في مقارنة الأديان

الدكتور صائب عبد الحميد

في مقارنة الأديان

المؤلف:

الدكتور صائب عبد الحميد


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-11-0
الصفحات: ١٤٦
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

وهكذا يتمثل الله جل شأنه بصورة إنسان ، وينزل الى الأرض ، ويصارع يعقوب حتى طلوع الفجر ، فلا يقوىٰ عليه ، بل يكون يعقوب هو المتغلب القابض على « خصمه » ! فيتوسل به ذلك الإنسان ـ الذي هو الله كما يزعمون ـ أن أطلقني ! فيأبىٰ يعقوب حتى يأخذ منه البركة التي يريدها عنوةً !

كيف يتصور عاقل أن هذا الكلام هو من وحي السماء ، أم من كلام الأنبياء ؟! دع عنك المورد الأخير « لأني رأيت الاله وجوها لوجوه » ! فإذا كان يصور لله وجوهاً ليراد بها معاني غائبة عنا ، فكيف تكون له هو وجوه ، لا وجه واحد ؟!

٥ ـ الله في وسط العليقة !!

ما زالت التوراة تتحدث عن الله جل جلاله وكأنه جسم كالانسان ، ينزل إلى الأرض مرة بعد اُخرىٰ ، فلما أراد أن يوحي إلى موسىٰ نزل إليه الى الأرض ليكلمه !

تقول التوراة : « إن موسىٰ كان يرعى الغنم ، فجاء بها إلى حوريب ، وظهر ملاك الله له بلهبة نار من وسط عليقة (١) ، وإذا العليقة تتوقد ولا تحترق ، فمال موسى لينظر ، فلما رآه الله مال ، ناداه الاله من وسط العليقة ، وقال له : أنا إله أبيك إبراهيم ، إله اسحاق ، إله يعقوب ! فغطىٰ موسىٰ وجهه ، لأنه خاف أن ينظر إلى الاله » ! (٢)

وهكذا تميل التوراة إلى تجسيم الاله وتجسيده ، وكأن صورة فرعون

_______________________

(١) العليقة : ما تعلفه الدابة من شعيرة ونحوه. انظر لسان العرب ١٠ : ٢٦٧ ـ علق.

(٢) سفر الخروج ـ الفصل ٣.

٢١

الذي كان يدعي أنه إله المصريين قد استحوذت على عقولهم وقلوبهم ، فلا يستطيعون الافلات منها ، فهم يعيشون أبداً في إيحاءات ديانة المصريين القدامىٰ وتصوراتهم عن الآلهة.

ومع ذلك فقلما أوردوا نصاً في هذا الشأن إلا والاضطراب أو التناقض شاخصان فيه ، ففي أول هذا النص ظهر ملاك الله لموسىٰ بلهبة نار في وسط العليقة ، لكن سرعان ما يكون هذا الذي ظهر في وسط العليقة هو الله نفسه ! ظهوراً قابلاً للرؤية الطبيعية بجسم محدد المعالم ، غير أن موسىٰ غلبه الخوف فغطىٰ وجهه لئلا يراه !

٦ ـ بنو إسرائيل يرون الله !!

إذا كان موسىٰ عليه‌السلام قد تخوّف من النظر إلى الله للمرة الأولىٰ ، فإنه وقومه سيرون الله مجتمعين ، كما تزعم التوراة : « وصعد موسى وهارون وناداب وابيهوا وسبعون من شيوخ بني اسرائيل ، فرأوا إله اسرائيل ، وتحت رجليه شبه صنعة من العقيق الأزرق الشفاف ، وكذات السماء في النقاوة ، لكنه لم يمد يده إلى شراف بني إسرائيل ، فرأوا الله ، وأكلوا وشربوا » (١).

انها لا تعدو كونها خصلة من خصلات المصريين القدامى في محظر الآلهة ! وكل ما صنعته التوراة انه استبدلت الآلهة المصرية بإله صعدوا إليه هذه المرة ، ومنحته صنعة من العقيق تحت رجليه لم يرها المصريون تحت أرجل آلهتهم.

إنها تتحدث عن أحلام بني إسرائيل في رؤية الله وكأنها حقيقة قد وقعت !

_______________________

(١) سفر الخروج ـ الفصل ٢٤ ـ العدد ٩ ـ ١١.

٢٢

تلك الأحلام التي تحدث عنها القرآن وعن عواقبها ، قال تعالىٰ : ( يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَىٰ أَكْبَرَ مِن ذَٰلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ) (١) !

وأيضاً : ( وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ) (٢) أي أنكم رأيتم بأم أعينكم كيف أخذتكم الصاعقة جزاءً على طلبكم الأهوج هذا !

لكن الذي يبدو هنا أن بني إسرائيل وهم يؤرخون لأنفسهم ، لم يكتفوا بتزوير الوقائع ، بل فضّلوا الانتصار لأحلام أسلافهم الهابطة حتى على أصل التوحيد وما يتعلق به من صفات الكمال والجلال.

٧ ـ الله يتراجع عن قتل موسىٰ !!

بعد حديث سفر الخروج عن موسى وفرعون ووعد الله موسى بأن يكون معه ، قالت ما حاصله : إن الله سيأتي بكل عجائبه ويضعها أمام فرعون ! على أن يحضر موسى هذا الموقف ، لكن لماذا موسى إلى مصر بأمر الله ومواعيده التقاه الله ! وطلب أن يقتله !! فأخذت صفورة زوجة موسىٰ صوّانة ، وقطعت غرلة ابنها ، ومست رجل موسىٰ بالدم ، فانفك الله عنه !! (٣)

عجباً عن أي إله تتحدث التوراة ، إن لم يكن واحداً من آلهة المصريين القدامى ؟!

_______________________

(١) سورة النساء : ٤ / ١٥٣.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٥٥.

(٣) سفر الخروج ـ الفصل ٤.

٢٣

٨ ـ يحارب ويحتار !!

سينزل الله ـ كما تزعم التوراة ـ مرة اخرى إلى أرض مصر ، ليحارب المصريين هذه المرة ، لكنه سوف لا يستطيع أن يميّز بيوت أوليائه عن بيوت أعدائه ، فأمر أولياءه أن يضعوا على أبواب بيوتهم علامات ، فاذا رآها تجاوزها الى بيوت الآخرين ليضربها !

«إن الله أمر بني اسرائيل أن يذبحوا الفصح ، ويلطخوا العتبة العليا والقائمتين من أبوابهم بالدم ، لأن الله يجتاز ليضرب المصريين ، فحين الدم يعبر عن الباب »!! (١)

المبحث الثاني : الأنبياء في التوراة

١ ـ هارون بين التوراة والقرآن :

مع أن التوراة تقرّ بأن الله اختار هارون للنبوة مع أخيه موسىٰ ، قبل حادثة العجل ، وبعدها ، دون أن ينسخها (٢) ، فهي تعرض له صورة مقززة ، حين تنسب إليه صناعة العجل وعبادته ، الأمر الذي ينسبه القرآن إلى السامري.

ففي التوراة : إن بني إسرائيل قالوا لهارون : اجعل لنا آلهة يسيرون أمامنا ! فقال لهم : انزعوا أقراط الذهب التي في آذان نسائكم وأطفالكم وآتوني بها ، فأتوا بها إلى هارون ، فأخذ ذلك وصيره عجلاً مسبوكاً ، فقالوا : هذه آلهتك يا إسرائيل !

فلما نظر هارون بنىٰ مذبحاً أمام العجل ، ونادىٰ هارون : غداً حجّ للرب ،

_______________________

(١) سفر الخروج ـ الفصل ١٢.

(٢) سفر اللاويين ـ الفصل ١١ و ١٤ ، سفر العدد ـ الفصل ٢ و ٤ و ١٩.

٢٤

فاصعدوا في الغد على المذبح وقدموا ذبائح سلامة ! (١)

ومع أن العهد القديم لا يتورّع في نسبة الشرك الى سليمان أيضاً ، حين أمال قلبه النساء المشركات ـ بزعمها ـ فذهب وراء « عشتاروت » إلهة الصيدونيين ، و « ملكوم » إله العمونيين و « كموش » صنم الموابيين ! (٢)

غير أن القرآن الكريم لا يعرف نبياً يشرك بالله شيئاً ! وكيف يكون داعية إلى التوحيد من ينقض التوحيد بنفسه ويقرّ الشرك ويمارسه !!

وهل انقطع البشر ليختار الله من المشركين أنبياء له ؟!

ان الصور التي يعرضها القرآن للأنبياء هي صور الأنبياء التي لا يداخلها ريب على الاطلاق.

وفي قصة هارون نموذج التمييز بين صورة النبي في القرآن ، ونظيرتها في التوراة.

ان القرآن يبرّئ هارون من كل ذلك ، فهو الذي خاطب قومه حين عبدوا العجل بكل ألم : ( وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَٰنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي ) (٣). فأبوا عليه وتمردوا ، وقالوا : ( لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّىٰ يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَىٰ ) (٤) فلما عاد موسىٰ شكا إليه هارون : ( قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي ) (٥).

_______________________

(١) سفر الخروج ـ الفصل ٣٢.

(٢) سفر الأيام الأول ـ الفصل ٢٨ ـ العدد ٦.

(٣) سورة طه : ٢٠ / ٩٠.

(٤) سورة طه : ٢٠ / ٩١.

(٥) سورة الأعراف : ٧ / ١٥٠.

٢٥

فأين هذه الصورة من تلك ؟!

والقرآن حين يبرّئ هارون عليه‌السلام من هذا الدور ، ينسبه في الوقت نفسه الى السامري (١) ، الذي هو أحد أفراد بني اسرائيل الذين كانوا في صحبة موسىٰ وهارون.

عندئذٍ جاء شراح العهد القديم لينكروا وجود السامري آنذاك ، ظناً منهم أنه المنسوب الى مدينة السامرة التي لم تقام إلّا بعد عهد موسىٰ بزمن طويل (٢).

غافلين عن أن هذه النسبة موجودة عندهم في التوراة مع مواضع عديدة بلفظ « الشمروني » نسبة الى شمرون بن يساكر بن يعقوب ، وقد كان الشمرونيون مع موسىٰ عليه‌السلام (٣).

٢ ـ من هو الذبيح ؟

في العهد القديم تناقض واضح في تسمية الذبيح من ولد إبراهيم الخليل ، أهو اسحاق ، أم إسماعيل ؟

تقول التوراة ان الله خاطب إبراهيم في حين أمره بذبح ابنه ، فقال :

« ابنك ، وحيدك » يكررها ثلاث مرات ، ثم تسميه بعد ذلك فتقول : « اسحاق ».

لكن التوراة نفسها تعترف بان إسحاق لم يكن وحيد ابراهيم يوماً ما ،

_______________________

(١) سورة طه : ٢٠ / ٨٥ ، ٨٧ ، ٩٥.

(٢) جمعية كتاب الهداية ١ : ٣٧.

(٣) سفر العدد ـ الفصل ٢٦ ـ العدد ٢٣.

٢٦

فلقد ولد له اسماعيل قبل اسحاق بخمسة عشر سنة (١) ، وهذا يعني أن إسماعيل هو الذي كان وحيد إبراهيم على مدىٰ خمسة عشر سنة ، فإذا كان النداء في تعريف الذبيح بـ « ابنك ، وحيدك » فهو إنما يريد إسماعيل ، دون شبهة ، وقبل أن يولد إسحاق.

ويؤيد هذا أن المروي عن أهل البيت عليهم‌السلام هو كون الذبيح إسماعيل لا إسحاق عليهما‌السلام (٢).

٣ ـ لوط وابنتاه :

صورة بشعة تقدم التوراة عن لوط عليه‌السلام ، لا ترتضىٰ لذي عقل من سائر البشر ، ناهيك عن كونه نبياً تعرف التوراة نبوّته.

ففي العهد القديم أن الله تعالى لما قلب سدوم ـ بلد قوم لوط ـ وأنجىٰ لوطاً ، كان معه ابنتاه ، فسكن معهما في مغارة الجبل ، فتشاورت ابنتاه واتفقتا على أن تسقياه خمراً ثم يضطجعا معه ! فسقتاه خمراً ذات ليلة ، واضطجعت معه الكبيرة ، فواقعها وهو لا يعلم ! وسقتاه في الليلة الثانية واضطجعت معه الصغيرة فواقعها وهو لا يعلم ! فحبلت البنتان من أبيهما ، وولدتا !! (٣)

لا يرتاب أحد في أن هذه القصة إنما هي من نسيج خيال رجل مصاب بالشذوذ أو الكبت الجنسي المفرط ! وإلّا فكيف يتم مثل هذا في الواقع ؟ ناهيك عن كونه حديث عن نبي اصطفاه الله للهداية والتزكية !

_______________________

(١) سفر التكوين ـ الفصل ١٦ ـ العدد ٧ ـ ١٤ والفصل ٢٢.

(٢) راجع البرهان في تفسير القرآن / البحراني ٤ : ٦١٨ في تفسير الآيات : ١٠٠ ـ ١١٣ من سورة الصافات وتفسير الميزان / الطباطبائي ٧ : ٢٣٢ ـ ٢٣٤ في تفسير الآيات : ٧٤ ـ ٨٢ من سورة الأنعام.

(٣) سفر التكوين ـ الفصل ١٩.

٢٧

فهل بلغ به السكر هذا الحد الذي أنساه على طول الوقت انه ليس معه من النساء سوى ابنتيه ؟

وهل بلغ به السكر الى الحد الذي يفيق معه وهو يجامع فتاة باكر الى نهاية المطاف ؟

وإذا بلغ به كل هذا الحد ، ترى أليس سيرىٰ بعد صحوته في نهار الغد آثار ما وقع على نفسه ؟

ثم هل يتكرر ذلك كله في الليلة التالية دون أن يشعر بشيء منه ؟

وأهم من هذا كله : كيف أسلم هذا الشيخ نفسه لابنتيه يسقياه الخمر الى هذا الحد المبالغ فيه ، مرّةً بعد اُخرىٰ ؟!

ترىٰ هل سقياه الخمر زرقاً بالوريد بعد أن وضعا له مخدّراً في طعامه أو شرابه ؟

اذا كانت التقنية الطبيّة قبل نحو الفي عام قبل الميلاد تسمح بمثل هذا ، فهو الاحتمال الوحيد لصدق الفصل الاول من القصة ، لكنه لا يسمح بقبول غفلة الشيخ آثار ما وقع في ليلته في نهاره التالي ، لتنكشف اللعبة ، فلا تتكرر معه مرة اُخرىٰ !

ثم كيف لعبت الصدفة لعبتها ، لتحبل البنتان معاً من الجماع الأول في حياتهما ؟!

هذه الأسئلة ، وغيرها أيضاً تثور على الفور حين نعلم أن التوراة تزعم أنها تتحدث عن وقائع تاريخية لعقلاء الناس ، أما إذا كانت واحدة من قصص الخيال ، فهي وشأنها.

٤ ـ كيف أخذ يعقوب البركة من أبيه ؟

كان اسحاق عليه‌السلام قد فقد بصره ، وله أولاد ، فأراد أن يبارك ولده البكر «عيسو» دون أن ندري ؛ أبرغبة منه ، أم بأمر من الله ؟

٢٨

فقال لولده عيسو : « اذهب ، وصد صيداً ، واصنع لي منه أطعمة ، كما اُحبّ ، حتى تباركك نفسي قبل أن أموت » وكان يعقوب يسمع ، فانطلق قبل عيسو وأخذ جديين من المعز ، وصنع منهما أطعمة ، ولبس ثياب عيسو ، وزوّر نعومة يديه وعنقه بأن جعل عليه جلد جدي لكي يكون مشعراً كعيسو ! وقال لأبيه إسحاق : أنا عيسو ، فعلت كما كلّمتني ، كل من صيدي !

فقال اسحاق ـ الذي يبدو أنه ارتاب قليلاً ربما لاختلاف نبرة الصوت ـ :

هل أنت ابني عيسو ؟

قال يعقوب : أنا هو !

فأكل اسحاق من الصيد ، وشرب خمراً ! ثم بارك يعقوب !

فجاء عيسو بصيده الى أبيه يطلب البركة التي وعده بها ، فلما عرف اسحاق المكر من يعقوب ، ارتعد ارتعاداً عظيماً ، وقال : من هو الذي باركته ، ويكون مباركاً ؟!

فصرخ عيسو ، وقال لأبيه : باركني أنا أيضاً !

فقال اسحاق : « جاء أخوك بمكر وأخذ بركتك » !

فقال عيسو : أما بقيت لي بركة ؟

قال اسحاق : « إني جعلته سيداً لك ، ودفعت إليه جميع اخوته عبيداً ، وعضدته بحنطة وخمر ، فماذا أصنع إليك يابنيّ » ؟! (١)

فهل تنتقل بركة النبوة بهذه الطريقة ؟

فمع فرض وقوع النبي بالخديعة ، وإهدائه ميراث النبوّة للذي مكر به

_______________________

(١) سفر التكوين ـ الفصل ٢٧ ـ العدد ١ ـ ٤٠.

٢٩

وخدعه ، فهل سينقل ميراث النبوة للماكر الخادع ، دون أن يكون لله تعالى أي دور يذكر في اختيار نبيه ؟

هذا إذا ما افترضنا صحة ما تدعيه التوراة التي بين أيدينا من أن انتقال ميراث النبوة كان متوقفاً على أكلة شهية ترضي النبي ، يعقبها شربة من خمر تطلق أشجانه !!

لكأن ناسج هذه الأسطورة أراد لبني إسرائيل أن يتعلموا أن المكر والخديعة هي طريق الفوز ، وليس ثمّة صلاح ولا تقوىٰ ولا صدق ولا اخلاص.

٥ ـ بيت داود عليه‌السلام :

يبدو أن من مهندسي التحريف في التوراة رجالاً اصيبوا بالشذوذ الجنسي الحاد ، فأسقطوا هواجسهم ونزعاتهم على بيوت الأنبياء بكل صلافة ، فلم تكن قصة لوط وابنتيه هي الانموذج الوحيد لهذا الاسقاط ، بل سيتابع هذا العامل انعكاساته في الكثير من بيوت الأنبياء !!

وابتداءً من أولاد يعقوب ، سيمارس يهوذا الزنا مع كنته ، زوجة ابنه البكر ، ويتخذها صاحبة سر أمداً طويلاً ، حتى تلد منه ولدين ، هما فارض ، وذارح ! (١)

وفارض هذا هو جدّ الأنبياء اللاحقين : داود ، وسليمان ، وعيسىٰ عليهم‌السلام !

ومع أن التوراة تقول : « لا يدخل ابن الزنا في جماعة الرب حتى الجيل العاشر » (١).

فقد دخل داود هذه الجماعة وهو الابن العاشر لفارض.

وسوف ينتقل هذا الداء ـ بحسب هذه الأساطير ـ الى بيت داود ، ويفتك

_______________________

(١) سفر التكوين ـ الفصل ٣٢.

(٢) سفر التثنية ـ الفصل ٢٣ ـ العدد ١٠.

٣٠

بأهل هذا البيت أي فتك !!

فسيرتكب « أمنون » ابن داود الأكبر فضيحة الزنا ، وعلى مدى غير قصير ، مع اخته « ثامار » ! ويكون الوسيط بينهما ابن عمّهما « يوناداب » ابن أخي داود !

وسيعلم داود بهذا الأمر ، لكنه لا يعاقب ولديه بحدود الشريعة ، لأنه يحبهما ، « ولم يُحزن داود روح أمنون ابنه ، لأنه أحبه ولأنه بكره » !

فلما ثار ولده الآخر « ابشالوم » شقيق ثامار ، فقتل أمنون « بكىٰ داود بكاءً عظيماً ، وناح عليه كلّ الأيام ».

لكن التوراة سوف تعطف على ابشالوم الذي ثار لشقيقته ، فهو لم يثأر تديناً وعفّة ، لأنه قد مارس مثل فاحشة أخيه !! « ان ابشالوم ابن داود زنا بسراري أبيه ونسائه على السطح بمنظر بني إسرائيل » وحتى هذا لم يغضب نبي الله داود ، إذ « لما مات بكىٰ عليه داود كثيراً بصراخ ، قائلاً : من يجعل موتي أنا عوضاً عنك يا ابشالوم ! ابني يا ابني » ! (١)

بل سيصل الأمر عند صموئيل الى داود النبي عليه‌السلام نفسه ، إذ سيعشق زوجة واحد من قواد جيشه « اوريا » وينصب له مكيدة ، فيدفعه في حرب غير متكافئة حتى يقتل ، فيأتي داود امرأته على الفور ، وتحمل منه من الزنا !! (١)

فأي شذوذ هذا الذي كان يسوق ناسج هذه الخيالات الخبيثة ، ليصنع أمة لا يوقفها عن الخيانة شيء.

ولم يتعود قراء التوراة الوقوف على ما فيها من تناقضات فاحشة ، فلم

_______________________

(١) كتاب صموئيل ـ السفر الثاني ـ الفصل ١٣ و ١٦ و ١٨ ، النسخة السبعينية.

(٢) كتاب صموئيل ـ السفر الثاني ـ الفصل ١١.

٣١

يرتعدوا من هذه الصور ، حتى وهم يقرأون في مزامير داود مناجاته ، وهو يخاطب ربه سبحانه وتعالىٰ ، قائلاً : « عن شريعتك لم أَمِلْ ، أما أنا فلم أترك وصاياك ، من كل طريق شرٍّ منعتُ رجلي ، لكي أحفظ كلامك ، عن أحكامك لم أمِل ، لأنك أنت علمتني .. أما وصاياك فلم أضلّ منها » (١).

فكيف يليق أن تنسب تلك السفاسف الى صاحب هذا الخطاب القدسي ، وهو بعد النبيّ الذي اختاره الله لهداية قومه وتزكيتهم والأخذ بأيديهم إلى سبيل الهدىٰ والرشاد ؟!

٦ ـ إرهاب موسىٰ ويوشع :

تصف التوراة أنبياء بني إسرائيل بقسوة لا نظير لها :

١ ـ فلما تغلب بنو إسرائيل على المديانيين وسبوا نساءهم وأطفالهم ، أمرهم موسى أن يقتلوا كل ذكر من الأطفال ، وكل امرأة ثيّب ! وأما صغار النساء اللواتي لم يقربهن رجل فإنهن يبقين حيّات لهم وقد كنّ اثنين وثلاثين ألفاً ! (٢)

ترىٰ كم قتل موسىٰ من الأطفال والنساء في حكم واحد ؟ ولأي ذنب أجرىٰ عليهم هذا الحكم ؟

٢ ـ ومثل هذا صنعه موسىٰ ( بزعم التوراة ) عند استيلائه على الأموريين ، وعند الاستيلاء على مملكة عوج !

٣ ـ تزعم التوراة أن الله أمر بني إسرائيل أن يحرّموا مدن الحيثيين والأموريين والكنعانيين والفرزيين واليبوسيين ، ولا يبقوا منها نسمة أصلاً ، من

_______________________

(١) مزامير داود ـ المزمور ١١٩.

(٢) سفر العدد ـ الفصل ٣١.

٣٢

البشر أو من البهائم !

وهذا ما صنعه يوشع بن نون ـ بحسب التوراة ـ في حروبه ، حتى كان عدد المقتولين بأمره من هذه المدن يعد بمئات الألوف ! (١)

فهل كانت التوراة تنقل في هذه الأخبار سير الأنبياء وشريعة السماء ، أم انها كانت ترسم النزعة الاسرائيلية في الابادة والافناء ، المنبعثة من حقد متجذّر على سائر بني الانسان ، والذي كان مصدراً لاعتقادهم الهابط بأنهم شعب الله المختار الذي له أن يملك مصائر شعوب الدنيا ويتحكم بها ؟!

انها النزعة الاسرائيلية العنصرية بلا شك ، صوّرت على أنها شريعة السماء وفعل الأنبياء لكي يتدين بها اليهودي ، ولا يجد رادعاً أمام تهتكه بقيم الانسانية وكرامة وحقوق الانسان ، هذه المبادئ التي عاشت عليها الصهيونية المعاصرة وأقامت بواسطتها دولتها اللقيطة ، مع ملاحظة أن الأكثر تديناً منهم « اليمين المتطرّف » هو الفصيل الأكثر تعصباً لهذه المبادئ الهمجية والأخلاق الوحشية.

انه الخلق الاسرائيلي القديم الذي تشهد عليه التوراة وتؤصله ، والذي وجدت فيه الصهيونية المعاصرة مادتها ومرجعها الروحي والقومي.

إن أمة تحيىٰ بمثل هذه المبادئ والأخلاق الوحشية حرية بأن تتلقىٰ عقوبتها على أيدي أمم الأرض ، حتى تستفيق من سكرة طغيانها.

٧ ـ الحاضر والغائب في التوراة :

في الوقت الذي تطيل التوراة الحديث حول الشجرة ، وبهذه اللغة التي

_______________________

(١) سفر التثنية ـ الفصل ٢ وفصل ٢٠ ، وسفر يوشع.

٣٣

تثير العديد من التساؤلات ، وتطيل أكثر وأكثر في ذكر تفاصيل أخبار بني اسرائيل ، فهي لا تذكر شيئاً عن قصة ابراهيم مع النمرود في بابل ، ولم تشر ولو اشارة الى حادثة النار التي أضرمها له النمرود ، بل ابتدأت اخبار ابراهيم من أرض حران وهي مهاجره من بابل. مع أن كتباً يهودية أخرىٰ تذكر هذه الحادثة على نحو ما ذكرها القرآن.

ومن المناسب ذكره أن لهذه الحادثة آثاراً تاريخية قديمة تدل عليها ، ففي نواحي بابل توجد مدينة « بورسيبا » ، وتسمى « الله وبرس » وهي قديمة جداً ، إذ يعرف من كتابة بختنصّر [ القرن السادس قبل الميلاد ] والتي كشفت سنة ١٨٤٥م في أخربة « بورسيبا » أن باني هذه المدينة هو أول الملوك ، وبينه وبين بختنصّر اثنين وأربعين زمناً ، أي ملكاً ، والى الآن في بورسيبا آثار قديمة جداً تعرف باسم إبراهيم الخليل عليه‌السلام ، وقبة في الموضع الذي يذكر أن نمرود طرح فيه ابراهيم في النار ، على تلّ كبير أسود رمادي.

وفي الوقت الذي تغرق فيه التوراة في إيراد المواعظ والترهيب والترغيب والبشرىٰ والتخويف ، فهي لم تذكر يوم المعاد ، وحشر العباد للجزاء ، ولا ذكرت ثواب الآخرة وعقابها ، فهل يخلو وحي إلهي من ذكر يوم القيامة ومشاهده الكبرىٰ ؟ إنه أمر غريب ، يثير التساؤل الجاد حول مدىٰ احتفاظ هذه التوراة بأصول الرسالة الموسوية ، ناهيك عن سائر نصوصها.

المبحث الثالث : التوراة والتحريف

قد يكون من اليسير جداً اثبات وقوع التحريف الكثير والكثير جداً في التوراة ، والذي أحدث معاني خطيرة وخطيرة جداً ، عن طريق الاحتكام إلى

٣٤

العقل وحده الذي لا يرتضي نسبة مثلها الى شريعة سماوية ، والى وحي إلهي توحيدي ، ولعل في كل واحد من النصوص التي تم عرضها آنفاً دليلاً على وقوع التحريف ، والوضع الكثير في التوراة ، وشاهداً عليه.

علماً أن هذه النصوص المنقولة آنفاً هي من النصوص الثابتة في أهم الأصول العبرانية للتوراة ، ابتداءً بالأصل العبراني الخطي المجرد عن الحواشي والمقدس عند اليهود بمراقبة أحبارهم ، ثم الأصل العبراني الخطي المزين بالحواشي والمتداول عند اليهود وأحبارهم ، والتراجم الكثيرة باللغات المتعددة المطبوعة والمنتشرة بين سائر يهود العالم وغيرهم.

فهي اذن نصوص من أُصول التوراة التي يتفق عليها اليهود ، فما يأتي عليها يأتي على التوراة نفسها.

والعقل الموضوعي قد رفض قبول تلك النصوص كلها :

فإذا كانت التوراة وهي الإله الواحد ، فأيّ إله يرتضي الحديث عن شركاء له في الالوهية ، وهو يدعي الوحدانية ؟!

وكيف يتكلم الإله عن خوفه من مخلوقه الآدمي ، وابتكاره فنون الحيل ليحول دون بلوغ آدم إلى أسرار القوة خشية أن يصبح إلهاً مثله ؟!

أي إله ينزل إلى الأرض ليصارع أنبياءه ، أو ليزرع الفتن في الأمم التي أخذت طريقها إلى النهوض والرقي ، خوفاً من قوتها ، ثم يتحدث عن ذلك في وحيه ؟!

ثم أي انبياء يختار الله لتبليغ رسالته التي تهدف الى اصلاح الأمم وهدايتها الى سبل الفوز بمجد الدنيا ونعيم الآخرة ؟ أي أنبياء هؤلاء الذين يقعون في أحطّ الرذائل وأخس الفواحش !! ثم يتحدث عنهم الاله في وحيه

٣٥

كأنبياء له وأمناء على وحيه ورسالته ؟ فهل عجز عن اختيار أنبياء صالحين ؟

محال أن يكون هذا أو شيء منه من صنع إله حق ومن حديث الله ربّ العالمين ومن تبليغ الأنبياء ورسالاتهم.

إنه من اليسير جداً الاكتفاء بهذا لتعليل قناعة كافية ، قائمة على منطق علمي ، بكثرة الوضع والتحريف في التوراة.

غير أنه ثمّة طرق اُخرىٰ لاثبات ذلك ، دون التوقف عند الاحكام العقلية وحدها ، التي قد يجادل بها معتنقو تلك المقولات لركونهم الموروث والمتلقىٰ إليها.

من هنا فإن البحث العلمي يستدعي الوقوف عند أدلة اخرىٰ ، موضوعية ، لا تدخل دائرة النزاع العقلي المجرد ، بقدر ما تكشف عن وقائع ثابتة ، وتجلي أرقاماً حقيقية ، لا مفرّ من دلالاتها وشهاداتها ..

وليس هنا أهم من بحث الواقع التاريخي للتوراة مع ما يتضمنه من أرقام وشهادات ، نقدمه في فقرتين :

الفقرة الأولىٰ : الامكان التاريخي للتحريف

الواقع التاريخي لبني إسرائيل ـ كما ترسمه كتب العهد القديم ـ يكشف عن حقائق خطيرة تمسّ التوراة ، وتجعل وقوع التحريف والوضع فيها ليس أمراً ممكناً وحسب ، بل هو الأمر الراجح ، بل المؤكد.. وهذه صورة مختصرة عن مفاصل تاريخية مهمة ذات صلة وثيقة بقصة التوراة.

إن بني إسرائيل خرجوا من مصر إلى برية سيناء وآيات الله ودلائل رسالة موسىٰ تتوالىٰ عليه ليلاً ونهاراً ، وقد تكرر عليهم الأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك وعبادة الأوثان ، ومع ذلك صنعوا العجل الذهبي وقالوا : «هذه آلهتك

٣٦

ياإسرائيل التي أصعدتك من مصر » ! وسجدوا للعجل !

ولما أقاموا مع موسىٰ في « شظيم » وزنوا ببنات « مواب » دعونهم هؤلاء النسوة إلى ذبائح آلهتهن ، فسجدوا لآلهتهنّ وتعلقوا بـ « بعل فغور » !

ولم تمض مدة طويلة عن موت يوشع حتى تركوا الله وساروا وراء آلهة أخرىٰ ، وعبدوا « البعل » و « عشتاروت ».

وبعد موت « جدعون » رجعوا إلى شركهم وراء « البعليم » وجعلوا لهم « بعل بريث » إلهاً !

وبعد موت « يائير » عبدوا « البعليم » و «العشتاروت » وآلهة آرام ، وإله صيدون ، وآلهة مواب ، وآلهة عمون ، وآلهة الفلسطينيين !

وقالت مزامير داود عنهم إنهم اختلطوا بالمشركين ، وعبدوا أصنامهم ، وذبحوا بنيهم وبناتهم للأوثان !

ولما مات سليمان لم يتبع ابنه « رحبعام » سوى سبطا يهوذا وبنيامين ، أما أبناء الأسباط العشرة الأخرىٰ فملّكوا عليهم « يربعام » فعمل عجلاً ذهب تعبده رعيته ، وقال : هذه آلهتك يا إسرائيل ! واستمر هؤلاء على عبادة عجول الذهب. حتى إذا ملك « أخاب » شاعت عبادة « البعل » واستمروا على هذا حتى تملك عليهم « هوشع » وفي أيامه سباهم ملك آشور ، وأسكن في ديارهم غيرهم.

وأما سبطا يهوذا وبنيامين فإنه لما تشتّت مملكة « رحبعام » ابن سليمان ، ترك التوراة هو وكل بني إسرائيل معه ، وعمل يهوذا الشرّ أكثر من جميع ما عمل آباؤهم ، وبنوا لأنفسهم آثار الشرك على كل تل مرتفع ، وتحت كل شجرة خضراء ، حتى صار منهم مأبونون ينذرون أنفسهم للأوثان لكي يلاط بهم !!

وفي السنة الخامسة لملك « رحبعام » نهب « شوشق » ملك مصر خزائن

٣٧

بيت الله وخزائن بيت الملك وأخذ كل شيء.. ثم ملك « أبيا بن رحبعام » وسار في جميع خطايا أبيه ، ولما ملك ابنه « آسا » أزال آثار الشرك ، ولكن مرتفعات الأصنام لم تزل.

ولإسرائيل أيام كثيرة بلا إله حق ، وبلا كاهن معلّم ، وبلا توراة.

ثم ملك « يهوشا فاط بن آسا » وعمل المستقيم ، ولكن مرتفعات الأصنام لم تزل. ثم ملك بعده « يهورام » ابنه ، وبعد ابنه « اخزيا » وعملا شر الشرك ، وبعد « أخزيا » ملكت اُمه المشركة « عثليا بنت عمرس » وهدم بنوها بيت الله وجعلوا كل أقداس بيت الله للبعليم ، إلى أن قتلوا عثليا ونهض « يواش الملك » و « يهوياداع » الكاهن ، فجددا بناء بيت الله وأقاموا على رسمه ومقداره ، ولما مات « يهوياداع » الكاهن جاء رؤساء يهوذا وسجدوا للملك يواش ، فسمع لهم ، وتركوا بيت الله إلههم ، وعبدوا السواري والأصنام ، ورجموا « زكريا بن يهوياداع » لأجل دعوته الى الإيمان ونهيه عن الشرك ، رجموه بأمر الملك ، وقتلوه في بيت الله !

ثم ملك « اسعيا بن يواش » وأتىٰ بآلهة ساعير ، وسجد لها.

ثم ملك « أحاز » وسار بطريق المشركين ، وعمل تماثيل مسبوكة للبعليم وأغلق أبواب بيت الله..

وعلى هذا سار بنو إسرائيل ، يتقلبون في الشرك ، في بلاد هي عاصمة التوحيد والشريعة الموسوية والتوراة ، وفي شعب لم يبق للتوحيد والتوراة والشريعة فيه أثر.

فهل سيبقىٰ للتوراة الحقيقة أثر صحيح ، سليم من التحريف ، في مثل هذا الشعب وعلى امتداد هذه الحقب وحقب أخرىٰ تلتها ؟! وهم في أكثر هذه

٣٨

الحقب كانوا بلا توراة ، يعبدون الأصنام ، فهم إذا عادوا إلى التوراة بعد كل هذا التقلب في الشرك ، وبلا نبي يجدد جذوة التوحيد فيهم ، فإنهم سيعودون إليها بما رسخ في أذهانهم ومخيلاتهم وتشرب في دمائهم من معتقدات توارثوها ، ونشأت عليها أجيالهم ، دون أن تصطدم بدعوة توحيدية خالصة وقوية تزيل آثار تلك الحقب الطويلة ، وتعيد العقول الى صفاء التوحيد والوحي الصادق.

حلقيا يعثر على التوراة :

بعد القرون المتوالية ، وفي السنة الثانية عشر من ملك « يوشيا » ابتدأ يطهّر أورشليم من معابد الشرك ، السواري والمرتفعات والمسبوكات ، وهدم بيوت المأبونين ، وبعد ما طهر بيت الله توجه لترميم البيت ، وعند إخراج الفضة المدخلة إلى بيت الله ، قال « حلقيا » الكاهن لشافان الكاتب : قد وجدت سفر التوراة في بيت الله !

فلما قرأ فيه شافان أمام الملك مزق الملك ثيابه ، وأمر جماعة من خواصه قائلاً : اذهبوا واسألوا الله من أجلي وأجل من بقي من يهوذا وإسرائيل على كلام السفر الذي وجد. ثم جمع كل الشعب الى بيت الله ووقف على منبره وقطع مع الله عهداً على عبادته وحفظ وصاياه وفرائضه حسب كلام العهد المكتوب في هذا السفر. (١)

إذن هي النسخة الوحيدة للتوراة لدىٰ شعب بني إسرائيل.

ولكن عمليات الترميم قد حدثت قبل هذا التاريخ أكثر من مرّة ، ومنها المرة التي وضعت فيها الفضة في البيت ، فلماذا لم تكتشف التوراة آنذاك ؟!

لقد جاء حلقيا بهذا النبأ في وقت مناسب ، كان فيه بنو إسرائيل في أمسّ

_______________________

(١) سفر الملوك ـ الفصل ٢٢ و ٢٣ ، سفر أخبار الأيام الثاني ـ فصل ٣٤.

٣٩

الحاجة إلى وحدتهم القومية ، وفي زمن ملك كان يبحث عن عبادة إله واحد ، ويرفض الشرك ويهدم الأصنام ، فوجد في هذا الاكتشاف ما ترتاح إليه نفسه ، دون أن يفكر في التحقيق في شأن هذا السفر ومصدره الحقيقي وتاريخه !

ومن هنا ابتدأ عهد هذه التوراة بين بني إسرائيل.

أخطاء في توراة حلقيا :

تلقىٰ بنو إسرائيل هذه التوراة تلقيهم للمقدّس ، فلما اكتشفوا فيها أخطاء لغوية كثيرة لم يجرؤوا على أكثر من وضع التصحيح في حواشيها ، ومن هذه الأخطاء التي تم تصحيحها في الحواشي :

١ ـ أخطاء بنقصان في الحروف ، في أحد عشر موضعاً.

٢ ـ أخطاء بزيادة في الحروف ، في أربعة مواضع.

٣ ـ أخطاء في أبدال حروف بحروف أخرىٰ ، وتقديم حروف على اخرىٰ ، أي أخطاء املائية ، في نحو ثمانين موضعاً.

٤ ـ أخطاء كثيرة في التذكير والتأنيث ، والجمع والإفراد.

ثم جاءت التراجم فاعتمدت التصحيحات المكتوبة في الحواشي ، لكون تلك الأخطاء أخطاء ظاهرة لا يمكن التغاضي عنها.

ومثل هذه الأخطاء لا تجتمع في كتاب وحي يكتب باشراف النبي موسىٰ ، ثم يتناوله الأنبياء من بعده واحداً بعد الآخر ، دون الوقوف على شيء منها.

شواهد اُخرىٰ على التحريف :

١ ـ إن إرميا النبي ترك لبني إسرائيل كتاباً يؤمن اليهود والنصارىٰ بأنه

٤٠