في مقارنة الأديان

الدكتور صائب عبد الحميد

في مقارنة الأديان

المؤلف:

الدكتور صائب عبد الحميد


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-11-0
الصفحات: ١٤٦
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

(مرقص ٩ : ٣٧).

ـ « لماذا تسمونني كاملاً ؟ فليس هناك كامل إلا واحد ، وهو الله » (مرقص ١٠ : ١٨).

ـ « إن هذه هي الحياة الخالدة ؛ أن يعرفوك أنت الاله الحق وحدك ، ويعرفوا عيسىٰ المسيح الذي أنت أرسلته » (يوحنا ١٧ : ٢).

ـ « والآن تريدون أن تقتلوني وأنا إنسان قد أنبأتكم بالحق الذي سمعته من الله » (يوحنا ٨ : ٤٠).

لكن هذا الكلام الواضح لم يبق هكذا في عقائد الاتباع اللاحقين ، ومنذ وقت مبكر تغيرت هذه الصورة التي رسمها المسيح بنفسه ، لتلقى في الأذهان صورة اُخرى مغايرة تماماً.

«كل ذلك قد تغيّر فجأة عندما ظهر على المسرح واعظٌ [ بولص ] ادعىٰ بأنه يتكلم باسم المسيح ، بعد سنوات قليلة فقط من رحيل المسيح» (١).

فظهرت العقائد الجديدة ، ودخلت الأناجيل الأربعة ، ولم يكن السيد المسيح قد قال بشيء منها ، وأهم هذه العقائد :

أولاً : « ابن الله المخلّص !» :

تتحدث « عقيدة الالوهية » في الأناجيل ببساطة أن عيسىٰ هو ابن الله ، كلمة الله تحولت إلى جسد !

ورغم أنّ عيسى نفسه ، كما ذكر سابقاً ، لم يدّعِ أبداً أنه « الهي » فإنّ بولص أعطاه هذه الصفة لسببٍ واحد : ليحصل على معتنقين من بين غير اليهود.

_______________________

(١) بربارا براون : ١٧ ـ ١٨.

٦١

فالاميّون (غير اليهود) كانوا وثنيين درجوا على عبادة آلهة وراءها أساطير وخرافات عجيبة. فعدد من آلهة الوثنيين في ذلك الوقت (مثراس ، وأدونيس ، واكتيس ، وأوزيريس مثلاً) كانوا جميعا من سلالة إله مسيطر حاكم ، وكل منهم مات ميتة عنيفة في عمر قصير ورجعوا إلى الحياة بعد مدة قصيرة حتى يخلّصوا شعوبهم. هكذا يعتقدون ، وبهذا شحنت أساطيرهم.

لقد أخذ بولص ذلك بنظر الاعتبار معطياً الوثنيين شيئاً مشابهاً في المسيحية : لقد أعطى الالوهية إلى عيسىٰ قائلاً بأنه كان ابن الله (المسيطر) وأنه هو أيضا مات من أجل خطاياهم.

وبعمله هذا فإن بولص « وفّق » بين تعاليم المسيح وبين الاعتقادات الوثنية حتى يجعل المسيحية أكثر قبولاً عند الوثنيين.

إن بولص لم يذكر ، بالطبع ، الأصول الوثنية لهذه العقيدة ، إنما يستطيع الوقوف على هذه الحقيقة فقط الشخص الذي يُجري بحثاً حقيقياً في ذلك الوقت من التاريخ حول الناس وثقافاتهم (١).

إن بولص عبّر عن هذه العقيدة بطرق أخرى ، وعلى وجه الخصوص فإنّه كان يعتقد أن هناك خمسة أسباب تبرّر اعتبار عيسىٰ إلها ، وهي :

١ ـ ان عيسىٰ ولد من عذراء دون « واسطة » أب.

وحول هذه فاننا نستطيع أن نذكر قضية آدم ، وهو الانسان الأول. لقد ولد آدم دون واسطة أم أو أب ، ورغم ذلك فإنّه لا يعتبر إلهاً.

_______________________

(١) نظرة عن قرب في المسيحية : ٢٣.

٦٢

٢ ـ ان عيسىٰ أظهر معجزات.

وجواباً على ذلك فإننا نستطيع أن نذكر موسى والنبي اليشع ، فالاثنان أظهرا معجزات مذهلة ، ولكن لا يعتبر أي منهما إلهاً.

وحقيقة أن عيسىٰ أظهر بعض المعجزات ليست في الواقع دليلاً على الالوهية ، كما أشار هو إلى ذلك مراراً عندما حصلت هذه الظواهر ، وقال إن القدرة على إظهار هذه الأعمال الخارقة قد جاءت من الله وليس منه. إن معجزاته جاءت لنفس الغرض الذي جاءت لتؤكده معجزات الأنبياء الذين سبقوه : لتعطي المصداقية لرسالته التي جاء بها إلى اناس معاندين.

٣ ـ ان عيسىٰ ذو شخصية لانظير لها.

لكن هذه الصفة لاترفعه من حقيقته الانسانية البشرية إلى الالوهية ، ولقد كان الأنبياء السابقون ولاسيما كبار الأنبياء الذين حققوا نجاحاً في زمانهم هم ذوو شخصيات لانظير لها ، كإبراهيم ، وموسى عليهما‌السلام (١).

٤ ـ ان عيسىٰ قام من بعد الموت.

نعم إن « الانتصار على الموت » عمل كبير ، ولكن ماذا عن النبي إيليّا الذي لم يمت أبداً بل رفع إلى السماء في عربة من النور والنار ؟ (سفر الملوك ٢ : ١١) هذا أمر فذّ ومذهل تماماً ، ورغم ذلك فإن إيليّا لايعتبر إلها (٢)

مع مصطلح «ابن الله » :

إن عبارة « ابن الله » لم تكن شيئاً جديداً يطرق الأسماع لاول مرّة ، فقد استخدمت في العهد القديم لتشير إلى داود (سفر المزامير ٢ : ٧) وابنه سليمان

_______________________

(١) نظرة عن قرب في المسيحية : ٢٤.

(٢) المصدر نفسه : ٢٥.

٦٣

(سفر التواريخ ٢٢ : ١٠) والاشارة إلى آدم (انجيل لوقا ٣ : ٣٨) في العهد الجديد. وفي خطبته الشهيرة « موعظة على الجبل » كما جاء تفصيلها في انجيل متّىٰ الجز الخامس ، فإن عيسىٰ يخبر مُستمعيه : « تبارك الذين يصنعون السلام لأنهم سيسمّون أبناء الله ».

وفي كل هذه الأحوال ، فإن تعبير « ابن الله » لم يكن يُقصد به التفسير الحرفي ، ولكن ليبرز الحب والرحمة من الله تجاه المتقين والصالحين. فـ « ابن الله » تعني زُلفى خاصة من الله ، ولايقصد بها علاقة عضوية مع الله (١).

ومع ذلك يُسارع المسيحيون إلى اعتماد التلميحات العديدة التي يصف فيها عيسىٰ نفسه بأنه « ابن الله » في انجيل يوحنّا ، وفق تفسيرهم هذا طبعاً ، ومن جهة أخرى فإنّهم يميلون إلى اهمال التصريحات العديدة الاخرى في نفس الانجيل عندما يصف عيسىٰ نفسه بأنه « ابن الانسان ».

وهذا يشير بوضوح ، مرة أخرى إلى حقيقة أن عبارة « ابن الله » ماكان يُقصد بها المعنى الحرفي. إن عيسىٰ كانت له زُلفى خاصة عند الله ... أنّه كان طفلاً لله بنفس المعنى الذي نحن فيه جميعاً أطفال الله.

وفي الآية ١٦ : ١٣ من انجيل متّىٰ يسأل عيسىٰ الحواريين من يظنّون انه هو ؟ والمسيحيون يذهبون إلى جواب بطرس الموجود في الآية ١٦ : ١٦ من انجيل متّىٰ التي يجيب بطرس فيها : « إنّك أنت المسيح ابن الله الحي ».

ومن المدهش أنه في ذكر نفس الواقعة تقول الآية ٨ : ٢٩ من انجيل

_______________________

(١) نظرة عن قرب في المسيحية : ٢٥ ـ ٢٦ ، وقد جاء في الحديث الشريف : كل الخلق عيالُ الله وخيرهم عند الله خيرهم لعياله (المترجم).

٦٤

مرقص : إن جواب بطرس كان « إنّك أنت المسيح ».

كلمات قليلة اضيفت في انجيل متّىٰ مقارنة بانجيل مرقص ، ولكن ذلك أضاف تغييراً إلى كل معنى الكلمات (١) !

ثانياً : التثليث :

إنّ عقيدة التثليث تنص ببساطة على أن الالوهية تتكوّن من ثلاثة كائنات إلهية : الله « الاب » ، وعيسىٰ « الابن » ، و « روح القدس ».

إلى جانب الايمان بعيسى ، فإنّ مبدأ التثليث هو واحد من أهم المرتكزات الاساسية للمسيحية التي عليها تستند باقي العقائد المسيحية (٢).

فكرة التوحيد :

إن قاموس العالم الجديد لويبستر يُعرف « التوحيد » بأنه « العقيدة أو المذهب القائل بأنّ هناك إلهاً واحداً فقط » (٣).

إن الأديان الثلاثة اليهودية والمسيحية والاسلام كُلها تدعي أنها تشارك في هذا المفهوم.

وقد أكد موسى هذا المفهوم في فصل من التوراة يسمّى الـ « شيما » أو العقيدة اليهودية في الايمان :

« اسمعوا يا بني اسرائيل : الربُّ إلهنا هو إلهٌ واحد » (سفر تثنية الاشتراع ٦ : ٤).

وبعد مرور ما يقرب من ١٥٠٠ سنة ، فإنّه أعيد حرفيّاً من قبل عيسىٰ

_______________________

(١) نظرة عن قرب في المسيحية : ٣٠.

(٢) هذه هي الكنيسة الكاثوليكية : ٤.

(٣) قاموس العالم الجديد ، لويبستر : ٨٧٩.

٦٥

عندما قال : « ... الوصية الاولى من بين كل الوصايا هي : اسمعوا يا بني اسرائيل إن الرب إلهنا هو إله واحد» (مرقص ١٢ : ٢٩).

وعندما بعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد ستمائة سنة من رحيل المسيح فإنّه جاء بنفس الرسالة مرة أخرى عندما قال :

( وَإِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ... ) (١).

والمسيحية قد انحرفت عن عقيدة توحيد الله ، على أية حال ، في مذهبها المُبهم والغامض ، وهو مذهب التثليث. كيف يكون الله واحداً عندما يُضاف عيسىٰ وروح القدس إلى الصورة ؟ (٢)

وبالرغم من أن هذا المبدأ ـ التثليث ـ لم يُوضع رسمياً من قبل بولص ، إلّا أنه ليس هناك شك بأن هذا المذهب لم يكن بعيداً عن تفكيره ، فإذا كان قد صنع من عيسىٰ ابناً إلهيّاً ، فإنّ من المنطق أن الحاجة تدعو إلى أبٍ إلهي. كما دعت الضرورة لوضع الترتيبات لأخذ روح القدس في الحسبان ، والذي كان بولص يعتقد أنه الواسطة لجلب وحي الله إلى الانسان (٣).

وجوهرياً فإنّ بولص سمى المكونات الاساسية ـ للتثليث ـ ولكن الكنيسة لم تضع المذهب بصورته النهائية إلّا في القرن الرابع للميلاد. وكما هي الحال مع عقائد أخرى اقترحها بولص للمسيحية فإن مبدأ التثليث الالهي هو أيضاً له جذور في العقائد الوثنية ، فإن عبادة النمرود ، التي بدأت في بابل ،

_______________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٦٣.

(٢) نظرة عن قرب في المسيحية : ٣٢ ـ ٣٣.

(٣) نظرة عن قرب في المسيحية : ٣٣.

٦٦

كانت باقية حيّة وقائمة في زمن بولص : فالنمرود الذي كان شاباً وسيماً ـ وقد تزوج من أمه ـ كان يُنظر إليه كإلهٍ من قبل قومه ، وقد اعتقدوا بأنّ بَعَل ، إلٰه الشمس ، كان والده. وعندما مات النمرود في عمر ميكِّر فإنّ أمه أصبحت هي رئيسة الطائفة. وهي التي جاءت بفكرة أنّ ابنها استمر في الحياة كروح.

وهكذا فإن « التثليث » كان قد ابتدع : بَعَل (الاب الإلهي) وأم النمرود ، والنمرودُ « الابن الإلهي ».

ومن المحتمل انه من هذه الاساطير كان بولص قد جاء بفكرته التثليثية عن كائنات إلهية تختص بالمسيحية (١).

كيف استقر « التثليث » ؟

يعتبر ترتوليان ، وهو قسٌّ ومحامٍ في كنيسة قرطاجة ، هو أول من استخدم كلمة ثالوث أثناء القرن الثالث عندما وضع النظرية القائلة بأن الابن والروح يشاركان في كيان الله ، ولكنهم جميعاً من كائن واحد من نفس تكوين الأب.

وقد استمر الجدال طويلاً حول هذه المسألة بين قادة الكنيسة الكبار : فبعضهم أيد ترتوليان بأن الثالوث يتألف من ثلاثة أشخاص متميزين أو ثلاثة جواهر ، بينما ادعى الآخرون أنّ الثالوث ماهو إلّا ثالوث رؤيا (أو وحي) وأن عيسىٰ كان رجلاً ملهماً بروح الأب التي كانت حالّة فيه.

ووجد الامبراطور قسطنطين نفسه معنيّاً بالنزاع في عام ٣١٨ بعد الميلاد عندما أخذ النزاع حول الثالوث يتفاقم بين رجلين من كنيسة الاسكندرية : أريوس الشماس وإسكندر المطران.

_______________________

(١) المصدر نفسه : ٣٤.

٦٧

ورغم أن الامبراطور لم يكن واثقاً من عقيدة الكنيسة ، ولكنه كان متأكداً من أن كنيسة موحدة كانت ضرورية لمملكة قوية. وعندما فشل المطران الذي عيّنه قسطنطين في فض النزاع ، فقد دعا الامبراطور إلى عقد أول مجمع مسكوني في تاريخ الكنيسة ، وقد تم ذلك في عام ٣٢٥ ميلادية في مدينة نيقية في آسيا الصغرى. وقد حضر الاجتماع ٣٠٠ من المطارنة. وبعد ستة أسابيع من النقاش تم تشكيل عقيدة التثليث : إن الله الذي يعتقد به المسيحيون قد صوّر على أنه يمتلك ثلاثة جواهر ـ أو طبائع ـ في هيئة الأب والابن وروح القدس. فالعقيدة التي خرج بها المجمع نصّت على ما يلي :

« نحن نعبد إلهاً واحداً في الثالوث ، والثالوث في التوحيد ، لأنّ هناك شخصاً للأب ، وآخر للابن ، وآخر لروح القدس. إنهم ليسوا ثلاثة آلهة ولكن إله واحد. فكل الاشخاص الثلاثة هم أزليون معاً ومتساوون معاً ، وهكذا فإن الانسان الناجي هو ذلك الذي يعتقد بالثالوث » (١).

ولكن المسألة لم تكن قد انتهت رغم الآمال الكبيرة التي علقها الامبراطور على انعقاد المجمع ، فإن أريوس ومطران الاسكندرية الجديد واسمه أثاناسيوس شرعا في الجدال حول المسألة حتى عندما كانت عقيدة نيقية في طور التوقيع. وهكذا أصبحت الأريوسية شعاراً منذ ذلك الحين لكل من لايُقرّ بالاعتقاد بنظرية الثالوث (٢).

وفي عام ٤٥١ للميلاد ، وفي مجمع خلقيدونيا المسكوني ، تم إقرار

_______________________

(١) مقتطفات من عقيدة أثاناسيوس.

(٢) نظرة عن قرب في المسيحية : ٣٦ ـ ٣٧.

٦٨

عقيدة نيقية القسطنطنية على أنها موثوقة رسميا ولاتقبل المناقشة ، والكلام ضد الثالوث يعتبر كفراً ، ومن يقترفه يستحق حكماً يتراوح بين التشويه والموت !

وهكذا فقد استدار المسيحيون ضد المسيحيين يشوّهون ويذبحون الآلاف بسبب الاختلاف في الرأي.

ورغم أن العقوبات القاسية التي مورست في أوقات سابقة قد توقفت الآن ، فإن الجدل حول عقيدة التثليث استمر حتى وقتنا الحاضر ، وعلى أيّة حال فإن غالبية المسيحيين لايبالون في هذا الجدل ، ويقفون بثبات وراء هذا المعتقد الاساسي من ديانتهم (١).

هكذا أصبح التثليث معتقداً أساسياً للمسيحية لكنه لا يستند إطلاقاً على قاعدة من الكتاب المقدّس ... إنّه من عمل الانسان أصلاً. وهو مثل آخر على الكيفية التي اقتبست بها العقائد الوثنية في الدوغما (العقيدة) المسيحية من أجل أن تُصبح المسيحية أكثر استساغة لأقوام وثنيين.

والاغلبية من المسيحيين عندما يطلب منهم أن يفسروا هذا المعتقد لا يستطيعون أن يجيبوا بأكثر من « إنني أعتقد بهذا لأنني أمرت أن أعتقد به » ، وهم يفسّرونه بأنه « سرّ » (من أسرار الدين يعرفه المرء بالإلهام وحده ولا يستطيع أن يفهمه فهماً كاملاً).

وحتى مؤسس هذا المعتقد واجه بعض الاشكالات في فهمه : فقد قيل إن أثاناسيوس ، وهو المطران الذي صاغ معتقد الثالوث ، قد اعترف بأنه كلما كتب

_______________________

(١) نظرة عن قرب في المسيحية : ٣٨.

٦٩

أكثر حول هذه المسألة أصبح أقل قدرة على التعبير بوضوح عن أفكاره بخصوصها (١).

ثالثاً : عقيدة الغفران :

ان معتقد « الغفران » ينصّ ببساطة على أنّ عيسىٰ قاسىٰ ومات على الصليب من أجل أن يخلّص الانسان من نير الخطيئة.

وهي عقيدة تعتمد عليها العقائد المسيحية الأخرى تماماً في جوهرها ، كاُلوهية المسيح ، والثالوث ، والخلاص عن طريق الايمان.

وفي نظر بولص ، فإن البشر هم جنس من الخطاة ، وهذا « امتياز » مشكوك فيه ورثه الكل من آدم وخطيئته عندما أكل من الشجرة المحرّمة في جنة عدن. وهذه « الخطيئة الاصلية » صبغت كل الجنس البشري منذ آدم. وبسبب صبغة الخطيئة هذه فإن الانسان لا يستطيع أن يقوم هو بمهمة خلاصه ، ولكن عيسىٰ يستطيع أن يقوم بهذه المهمة لأنّه لم يخلق من نطفة رجل. ورغم ما في ذلك من ظلم منطقي لكل من الله والبشر ، فإن المسيحية تبنّتْ بحماس هذه العقيدة في الخطيئة الاصلية حتى تبرّر أفكارها عن رسالة المسيح بادّعائها أنّ رسالته هي التكفير عن أخطاء البشر.

وفي وضعه لهذه العقيدة عن الخطيئة الاصلية فإن بولص يبدو وكأنه ضرب صفحاً عن كلمات الله لحزقيا في الجزء ١٨ : ٢٠ ـ ٢٢ : « إنّ الابن لايحمل وزر الأب ، وأيضاً لايحمل الأب وزر الابن » (٢).

_______________________

(١) نظرة عن قرب في المسيحية : ٣٨.

(٢) نظرة عن قرب في المسيحية : ٤٠ ـ ٤١.

٧٠

وحسب ما يقوله بولص فإن مخلص البشرية جاء في هيئة عيسىٰ : « إنّ الله أرسل ابنه الوحيد إلى الأرض حتى يتحمل الألم والموت على الصليب ، لكي تكون إراقة دمه هي التي تكفّر عن خطايا البشر ». إنّ عيسىٰ كان هو الضحية القربانية.

إن بولص تذكّر القرابين التي يقدمها اليهود لله في العهد القديم ، وبطريقة ما قرّر أن هذه القرابين كانت تُقدّم حتى يتلقى الناس عفو الله عن ذنوبهم. وبينما كانت القرابين تُقدم من قبل اليهود القدماء من أجل التكفير ، فإنّ الأنبياء الذين جاؤوا بعد ذلك أمروا بأن يكف اليهود عن ذلك. ففي هُوشع ٦ : ٦ ، مثلاً ، نقرأ :

« لأنني أرغب في حُبّ ثابت وليس في قربان ».

إنّ الله أراد حباً ـ وهذا يأتي من إيمانٍ به وطاعة لقوانينه ـ ولم يطلب دماً ، إنّ عيسىٰ أكّد هذا المفهوم مرة أخرى في إنجيل متّىٰ ٩ : ١٣ حيث نقرأ :

« اذهبوا وتعلموا ماذا يعني هذا الكلام : أنا أرغب في الرحمة وليس في القربان »

أما بولص فقد ازاح كل هذا جانبا على أية حال قائلاً : إنّ عيسىٰ ، وهو كائن كامل ، أصبح « القربان الأكبر » عندما قدّم حياته على الصليب.

إن نظرية بولص هي أن الله لايمكن اعتباره عادلاً إلّا إذا اقتص من الخطاة ، والتوبة وحدها ببساطة لاتستطيع أن تقدم التبرير « الضروري » للذنوب المرتكبة. فالتكفير ـ كما يقول هو ـ ضروري لأنّ شرف الله وعدالته وقدسيته وكماله لايمكن أن تتحقق « بمجرد » التوبة.

وبالنسبة إلى المسيحي فإنّ عيسىٰ صالح الناس مع الله من خلال موته. لقد ألقى المؤلف المسيحي أنيس شروش نظرة متمعنة على هذه المسألة منذ

٧١

عدة سنين مضت ، وقد استنتج أنه ليس هناك تكفير في الاعتراف والتوبة ، إذ من الذي سيدفع ثمن ذنوبنا (١).

وإحدى الموضوعات التي أرساها بولص وتبرز مرة بعد مرة في المسيحية وخاصة فيما يتعلق بعيسى ، هي موضوع حب الله.

وحسب ما يقول المسيحيون ، فإن حب الله هو وراء صلب وموت عيسىٰ ... وعلامة حب الله هي الصليب كما يقولون. وحسب طريقة تفكيرهم فإن الله هكذا أحبّنا بحيث أرسل عيسىٰ وجعله يُعاني ويموت حتى يُخلّص الجنس البشري من خطاياه (٢).

رابعاً : من الختان إلى التعميد :

لقد ابتدأ بولص بالشيء الذي كان الاميون يُبدون أكبر رفض له : « الختان ». وحسب ما يقول بولص فإنّ إبراهيم كان صالحاً قبل أن يختن ، فلماذا الاهتمام بعد هذا بالختان ؟

والذي أهمله بولص ، على كل حال ، كان حقيقة أن الله كان قد عقد ميثاقاً قبل مئات السنين مع إبراهيم مختوماً بأوامر الله بالختان من جانب إبراهيم وكل ذريته من الذكور بعد ذلك. ففي سفر التكوين ١٧ : ١٤ فإن الله كان واضحاً حول هذه المسألة :

« إن الطفل البشري غير المختون والذي تكون قلفته غير مطهرة ، فإن هذه النفس سوف تقطع من شعبه لأنه نقض ميثاقي ».

_______________________

(١) نظرة عن قرب في المسيحية : ٤١ ـ ٤٢.

(٢) نفس المصدر : ٤٣.

٧٢

ولايستطيع المرء إلّا أن يعجب كيف استطاع بولص أن يزيح هذه الكلمات جانباً بهذه الجرأة. لقد أبدل الختان بالتعميد ، وهو رش الماء ، الذي أصبح الآن الواسطة لختم ميثاق بين الله وبين الفرد المسيحي. إن الأميين (غير اليهود) ، بطبيعة الحال ، كانوا قد اهتزوا طرباً لهذا.

بعد ذلك اختفت اُمور الشريعة الواحدة بعد الأخرى ، وفي فترة قصيرة من الزمن فإنّ شريعة الله أصبحت لاشيء أكثر من تحضير لقوة الخلاص من عيسىٰ للمسيحيين ... أي إن الشريعة أصبحت شيئاً لايستحق الاهتمام.

وبينما الأعمال الصالحة ـ حسب قول بولص ـ تأتي فطريا للمسيحي ، فإنّ عليه أن يعرف أن الأعمال الصالحة لوحدها سوف لن تكفي بنفسها في الخلاص ، فقط الايمان بقوّة الانقاذ في عيسىٰ يمكن أن تفعل ذلك (١).

٤ ـ ماذا عن الانجيل الخامس

« إنجيل برنابا »

هذا الانجيل الذي يتنكر له المسيحيون قاطبةً ، ماهي قصته ؟

يذكر التاريخ أن البابا جلاسيوس الأول ، الذي جلس على الاريكة البابوية سنة ٤٩٢ م ، أصدر أمراً بتحريم قراءة عدد من الكتب ، وذكر في عدادها : « إنجيل برنابا ».

ومن هذا نفهم أن إنجيل برنابا كان معروفا حتى ذلك العهد ، غير أن المعروف في تلك العهود القديمة أن الكتب الدينية الرئيسية لم يكن مسموحاً للعامة بقراءتها ، بل كانت حكراً على كبار رجال الدين وحدهم !

_______________________

(١) نظرة عن قرب في المسيحية : ٥٢ ـ ٥٣.

٧٣

ونفهم أيضاً أن في إنجيل برنابا تعاليم مخالفة لهذه التعاليم التي اعتمدتها الكنيسة في ذلك الوقت.

وفي كتاب « اكسيهومو » المطبوع بلندن سنة ١٨١٣ ، ورد فهرست للكتب التي ذكر المشايخ من قدماء المسيحيين أنها تنسب إلى المسيح وأتباعه ، وعد من هذه الكتب : إنجيل برنابا.

والمستشرق سايل ذكر في مقدمة ترجمته للقرآن الكريم أن الراهب اللاتيني « فرامرينو » ذكر أنه وجد رسائل للقديس « ابرينايوس » من الجيل الثاني للمسيح ، وفي جملتها رسالة يندّد فيها ببولص ، ويذمه ، ويسند تنديده إلى إنجيل القديس برنابا. فصار الراهب المذكور شديد الشوق إلى العثور على هذا الإنجيل ، وتوفق أخيرا للعثور عليه في مكتبة البابا سكتس الخامس. كان ذلك في أواخر القرن السادس عشر.

ثمّ ظهرت لهذا الانجيل نسخة إيطالية سنة ١٧٠٩ م ، ثمّ عثر في وقت قريب من هذا التاريخ على نسخة أسبانية لإنجيل برنابا ، نقلها الدكتور منكهوس إلى اللغة الانجليزية ، ودفع الأصل مع الترجمة إلى الدكتور هويت سنه ١٧٨٤ م.

ثم شاع خبر هذا الانجيل في القرن نفسه ، الثامن عشر ، ولم يعرف لانجيل برنابا نسخة عربية ، ولاذكر اسمه في تاريخ العرب والمسلمين على الاطلاق ، حتى قام الدكتور خليل سعادة بترجمته إلى العربية سنة ١٩٠٨ م.

من هو برنابا ؟

جاء ذكره في العهد الجديد ، فقالوا : إن اسمه يوسف ، أو يوسىٰ ، ثم سماه

٧٤

الرسل « برنابا » أي ابن الوعظ. وأصله لاوي قبرصي ، كان له حقل باعه وأتى بالدراهم إلى الرسل (٤٤١ : ٣٦ و ٣٧). وأرسله الرسل ليجتاز إلى أنطاكية للوعظ والتثبيت على الايمان بالمسيح ، وكان رجلاً صالحاً وممتلئاً من الروح القدس والايمان (١١٤١ : ٢٢ و ٢٤).

خلاصة العقائد والموقف من بولص في انجيل برنابا :

يقول برنابا في أوليات كتابه : « إن الله العظيم افتقدنا في هذه الأيام الأخيرة بنبيّه يسوع المسيح ، برحمة عظيمة للتعليم ومن الآيات التي اتخذها الشيطان ذريعة لتضليل كثيرين بدعوى التقوى ، مبشرين بتعليم شديد الكفر ، داعين المسيح ابن الله ! ورافضين الختان ! الذي أمر الله به دائماً ، مجوزين كل لحم نجس ! الذين ضل في عدادهم أيضاً بولص ، الذي لا أتكلم عنه إلا مع الأسىٰ ».

وقال في آخره : « فإن فريقاً من الأشرار المدعين أنهم تلاميذ بشروا بأن المسيح مات ولم يقم ، وآخرين بشروا بأنه مات بالحقيقة ثم قام ، وآخرين بشروا ولايزالون يبشرون بأن يسوع هو ابن الله ! وقد خُدع في عدادهم بولص ».

إنجيل برنابا وذكر الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله (١)

من بين الأناجيل الأربعة تفرد إنجيل يوحنا برد قصة العشاء الأخير للمسيح قبل القبض عليه ، ووصيته في هذا العشاء ، فأفرد لها أربعة أصحاحات (من ١٤ ـ ١٧) ، وتركز هذا الوصايا على اتباع الرجل الآخر الذي سيبعثه الله

_______________________

(١) انجيل برنابا : ٦٣ ، فصل ١١ ، فقرة ٢٩ ، و ٦٩ ، فصل ٤٤ ، فقرة ١٩.

٧٥

بعد المسيح ، ويسميه إنجيل يوحنا الفارقليط Paraclete وقد كتب يوحنا باليونانية ، وقد ترجمت هذه المفردة بالمخلّص والمعزّي ، كما تعني أيضاً « مَن له الحمد الكثير » أي الأحمد والمحمّد. أما نصوص يوحنا حول الفارقليط ، فهي :

قال يسوع : « إذا كنتم تحبونني فستعملون على اتباع أوامري ، وسأصلّي للأب الذي سيعطيني فارقليط آخر » (١ ، ١٥ ، ١٦)

و « رحيلي فائدة لكم ، لأنني إذا لم أرحل فالفارقليط لن يأتي إليكم » (١٦)

و « عندما سيأتي روح الحقيقة فسيجعلكم ترقون إلى الحقيقة بكاملها ولأنه لن يتكلم بإرادته ، وإنما سيقول ما يسمع ، وسيعرّفكم بكل ما يأتي ، وسيمجّدني » (١٦)

هذه الوصايا كلها ، بل الحديث الذي تضمنها كله ، ليس له أثر في الأناجيل الثلاثة السابقة (١).

أما إنجيل برنابا فعلى العكس من ذلك ، جاءت فيه الصورة أكثر وضوحاً عندما تحدث عن هذا الفارقليط باسمه الحقيقي ، لابوصفه ، وقد اختص الفصل (١٦٣) منه لهذا الموضوع ، والذي ابتدأ بحديث المسيح لتلاميذه بعد صلاة الظهيرة ، وقد جلس بجانب نخلة ، وجلس تلاميذه تحت ظل النخلة ، فابتدأ يحدثهم عن الانسان المصطفى « الذي تتطلع إليه الأمم ، الذي تتجلى له أسرار الله تجلياً » « فطوبى للذين سيصغون السمع إلى كلامه حتى جاء إلى العالم ».

_______________________

(١) موريس بوكاي : ١٣٢ ـ ١٣٦.

٧٦

أجاب التلاميذ : يا معلم ، من عسىٰ أن يكون ذلك الرجل الذي تتكلم عنه ، الذي سيأتي إلى العالم ؟ أجاب يسوع بابتهاج قلب : « إنه محمد رسول ، ومتى جاء إلى العالم فسيكون ذريعة للأعمال الصالحة بين البشر بالرحمة الغزيرة التي يأتي بها ، كما يجعل المطر الأرض تعطي ثمراً بعد انقطاع المطر زمناً طويلاً ، فهو غمامة بيضاء ملأت برحمة الله ، وهي رحمة ينثرها الله رذاذاً على المؤمنين كالغيث » (١).

وليس هذا هو النص الوحيد في إنجيل برنابا عن البشارة بنبي الاسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل فيه نصوص متقدمة عن السيد المسيح ، ذكرها برنابا لوحده (٢).

_______________________

(١) إنجيل برنابا : ٢٥٢ ، الفصل ١٦٣.

(٢) إنجيل برنابا ، الفصل ١١ ، الفقرة ٢٩ ، والفصل ٤٤ ، الفقرة ١٩.

٧٧
٧٨

الفصل الثالث معالم في القرآن الكريم

(١)

تاريخ القرآن

إذا كان البحث في تاريخ التوراة والانجيل قد أثبت قضايا مثيرة للدهشة ، تؤكد تدخل الكتّاب في تبديل بعض النصوص ، وإلغاء نصوص أخرى. بل في وضع مواد كاملة ليست من وحي السماء ولا من حديث الأنبياء ، فإن الأمر مع القرآن الكريم مختلف تماماً.

لقد امتاز القرآن الكريم منذ البداية وعلى امتداد نزوله بمزية لم تكن لغيره من الكتب السماوية ، وهي مزية الحفظ والتلاوة المكررة ، والتنافس فيها ، إضافة إلى مزية التدوين المباشر لما ينزل من الوحي ، وبأمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله. ساعد على ذلك تدرج القرآن الكريم في نزوله ، آية أو آيتين ، أو بضع آيات ، أو سورة واحدة قصيرة أو متوسطة ، يتلوها الرسول على مسامع أصحابه ، فيتنافسون في حفظها ، ويأمر هو كتّاب الوحي الذين عينهم لهذا الشأن بتدوينها.

وساعد عليه أيضاً الموقع الفريد للقرآن الكريم في قلوب المسلمين ، فهم

٧٩

يترقبون نزول الآيات ويتلهفون لها ، فإذا ما سمعوها من فم الرسول استشرقت لها صدورهم ، والتفوا جماعات جماعات يحفظونها ويتبادلون الحديث في معانيها ، مع ما يأخذونه من الرسول نفسه من معانيها وأحكامها. كل ذلك كان في زمن امتازت به بيئة القرآن بقوة الحافظة والتفاخر فيها ، فكانت الحافظة عندهم بديلاً عن الكتابة ، حتى جاء القرآن الكريم فسارت الكتابة إلى جنب الحافظة ، تصون إحداهن الأخرى وتقويها وتؤكدها.

« وكان شعار الاسلام وسمة المسلمين حينئذٍ التجمّل والتكمّل بحفظ ما ينزل من القرآن الكريم ، لكي يتبصّر بحججه ، ويتنوّر بمعارفه وشرائعه وأخلاقه الفاضلة ، وتاريخه المجيد ، وحكمته الباهرة ، وأدبه العربي الفائق المعجز. فاتخذ المسلمون تلاوته لهم حجّة الدعوة ، ومعجزة البلاغة ، ولسان العبادة لله تعالى ، ولهجة ذكره ، وترجمان مناجاته ، وأنيس الخلوة ، وترويح النفس ، ودرساً للكمال ، وتمريناً في التهذيب ، وسلّماً للترقي ، وتدرباً في التمدّن ، وآية الموعظة ، وشعار الاسلام ، ووسام الايمان والتقدم في الفضيلة » (١).

لكل هذا كان حفظ القرآن وتلاوته شغل الصحابة وعبادتهم المفضلة بعد الفرائض ، فقد «كان لمسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ضجّة بتلاوة القرآن ، حتى أمرهم الرسول أن يخفضوا أصواتهم لئلّا يتغالطوا » (٢).

_______________________

(١) آلاء الرحمن في تفسير القرآن / الشيخ محمد جواد البلاغي ١ : ٤٩ ، تحقيق مؤسسة البعثة ، قم ، ط ١ ، ١٤٢٠ هـ.

(٢) مسند أحمد ٥ : ٣٢٤ ، المستدرك على الصحيحين ٣ : ٣٥٦.

٨٠