تحصيل المرام - ج ١-٢

الشيخ محمّد بن أحمد بن سالم بن محمّد المالكي المكّي [ الصبّاغ ]

تحصيل المرام - ج ١-٢

المؤلف:

الشيخ محمّد بن أحمد بن سالم بن محمّد المالكي المكّي [ الصبّاغ ]


المحقق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة الأسدي للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١٠٧٤

عمران : ٩٦ ـ ٩٧] ، قيل : مقام إبراهيم : هو الحجر الذي كان يصعد عليه حين بناء البيت ، وقيل : الكعبة ، وقيل : مكة ، وقيل : الحرم كله. والأول قول الجمهور. أخرج السيوطي في الدر المنثور (١) : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) أي : من النار (٢).

وأخرج من طريق عبد بن حميد وابن المنذر وابن جرير قال : كان هذا في الجاهلية ، كان الرجل لو جرّ كل جريرة على نفسه ثم لجأ إلى الحرم لم يتناول ولم يطلب ، وأما في الإسلام فإنه لا يمنع من حدود الله ، من سرق [فيه](٣) قطع ، ومن زنا فيه حدّ ، ومن قتل فيه قتل. وهو مذهب مالك رضي‌الله‌عنه.

وعن ابن عباس في قوله تعالى : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) قال : من عاذ بالبيت أعاذه البيت ، ولكن لا [يؤذى](٤) ، ولا يطعم ، ولا يسقى ، ولا [يرعى](٥) ، فإذا خرج أخذ بذنبه.

وعن ابن عباس : [من أحدث حدثا](٦) في غير الحرم ثم لجأ إلى الحرم لم يعرض له ، [ولم يبايع](٧) ، ولم يؤو حتى يخرج من الحرم ، [فإذا](٨) خرج من الحرم أخذ فأقيم عليه الحدّ. ومن [أحدث](٩) في الحرم حدثا أقيم عليه

__________________

(١) الدر المنثور (٢ / ٩٦ ـ ٩٨).

(٢) ذكره السيوطي في الدر المنثور (٢ / ٩٦).

(٣) زيادة من الدر المنثور (٢ / ٩٧) ، وانظر : الغازي (١ / ٧١).

(٤) في الأصل : يؤوى. والمثبت من الدر المنثور (٢ / ٩٧).

(٥) في الأصل : يدع. والمثبت من الدر المنثور (٢ / ٩٧).

(٦) قوله : من أحدث حدثا ، زيادة من الدر المنثور (٢ / ٩٧).

(٧) قوله : ولم يبايع ، زيادة من الدر المنثور (٢ / ٩٧).

(٨) في الأصل : حتى إذا. والمثبت من الدر المنثور ، الموضع السابق.

(٩) في الأصل : حدث. والمثبت من الدر المنثور ، الموضع السابق.

٥٦١

الحدّ. وبه قال أبو حنيفة رضي‌الله‌عنه.

وعن عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه قال : لو وجدت [قاتل](١) الخطاب فيه ما مسسته حتى يخرج [منه](٢). ذكره السيوطي والبيضاوي (٣). انتهى.

ومنها قوله تعالى : (إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ [الَّذِي])(٤)(حَرَّمَها) [النمل : ٩١] وقوله تعالى : (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا) [القصص : ٥٧] ، وقوله تعالى : (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ) [سبأ : ١٥] على بعض الروايات : أنها مكة.

وقوله تعالى : (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) [إبراهيم : ٣٥] ذا أمن يأمن فيه أهله من القحط ، والجدب ، والخسف ، والمسخ ، والزلازل ، والجنون ، والجذام ، والبرص ونحو ذلك من المثلات التي تحل بالبلاد ، فهو من باب النسب أي : بلد منسوب إلى الأمن ، ك : لبني وتمري ، فإنها لنسبته موصوفها إلى مأخذها ، كأنه قيل : لبني وتمري ، فالإسناد حقيقة قد أسند إلى مكانهم ، أو المعنى : بلدا آمنا أهله ، فيكون من قبيل الإسناد المجازي ؛ لأن الأمن الذي هو صفة لأهل البلد حقيقة قد أسند إلى مكانهم للملابسة بينهما ، وكان هذا الدعاء في أول ما قدم إبراهيم عليه الصلاة والسلام مكة بهاجر وابنها

__________________

(١) في الأصل زيادة : ابن. وانظر الدر المنثور.

(٢) زيادة من الدر المنثور (٢ / ٩٧).

(٣) أخرجه الأزرقي (٢ / ١٣٩) ، والفاكهي (٣ / ٣٦٥). وذكره السيوطي في الدر المنثور (٢ / ٩٧) وعزاه إلى عبد بن حميد ، وابن المنذر ، والأزرقي. وذكره المباركفوري في كنز العمال (١٤ / ١١٢ ح ٣٨٠٩٨) ، وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر والأزرقي.

(٤) في الأصل : التي. وهو خطأ.

٥٦٢

إسماعيل. انتهى من روح البيان (١).

فدعا قال : اللهم رب اجعل ... إلخ كما تقدم.

وقوله تعالى : (وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) [الحج : ٢٥].

قال ابن العربي قدّس سره في الفتوحات المكية (٢) في الباب العشرين وأربعمائة ما نصه : اعلم أن الله تعالى قد عفى عن الخواطر التي لا تستقر عندنا إلا بمكة شرفها الله تعالى ؛ لأن الشرع ورد أن الحق تعالى يؤاخذ من أراد الظلم فيها ، ولهذا كان سبب سكن ابن عباس بالطائف ؛ احتياطا لنفسه رضي‌الله‌عنه ، وإنما نكّره (٣) في الآية قوله : (بِظُلْمٍ) ؛ ليتجنب الساكن بالحرم كل ظلم.

وقال في علوم الباب التاسع [والستين](٤) وثلاثمائة : اعلم أن حديث النفس إنما يكون مغفورا إذا لم يعمل أو يتكلم ، والكلام عمل ، فيؤاخذ به العبد من حيث ما هو متلفظ به ؛ كالغيبة والنميمة ، فإن العبد يؤاخذ بذلك ويسأل عنه من حيث لسانه ولا يدخل الهم بالشيء في حديث النفس ؛ لأن الهم بالشيء له حكم آخر في الشرع خلاف حديث النفس ، ولذلك مواطن ؛ كمن يرد في الحرم المكي إلحاد بظلم فإن الله أخبر أنه يذقه من عذاب أليم ، سواء وقع منه ذلك الظلم الذي أراده أم لم يقع. وأما في غير المسجد الحرام المكي فإنه غير مؤاخذ بالهم فإن لم يفعل ما همّ به كتبت له حسنة إذا ترك

__________________

(١) روح البيان (١ / ٢٢٧).

(٢) لم أقف عليه في المطبوع.

(٣) قوله : نكره ، مطموس في الأصل. والمثبت من الغازي (١ / ٥٨).

(٤) في الأصل : وستين.

٥٦٣

ذلك خاصة. اه.

وقوله تعالى : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) [الفتح : ٢٧] ، وقوله تعالى : (بِبَطْنِ مَكَّةَ) [الفتح : ٢٤] وقوله تعالى : (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها) [الشورى : ٧] ، وقوله تعالى : (وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) [التين : ٣] ، وقوله تعالى : (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا) [القصص : ٥٧] فهذه الآيات أنزلها الله بمكة خاصة وغيرها من الآيات البينات.

غريبة : إنك إذا دخلت مكة شرفها الله تعالى في أيّ وقت من النهار والليل فإنك تجد ما تطلبه فيها ، ولا يبيت [فيها](١) أحد إلا شبعان ، وتجد الفواكه الربيعية والخريفية والصيفية في كل وقت.

ومما يحكى : أن رجلا من أهل الشام أتى إلى الحج ، فلما دخل مكة شرفها الله تعالى رأى فيها من كل الفواكه مما لا يحصى ، وجلست تلك الفواكه في سوقها فتعجب من ذلك ، وقال : نحن في بلادنا مع كثرة البساتين لم تمكث في السوق إلى الليل ، ولا بد أن تكون بساتين مكة أكثر من بساتيننا ، فخرج خارج البلد يتفرج على بساتينها فلم يرى إلا جبالها محدقة بها ، فتعجب في نفسه ، وأمسى عليه الليل فنام في أحد جبالها ، فلما كان وقت السحر وإذا ناس معهم جمال بلا حمول وقد أناخوها وهو ينظر إليهم ، وصاروا يعبؤون الحجارة من ذلك المحل في خيش ويحملونها على إبلهم ، فتبعتهم وهم يسيرون إلى المكان الذي يبيعون فيه ، فأناخوا إبلهم وفكوا الحمول من عليها ، وأنا مشاهد لهم ، وإذا هي فواكه من كل جنس (٢) ،

__________________

(١) قوله : فيها ، زيادة من ب.

(٢) هذه من الأشياء التي لا يصدقها عقل ، فمع قناعتنا بمباركة مكة ، إلا أن ما رواه المؤلف في ذلك يعد من الخزعبلات والأباطيل.

٥٦٤

فتعجب في نفسه وعلم أنها مرزوقة من الله تعالى ، كما قال تعالى : (يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا) [القصص : ٥٧] ، وقوله تعالى : (أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) [قريش : ٤] ، أي : من الجذام كما في تفسير البغوي (١) ، وكذا دعاء سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام : (رَبِّ اجْعَلْ هذا [بَلَداً] (٢) آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ ...) الآية [البقرة : ١٢٦]. ذكره القرشي.

وقد تقدّم أن قريشا حين أرادوا بناء الكعبة وجدوا كتابا بالسريانية فلم يدروا ما هو ، حتى قرأه لهم رجل من اليهود فإذا هو : أنا الله ذو بكة ، خلقتها يوم خلقت السموات والأرض ، وصورت الشمس والقمر وحففتها بسبعة أملاك حنفاء ، لا تزال أخشابها ـ أي : جبالها ـ وهو أبو قبيس [وغيره](٣) ، يبارك لأهلها في الماء واللبن.

ووجد في المقام ـ أي : في محله ـ كتابا مكتوب فيه : مكة بيت الله يأتيها رزقها من ثلاث سبل.

ووجد كتاب آخر مكتوب : من يزرع خيرا يحصد غبطة ـ أي : يحصد حصدا محمودا عليه ـ ، ومن يزرع شرا يحصد ندامة ـ أي : يندم عليه ـ ، تعملون السيئات وتجزون الحسنات ، أجل ـ أي : نعم ـ كما [لا](٤) يجنى من الشوك العنب ـ أي : الثمر ـ (٥). ذكره الحلبي (٦).

__________________

(١) معالم التنزيل (٤ / ٥٣١).

(٢) في الأصل : البلد. وهو خطأ. (سورة البقرة ، الآية : ١٢٦).

(٣) قوله : وغيره ، زيادة على الأصل.

(٤) زيادة على الأصل.

(٥) أخرجه الأزرقي (١ / ٧٨ و ٨٠).

(٦) السيرة الحلبية (١ / ٢٣٢).

٥٦٥

وفي السيرة الشامية (١) : أن ذلك وجد مكتوبا في حجر في الكعبة.

وأخرج عبد الرزاق في المصنف والبيهقي في الشّعب (٢) عن الزهري قال : بلغنا أنه وجد في مقام إبراهيم ثلاثة أسطر ، السطر الأول : أنا الله ذو بكة ، صنعتها يوم صنعت الشمس والقمر ، أبارك لأهلها في اللحم واللبن.

وفي الثاني : أنا الله ذو بكة ، خلقت الرحم وشققت له اسما من أسمائي ، فمن وصله وصلته ، ومن قطعه بتتّه.

وفي الثالث : أنا الله ذو بكة ، خلقت الخير والشرّ ، فطوبى لمن كان الخير على يديه ، وويل لمن كان الشر على يديه. ذكره السيوطي (٣).

وفي السيرة الحلبية ولفظه قال ابن المحدث : ورأيت في مجموع أنه وجد بها [حجرّ مكتوب](٤) عليه : أنا الله ذو بكة مفقر الزناة ، ومعرّي تارك الصلاة ، أرخصها والأقوات فارغة ، وأغلّيها والأقوات ملآ ـ أي : فارغ محلها وملآن محلها ـ. هذا كلامه (٥).

وقد يقال : لا مانع أن ذلك حجر آخر ويكون ذلك الحجر ، وما ذكر مكتوب في محل آخر. انتهى.

وأما الأخبار الواردة فيها فروي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مكة والمدينة تنفيان خبثهما كما ينفي الكير خبث الحديد ، وإن مكة أنشئت على المكروهات والدرجات ، ومن صبر على شدّتها كنت له شهيدا أو شفيعا يوم القيامة ، ومن مات بمكة والمدينة بعثه الله يوم القيامة آمنا من عذابه لا حساب عليه ، ولا خوف

__________________

(١) المرجع السابق.

(٢) أخرجه عبد الرزاق (٥ / ١٤٩ / ح ٩٢١٩) ، والبيهقي (٣ / ٤٤٥).

(٣) الدر المنثور (٢ / ٢٦٧).

(٤) في الأصل : حجرا مكتوبا. والمثبت من ب.

(٥) السيرة الحلبية (١ / ٢٣٣).

٥٦٦

ولا عذاب ، ويدخل الجنة بسلام وكنت له شفيعا يوم القيامة ، ألا وإن أهل مكة أهل الله وجيران بيته». انتهى مثير شوق الأنام إلى حج بيت الله للعلامة محمد علان المكي.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من استطاع أن يموت في أحد الحرمين فليمت ، فإني أوّل من أشفع له ، وكان يوم القيامة آمنا من عذاب الله لا حساب عليه ولا عذاب». أورده الحسن البصري في رسالته.

وعن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه قال : مكة والمدينة [محفوفتان](١) لا يدخلها الدجال ولا الطاعون. رواه أحمد (٢). وعمرو بن شعيب [إسناده](٣) جيد.

وعن عبد الله بن عدي بن حمراء رضي‌الله‌عنه أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو على راحلته على الحزورة من مكة وهو يقول لمكة : «والله إنك لخير أرض الله ، وأحب أرض الله إليّ ، ولو لا أني أخرجت منك ما خرجت». رواه سعيد بن منصور والترمذي وقال : حديث حسن صحيح ، والنسائي وابن ماجه وابن حبان (٤) وهذا لفظه ، ورواه أحمد (٥) : «وهو واقف بالحزورة».

والحزورة : كانت سوقا بمكة.

وفي حديث آخر : «خير بلدة على وجه الأرض وأحبها إلى الله تعالى

__________________

(١) في الأصل : محفوفان ، والتصويب من المسند (٢ / ٤٨٣).

(٢) مسند أحمد (٢ / ٤٨٣).

(٣) في الأصل : وإسناده.

(٤) أخرجه الترمذي (٥ / ٧٢٢) وقال : حسن غريب صحيح ، والنساء (٢ / ٤٧٩) ، وابن ماجه (٢ / ١٠٧٣) ، وابن حبان (٩ / ٢٢). ولم أقف عليه في سنن سعيد بن منصور.

(٥) مسند أحمد (٤ / ٣٠٥).

٥٦٧

مكة» (١).

وذكر القليوبي : وأحب مكة ما بين المقام والملتزم.

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «دحيت الأرض من مكة ، فمدّها الله من تحتها فسميت أم القرى ، وأول جبل وضع على وجه الأرض : أبو قبيس ، وأول من طاف بالبيت الملائكة قبل أن يخلق الله تعالى آدم بألفي عام ، وما من ملك يبعثه الله تعالى من السماء إلى الأرض في حاجة إلا اغتسل من تحت العرش ، وانقضّ محرما ، فيبدأ بالبيت ، فيطوف أسبوعا ، ثم يصلي خلف المقام ركعتين ، ثم يمضي إلى حاجته التي بعث إليها ، وكل نبي إذا كذبه قومه خرج من بين أظهرهم إلى مكة فيعبد الله فيها حتى يأتيه اليقين ـ أي : الموت ـ وما على الأرض بلدة وفد إليها أكثر النبيين والمرسلين والملائكة وصالح عباد الله الصالحين من أهل السموات والأرض إلا مكة». ذكره الحسن البصري (٢). انتهى من البحر العميق للقرشي.

وذكر القليوبي في تاريخه ونصه : ومن مرض بها يوما حرّم الله جسده ولحمه على النار ، ومن صبر على حرّ مكة ساعة أبعده الله من النار مسيرة خمسمائة عام وقرّبه من الجنة مائتي عام ، والنظر إلى بناء الكعبة عبادة ، ألا وإن أهل مكة أهل الله وجيران بيته ، وما على وجه الأرض واد خير من وادي إبراهيم. ا ه.

ثم ذكر القرشي أيضا عن الحسن البصري في رسالته عن عمرو بن الأحوص قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول في حجة الوداع : «أيّ يوم هذا؟» قالوا : يوم الحج الأكبر. قال : «فإن دماؤكم وأموالكم وأعراضكم

__________________

(١) ذكره الفاكهي في أخبار مكة (٢ / ٢٩٠) ، والحسن البصري في فضائل مكة (١ / ١٨).

(٢) فضائل مكة (١ / ١٩ ـ ٢٠).

٥٦٨

بينكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا ، ألا لا يجني جان على نفسه ، ألا لا يجني جان على ولد ولا مولود على والده ، وإن الشيطان قد أيس أن يعبد في بلدكم هذه أبدا ، ولكن ستكون له طاعة فيما تحقرون من أعمالكم فيرضى به». رواه ابن ماجه والترمذي (١) وصححه.

وفي الصحيح (٢) : أن ليس بلدا إلا سيطؤها الدجال إلا مكة والمدينة وبيت المقدس ليس نقب من أنقابها إلا وعليه الملائكة صافّين يحرسونها ، والنّقب ـ بفتح النون وضمّها وسكون القاف ـ : الباب ، وقيل : الطريق.

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن الشيطان قد يئس من أن يعبد في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم» (٣). رواه الهروي في شرح المشكاة.

وعن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم فتح مكة : «إن هذا (٤) البلد حرّمه الله يوم خلقت السموات والأرض ، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، لا يعضد شوكه ولا ينفّر صيده ولا يلتقط لقطه إلا لمعرّف ولا يختلى خلاها». قال العباس بن عبد المطلب رضي‌الله‌عنه : يا رسول الله إلا الإذخر (٥) فإنه لقينهم ولبيوتهم فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إلا الإذخر» (٦). متفق عليه.

وقوله : «لقينهم» القين : الحداد والصاغة فإنهم يحرقونه بدل الحطب

__________________

(١) أخرجه الترمذي (٤ / ٤٦١) ، وابن ماجه (٢ / ١٠١٥).

(٢) أخرجه مسلم (٤ / ٢٢٦٥ ح ٢٩٤٣).

(٣) أخرجه مسلم (٤ / ٢١٦٦ ح ٢٨١٢).

(٤) في الأصل : هذه.

(٥) الإذخر : حشيش طيب الريح أطول من الثّيل ، ينبت على نبتة الكولان (لسان العرب ، مادة : ذخر).

(٦) أخرجه البخاري (٢ / ٦٥١) ، ومسلم (٢ / ٩٨٦).

٥٦٩

والفحم.

وفي رواية : فقال العباس : إلا الإذخر فإنه لقبورنا وبيوتنا.

وعن جابر بن عبد الله رضي‌الله‌عنه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لا يحل لأحد أن يحمل بمكة السلاح» (١). رواه مسلم.

وكان ابن عمر رضي‌الله‌عنه يمنع ذلك في أيام الحجّاج.

واتفق الجمهور أنه لا يحل بلا ضرورة ، وأما حمله للضرورة فيجوز ، أي : كزماننا هذا ، وحجتهم في ذلك دخوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عام الفتح متهيئا للقتال.

كذا ذكره القاضي عياض ، وتبعه الطيبي وابن حجر.

وعن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمكة : «ما أطيبك من بلد وأحبك إليّ ، ولو لا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك» (٢). رواه الترمذي وقال : حديث صحيح غريب الإسناد.

وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «اتقوا الله وانظروا ما تفعلون فيها ، فإنها مسؤولة عنكم وعن أعمالكم فتخبر عنكم ، واذكروا أن ساكنها لا يأكل الدم ولا يأكل الربا ولا يمشي بالنميمة» (٣). الرواية للخرائطي.

وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يسكن مكة سافك ولا مشّاء بنميمة» (٤). الرواية لأبي نعيم.

__________________

(١) أخرجه مسلم (٢ / ٩٨٩).

(٢) أخرجه الترمذي (٥ / ٧٢٣).

(٣) ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (٣ / ٢٩٦) من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا ، وعزاه للبزار.

(٤) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (٥ / ١٥١ ح ٩٢٢٤) عن ابن سابط. وذكره العقيلي في الضعفاء (٤ / ٤٤٧) ، والجرجاني في تاريخه (١ / ٢٤٨) كلاهما من حديث جابر بن عبد الله مرفوعا.

٥٧٠

وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من دخل مكة فتواضع لله عزوجل [وآثر](١) رضاه على جميع أموره لم يخرج منها حتى يغفر له» (٢). الرواية للحاكم (٣).

وفي المشكاة عن أبي شريح العدوي أنه قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث الجيوش إلى مكة : أتأذن لي أيها الأمير أحدثك قولا قام به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الغد من يوم الفتح سمعته أذناي ووعاه قلبي وأبصرته عيناي حين تكلم به ، حمد الله وأثنى عليه ثم قال : إن مكة حرّمها الله تعالى ولم يحرّمها الناس ، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ولا يعضد بها شجرة ، فإن أحد ترخص لقتال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيها فقولوا له : إن الله أذن لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يأذن لكم ، وإنما أذن لي ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس ، وليبلغ الشاهد منكم الغائب. فقيل لابن شريح : ما قال لك عمرو؟ قال : إنه أعلم بذلك منك يا أبا شريح ، إن الحرم لا يعيذ عاصيا ولا فارا بخربة. متفق عليه (٤).

وفي البخاري : الخربة : الجناية. ذكره القرشي.

وحاصل المسألة : أن في مذهب المالكية تردد بين العلماء في جواز القتال في الحرم والتردد في مكانه قولين : فقيل بجواز القتال للحاضر غير البادي مطلقا ، كافرا أو مسلما ، بمكة أو بالحرم ، أي : حصار الناس في الحج والعمرة ، وأن أهل مكة إذا بغوا على أهل العدل ولم يكن ردهم إلا بالقتال جاز قتالهم عند ابن هارون وابن فرحون ، وعليه أكثر الفقهاء أن قتال البغاة

__________________

(١) في الأصل : وإيثار. والتصويب من أخبار مكة.

(٢) أخرجه الفاكهي (٢ / ٣١٤ ح ١٥٧٣). وذكره السيوطي في الجامع الكبير (١ / ٧٧٦) وعزاه للديلمي.

(٣) لم أقف عليه في المستدرك.

(٤) أخرجه البخاري (٢ / ٦٥١) ، ومسلم (٢ / ٩٨٧).

٥٧١

جائز ، وأنه حق الله ، وحفظ حقه في حرمه أولى من أن يضاع ، والقول الثاني : بالمنع. نقله ابن الحاجب وابن شلس.

ومحل التردد : إن كان القتال للحاضر بالحرم أو بمكة ولم يبدأنا بالقتال ، وأما إن كان في الحل أو في الحرم وبدأنا بالقتال فإن مقاتلته جائزة ، أو واجبة إذا خيف منه من غير خلاف ، ولا يرد على الجواز الذي هو أحد شقي التردد خبر : «إنما أحلت لي ساعة من نهار» وما في معناه من الأخبار الدالة على المنع ؛ لأنها محمولة عند علمائنا على القتال بما يعم ؛ كالمنجنيق والمدفع (١) إذا أمكن صلاح الحال بدونه ، وإلا جاز ، وجاز حمل السلاح بمكة حينئذ.

وخبر : «لا يحل لأحد أن يحمل السلاح بمكة» محمول عند أهل العلم على حمله لغير ضرورة ولا حاجة ، وإلا جاز ، وهو قول مالك والشافعي وغيرهما ، ويجوز دخولها بعده صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند المالكية لحرب في قتال جائز ، وقول القاضي : لا يحل دخولها بعده لحرب أو مجيء يحمل على غير القتال الجائز. وأما القتال الجائز فيجوز دخولها به وبغير إحرام. انظر الشيخ سالم السنهوري.

__________________

(١) أطلق مصطلح مدفعية في بادئ الأمر على كل ما يستعمل في الحروب من مدافع وبنادق ، ثم قصر استعماله أخيرا على أنواع من المدافع الثقيلة والهاوتزر والجنود الذين يتولون إدارتها ، والعجلات والحيوانات التي تستخدم في حملها وجرّها. هذا وقد ظهر المدفع في أعقاب اكتشاف البارود ، وكان أهم استعمال له هو مهاجمة الحصون التي فقدت أهميتها الدفاعية في العصور الوسطى. فقد استخدم العثمانيون المدافع في حصارهم القسطنطينية ، كما استخدموا المدافع البرونز التي تقذف الحجارة.

وتنقسم المدفعية عامة إلى : مدفعية ثابتة تعمل في الحصون ، ومدفعية ضد الطائرات أو متنقلة بدرجات مختلفة ، حيث كانت تجر في ميدان الحرب في بادئ الأمر بواسطة عجلات الخيل ، ثم استخدمت السكك الحديدية بعدها ، واستخدمت في الدبابات أثناء الحرب العالمية الثانية وبعدها (الموسوعة العلمية الميسرة ص : ١٦٧٣).

٥٧٢

ومذهب الحنفية : أن الحربي إذا التجأ إلى الحرم لا يباح قتله في الحرم ، ولكن لا يطعم ولا يسقى ولا يبايع ولا يشارى حتى يخرج من الحرم ، وأنه إذا دخل مكابرة يقتل ، أو مقاتلا يقتل. قالوا : وكذا لو دخل قوم من أهل الحرب للقتال فإنهم يقاتلون ، ولو انهزموا من المسلمين لا شيء على المسلمين في قتالهم وأسرهم.

ومذهب الشافعي ، قال الماوردي في الأحكام السلطانية (١) : إن أهل الحرم إذا بغوا على أهل العدل ، فقال بعض الفقهاء : يحرم قتالهم بل يضيق عليهم. وجمهور الفقهاء : يقاتلون على بغيهم إذا لم يرتدوا عن البغي إلا بالقتال (٢) ؛ لأن قتال البغاة من حقوق الله التي لا يجوز إضاعتها ، فحفظها في الحرم أولى من إضاعتها. وهذا الذي نقله الماوردي عن الجمهور ، ونص عليه الشافعي في موضعين من الأمر.

وقال القفال في شرح التلخيص : لا يجوز القتال بمكة ، وأنه لو تحصنّ جماعة من الكفار فيها لم يجز قتالهم. وضعّفه النووي ، وأجاب عن الأحاديث الواردة في تحريم القتال بمكة بأن تحريم نصب القتال عليهم بما يعم ، كالمنجنيق وغيره إذا أمكن إصلاح الحال بدونه ، بخلاف ما [إذا](٣) تحصّن كفار بغيرها ، فإنه يجوز قتالهم بأيّ وجه. وقال : إن الشافعي نص على هذا التأويل.

واعلم أن الحرم في مذهب مالك والشافعي والجمهور لا يعيذ عاصيا ولا فارا بخربة ولا بسرقة ، وكذلك الذين يدخلون في مقامات الأولياء

__________________

(١) الأحكام السلطانية (ص : ٢٨٩).

(٢) وهذا الذي عليه أبو يعلى في أحكامه (ص : ١٩٣).

(٣) في الأصل : إذ.

٥٧٣

والزوايا لا تعيذهم من القصاص وإقامة حدود وديون الناس ، بل يخرجون وتقام عليهم حدود الله وحقوق الخلق.

وفي الإحياء : يروى عن علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الله تعالى أنه قال : إذا أردت أن أخرب الدنيا بدأت ببيتي [فخربته](١) ، ثم أخرب الدنيا على إثره. رواه الغزالي (٢).

ويروى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الإيمان ليأرز (٣) فيما بين الحرمين ـ يعني : مكة والمدينة ـ». ذكره أبو محمد المرجاني في الفتوحات الربانية. حكاه القرشي (٤).

وروي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما سار مهاجرا إلى المدينة تذكر مكة في طريقه فاشتاق إليها ، فأتاه جبريل عليه‌السلام فقال : أتشتاق إلى بلدك ومولدك؟ قال : «نعم» ، قال : فإن الله تعالى يقول لك : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) [القصص : ٨٥] أي : مكة (٥). ذكره القرشي.

وقال الحسن البصري رضي‌الله‌عنه (٦) : ما أعلم اليوم بلدة على وجه الأرض ترفع فيها من الحسنات وأنواع البر كل واحدة منها بمائة ألف حسنة ما يرفع بمكة ، وما أعلم بلدة على وجه الأرض [يكتب](٧) لمن صلى [فيها](٨) ركعة واحدة بمائة ألف ركعة غير مكة ، ولا من تصدق

__________________

(١) في الأصل : فأخربه. وانظر : الإحياء (١ / ٢٤٣) ، والبحر العميق (١ / ١٥).

(٢) إحياء علوم الدين (١ / ٢٤٣).

(٣) في هامش الأصل بخط الدهلوي : قوله : ليأرز ، الأرز : الاجتماع. اه.

(٤) البحر العميق (١ / ١٥).

(٥) بهجة النفوس (١ / ٥٧).

(٦) فضائل مكة (١ / ٢١).

(٧) زيادة من البحر العميق (١ / ١٥).

(٨) مثل السابق.

٥٧٤

بدرهم واحد بمائة ألف إلا بمكة ، ولا أعلم بلدة فيها شراب الأبرار ومصلّى الأخيار إلا مكة ـ أي شرب زمزم والصلاة في الحجر ـ ولا أعلم بلدة يصلى فيها حيث أمر الله عزوجل إلا بمكة. قال تعالى : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) [البقرة : ١٢٥] ، ولا أعلم على وجه الأرض شيئا في مسه يحطّ الخطايا والذنوب كما يحطّ الورق عن الشجر إلا بمكة وهو استلام الركنين. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مسهما يحط الخطايا حطا». ثم قال : «ما أعلم على وجه الأرض بلدة إذا دعا أحد بدعاء أمّنت عليه الملائكة إلا بمكة حول البيت الحرام ، ثم ما أعلم بلدة صدر إليها جميع النبيين والمرسلين خاصة ما صدر إلى مكة ، ثم ما أعلم في بلدة تغدوا إليها الملائكة وتروح في كل لحظة وساعة على صور شتى لا يقطعون ذلك ولا يفترون عنه [إلا](١) الطواف بالبيت ، ثم ما أعلم على وجه الأرض بقعة يكتب لمن نظر إليها عبادة الدهر [إلا نظر](٢) الكعبة ، ولا أعلم بلدة يحشر منها من الأنبياء والأولياء والأبرار والفقهاء والعبّاد والزهاد والصلحاء من الرجال والنساء ما يحشر من مكة ، ويحشرون آمنين يوم القيامة ، ثم ما أعلم أن شيئا من الجنة في بلدة على وجه الأرض [يشاهد ويلتمس](٣) إلا بمكة ، وهو الحجر الأسود ومقام إبراهيم ، وما أعلم أنه ينزل في الدنيا كل يوم رائحة الجنة وروحها ما ينزل بمكة ، ويقال : إن ذلك للطائفين». ذكره القرشي (٤).

وذكر المرجاني في بهجة النفوس (٥) : أن الخضر عليه‌السلام يقضي

__________________

(١) في الأصل : أي. والمثبت من البحر العميق (١ / ١٥).

(٢) في الأصل : وهو النظر إلى. والتصويب من البحر العميق ، الموضع السابق.

(٣) في الأصل : يلتمس. والتصويب من البحر العميق (١ / ١٥).

(٤) البحر العميق (١ / ١٤ ـ ١٥) ، وانظر : زبدة الأعمال (ص : ٤٧ ـ ٤٨).

(٥) بهجة النفوس (١ / ١٨٧) ، وانظر : البحر العميق (١ / ١٧).

٥٧٥

ثلاث ساعات من النهار بين أمم البحر ، ثم يشهد الصلوات كلها بالمسجد الحرام.

وفي الفوائح المسكية : روي عن الشيخ الصالح أبي نصر محمد بن هبة الله بن ثابت أنه قال : سألت الخضر عليه‌السلام : أين تصلي الصبح؟ قال : بحذاء الركن اليماني بمكة ، ثم قال : أصلي الظهر بالمدينة ، وأصلي المغرب ببيت المقدس. انتهى.

وذكر المرجاني في بهجة النفوس (١) قال : وفي سنة [ثمان](٢) وأربعين وسبعمائة أتانا شخص له اجتماع كثير بالخضر عليه‌السلام ، وأتانا من عنده بثلاث تمرات ، وأخبرنا أنه سكن مكة فلا يخرج منها ، وأن الدنيا تزوى إليه كل يوم ثلاث مرات ، يرى مشرقها من مغربها. انتهى.

وقال أيضا (٣) : وقد كان عمي محمد بن عبد الله المرجاني أرسل إلينا كتابا ونحن في [عشر](٤) الأربعين ، وفيه : يا أخي ـ يعني بذلك والدي ـ أنق عن قلبك حب الدنيا ، لعلك أن ترى القطب ، فقد استوطن بمكة هذا الزمان واسمه عبد الله.

وعن بعض الأولياء قال : رأيت الغوث ، وهو القطب رضي‌الله‌عنه بمكة المشرفة سنة خمس عشرة (٥) وثلاثمائة على عجلة من ذهب والملائكة يجرون العجلة في الهوى بسلاسل من ذهب فقلت : إلى أين تمضي؟ قال : إلى أخ من إخواني اشتقت إليه ، فقلت : لو سألت الله تعالى أن يسوقه إليك.

__________________

(١) بهجة النفوس (١ / ١٨٧).

(٢) في الأصل : ثمانية.

(٣) بهجة النفوس (١ / ١٨٧).

(٤) في الأصل : عشرة. والتصويب من بهجة النفوس ، الموضع السابق.

(٥) في الأصل : عشر.

٥٧٦

فقال : وأين ثواب الزيارة؟ قال : واسم هذا القطب أحمد بن عبد الله البلخي. حكاه اليافعي في روض الرياحين.

وفي الفوائح المسكية قال : اعلم أن الغوث بمكة ، والأبدال بالشام ، والعرفاء بالمغرب ، والنجباء في زوايا الأرض ، والأوتاد سائحون في الأرض لمصالح عباد الله. انتهى.

وأخرج [الجندي](١) في فضائل مكة عن ابن عباس ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خلق الله مكة ووضعها على المكروهات والدرجات». قيل لسعيد بن جبير : ما الدرجات؟ قال : الجنة الجنة (٢).

وأخرج الأزرقي والجندي (٣) والبيهقي في الشّعب وضعّفه ، عن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أدرك شهر رمضان بمكة فصامه كله وقام منه ما تيسّر ، كتب الله له مائة ألف شهر بغير مكة ، وكتب (٤) له كل يوم حسنة وكل ليلة حسنة ـ أي : من حسنات الحرم ـ وكل يوم عتق رقبة ، وكل ليلة حملان فرس في سبيل الله ، وله كل يوم دعوة مستجابة» (٥). ذكره السيوطي (٦).

وذكر القرطبي وابن عطية وغيرهما : عدم تنافر الصيد في الحرم ، حتى أن الظبي يجتمع مع الكلب في الحرم ، فإذا خرجا منه تنافرا ، ويتبع الجارح الصيد في الحلّ فإذا دخل الحرم تركه ، وكان في الجاهلية إذا لقي أحدهم

__________________

(١) في الأصل : الجنيد. وهو خطأ.

(٢) أخرجه الفاكهي (٢ / ٣١٣ ح ١٥٧١).

(٣) في الأصل : والجنيد. والتصويب من الدر المنثور.

(٤) في الأصل زيادة لفظ الجلالة : الله. وانظر الدر المنثور.

(٥) أخرجه الأزرقي (٢ / ٢٣) ، والبيهقي (٣ / ٣١٠).

(٦) الدر المنثور (٢ / ٢٦٨).

٥٧٧

قاتل أبيه أو أخيه أو ابنه فلا يتعرض له تعظيما لحرمة الحرم. كذا في البحر العميق.

وقال بعضهم :

أرض بها البيت المحرم قبلة

للعالمين له المساجد تعدل

حرم حرام أرضها وصيودها

والصيد في كل البلاد محلل

وبها المشاعر والمناسك كلها

وإلى فضيلتها البريّة ترحل

وبها المقام وحوض زمزم مترعا

والحجر والرّكن الّذي لا [يجهل](١)

والمسجد العالي الممجّد والصّفا

والمشعران ومن يطوف ويرمل

وبمكة الحسنات يضعف أجرها

وبها المسيء عن الخطيئة يسأل

يجزى المسيء [على](٢) الخطيئة مثلها

وتضاعف الحسنات منه وتقبل

ما ينبغي لك أن تفاخر يا فتى

أرضا بها ولد النّبي المرسل

بالشّعب دون الرّدم مسقط رأسه

وبها نشا صلّى عليه المرسل

وبها أقام وجاءه وحي السّما

وسرى به الملك الرّفيع المنزل

ونبوّة الرّحمن فيها أنزلت

والدّين فيها قبل دينك أوّل

انتهى من البحر العميق (٣).

وهذه الأبيات من قصيدة طويلة. ذكرها الشيخ محيي الدين ابن العربي قدس‌سره في الفتوحات (٤). وسنذكرها بتمامها في فصل فضل أهالي مكة المشرفة (٥).

والحاصل يكفي في ذلك كله أنها بلدة الله وبلدة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبلدة

__________________

(١) في الأصل : يرحل. وانظر (ص : ٥٩٤) ، وستذكر القصيدة بكاملها.

(٢) في الأصل : من. وانظر (ص : ٥٩٤).

(٣) البحر العميق (١ / ١٥ ـ ١٦).

(٤) الفتوحات المكية (١ / ٧٥٩ ـ ٧٦٣).

(٥) ص : ٥٩٣.

٥٧٨

أصحابه الكرام الطيبين ، ومأوى لجميع المؤمنين المخلصين جعلنا الله منهم. ذكره القرشي رحمه‌الله آمين.

الفصل الثاني [في فضل مكة والمدينة

وأنهما أفضل بقاع الأرض ، واختلاف العلماء أيهما أفضل ، بعد اتفاقهم

بالفضل على البقعة التي فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم](١)

اعلم أن مكة والمدينة أفضل بقاع الأرض.

ونقل عياض (٢) : الإجماع [على](٣) أن موضع قبر نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضل بقاع الأرض ، وإنما الخلاف فيما سواه. انتهى.

[قال](٤) شيخنا : حتى أفضل من الكعبة والسموات والأرض ، حتى من الجنة والعرش ، وقد سبقه لذلك السبكي.

وقال البسكري (٥) :

جزم الجميع بأنّ خير الأرض ما

قد حاط ذات المصطفى وحواها

ونعم لقد صدقوا بساكنها علت

كالنفس حين [زكت](٦) زكى مأواها

وإنما ثبت التفضيل له بسبب حوز سيد المرسلين وقائد الغر المحجلين.

وقال الشيخ سعد الدين الإسفرائيني في زبدة الأعمال (٧) : أجمع العلماء

__________________

(١) ما بين المعكوفين زيادة من مقدمة الكتاب.

(٢) انظر : الشفا بتعريف حقوق المصطفى (٢ / ٩١).

(٣) قوله : على ، زيادة من البحر العميق (١ / ١٥).

(٤) قوله : قال ، زيادة على الأصل.

(٥) في الأصل : اليشكري ، والتصويب من الدر الكمين (٢ / ٧٣٨).

والبيتان من قصيدة طويلة للبسكري ذكرها صاحب الدر الكمين ، الموضع السابق.

(٦) في الأصل : زكيت. وانظر البحر العميق (١ / ١٥) ، والدر الكمين ، الموضع السابق.

(٧) زبدة الأعمال (ص : ١٨٢ ـ ١٨٣).

٥٧٩

باتفاق أن موضع قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضل بقاع الدنيا ، ومكة والمدينة بعد أفضل من جميع الدنيا ، ثم اختلفوا أن مكة أفضل أم المدينة كرمها الله تعالى ، فذهب بعض الصحابة منهم عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنهم وأكثر المدنيين إلى تفضيل المدينة وهو المشهور من مذهب مالك ، وذهب ابن وهب وابن حبيب من المالكية وأهل مكة وعلماء الكوفة ومنهم أبو حنيفة وكذا الشافعي وأحمد فضلوا [مكة على المدينة](١) ؛ لحديث ابن الزبير رضي‌الله‌عنه : «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام ، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة في مسجدي هذا». رواه أحمد وابن حبان في صحيحه (٢).

وقال ابن عبد البر : ذلك مروي عن عمر ، وعلي ، [وابن](٣) مسعود ، وأبي الدرداء ، وجابر بن عبد الله رضي‌الله‌عنهم قال : وهم أولى أن يقلدوا ، قال : وحسبك بفضل مكة أن فيها بيت الله تعالى الذي قال الله تعالى يحط أوزار العباد بقصده في العمر مرة ، ولم يقبل من أحد صلاة إلا باستقباله إليه إذا قدر على التوجه إليها ، وهي قبلة المسلمين أحياءا وأمواتا. انتهى.

وفضائل مكة أيضا بإقامة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بها أكثر من المدينة ، وكثرة الزوار من الأنبياء والمرسلين ، والنهي عن استقبالها واستدبارها عند قضاء الحاجة ، وتحريمها يوم [خلق](٤) السموات والأرض ، وكونها مبعث إبراهيم

__________________

(١) في الأصل : المدينة على مكة. والصواب ما أثبتناه. انظر : زبدة الأعمال (ص : ١٨٣).

(٢) أخرجه أحمد (٣ / ٣٤٣) ، وابن حبان (٤ / ٤٩٩).

(٣) في الأصل : وأبي. والتصويب من البحر العميق (١ / ١٥).

(٤) في الأصل : خلقت. والتصويب من البحر العميق ، الموضع السابق.

٥٨٠