شرح ابن عقيل - ج ١

محمّد محيى الدين عبد الحميد

شرح ابن عقيل - ج ١

المؤلف:

محمّد محيى الدين عبد الحميد


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار العلوم الحديثة
الطبعة: ١٤
الصفحات: ٦٨٦
الجزء ١ الجزء ٢

أى : إن جررت بـ «خلا ، وعدا» فهما حرفا جرّ ، وإن نصبت بها فهما فعلان ، وهذا مما لا خلاف فيه.

* * *

وكخلا حاشا ، ولا تصحب «ما»

وقيل «حاش ، وحشا» فاحفظهما (١)

المشهور أن «حاشا» لا تكون إلا حرف جرّ ؛ فتقول : «قام القوم حاشا زيد» بجر «زيد» وذهب الأخفش والجرمىّ والمازنىّ والمبرد وجماعة ـ منهم المصنف ـ إلى أنها مثل «خلا» : تستعمل فعلا فتنصب ما بعدها ، وحرفا فتجر ما بعدها ؛ فنقول : «قام القوم حاشا زيدا ، وحاشا زيد» وحكى جماعة ـ منهم الفراء ، وأبو زيد الأنصارى ، والشيبانىّ ـ النّصب بها ، ومنه : «اللهم اغفر لى ولمن يسمع ، حاشا الشيطان وأبا الإصبع» وقوله :

__________________

لفاء لربط الجواب بالشرط ، وهى زائدة على القول الثانى ، وما بعدها جملة من مبتدأ وخبر فى محل جزم جواب الشرط «كما» جار ومجرور متعلق بقوله «فعلان» الآتى ؛ لأنه فى قوة المشتق «هما» ضمير منفصل مبتدأ «إن» شرطية «نصبا» فعل ماض ، فعل الشرط ، وألف الاثنين فاعل ، وجواب الشرط محذوف ، وجملة الشرط وجوابه لا محل لها معترضة بين المبتدأ وخبره «فعلان» خبر المبتدأ.

(١) «كحلا» جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم «حاشا» قصد لفظه : مبتدأ مؤخر «ولا» نافية «تصحب» فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هى يعود إلى حاشا «ما» قصد لفظه : مفعول به لتصحب «وقيل» فعل ماض مبنى للمجهول «حاش» قصد لفظه : نائب فاعل قيل «وحشا» معطوف عليه «فاحفظهما» احفظ : فعل أمر. وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت ، وهما : مفعول به لاحفظ.

٦٢١

(١٧٧) ـ

حاشا قريشا ؛ فإنّ الله فضّلهم

على البريّة بالإسلام والدّين

وقول المصنف : «ولا تصحب ما» معناه أن «حاشا» مثل «خلا» فى أنها تنصب ما بعدها أو تجرّه ، ولكن لا تتقدم عليها «ما» كما تتقدم على «خلا» ؛ فلا تقول : «قام القوم ما حاشا زيدا» ، وهذا الذى ذكره هو الكثير ، وقد صحبتها «ما» قليلا ؛ ففى مسند أبى أمية الطرسوسى عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال : «أسامة أحبّ النّاس إلىّ ما حاشا فاطمة» (٢).

__________________

١٧٧ ـ هذا البيت من كلام الفرزدق همام بن غالب.

الإعراب : «حاشا» فعل ماض دال على الاستثناء ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره هو يعود على البعض المفهوم من الكل السابق «قريشا» مفعول به لحاشا «فإن» الفاء للتعليل ، إن : حرف توكيد ونصب «الله» اسم إن «فضلهم» فضل : فعل ماض ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود على الله ، هم : مفعول به لفضل ، والجملة من فضل وفاعله ومفعوله فى محل رفع خبر «إن» «على البرية ، بالإسلام» جاران ومجروران متعلقان بفضل «والدين» عطف على الإسلام.

الشاهد فيه : قوله «حاشا قريشا» فإنه استعمل «حاشا» فعلا ، ونصب به ما بعده.

(١) توهم النحاة أن قوله «ما حاشا فاطمة» من كلام النبى صلّى الله عليه وسلّم ، فجعلوا «حاشا» استثنائية ، واستدلوا به على أن حاشا الاستثنائية يجوز أن تدخل عليها ما ، وذلك غير متعين ، بل يجوز أن يكون هذا الكلام من كلام الراوى يعقب به على قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم «أسامة أحب الناس إلى» يريد الراوى بذلك أن يبين أنه عليه الصلاة والسّلام لم يستثن أحدا من أهل بيته لا فاطمة ولا غيرها ، فما : نافية ، وحاشى : فعل ماض ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى النبى ، وفاطمة : مفعول به ، وليست حاشا هذه هى الاستثنائية ، بل هى فعل متصرف تام تكتب ألفه ياء لكونها رابعة ، ومضارعه هو الذى ورد فى قول النابغة الذبيانى :

٦٢٢

وقوله :

(١٧٨) ـ

رأيت النّاس ما حاشا قريشا

فإنّا نحن أفضلهم فعالا

ويقال فى «حاشا» : «حاش ، وحشا».

* * *

__________________

ولا أرى فاعلا فى النّاس شبهه

وما أحاشى من لأقوام من أحد

والفرق بين حاشا الاستثنائية وهذا الفعل من ستة أوجه ، الأول : أن الاستثنائية تكون حرفا وتكون فعلا ، وهذه لا تكون إلا فعلا ، والثانى أن الاستثنائية ـ إن كانت فعلا ـ غير متصرفة ، وهذه متصرفة ، الثالث أن فاعل الاستثنائية مستتر وجوبا ، وهذه كغيرها من الأفعال ماضيها فاعله مستتر جوازا ، والرابع أن ألف الاستثنائية تكتب ألفا ، وهذه تكتب ألفها ياء ، والخامس : أن الاستثنائية يتعين فيها أن تكون من كلام صاحب الكلام الأول السابق عليها ، وهذه ليست كذلك ، بل لو تكلم بها صاحب الكلام الأول لقال : ما أحاشى ، أو قال : ما حاشيت ، كما قال النابغة الذبيانى «وما أحاشى» السادس : أن «ما» التى تسبق الاستثنائية مصدرية أو زائدة ، وأما التى تسبق هذه فهى نافية ، فاعرف ذلك وكن حريصا عليه ، والله ينفعك به.

١٧٨ ـ نسب العينى هذا البيت للأخطل غوث بن غياث ، وقد راجعت ديوان شعره فوجدت له قطعة على هذا الوزن والروى يهجو فيها جرير بن عطية ، وليس فيها بيت الشاهد.

اللغة : «رأيت» زعم العينى أن «رأى» ههنا من الرأى ، مثل التى فى قولهم : رأى أبو حنيفة حرمة كذا ، وعلى هذا تكون متعدية إلى مفعول واحد ، وليس الذى زعمه بسديد ، بل هى بمعنى العلم ، وتتعدى إلى مفعولين ، وقد ذكر الشاعر مفعولها الأول وحذف الثانى ، وتقديره : رأيت الناس دوننا أو أقل منا فى المنزلة ، ونحو ذلك ويجوز أن تكون جملة «فإنا نحن أكثرهم فعالا» فى محل نصب مفعولا ثانيا لرأى ، وزيدت الفاء فها كما زيدت فى خبر المبتدأ فى نحو قولهم. الذى يزورنى فله جائزة

٦٢٣

..................................................................................

__________________

سنية «فعالا» هو بفتح الفاء ـ الكرم ، ويجوز أن تكون الفاء مكسورة على أنه جمع فعل.

الإعراب : «رأيت» فعل وفاعل «الناس» مفعول أول ، والمفعول الثانى محذوف لدلالة الكلام عليه ، وتقدير الكلام : رأيت الناس أقل منا ، أو دوننا ، مثلا «ما حاشا» ما : مصدرية ، حاشا : فعل ماض ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره هو يعود على البعض المفهوم من الكل السابق «قريشا» مفعول به لحاشا «فإنا» الفاء للتعليل ، إن : حرف توكيد ونصب ، نا : اسمه «نحن» توكيد للضمير المتصل الواقع اسما لإن «أفضلهم» أفضل : خبر إن ، وأفضل مضاف وهم مضاف إليه «فعالا» تمييز ، ويجوز أن تكون الفاء زائدة ، وتكون جملة «إن» واسمها وخبرها فى محل نصب مفعولا ثانيا لرأى ، ولا عجب أن تزاد الفاء فى المفعول الثانى ؛ فإن أصله خبر ، والفاء تزاد فى خبر المبتدأ كثيرا.

الشاهد فيه : قوله «ما حاشا قريشا» حيث دخلت «ما» المصدرية على «حاشا» وذلك قليل ، والأكثر أن تتجرد منها.

* * *

٦٢٤

الحال

الحال وصف ، فضلة ، منتصب ،

مفهم فى حال كفردا أذهب (١)

عرّف الحال (٢) بأنه ، الوصف ، الفضلة ، المنتصب ، للدلالة على هيئة ، نحو : «فردا أذهب» فـ «فردا» : حال ؛ لوجود القيود المذكورة فيه.

وخرج بقوله : «فضلة» الوصف الواقع عمدة ، نحو : «زيد قائم» وبقوله «للدلالة على الهيئة» التمييز المشتقّ ، نحو : «لله درّه فارسا» فإنه تمييز لا حال على الصحيح ؛ إذ لم يقصد به الدلالة على الهيئة ، بل التعجب من فروسيّته ؛ فهو لبيان المتعجّب منه ، لا لبيان هيئته ، وكذلك «رأيت رجلا راكبا» فإنّ «راكبا» لم يسق للدلالة على الهيئة ، بل لتخصيص الرجل ، وقول المصنف «مفهم فى حال» هو معنى قولنا «للدلالة على الهيئة».

* * *

__________________

(١) «الحال» مبتدأ «وصف» خبره «فضلة ، منتصب ، مفهم» نعوت لوصف «فى حال» جار ومجرور متعلق بمفهم «كفردا» الكاف جارة لقول محذوف كما سبق غير مرة ، فردا : حال من فاعل أذهب الآتى «أذهب» فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنا.

(٢) الحال فى اللغة : ما عليه الإنسان من خير أو شر ، وهو فى اصطلاح علماء العربية ما ذكره الشارح العلامة ، ويقال : حال ، وحالة ، فيذكر لفظه ويؤنث ، ومن شواهد تأنيث لفظه قول الشاعر :

على حالة لو أنّ فى القوم حاتما

على جوده ضنّت به نفس حاتم

ومن شواهد تذكير لفظه قول الشاعر :

إذا أعجبتك الدّهر حال من امرىء

فدعه ، وواكل أمره واللّياليا

٦٢٥

وكونه منتقلا مشتقّا

يغلب ، لكن ليس مستحقّا (١)

الأكثر فى الحال أن تكون : منتقلة ، مشتقة.

ومعنى الانتقال : ألا تكون ملازمة للمتّصف بها ، نحو «جاء زيد راكبا» فـ «راكبا» : وصف منتقل ؛ لجواز انفكاكه عن «زيد» بأن يجىء ماشيا.

وقد تجىء الحال غير منتقلة (٢) ، أى وصفا لازما ، نحو «دعوت الله سميعا» و «خلق الله الزّرافة يديها أطول من رجليها» ، وقوله :

(١٧٩) ـ

فجاءت به سبط العظام ، كأنّما

عمامته بين الرّجال لواء

فـ «سميعا ، وأطول ، وسبط» أحوال ، وهى أوصاف لازمة.

__________________

(١) «وكونه» الواو للاستئناف ، وكون : مبتدأ ، وكون مضاف والهاء مضاف إليه ، من إضافة المصدر الناقص إلى اسمه «منتقلا» خبر المصدر الناقص «مشتقا» خبر ثان «يغلب» فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى كونه منتقلا ، والجملة من يغلب وفاعله فى محل رفع خبر المبتدأ «لكن» حرف استدراك «ليس» فعل ماض ناقص ، واسمه ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى كونه منتقلا ـ إلخ «مستحقا» خبر ليس.

(٢) تجىء الحال غير منتقلة فى ثلاث مسائل :

الأولى : أن يكون العامل فيها مشعرا بتجدد صاحبها ، نحو قوله تعالى : (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) ونحو قولهم : خلق الله الزرافة يديها أطول من رجليها ، ونحو قول الشاعر *فجاءت به سبط العظام* البيت الذى أنشده الشارح رحمه الله (رقم ١٧٩).

الثانية : أن تكون الحال مؤكدة : إما لعاملها نحو قوله تعالى : (فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً) وقوله سبحانه : (وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) وإما مؤكدة لصاحبها ، نحو قوله سبحانه : (لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) وإما مؤكدة لمضمون جملة قبلها ، نحو قولهم : زيد أبوك عطوفا

الثالثة : فى أمثلة مسموعة لا ضابط لها ، كقولهم : دعوت الله سميعا ، وقوله تعالى : (أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً) وكقوله جل ذكره : (قائِماً بِالْقِسْطِ).

١٧٩ ـ البيت لرجل من بنى جناب لم أقف على اسمه.

٦٢٦

وقد تأتى الحال جامدة ، ويكثر ذلك فى مواضع ذكر المصنف بعضها بقوله :

ويكثر الجمود : فى سعر ، وفى

مبدى تأوّل بلا تكلّف (١)

كبعه مدّا بكذا ، يدا بيد ،

وكرّ زيد أسدا ، أى كأسد (٢)

__________________

اللغة : «سبط العظام» أراد أنه سوى الخلق حسن القامة «لواء» هو ما دون العلم ، وأراد أنه تام الخلق طويل ؛ فكنى بهذه العبارة عن هذا المعنى.

الإعراب : «فجاءت» جاء : فعل ماض ، والتاء للتأنيث ، والفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هى «به» جار ومجرور متعلق بجاءت «سبط» حال من الضمير المجرور محلا بالباء ، وسبط مضاف و «العظام» مضاف إليه «كأنما» كأن : حرف تشبيه ونصب ، وما : كافة «عمامته» عمامة : مبتدأ ، وعمامة مضاف والضمير مضاف إليه «بين» منصوب على الظرفية ، وبين مضاف ، و «الرجال» مضاف إليه «لواء» خبر المبتدأ.

الشاهد فيه : قوله «سبط العظام» حيث ورد الحال وصفا ملازما ، على خلاف الغالب فيه من كونه وصفا منتقلا ، وإضافة سبط لا تفيده تعريفا ولا تخصيصا ؛ لأنه صفة مشبهة ، وإضافة الصفة المشبهة إلى معمولها لا تفيد التعريف ولا التخصيص ، وإنما تفيد رفع القبح على ما سيأتى بيانه فى باب الإضافة إن شاء الله تعالى

(١) «يكثر» فعل مضارع «الجمود» فاعل يكثر «فى سعر» جار ومجرور متعلق بيكثر «وفى مبدى» جار ومجرور معطوف بالواو على الجار والمجرور الأول ، ومبدى مضاف و «تأول» مضاف إليه «بلا تكلف» جار ومجرور متعلق بتأول ، ولا اسم بمعنى غير مضاف وتكلف : مضاف إليه.

(٢) «كبعه» الكاف جارة لقول محذوف ، بع : فعل أمر ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت ، والهاء مفعول به «مدا» حال من المفعول «بكذا» جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لمد ، وقال سيبويه : هو بيان لمد «وكر زيد» فعل وفاعل «أسدا» حال من الفاعل «أى» حرف تفسير «كأسد» الكاف اسم بمعنى مثل عطف بيان على قوله «أسدا» الواقع حالا ، والكاف الاسمية مضاف وأسد مضاف إليه.

٦٢٧

يكثر مجىء الحال جامدة إن دلّت على سعر ، نحو «بعه مدّا بدرهم (١)» فمدا : حال جامدة ، وهى فى معنى المشتق ؛ إذ المعنى «بعه مسعّرا كل مد بدرهم» ويكثر جمودها ـ أيضا ـ فيما دلّ على تفاعل ، نحو «بعته يدا بيد (٢)» أى : مناجزة ، أو على تشبيه ، نحو «كرّ زيد أسدا» : أى مشبها الأسد ، فـ «يدا ، وأسدا» جامدان ، وصحّ وقوعهما حالا لظهور تأوّلهما بمشتق ، كما تقدم ، وإلى هذا أشار بقوله : «وفى مبدى تأوّل» أى : يكثر مجىء الحال جامدة حيث ظهر تأوّلها بمشتق.

وعلم بهذا وما قبله أن قول النحويين «إن الحال يجب أن تكون منتقلة مشتقة» معناه أن ذلك هو الغالب ، لا أنه لازم ، وهذا معنى قوله فيما تقدم «لكن ليس مستحقّا» (٣).

__________________

(١) يجوز فى هذا المثال وجهان : أحدهما رفع ما ، وثانيهما نصبه ، فأما رفع مد فعلى أن يكون مبتدأ ، والجار والمجرور بعده متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ ، وجاز الابتداء بالنكرة لأن لها وصفا محذوفا ، وتقدير الكلام : بع البر (مثلا) مد منه بدرهم ، وجملة المبتدأ وخبره فى محل نصب حال ، والرابط هو الضمير المجرور محلا بمن ، ولا يكون المثال ـ على هذا الوجه ـ مما نحن بصدده ؛ لأن الحال جملة لا مفرد جامد ، أما نصب مد فعلى أن يكون حالا ، والجار والمجرور بعده متعلق بمحذوف صفة له ، ويكون المثال حينئذ مما نحن بصدده ، والمشتق المؤول به ذلك الحال يكون مأخوذا من الحال وصفته جميعا ، وتقديره : مسعرا.

ويجوز أن يكون هذا الحال حالا من فاعل بعه ؛ فيكون لفظ «مسعرا» الذى تؤوله به بكسر العين مشددة اسم فاعل ، ويجوز أن يكون حالا من المفعول ؛ فيكون قولك «مسعرا» بفتح العين مشددة اسم مفعول

(٢) هذا المثال كالذى قبله ، يجوز فيه رفع «يد» ونصبه ، وإعراب الوجهين هنا كإعرابهما فى المثال السابق ، والتقدير على الرفع : يد منه على يد منى ، والتقدير على النصب : يدا كائنة مع يد.

(٣) ذكر الشارح ثلاثة مواضع تجىء فيها الحال جامدة وهى فى تأويل المشتق ، ـ ـ

٦٢٨

..................................................................................

__________________

وهى : أن تدل الحال على سعر ، أو على تفاعل ـ ومنه دلالتها على مناجزة ـ أو على تشبيه ، وقد بقيت خمسة مواضع أخرى :

الأول : أن تدل الحال على ترتيب ، كقولك : ادخلوا الدار رجلا رجلا ، وقولك : سار الجند رجلين رجلين ، تريد مرتبين ، وضابط هذا النوع : أن يذكر المجموع أولا ثم يفصل هذا المجموع بذكر بعضه مكررا ، فالمجموع فى المثال الأول هو الذى تدل الواو عليه ، وفى المثال الثانى هو الجند ، والحال عند التحقيق هو مجموع اللفظين ، ولكنه لما تعذر أن يكون المجموع حالا جعل كل واحد منهما حالا ، كما فى الخبر المتعدد بغير عاطف فى نحو قولك : الرمان حلو حامض ، وذهب ابن جنى إلى أن الحال هو الأول ، والثانى معطوف عليه بعاطف مقدر.

الموضع الثانى : أن تكون الحال موصوفة ، نحو قوله تعالى : (قُرْآناً عَرَبِيًّا) وقوله : (فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا) وتسمى هذه الحال : «الحال الموطئة».

الموضع الثالث : أن تكون الحال دالة على عدد ، نحو قوله تعالى (فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً).

الموضع الرابع : أن تدل الحال على طور فيه تفصيل ، نحو قولهم : هذا بسرا أطيب منه رطبا.

الموضع الخامس : أن تكون الحال نوعا من صاحبها ، كقولك : هذا مالك ذهبا ، أو تكون الحال فرعا لصاحبها ، كقولك : هذا حديدك خاتما ، وكقوله تعالى : (وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً) أو تكون الحال أصلا لصاحبها ، كقولك : هذا خاتمك حديدا ، وكقوله تعالى : (أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً).

وقد أجمع النحاة على أن المواضع الأربعة الأولى ـ وهى الثلاثة التى ذكرها الشارح والموضع الأول مما ذكرناه ـ يجب تأويلها بمشتق ، ليسر ذلك ، وعدم التكلف فيه ، ثم اختلفوا فى المواضع الأربعة الباقية ؛ فذهب قوم منهم ابن الناظم إلى وجوب تأويلها أيضا ؛ ليكون الحال على ما هو الأصل فيها ، وذهب قوم إلى أنه لا يجب تأويلها بمشتق لأن فى تأويلها بالمشتق تكلفا ، وفى ذلك من التحكم ما ليس يخفى.

٦٢٩

والحال إن عرّف لفظا فاعتقد

تنكيره معنى ، كوحدك اجتهد (١)

مذهب جمهور النحويين أن الحال لا تكون إلا نكرة ، وأن ما ورد منها معرّفا لفظا فهو منكّر معنى ، كقولهم : جاءوا الجمّاء الغفير.

(١٨٠) ـ

و *أرسلها العراك ...*

__________________

(١) «الحال» مبتدأ «إن» شرطية «عرف» فعل ماض مبنى للمجهول فعل الشرط «لفظا» تمييز محول عن نائب الفاعل «فاعتقد» الفاء لربط الجواب بالشرط ، اعتقد : فعل أمر ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت «تنكيره» تنكير : مفعول به لاعتقد ، وتنكير مضاف والهاء مضاف إليه «معنى» تمييز «كوحدك» الكاف جارة لقول محذوف ، وحد : حال من الضمير المستتر فى «اجتهد» الآتى ، ووحد مضاف والكاف مضاف إليه «اجتهد» فعل أمر ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت ، والجملة فى محل نصب مقول لقول محذوف ، والتقدير : وذلك كائن كقولك اجتهد وحدك ، والحال فى تأويل «منفردا».

١٨٠ ـ هذه قطعة من بيت للبيد بن ربيعة العامرى يصف حمارا وحشيا أورد أتنه الماء لتشرب ، وهو بتمامه :

فأرسلها العراك ، ولم يذدها ،

ولم يشفق على نغص الدّخال

اللغة : «العراك» ازدحام الإبل أو غيرها حين ورود الماء «يذدها» يطردها «يشفق» يرحم «نغص» مصدر نغص الرجل ـ بكسر الغين ـ إذا لم يتم مراده ، ونغص البعير إذا لم يتم شربه «الدخال» أن يداخل بعيره الذى شرب مرة مع الإبل التى لم تشرب حتى يشرب معها ثانية ، وذلك إذا كان البعير كريما ، أو شديد العطش ، أو ضعيفا.

الإعراب : «فأرسلها» أرسل : فعل ماض ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى الحمار الوحشى المذكور فى أبيات سابقة ، والضمير البارز المتصل الذى يرجع إلى الأبن مفعول به لأرسل «العراك» حال «ولم يذدها» الواو عاطفة ، لم نافية جازمة ، يذذ : فعل مضارع مجزوم بلم ، والفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى فاعل أرسل ، وها : مفعول به ، والجملة معطوفة على جملة فأرسلها.

٦٣٠

واجتهد وحدك ، وكلمته فاه إلى فىّ ؛ فـ «الجمّاء ، والعراك ، ووحدك ، وفاه» : أحوال ، وهى معرفة ، لكنها مؤوّلة بنكرة ، والتقدير : جاءوا جميعا ، وأرسلها معتركة ، واجتهد منفردا ، وكلمته مشافهة.

وزعم البغداديّون ويونس أنه يجوز تعريف الحال مطلقا ، بلا تأويل ؛ فأجازوا «جاء زيد الرّاكب».

وفصّل الكوفيون ، فقالوا : إن تضمّنت الحال معنى الشرط صحّ تعريفها ، وإلّا فلا ؛ فمثال ما تضمن معنى الشرط «زيد الرّاكب أحسن منه الماشى» فـ «الراكب والماشى» : حالان ، وصح تعريفهما لتأولهما بالشرط ؛ إذ التقدير : زيد إذا ركب أحسن منه إذا مشى ، فإن لم تتقدر بالشرط لم يصح تعريفها ؛ فلا تقول : «جاء زيد الرّاكب» إذ لا يصح «جاء زيد إن ركب».

* * *

ومصدر منكّر حالا مقع

بكثرة كبغتة زيد طلع (١)

__________________

ومثلها جملة «ولم يشفق» وقوله «على نغص» جار ومجرور متعلق بيشفق ، ونغص مضاف ، و «الدخال» مضاف إليه.

الشاهد فيه : قوله «العراك» حيث وقع حالا مع كونه معرفة ـ والحال لا يكون إلا نكرة ـ وإنما ساغ ذلك لأنه مؤول بالنكرة ، أى : أرسلها معتركة ، يعنى مزدحمة

(١) «مصدر» مبتدأ «منكر» نعت «حالا» منصوب على الحال ، وصاحبه الضمير المستتر فى «يقع» الآتى «يقع» فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى مصدر منكر. والجملة فى محل رفع خبر المبتدأ «بكثرة» جار ومجرور متعلق بيقع «كبغتة» الكاف جارة لقول محذوف ، بغتة : حال من الضمير المستتر فى «طلع» الآتى «زيد» مبتدأ «طلع» فعل ماض ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى زيد ، والجملة فى محل رفع خبر المبتدأ.

٦٣١

حقّ الحال أن يكون وصفا ـ وهو : ما دلّ على معنى وصاحبه : كقائم ، وحسن ، ومضروب ـ فوقوعها مصدرا على خلاف الأصل ؛ إذ لا دلالة فيه على صاحب المعنى.

وقد كثر مجىء الحال مصدرا نكرة ، ولكنه ليس بمقيس ؛ لمجيئه على خلاف الأصل ، ومنه «زيد طلع بغتة» فـ «بغتة» : مصدر نكرة ، وهو منصوب على الحال ، والتقدير : زيد طلع باغتا ؛ هذا مذهب سيبويه والجمهور.

وذهب الأخفش والمبرد إلى أنه منصوب على المصدرية ، والعامل فيه محذوف ، والتقدير : طلع زيد يبغت بغتة ، فـ «يبغت» عندهما هو الحال ، لا «بغتة».

وذهب الكوفيون إلى أنه منصوب على المصدرية كما ذهبا إليه ، ولكن الناصب له عندهم الفعل المذكور [وهو طلع] لتأويله بفعل من لفظ المصدر ، والتقدير فى قولك : «زيد طلع بغتة» «زيد بغت بغتة» ؛ فيؤولون «طلع» ببغت ، وينصبون به «بغتة».

* * *

ولم ينكّر غالبا ذو الحال ، إن

لم يتأخّر ، أو يخصّص ، أو يبن (١)

__________________

(١) «ولم» نافية جازمة «ينكر» فعل مضارع مبنى للمجهول ، مجزوم بلم «غالبا» حال من نائب الفاعل «ذو» نائب فاعل ينكر ، وذو مضاف ، و «الحال» مضاف إليه «إن» شرطية «لم» نافية جازمة «يتأخر» فعل مضارع مجزوم بلم فعل الشرط ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى ذو الحال ، وجواب الشرط محذوف ، والتقدير : إن لم يتأخر ذو الحال ـ إلخ فلا ينكر «أو يخصص ، أو يبن» معطوفان على يتأخر.

٦٣٢

من بعد نفى أو مضاهيه ، كـ «لا

ببغ امرؤ على امرىء مستسهلا» (١)

حقّ صاحب الحال أن يكون معرفة ، ولا ينكر فى الغالب إلا عند وجود مسوّغ ، وهو أحد أمور (٢) :

__________________

(١) «من بعد» جار ومجرور متعلق بيبن فى البيت السابق ، وبعد مضاف ، و «نفى» مضاف إليه «أو» عاطفة «مضاهيه» مضاهى : معطوف على نفى ، ومضاهى مضاف وضمير الغائب العائد إلى نفى مضاف إليه «كلا» الكاف جارة لقول محذوف ، لا : ناهية «يبغ» فعل مضارع مجزوم بلا الناهية «امرؤ» فاعل يبغ «على امرىء» جار ومجرور متعلق بيبغ «مستسهلا» حال من قوله «امرؤ» الفاعل

(٢) ذكر الشارح ـ تبعا للناظم ـ من مسوغات مجىء الحال من النكرة ثلاثة مسوغات : أولها تقدم الحال ، وثانيها تخصص صاحبها بوصف أو بإضافة ، وثالثها وقوع النكرة بعد النفى أو شبهه ، وبقى من المسوغات ثلاثة أخرى لم يصرح بها.

الأول : أن تكون الحال جملة مقترنة بالواو ، كما فى قولك : زارنا رجل والشمس طالعة ، والسر فى ذلك أن وجود الواو فى صدر الجملة يرفع توهم أن هذه الجملة نعت للنكرة ؛ إذ النعت لا يفصل بينه وبين المنعوت بالواو ؛ ففى قوله تعالى.(وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ) مسوغان ، بل ثلاثة ، وهى تقدم النفى ، ووقوع الواو فى صدر جملة الحال ، والثالث اقتران الجملة بإلا ، لأن الاستثناء المفرغ لا يقع فى النعوت (انظر ص ٦٠٤ السابقة و ٦٣٨ الآتية) وأما قوله تعالى : (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) فالمسوغ وقوع الواو فى صدر جملة الحال.

الثانى : أن تكون الحال جامدة ، نحو قولك : هذا خاتم حديدا ، والسر فى ذلك أن الوصف بالجامد على خلاف الأصل ؛ فلا يذهب إليه ذاهب ، وقد ساغ فى مثل هذا أن تكون الحال جامدة كما علمت (انظر ص ٦٢٨ وما بعدها).

الثالث : أن تكون النكرة مشتركة مع معرفة أو مع نكرة يصح أن تجىء الحال منها ، كقولك : زارنى خالد ورجل راكبين ، أو قولك : زارنى رجل صالح وامرأة مسكرين.

٦٣٣

منها : أن يتقدم الحال على النكرة ، نحو «فيها قائما رجل» ، وكقول الشاعر ، وأنشده سيبويه :

(١٨١) ـ

وبالجسم منّى بيّنا لو علمته

شحوب ، وإن تستشهدى العين تشهد

وكقوله :

(١٨٢) ـ

وما لام نفسى مثلها لى لائم

ولا سدّ فقرى مثل ما ملكت يدى

__________________

١٨١ ـ البيت من الشواهد التى لا يعلم قائلها.

اللغة : «شحوب» هو مصدر شحب جسمه يشحب شحوبا ـ بوزن قعد يقعد قعودا ـ وقد جاء على لغة أخرى ، شحب يشحب شحوبة ـ مثل سهل الأمر يسهل سهولة ـ إذا تغير لونه «بينا» ظاهرا ، وهو فيعل من بان يبين ، إذا ظهر ووضح.

المعنى : إن بجسمى من آثار حبك لشحوبا ظاهرا ، لو أنك علمته لأخذتك الشفقة على ، وإذا أحببت أن ترى الشاهد فانظرى إلى عينى فإنهما تحدثانك حديثه.

الإعراب : وبالجسم» جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم «منى» جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من الجسم «بينا» حال من شحوب الآتى على رأى سيبويه الذى يجيز مجىء الحال من المبتدأ ، وهو عند الجمهور حال من الضمير المستكن فى الجار والمجرور الواقع خبرا «لو» شرطية غير جازمة «علمته» فعل وفاعل ومفعول به ، والجملة من الفعل وفاعله ومفعوله شرط لو ، وجواب الشرط محذوف ، والتقدير : لو علمته لأشفقت على ، والجملة من الشرط وجوابه لا محل لها معترضة بين الخبر المقدم والمبتدأ المؤخر «شحوب» مبتدأ مؤخر «وإن» شرطية «تستشهدى» فعل مضارع فعل الشرط ، وياء المخاطبة فاعل «العين» مفعول به «تشهد» جواب الشرط.

الشاهد فيه : قوله «بينا» حيث وقعت الحال من النكرة ، التى هى قوله «شحوب» على ما هو مذهب سيبويه ، كما قررناه فى الإعراب ، والمسوغ لذلك تقدم الحال على صاحبها ، فإذا جريت على ما ذهب الجمهور إليه خلا البيت من الشاهد.

١٨٢ ـ وهذا البيت ـ أيضا ـ من الشواهد التى لا يعلم قائلها ،

٦٣٤

فـ «قائما» : حال من «رجل» ، و «بيّنا» حال من «شحوب» ، و «مثلها» حال من «لائم».

ومنها : أن تخصّص النكرة بوصف ، أو بإضافة ؛ فمثال ما تخصّص بوصف قوله تعالى : (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْراً مِنْ عِنْدِنا)(١).

__________________

اللغة : «لام» عذل ، وتقول : لام فلان فلانا لوما وملاما وملامة ، إذا عاتبه ووبخه «سد فقرى» أراد أغنانى عن الحاجة إلى الناس وسؤالهم ، شبه الفقر بباب مفتوح يأتيه من ناحيته ما لا يجب ؛ فهو فى حاجه لإيصاده.

المعنى : إن اللوم الذى يكون له الأثر الناجع فى رجوع الإنسان عما استوجب اللوم عليه هو لوم الإنسان نفسه ؛ لأن ذلك يدل على شعوره بالخطأ ، وإن ما فى يد الإنسان من المال لأقرب منالا له مما فى أيدى الناس.

الإعراب : «وما» نافية «لام» فعل ماض «نفسى» نفس : مفعول به تقدم على الفاعل ، ونفس مضاف وياء المتكلم مضاف إليه «مثلها» مثل : حال من «لائم» الآتى ، ومثل مضاف وها مضاف إليه ، و «مثل» من الألفاظ التى لا تستفيد بالإضافة تعريفا «لى» جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من لائم الآتى «لائم» فاعل لام «ولا» الواو عاطفة ، لا زائدة لتأكيد النفى «سد» فعل ماض ، «فقرى» فقر : مفعول به لسد تقدم على الفاعل ، وفقر مضاف وياء المتكلم مضاف إليه «مثل» فاعل لسد ، ومثل مضاف ، و «ما» اسم موصول مضاف إليه «ملكت» ملك : فعل ماض ، والتاء للتأنيث «يدى» يد : فاعل ملكت ، ويد مضاف وياء المتكلم مضاف إليه. والجملة من ملك وفاعله لا محل لها صلة الموصول ، والعائد محذوف ، والتقدير : مثل الذى ملكته يدى

الشاهد فيه : قوله «مثلها لى لائم» حيث جاءت الحال ـ وهى قوله «مثلها» ، و «لى» ـ من النكرة ـ وهى قوله «لائم» ـ والذى سوغ ذلك تأخر النكرة عن الحال.

(١) الأمر الأول الوارد فى هذه الآية واحد الأمور ، والأمر الثانى واحد الأوامر وقد أعرب الناظم وابنه «أمرا» على أنه حال من أمر الأول ، وسوغ مجىء الحال منه تخصيصه بحكيم بمعنى محكم ، أى حال كونه مأمورا به من عندنا.

واعترض قوم على هذا الإعراب بأن الحال لا يجىء من المضاف إليه إلا إذا وجد

٦٣٥

وكقول الشاعر :

(١٨٣) ـ

نجّيت يا ربّ نوحا ، واستجبت له

فى فلك ماخر فى اليمّ مشحونا

وعاش يدعو بآيات مبيّنة

فى قومه ألف عام غير خمسينا

__________________

واحد من الأمور الثلاثة التى يأتى بيانها فى هذا الباب ، وليس واحد منها بموجود هنا.

وأجيب بأنا لا نسلم أن الأمور الثلاثة غير موجودة فى هذا المثال ، بل المضاف الذى هو لفظ «كل» كالجزء من المضاف إليه الذى هو لفظ «أمر» فى صحة الاستغناء به عنه ؛ وذلك لأن لفظ كل بمعنى الأمر ؛ إذ المعلوم أن لفظ كل بحسب ما يضاف إليه.

ومن العلماء من جعل أمرا الثانى حالا من كل ، وتصلح الآية للاستدلال بها لما نحن بصدده ؛ لأن «كل أمر» نكرة ؛ إذ المضاف إليه نكرة ، ومنهم من جعل أمرا حالا من الضمير المستتر فى حكيم ، ومنهم من جعله حالا من الضمير الواقع مفعولا ، أى مأمورا به.

١٨٣ ـ البيتان من الشواهد التى لم يذكروها منسوبة إلى قائل معين.

اللغة : «الفلك» أصله بضم فسكون ـ السفينة ، ولفظه للواحد والجمع سواء ، وقد تتبع حركة عينه التى هى اللام حركة الفاء كما فى بيت الشاهد «ماخر» اسم فاعل من مخرت السفينة ـ من بابى قطع ودخل ـ إذا جرت تشق الماء مع صوت «اليم» البحر ، أو الماء «مشحونا» اسم مفعول من شحن السفينة : أى ملأها «آيات مبينة» ظاهرة واضحة ، أو أنها تبين حاله وتدل على صدق دعواه.

الإعراب : «نجيت» فعل وفاعل «يا رب» يا : حرف نداء ، رب : منادى ، وجملة النداء لا محل لها معترضة بين الفعل مع فاعله ومفعوله «نوحا» مفعول به لنجيت «واستجبت» الواو عاطفة ، وما بعدها فعل وفاعل «له» جار ومجرور متعلق باستجبت «فى فلك» جار ومجرور متعلق بنجيت «ماخر» صفة لفلك «فى اليم» جار ومجرور متعلق بماخر «مشحونا» حال من فلك «وعاش» الواو

٦٣٦

ومثال ما نخصّص بالإضافة قوله تعالى : (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ).

ومنها : أن تقع النكرة بعد نفى أو شبهه ، وشبه النفى هو الاستفهام والنهى ، وهو المراد بقوله : «أو يبن من بعد نفى أو مضاهيه» فمثال ما وقع بعد النفى قوله :

(١٨٤) ـ

ما حمّ من موت حمى واقيا

ولا ترى من أحد باقيا

__________________

عاطفة ، عاش : فعل ماض ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى نوح «يدعو» فعل مضارع ، وفيه ضمير مستتر جوازا تقديره هو يعود إلى نوح فاعل ، والجملة فى محل نصب حال «بآيات» جار ومجرور متعلق بيدعو «مبينة» صفة لآيات «فى قومه» الجار والمجرور متعلق بعاش ، وقوم مضاف والضمير العائد إلى نوح مضاف إليه «ألف» مفعول فيه ناصبه عاش ، وألف مضاف و «عام» مضاف إليه «غير» منصوب على الاستثناء أو على الحال ، وغير مضاف و «خمسينا» مضاف إليه ، مجرور بالياء لأنه ملحق بجمع المذكر السالم ، والألف فى آخره للاطلاق.

الشاهد فيه : قوله «مشحونا» حيث وقع حالا من النكرة ، وهى قوله «فلك» والذى سوغ مجىء الحال من النكرة أنها وصفت بقوله «ماخر» فقربت من المعرفه.

١٨٤ ـ البيت لراجز لم يعينه أحد ممن استشهد به.

اللغة : «حم» بالبناء للمجهول ـ أى قدر ، وهيىء ، وتقول : أحم الله تعالى هذا الأمر وحمه ، إذا قدر وقوعه ، وهيأ له أسبابه (انظر ص ٦٠٢ و ٦٣٨) «واقيا» اسم فاعل من «وقى يقى» بمعنى حفظ يحفظ.

المعنى : إن الله تعالى لم يقدر شيئا يحمى من الموت ، كما أنه سبحانه لم يجعل لأحد من خلقه الخلود ، فاستعد للموت دائما.

الإعراب : «ما» نافية «حم» فعل ماض مبنى للمجهول «من موت» جار ومجرور متعلق بقوله «واقيا» الآتى «حمى» نائب فاعل لحم «واقيا» حل من حمى «ولا» الواو عاطفة ، ولا : زائدة لتأكيد النفى «ترى» فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت «من» زائدة «أحد» مفعول به لترى «باقيا» حال من أحد ، وهذا مبنى على أن «ترى» بصرية ، فإذا جريت على أن ترى علمية كان قوله «باقيا» مفعولا ثانيا لترى.

٦٣٧

ومنه قوله تعالى (١) : (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ) فـ «لها كتاب» جملة فى موضع الحال من «قرية» ، وصحّ مجىء الحال من النكرة لتقدّم النفى عليها ، ولا يصح كون الجملة صفة لقرية ، خلافا للزمخشرى ؛ لأن الواو لا تفصل بين الصفة والموصوف ، وأيضا وجود «إلّا» مانع من ذلك ؛ إذ لا يعترض بـ «إلّا» بين الصفة والموصوف ، وممن صرّح بمنع ذلك : أبو الحسن الأخفش فى المسائل ، وأبو على الفارسى فى التذكرة.

ومثال ما وقع بعد الاستفهام قوله :

(١٨٥) ـ

يا صاح هل حمّ عيش باقيا فترى

لنفسك العذر فى إبعادها الأملا؟

__________________

الشاهد فيه : قوله «واقيا» و «باقيا» حيث وقع كل منهما حالا من النكرة ، وهى «حمى» بالنسبة لـ «واقيا» و «أحد» بالنسبة لـ «باقيا» والذى سوغ ذلك أن النكرة مسبوقة بالنفى فى الموضعين.

وإنما يكون الاستشهاد بقوله باقيا إذا جعلنا «ترى» بصرية ؛ لأنها تحتاج حينئذ إلى مفعول واحد ، وقد استوفته ؛ فالمنصوب الآخر يكون حالا ، أما إذا جعلت «ترى» علمية فإن قوله «باقيا» يكون مفعولا ثانيا ، كما بيناه فى الإعراب.

(١) انظر ما كتبناه عن هذه الآية فى ص ٦٣٣.

١٨٥ ـ أكثر ما قيل فى نسبة هذا البيت إنه لرجل من طيىء ، ولم يعينه أحد ممن استشهد بالبيت أو تكلم عليه.

اللغة : «صاح» أصله صاحبى ، فرخم بحذف آخره ترخيما غير قياسى ؛ إذ هو فى غير علم ، وقياس الترخيم أن يكون فى الأعلام ، وهو أيضا مركب إضافى «هل حم عيش» (انظر ص ٦٠٢ و ٦٣٧) والاستفهام ههنا إنكارى بمعنى النفى ؛ فكأنه قال : ما قدر الله عيشا باقيا «العذر» هو كل ما تذكره لتقطع عنك ألسنة العتاب واللوم.

الإعراب : «يا» حرف نداء «صاح» منادى مرخم «هل» حرف استفهام

٦٣٨

ومثال ما وقع بعد النهى قول المصنف : «لا يبغ امرؤ على امرىء مستسهلا» وقول قطرىّ بن الفجاءة :

(١٨٦) ـ

لا يركنن أحد إلى الإحجام

يوم الوغى متخوّفا لحمام

__________________

«حم» فعل ماض مبنى للمجهول «عيش» نائب فاعل حم «باقيا» حال من عيش «فترى» الفاء فاء السببية ، ترى : فعل مضارع منصوب تقديرا بأن مضمرة بعد الفاء ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت «لنفسك» الجار والمجرور متعلق بترى وهو المفعول الثانى قدم على المفعول الأول ، ونفس مضاف وضمير المخاطب مضاف إليه «العذر» مفعول أول لترى «فى إبعادها» الجار والمجرور متعلق بالعذر. وإبعاد مضاف ، وها : مضاف إليه ، وهى من إضافة المصدر إلى فاعله «الأملا» مفعول به للمصدر.

الشاهد فيه : قوله «باقيا» حيث وقع حالا من النكرة ـ وهى قوله «عيش» ـ والذى سوغ مجىء الحال منها وقوعها بعد الاستفهام الإنكارى الذى يؤدى معنى النفى.

١٨٦ ـ البيت ـ كما قال الشارح العلامة ـ لأبى نعامة قطرى بن الفجاءة ، التميمى ، الخارجى ، وقد نسبه ابن الناظم إلى الطرماح بن حكيم ، ولهذا صرح الشارح بنسبته إلى قطرى ، قصدا إلى الرد عليه ، وقطرى : بفتح القاف والطاء جميعا ، والفجاءة : بضم الفاء.

اللغة : «الإحجام» التأخر والنكول عن لقاء العدو ، والركون إليه : الميل إليه ، والاعتماد عليه «الوغى» الحرب «الحمام» بكسر الحاء ـ الموت.

المعنى : لا ينبغى لأحد أن يميل إلى الإعراض عن اقتحام الحرب ، ويركن إلى التوانى خوفا من الموت.

الإعراب : «لا» ناهية «يركنن» يركن : فعل مضارع مبنى على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الخفيفة فى محل جزم بلا الناهية «أحد» فاعل يركن «إلى الإحجام» جار ومجرور متعلق بيركن «يوم» ظرف زمان متعلق بيركن أيضا ، ويوم مضاف ، و «الوغى» مضاف إليه «متخوفا» حال من أحد «لحمام» جار ومجرور متعلق بمتخوف.

الشاهد فيه : قوله «متخوفا» حيث وقع حالا من النكرة التى هى قوله «أحد» ، والذى سوغ مجىء الحال من النكرة هنا هو وقوعها فى حيز النهى بلا ، ألا ترى أن قوله «أحد» فاعل يركن المجزوم بلا الناهية؟

٦٣٩

واحترز بقوله : «غالبا» مما قلّ مجىء الحال فيه من النكرة بلا مسوّغ من المسوغات المذكورة ، ومنه قولهم : «مررت بماء قعدة رجل (١)» ، وقولهم : «عليه مائة بيضا» (٢) ، وأجاز سيبويه «فيها رجل قائما» ، وفى الحديث : «صلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قاعدا ، وصلى وراءه رجال قياما» (٣).

* * *

وسبق حال ما بحرف جرّ قد

أبوا ، ولا أمنعه ؛ فقد ورد (٤)

__________________

(١) قعدة رجل ـ بكسر القاف وسكون العين المهملة ـ أى مقدار قعدته.

(٢) بيضا ـ بكسر الباء الموحدة ـ جمع بيضاء ، وهو حال من مائة ، ولا يجوز أن يكون تمييزا ؛ إذ لو كان تمييزا لوجب أن يكون مفردا لا جمعا ، وأن يكون مجرورا لا منصوبا ، لأن تمييز المائة يكون كذلك.

(٣) اختلف النحاة فى مجىء الحال من النكرة إذا لم يكن للنكرة مسوغ من المسوغات التى سبق بيانها فى كلام الشارح وفى زياداتنا عليه ؛ فذهب سيبويه ـ رحمه الله إلى أن ذلك مقيس لا يوقف فيه على ما ورد به السماع ، وذهب الخليل بن أحمد ويونس ابن حبيب ـ وهما شيخا سيبويه ـ إلى أن ذلك مما لا يجوز أن يقاس عليه ، وإنما يحفظ ما ورد منه. ووجه ما ذهب إليه سيبويه أن الحال إنما يؤتى بها لتقييد العامل ؛ فلا معنى لاشتراط المسوغ فى صاحبها.

(٤) «وسبق» مفعول به مقدم على عامله ، وهو أبوا الآتى ، وسبق مضاف ، و «حال» مضاف إليه من إضافة المصدر لفاعله «ما» اسم موصول : مفعول به للمصدر «بحرف» جار ومجرور متعلق بقوله جر الآتى «جر» فعل ماض مبنى للمجهول ، ونائب الفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى ما الموصولة ، والجملة من جر ونائب فاعله لا محل لها صلة الموصول «قد» حرف تحقيق «أبوا» فعل وفاعل «ولا» الواو عاطفة ، لا : نافية «أمنعه» أمنع : فعل مضارع ، وفاعله

٦٤٠