محمد أو التعصّب » ! وهي مسرحية هجائية فجة يستطيع أن يكتب مثلها ، في أي موضوع ، أي محترف كتابة سيّء الضمير ، وبالرغم من ذلك فقد لقيت حينما سمح لها بأن تسجّل في قائمة ملفات مسرح الكوميدي فرانسيز. لكن هذه النزعة أخذت تجد ما يقابلها ، ويقلل من نشاطها ، عندما أدرك الكثير من الغربيين حقيقة أن الأديان اليوم لم تعد منطوية على نفسها ، وعندما ظهرت ونشطت فكرة التفاهم بين الأديان ، وتعد أهم مبادرة في تعزيز هذه الظاهرة الأخيرة هي تلك التي صدرت عن أعلى مستويات المناصب الكنسية الرسمية ، حيث اجتهد مسيحيون كاثوليك في إرساء أوامر الصلة مع المسلمين ، ومكافحة عدم الفهم والتعصب غير المبرر ضده ، ومحاولة تصحيح وجهات النظر غير الصحيحة المنتشرة عن الاسلام.

تلك هي الوثيقة الصادرة عن (سكرتارية الفاتيكان لشؤون غير المسيحيين) تحت عنوان : « توجيهات لاقامة حوار بين المسيحيين والمسلمين ».

وقد تضمنت هذه الوثيقة ـ المؤلفة من مئة وخمسين صفحة ـ توجيهات فائقة الأهمية في هذا المضمار ، فلنقرأ شيئاً من نصوصها :

ـ تطالب هذه التوجيهات أولاً : « بمراجعة مواقفنا إزاء الاسلام ، وبنقد أحكامنا المسبقة ».

ـ وترى بروح موضوعية أن المقدمة الجادة والسليمة لهذه الخطوة لابد

١٣٦

أن تبدأ من النفس : « علينا أن نهتم أولاً بأن نغيّر تدريجياً من عقلية إخواننا المسيحيين ، فذلك يهم قبل كل شيء ».

ـ ويجب إلى جانب ذلك : « التخلي عن الصورة البالية التي ورّثنا الماضي إياها ، أو شوّهتها الفريات والأحكام المسبقة ».

ـ ولاثبات الصدق في هذه المحاولة تؤكد التوجيهات على أنه : « يجب الاعتراف بالمظالم التي ارتكبها الغرب المسيحي في حق المسلمين ».

وتحت عنوان : « أن نتحرر من أكثر أحكامنا المسبقة جسامة » وجه أصحاب هذه الوثيقة الدعوة الآتية إلى المسيحيين.

ـ « هنا علينا أن نتطهر وبعمق من عقلياتنا ، نقول ذلك ونحن نفكر بالذات في بعض الأحكام المجهزة التي كثيراً ما نصدرها باستخفاف على الاسلام ».

ـ « إن المسلمين الذين يؤمنون بابراهيم يعبدون معنا إلهاً واحداً هو الرحيم ، ديان البشر في اليوم الآخر ... ».

وتتناول الوثيقة أحكاماً خاطئة صادرة من الغرب المسيحي على الاسلام :

ـ فـ « جبرية الاسلام ، ذلك الحكم المسبق واسع الانتشار ، تدرسه الوثيقة وتستعين بذكر الآيات من القرآن لتعارضه بمفهوم مسؤولية الانسان الذي سيحكم عليه بما فعل ، وتبيّن خطأ المفهوم القائل بحرفية القواعد الاسلامية ، وتعارضه بالمفهوم القائل بالاخلاص في الايمان ، وذلك يذكر ماظل يجهله الغربيون عن عبارتي القرآن : ( لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ) (١) و ( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ

_______________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٥٦.

١٣٧

فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (١).

ـ وتعارض الوثيقة الفكرة الشائعة عن الاسلام كدين الخوف ، بالاسلام دين الحب ، حب الانسان المستأصل في الايمان بالله.

ـ وهي أيضاً تدحض افكاراً خاطئة روّجت ضد الاسلام ، كفكرة عدم كفاية الأخلاق الاسلامية ، وفكرة التعصب في الاسلام. وتعلقت على الاخيرة بالقول : « الواقع أن الاسلام عبر التاريخ لم يكن أكثر تعصباً من المدينة المسيحية عندما كانت المسيحية تكتسب بشكل أو بآخر في هذه المدينة قيمة سياسية ».

كما تدحض الفكرة الخاطئة عن الجهاد في الاسلام ، فتقول : « ليس الجهاد مطلقاً ما يعرف بالـ (Kherem) (الابادة) في التوراة ، فالجهاد لايسعى إلى الابادة ، بل يسعى لأن يمد إلى مناطق جديدة حقوق الله والانسان » وأما أعمال العنف التي تصاحب الحروب « فلقد كانت أعمال العنف في حروب الجهاد في الماضي تخضع عموماً لقوانين الحرب. وفي عصر الحروب الصليبية لم يكن المسلمون دائماً هم الذي ارتكبوا أكبر المذابح ».

ـ وتعالج الوثيقة أخيراً الحكم القائل بأن الاسلام دين جامد يبقي أتباعه في عصر وسيط بائد ، وهي تقارن مواقف مماثلة لوحظت في بعض البلاد المسيحية ، وتعلن : « إننا نجد في الفكر الاسلامي مبدأً لامكانية تطور المجتمع المدني » (٢).

_______________________

(١) سورة الحج : ٢٢ / ٧٨.

(٢) موريس بوكاي : ١٤١ ـ ١٤٥.

١٣٨

إن لمثل هذه الوثيقة أهمية فائقة في تصحيح أخطاء القرون المتراكمة ، وفي فتح الباب واسعة للتعارف والحوار بين الأديان ، هذا الأمر الذي كان قد طرقه الاسلام منذ ألف وأربعمائة سنة ، لا في وثيقة لسلطة دينية أو سياسية في مرحلة ما ، بل في القرآن الكريم نفسه : ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا ) (١) ، ولكن كم هم قليلون حقاً ـ  ما يقول بوكاي نفسه ـ الغربيون الذين عرفوا تلك المواقف الجديدة التي اتخذتها أعلى سلطات الكنيسة الكاثوليكية ؟ (٢).

فهذه السياسة التي تنتهجها الدول الغربية المسيحية ضد الاسلام ، منذ عهد نهضتها وحتى يومنا هذا ، شاهدة على أنها لم تعر أدنى أهمية لمثل هذه الوثيقة ، وأنها بقيت منغمسة في أوهامها وأخطائها التي راكمتها القرون من خلال تلك الأحكام المسبقة والجاهزة ضد الاسلام ، فلم يعد زرع الكيان الصهيوني ظلماً وعدواناً في قلب العالم الاسلامي هو المؤثر الوحيد على عدوانية فجّة ضد الاسلام ، خصوصاً بعد أن ركبت السياسة الامريكية ـ الانجليزية المعاصرة موجتها الاخيرة في محاربة الاسلام في داخل بلدان المسلمين ، لابالضغوط الاقتصادية والسياسية وحدها ، بل بالغزو العسكري والاحتلال الجديد ، الذي من شأنه أن يعيد تكريس العدوانية مرة اُخرى ، لاسيما مع ظهور ما يصحبه من هجوم إعلامي وحملات تثقيفية واسعة تعمق هذه الروح ، وتجعل من الاسلام عدواً مخيفاً يهدد أمن المسيحيين في أمريكا

_______________________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ٦٤.

(٢) موريس بوكاي : ١٤٥.

١٣٩

وأوربا !

فلماذا يكون الأمن والاستقلال حقاً للامريكي في وطنه وفي العالم بأسره ، ولايكون حقاً للمسلم في وطنه وحدوده الجغرافية ، بل في مسكنه ومحل عمله ؟

إنها الروح العنصرية ، والعدوانية التي خلقتها تلك الأحكام الخاطئة والمجحفة ، والتي كان من ورائها دائماً اناس عدوانيون في طبيعتهم ، مرضى القلوب ، أنانيون بإفراط ، يرون الحياة حقاً لهم وحدهم دون سواهم. وسيكون مصيرهم على عكس ما يسعون إليه ، وعاقبتهم الخيبة والخسران.

خاتمة عامة :

في نهاية هذا الاستعراض السريع تبدت عدة نتائج بالغة الأهمية ، نمر عليها مروراً سريعاً :

ظهر أن العهد القديم (التوراة) يتألف من مجموعة من المؤلفات ، أنتجت على مدى تسعة قرون تقريباً ، وهو يشكل مجموعة متنفافرة جداً من النصوص ، حتى في أمهات العقيدة التوحيدية ، عدّل البشر من عناصرها عبر السنين ، بحيث إن التعرف على مصادر هذه النصوص اليوم أمر عسير جداً.

وظهر أيضاً أن الأناجيل الأربعة لم تكتب بأقلام شهود عيان للأمور التي أخبروا عنها ، إنها ببساطة تعبير المتحدثين باسم الطوائف اليهودية المسيحية المختلفة عما احتفظت به من معلومات عن حياة المسيح العامة ، وذلك على شكل أقوال متوارثة ، شفهية أو مكتوبة ، اختلفت اليوم ، بعد أن احتلت دوراً وسطاً بين التراث الشفهي والنصوص النهائية.

١٤٠