شرح ابن عقيل - ج ١

محمّد محيى الدين عبد الحميد

شرح ابن عقيل - ج ١

المؤلف:

محمّد محيى الدين عبد الحميد


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار العلوم الحديثة
الطبعة: ١٤
الصفحات: ٦٨٦
الجزء ١ الجزء ٢

وإنما قال المصنف : «وكأرى السابق» لأنه تقدم فى هذا الباب أن «أرى» تارة تتعدّى إلى ثلاثة مفاعيل ، وتارة تتعدّى إلى اثنين ، وكان قد ذكر أولا [أرى] المتعدية إلى ثلاثة ؛ فنبّه على أن هذه الأفعال الخمسة مثل «أرى» السابقة ، وهى المتعدية إلى ثلاثة ، لا مثل «أرى» المتأخرة ، وهى المتعدية إلى اثنين.

* * *

__________________

لوجدت الأفعال فيها كلها مبنية للمجهول ، وقد تعدت إلى مفعولين بعد نائب الفاعل ، وبعضها تجد المفعول الثانى والمفعول الثالث فيه مفردين ، وبعضها تجد فيه المفعول الثالث جملة كبيت الحارث بن حازة (رقم ١٣٩) وشأن ما لم يذكره الشارح من الشواهد كشأن ما ذكره منها ، حتى قال شيخ الإسلام زكريا الأنصارى : «ولم يسمع تعديها إلى ثلاثة صريحة» اه.

٤٦١

الفاعل

الفاعل الّذى كمرفوعى «أتى

زيد» «منيرا وجهه» «نعم الفتى» (١)

لما فرغ من الكلام على نواسخ الابتداء شرع فى ذكر ما يطلبه الفعل التامّ من المرفوع ـ وهو الفاعل ، أو نائبه ـ وسيأتى الكلام على نائبه فى الباب الذى يلى هذا الباب.

فأمّا الفاعل فهو : الاسم ، المسند إليه فعل ، على طريقة فعل ، أو شبهه ، وحكمه الرّفع (٢) ، والمراد بالاسم : ما يشمل الصريح ، نحو : «قام زيد» والمؤوّل

__________________

(١) «الفاعل» مبتدأ «الذى» اسم موصول : خبر المبتدأ «كمرفوعى» جار ومجرور متعلق بمحذوف صلة الموصول «أتى زيد» فعل وفاعل ، ومرفوعى مضاف ، وجملة الفعل والفاعل بمتعلقاتها فى محل جر مضاف إليه «منيرا» حال ، وهو اسم فاعل «وجهه» وجه : فاعل بمنير ، ووجه مضاف والضمير مضاف إليه «نعم الفتى» فعل وفاعل.

(٢) وقد ينصب الفاعل ويرفع المفعول إذا أمن اللبس ، وقد ورد عن العرب قولهم خرق الثوب المسمار ، وقولهم : كسر الزجاج الحجر. وقال الأخطل :

مثل القنافذ هدّاجون قد بلغت

نجران أو بلغت سوآتهم هجر

وقال عمر بن أبى ربيعة المخزومى :

ألم تسأل الأطلال والمتربّعا

ببطن حليّات دوارس أربعا

إلى الشّرى من وادى المغمّس بدّلت

معالمه وبلا ونكباء زعزعا

وربما نصبوا الفاعل والمفعول جميعا ، كما قال الراجز :

قد سالم الحيّات منه القدما

الأفعوان والشّجاع الشّجعما

وربما رفعوهما جميعا ، كما قال الشاعر :

إنّ من صاد عقعقا لمشوم

كيف من صاد عقعقان وبوم

٤٦٢

به ، نحو : «بعجبنى أن تقوم» أى : قيامك.

فخرج بـ «المسند إليه فعل» ما أسند إليه غيره ، نحو : «زيد أخوك» أو جملة ، نحو : «زيد قام أبوه» أو «زيد قام» أو ما هو فى قوة الجملة ، نحو : «زيد قائم غلامه» أو «زيد قائم» أى : هو ـ وخرج بقولنا «على طريقة فعل» ما أسند إليه فعل على طريقة فعل ، وهو النائب عن الفاعل ، نحو : «ضرب زيد».

__________________

وسيشير الشارح فى مطلع باب المفعول به إلى هذه المسألة. ونتعرض هناك للكلام عليها مرة أخرى ، إن شاء الله تعالى.

والمبيح لذلك كله اعتمادهم على انفهام المعنى ، وهم لا يجعلون ذلك قياسا ، ولا يطردونه فى كلامهم.

وقد يجر لفظ الفاعل بإضافة المصدر ، نحو قوله تعالى : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ) أو بإضافة اسم المصدر ، نحو قوله عليه الصلاة والسّلام : «من قبلة الرجل امرأته الوضوء».

وقد يجر الفاعل بالباء الزائدة. وذلك واجب فى أفعل الذى على صورة فعل الأمر فى باب التعجب ، نحو قوله تعالى.(أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ) ونحو قول الشاعر :

أخلق بذى الصّبر أن يحظى بحاجته

ومدمن القرع للابواب أن يلجا

وهو كثير غالب فى فاعل «كفى» نحو قوله تعالى : (كَفى بِاللهِ شَهِيداً) ومن القليل فى فاعل كفى تجرده من الباء ، كما فى قول سحيم الرياحى :

عميرة ودّع إن تجهّزت غازيا

كفى الشّيب والإسلام للمرء ناهيا

فقد جاء بفاعل «كفى» وهو قوله «الشيب» غير مجرور بالباء.

ويشذ جر الفاعل بالباء فيما عدا أفعل فى التعجب وفاعل كفى ، وذلك نحو قول الشاعر :

ألم ياتيك والأنباء تنمى

بما لاقت لبون بنى زياد

فالباء فى «بما» زائدة ، وما : موصول اسمى فاعل يأتى ، فى بعض تخريجات هذا البيت.

وقد يجر الفاعل بمن الزائدة إذا كان نكرة بعد نفى أو شبهه ، نحو قوله تعالى : (ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ) والفاعل حينئذ مرفوع بضمة مقدرة على الراجح ، فاحفظ ذلك كله.

٤٦٣

والمراد بشبه الفعل المذكور : اسم الفاعل ، نحو : «أقائم الزّيدان» ، والصفة المشبهة ، نحو : «زيد حسن وجهه» والمصدر ، نحو : «عجبت من ضرب زيد عمرا» واسم الفعل ، نحو : «هيهات العقيق» والظرف والجار والمجرور ، نحو : «زيد عندك أبوه» أو «فى الدار غلاماه» وأفعل التفضيل ، نحو. «مررت بالأفضل أبوه» فأبوه : مرفوع بالأفضل ، وإلى ما ذكر أشار المصنف بقوله : «كمرفوعى أتى ـ إلخ».

والمراد بالمرفوعين ما كان مرفوعا بالفعل أو بما يشبه الفعل ، كما تقدم ذكره ، ومثّل للمرفوع بالفعل بمثالين : أحدهما ما رفع بفعل متصرف ، نحو : «أتى زيد» والثانى ما رفع بفعل غير متصرف ، نحو : «نعم الفتى» ومثل للمرفوع بشبه الفعل بقوله : «منيرا وجهه».

* * *

وبعد فعل فاعل ، فإن ظهر

فهو ، وإلّا فضمير استتر (١)

__________________

(١) «وبعد» ظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم ، وبعد مضاف ، و «فعل» مضاف إليه «فاعل» مبتدأ مؤخر «فإن» شرطية «ظهر» فعل ماض ، فعل الشرط ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى فاعل «فهو» الفاء لربط الجواب بالشرط ، هو : مبتدأ ، وخبره محذوف ، والتقدير «فإن ظهر فهو المطلوب» مثلا ، والجملة فى محل جزم جواب الشرط «وإلا» الواو عاطفة ، وإن : شرطية ، ولا : نافية ، وفعل الشرط محذوف يدل عليه ما قبله ، والتقدير : وإلا يظهر «فضمير» الفاء لربط الجواب بالشرط ، ضمير : خبر لمبتدأ محذوف ، والتقدير : فهو ضمير ، والجملة من المبتدأ والخبر فى محل جزم جواب الشرط ، وجملة «استتر» مع فاعله المستتر فيه فى محل رفع صفة لضمير.

وهذا البيت يشير إلى حكمين من أحكام الفاعل ، أولهما أن الفاعل يجب أن يكون بعد الفعل ، فلا يجوز عنده تقديم الفاعل ، وهذا هو الذى ذكره الشارح

٤٦٤

حكم الفاعل التأخّر عن رافعه ـ وهو الفعل أو شبهه ـ نحو «قام الزيدان ، وزيد قائم غلاماه ، وقام زيد» ولا يجوز تقديمه على رافعه ؛ فلا تقول : «الزيدان قام» ، ولا «زيد غلاماه قائم» ، ولا «زيد قام» على أن يكون «زيد» فاعلا مقدّما ، بل على أن يكون مبتدأ ، والفعل بعده رافع لضمير مستتر ، والتقدير «زيد قام هو» وهذا مذهب البصريين ، وأما الكوفيون فأجازوا التقديم فى ذلك كله (١).

__________________

بقوله : «حكم الفاعل التأخر عن رافعه ـ إلخ» وثانى الحكمين أنه لا يجوز حذف الفاعل ، بل إما أن يكون ملفوظا به ، وإما أن يكون ضميرا مستترا ، وهذا هو الذى ذكره الشارح بقوله : «وأشار بقوله فإن ظهر ـ إلخ ، إلى أن الفعل وشبهه لا بد له من مرفوع» وليس هذا الحكم مطردا ، بل له استثناء سنذكره فيما بعد (اقرأ الهامشة ١ ص ٤٦٦).

(٢) استدل الكوفيون على جواز تقديم الفاعل على رافعه ، بوروده عن العرب فى نحو قول الزباء :

ما للجمال مشيها وئيدا

أجندلا يحملن أم حديدا

فى رواية من روى «مشيها» مرفوعا ، قالوا : ما : اسم استفهام مبتدأ ، وللجمال : جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر المبتدأ ، مشى : فاعل تقدم على عامله ـ وهو وئيدا الآتى ـ ومشى مضاف والضمير العائد إلى الجمال مضاف إليه ، ووئيدا : حال من الجمال منصوب بالفتحة الظاهرة ، وتقدير الكلام : أى شىء ثابت للجمال حال كونها وئيدا مشيها

واستدل البصريون على أنه لا يجوز تقديم الفاعل على فعله بوجهين ، أحدهما : أن الفعل وفاعله كجزأين لكلمة واحدة متقدم أحدهما على الآخر وضعا ، فكما لا يجوز تقديم عجز الكلمة على صدرها لا يجوز تقديم الفاعل على فعله ، وثانيهما : أن تقديم الفاعل يوقع فى اللبس بينه وبين المبتدأ ، وذلك أنك إذا قلت «زيد قام «وكان تقديم الفاعل جائزا لم يدر السامع أأردت الابتداء بزيد والإخبار عنه بجملة قام وفاعله المستتر ، أم أردت إسناد قام المذكور إلى زيد على أنه فاعل ، وقام حينئذ خال من الضمير؟ ولا

٤٦٥

وتظهر فائدة الخلاف فى غير الصورة الأخيرة ـ وهى صورة الإفراد ـ نحو «زيد قام» ؛ فتقول على مذهب الكوفيين : «الزيدان قام ، والزيدون قام» وعلى مذهب البصريين يجب أن تقول : «الزيدان قاما ، والزيدون قاموا» ، فتأتى بألف وواو فى الفعل ، ويكونان هما الفاعلين ، وهذا معنى قوله : «وبعد فعل فاعل».

وأشار بقوله : «فإن ظهر ـ إلخ» إلى أن الفعل وشبهه لا بدّ له من مرفوع (١) ، فإن ظهر فلا إضمار ، نحو «قام زيد» وإن لم يظهر فهو ضمير ، نحو «زيد قام» أى : هو.

* * *

__________________

شك أن بين الحالتين فرقا ؛ فإن جملة الفعل وفاعله تدل على حدوث القيام بعد أن لم يكن ، وجملة المبتدأ وخبره الفعلى تدل على الثبوت وعلى تأكيد إسناد القيام لزيد ، ولا يجوز إغفال هذا الفرق بادعاء أنه مما لا يتعلق به المقصود من إفادة إسناد القيام لزيد على جهة وقوعه منه ، وأنه مما يتعلق به غرض أهل البلاغة الذين يبحثون عن معان للتراكيب غير المعانى الأولية التى تدل عليها الألفاظ مع قطع النظر عن التقديم والتأخير ونحوهما.

وأجابوا عما استدل به الكوفيون بأن البيت يحتمل غير ما ذكروا من وجوه الإعراب ؛ إذ يجوز أن يكون «مشى ، مبتدأ ، والضمير مضاف إليه ، و «وئيدا» حال من فاعل فعل محذوف ، والتقدير : مشيها يظهر وئيدا ، وجملة الفعل المحذوف وفاعله فى محل رفع خبر المبتدأ ، ومتى كان البيت محتملا لم يصلح دليلا.

(١) بعض الأفعال لا يحتاج إلى فاعل ؛ فكان على الشارح أن يستثنيه من هذا العموم ، ونحن نذكر لك ثلاثة مواضع من هذه القبيل :

(الأول) الفعل المؤكد فى نحو قول الشاعر :

* أتاك أتاك اللّاحقون احبس احبس*

٤٦٦

وجرّد الفعل إذا ما أسندا

لاثنين أو جمع كـ «فاز الشّهدا» (١)

وقد يقال : سعدا ، وسعدوا ،

والفعل للظّاهر ـ بعد ـ مسند (٢)

مذهب جمهور العرب أنه إذا أسند الفعل إلى ظاهر ـ مثنّى ، أو مجموع ـ وجب تجريده من علامة تدل على التثنية أو الجمع ، فيكون كحاله إذا أسند إلى مفرد ؛ فتقول : «قام الزيدان ، وقام الزيدون ، وقامت الهندات» ، كما تقول : «قام زيد» ولا تقول على مذهب هؤلاء : «قاما الزيدان» ،

__________________

(الثانى) «كان» الزائدة فى نحو قول الشاعر ، وقد أنشدناه مع نظائره فى باب كان وأخواتها عند الكلام على مواضع زيادتها.

لله درّ أنو شروان من رجل

ما كان أعرفه بالدّون والسّفل

بناء على الراجح عند المحققين من أن كان الزائدة لا فاعل لها.

(الثالث) الفعل المكفوف بما ، نحو قلما ، وطالما ، وكثر ما ، بناء على ما ذهب إليه سيبويه.

ومن العلماء من يزعم أن «ما» فى نحو «طالما نهيتك» مصدرية سابكة لما بعدها بمصدر هو فاعل طال ، والتقدير : طال نهيى إياك.

(١) «وجرد» الواو عاطفة ، جرد : فعل أمر ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت «الفعل» مفعول به لجرد «إذا» ظرف تضمن معنى الشرط «ما» زائدة «أسندا» فعل ماض مبنى للمجهول ، ونائب الفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى الفعل ، والجملة من أسند ونائب فاعله فى محل جر بإضافة «إذا» إليها «لاثنين» جار ومجرور متعلق بأسند «أو جمع» معطوف على اثنين «كفاز الشهدا» الكاف جارة لقول محذوف ، وجملة الفعل والفاعل فى محل نصب بذلك المجرور المحذوف ، وأصل الكلام : وذلك كائن كقولك فاز الشهداء.

(٢) «وقد» حرف تقليل «يقال» فعل مضارع مبنى للمجهول «سعدا وسعدوا» قصد لفظهما : نائب عن الفاعل ومعطوف عليه «والفعل» الواو للحال ، والفعل : مبتدأ «للظاهر ، بعد» متعلقان بمسند الآتى «مسند» خبر المبتدأ ، والجملة من المبتدأ وخبره فى محل نصب حال.

٤٦٧

ولا «قاموا الزيدون» ، ولا «قمن الهندات» فتأتى بعلامة فى الفعل الرافع للظاهر ، على أن يكون ما بعد الفعل مرفوعا به ، وما اتصل بالفعل ـ من الألف ، والواو ، والنون. ـ حروف تدلّ على تثنية الفاعل أو جمعه ، بل على أن يكون الاسم الظاهر مبتدأ مؤخرا ، والفعل المتقدم وما اتّصل به اسما فى موضع رفع به ، والجملة فى موضع رفع خبرا عن الاسم المتأخر.

ويحتمل وجها آخر ، وهو أن يكون ما اتصل بالفعل مرفوعا به كما تقدم ، وما بعده بدل مما اتصل بالفعل من الأسماء المضمرة ـ أعنى الألف ، والواو ، والنون ـ

ومذهب طائفة من العرب ـ وهم بنو الحارث بن كعب ، كما نقل الصفّار فى شرح الكتاب ـ أن الفعل إذا أسند إلى ظاهر ـ مثنى ، أو مجموع ـ أتى فيه بعلامة تدلّ على التثنية أو الجمع (١) ؛ فتقول : «قاما الزيدان ، وقاموا الزيدون ، وقمن الهندات» فتكون الألف والواو والنون حروفا تدلّ على التثنية والجمع ، كما كانت التاء فى «قامت هند» حرفا تدلّ على التأنيث عند جميع العرب (٢) ، والاسم الذى بعد الفعل المذكور مرفوع به ، كما ارتفعت «هند» بـ «قامت» ، ومن ذلك قوله :

__________________

(١) وليس الإتيان بعلامة التثنية إذا كان الفاعل مثنى أو بعلامة الجمع إذا كان الفاعل مجموعا واجبا عند هؤلاء ، بل إنهم ربما جاءوا بالعلامة ، وربما تركوها.

(٢) الفرق بين علامة التأنيث وعلامة التثنية والجمع من ثلاثة أوجه :

الأول : أن لحاق علامة التثنية والجمع لغة لجماعة من العرب بأعيانهم ـ يقال : هم طيىء ، ويقال : هم أزدشنوءة ـ وأما إلحاق تاء التأنيث فلغة جميع العرب.

الثانى : أن إلحاق علامة التثنية والجمع عند من يلحقها جائز فى جميع الأحوال ، ولا يكون واجبا أصلا ؛ فأما إلحاق علامة التأنيث فيكون واجبا إذا كان الفاعل

٤٦٨

(١٤٢) ـ

تولّى قتال المارقين بنفسه

وقد أسلماه مبعد وحميم

__________________

ضميرا متصلا لمؤنث مطلقا ، وإذا كان الفاعل اسما ظاهرا حقيقى التأنيث ، على ما سيأتى بيانه وتفصيله فى هذا الباب.

الثالث : أن احتياج الفعل إلى علامة التأنيث أقوى من احتياجه إلى علامة التثنية والجمع ؛ لأن الفاعل قد يكون مؤنثا بدون علامة ويكون الاسم مع هذا مشتركا بين المذكر والمؤنث كزيد وهند ؛ فقد سمى بكل من زيد وهند مذكر وسمى بكل منهما مؤنث ، فإذا ذكر الفعل بدون علامة التأنيث لم يعلم أمؤنث فاعله أم مذكر ، فأما المثنى والجمع فإنه لا يمكن فيهما احتمال المفرد.

١٤٢ ـ البيت لعبيد الله بن قيس الرقيات ، يرثى مصعب بن الزبير بن العوام رضى الله عنهما ، وكان عبيد الله بن قيس هذا من شيعة الزبيريين ، وكان مصعب قد خرج على الخلافة الأموية مع أخيه عبد الله بن الزبير ، وعبيد الله بن قيس الرقيات هو الذى يقول :

كيف نومى على الفراش ولمّا

تشمل الشّام غارة شعواء؟

تذهل الشّيخ عن بنيه ، وتبدى

عن براها العقيلة العذراء

ولما قتل مصعب بن الزبير قال كلمة يرثيه بها ، منها بيت الشاهد ، وأول رثائها قوله :

لقد أورث المصرين حزنا وذلّة

قتيل بدير الجاثليق مقيم

اللغة : «المارقين» الخارجين عن الدين كما يخرج السهم من الرمية «مبعد» أراد به الأجنبى «وحميم» الصديق الذى يهتم لأمر صديقه «أسلماه» خذلاه ، ولم يعيناه.

الإعراب : «تولى» فعل ماض ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود على مصعب «قتال» مفعول به لتولى ، وقتال مضاف ، و «المارقين» مضاف إليه «بنفسه» جار ومجرور متعلق بتولى ، أو الباء زائدة ، ونفس : تأكيد للضمير المستتر فى تولى ، ونفس مضاف وضمير الغائب العائد إلى مصعب مضاف إليه «وقد» الواو للحال ، قد : حرف تحقيق «أسلماه» أسلم : فعل ماض ، والألف حرف دال على التثنية ، والهاء ضمير الغائب العائد إلى مصعب مفعول به لأسلم «مبعد» فاعل أسلم «وحميم» الواو حرف عطف ، حميم : معطوف على مبعد.

٤٦٩

وقوله :

(١٤٣) ـ

يلوموننى فى اشتراء النّخي

ل أهلى ؛ فكلّهم يعذل

__________________

الشاهد فيه : قوله «وقد أسلماه مبعد وحميم» حيث وصل بالفعل ألف التثنية مع أن الفاعل اسم ظاهر. وكان القياس على الفصحى أن يقول «وقد أسلمه مبعد وحميم». وسيأتى لهذا الشاهد نظائر فى شرح الشاهدين الآتيين رقم ١٤٣ و ١٤٤.

١٤٣ ـ هذا البيت من الشواهد التى لم يعينوا قائلها ، وبعده قوله :

وأهل الّذى باع يلحونه

كما لحى البائع الأوّل

اللغة : «يلوموننى» تقول : لام فلان فلانا على كذا يلومه لوما ـ بوزان قال يقول قولا ـ ولومة ، وملامة ، وإذا أردت المبالغة قلت : لومه ـ بتشديد الواو «يعذل» العذل ـ بفتح فسكون ـ هو اللوم ، وفعله من باب ضرب «يلحونه» تقول : لحا فلان فلانا يلحوه ـ مثل دعاه يدعوه ـ ولحاه يلحاه ـ مثل نهاه ينهاه ـ إذا لامه وعذله.

الإعراب : «يلوموننى» فعل مضارع مرفوع بثبوت النون ، والواو حرف دال على الجماعة ، والنون للوقاية ، والياء مفعول به ليلوم «فى اشتراء» جار ومجرور متعلق بيلوم ، واشتراء مضاف ، و «النخيل» مضاف إليه «أهلى» أهل : فاعل يلوم ، وأهل مضاف وياء المتكلم مضاف إليه «فكلهم» كل : مبتدأ ، وكل مضاف ، وهم : مضاف إليه «يعذل» فعل مضارع مرفوع بالضمة الظاهرة ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى كل الواقع مبتدأ ، والجملة من يعذل وفاعله فى محل رفع خبر المبتدأ.

الشاهد فيه : قوله «يلوموننى ... أهلى» حيث وصل واو الجماعة بالفعل ، مع أن الفاعل اسم ظاهر مذكور بعد الفعل ، وهذه لغة طيىء ، وقيل : لغة أزد شنوءة.

وبذكر النحاة مع هذا الشاهد والذى قبله قول الشاعر (وهو أبو فراس الحمدانى) :

نتج الرّبيع محاسنا

ألقحنها غرّ السّحائب

ومثله قول «تميم» وهو من شعراء اليتيمة :

إلى أن رأيت النّجم وهو مغرّب

وأقبلن رايات الصّباح من الشّرق

فقد وصل كل منهما نون النسوة بالفعل ، مع أن الفاعل اسم ظاهر مذكور بعده ،

٤٧٠

وقوله :

(١٤٤) ـ

رأين الغوانى الشّيب لاح بعارضى

فأعرضن عنّى بالخدود النّواضر

__________________

وهو قوله «غر السحائب» فى الأول ، و «رايات الصباح» فى الثانى ، وكذلك قول عمرو بن ملقط :

ألفيتا عيناك عند القفا

أولى فأولى لك ذا واقيه

فقد وصل ألف الاثنين بالفعل فى قوله «ألفيتا» مع كونه مسندا إلى المثنى الذى هو قوله «عيناك» وكذلك قول عروة بن الورد :

وأحقرهم وأهونهم عليه

وإن كانا له نسب وخير

فقد ألحق ألف الاثنين بالفعل فى قوله «كانا» مع كونه مسندا إلى اثنين قد عطف أحدهما على الآخر ، وذلك قوله «نسب وخير» ومثله قول الآخر :

نسيا حاتم وأوس لدن فا

ضت عطاياك يا ابن عبد العزيز

ومحل الاستشهاد فى قوله «نسيا حاتم وأوس» وهذا ـ مع ما أنشدناه من بيت عمرو بن ملقط ـ يدل على أن شأن نائب الفاعل فى هذه المسألة كشأن الفاعل ، وسيأتى لهذه المسألة شواهد أخرى فى شرح الشاهد ١٤٤ الآتى.

١٤٤ ـ البيت لأبى عبد الرحمن محمد بن عبد الله العتبى ، من ولد عتبة بن أبى سفيان.

اللغة : «الغوانى» جمع غانية ، وهى هنا التى استغنت بجمالها عن الزينة «لاح» ظهر «النواضر» الجميلة ، مأخوذ من النضرة ، وهى الحسن والرواء ، والنواضر : جمع ناضر.

الإعراب : «رأين» رأى : فعل ماض ، وهى هنا بصرية ، والنون حرف دال على جماعة الإناث «الغوانى» فاعل رأى «الشيب» مفعول به لرأى «لاح» فعل ماض ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود على الشيب «بعارضى» الباء حرف جر ، وعارض : مجرور بالباء ، والجار والمجرور متعلق بلاح ، وعارض مضاف ،

٤٧١

فـ «مبعد وحميم» مرفوعان بقوله «أسلماه» والألف فى «أسلماه» حرف يدلّ على كون الفاعل اثنين ، وكذلك «أهلى» مرفوع بقوله «يلوموننى» والواو حرف يدلّ على الجمع ، و «الغوانى» مرفوع بـ «رأين» والنون حرف يدلّ على جمع المؤنث ، وإلى هذه اللغة أشار المصنف بقوله : «وقد يقال سعدا وسعدوا ـ إلى آخر البيت».

ومعناه أنه قد يؤتى فى الفعل المسند إلى الظاهر بعلامة تدلّ على التثنية ، أو الجمع ؛ فأشعر قوله «وقد يقال» بأن ذلك قليل ، والأمر كذلك.

وإنما قال : «والفعل للظاهر بعد مسند» لينبه على أن مثل هذا التركيب

__________________

وياء المتكلم مضاف إليه «فأعرضن» فعل وفاعل «عنى ، بالخدود» جاران ومجروران متعلقان بأعرض «النواضر» صفة للخدود.

الشاهد فيه : قوله «رأين الغوانى» فإن الشاعر قد وصل الفعل بنون النسوة فى قوله «رأين» مع ذكر الفاعل الظاهر بعده ، وهو قوله «الغوانى» كما أوضحناه فى الإعراب ، ومثله قول الآخر :

فأدركنه خالاته فخذلنه

ألا إنّ عرق السّوء لا بدّ مدرك

ومن شواهد المسألة الشاهد رقم ٩٩ الذى سبق فى باب إن وأخواتها وقول الشاعر :

نصروك قومى ؛ فاعتززت بنصرهم

ولو أنّهم خذلوك كنت ذليلا

فقد ألحق علامة جمع الذكور ـ وهى الواو ـ بالفعل فى قوله «نصروك» مع أن هذا الفعل مسند إلى فاعل ظاهر بعده ، وهو قوله «قومى».

وقد ورد فى الحديث كثير على هذه اللغة ؛ فمن ذلك ما جاء فى حديث وائل بن حجر «ووقعتا ركبتاه قبل أن تقعا كفاه» وقوله «يخرجن العواتق وذوات الخدود» وقوله «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار» وسنتكلم على هذا الحديث الأخير بعد هذا كلاما خاصا (انظر الهامشة ١ فى ص ٤٧٣) ؛ لأن ابن مالك يسمى هذه اللغة «لغة يتعاقبون فيكم ملائكة».

٤٧٢

إنما يكون قليلا إذا جعلت الفعل مسندا إلى الظاهر الذى بعده ، وأما إذا جعلته مسندا إلى المتصل به ـ من الألف ، والواو ، والنون ـ وجعلت الظاهر مبتدأ ، أو بدلا من الضمير ؛ فلا يكون ذلك قليلا ، وهذه اللغة القليلة هى التى يعبر عنها النحويون بلغة «أكلونى البراغيث» ، ويعبّر عنها المصنف فى كتبه بلغة «يتعاقبون فيكم ملائكة باللّيل وملائكة بالنّهار» (١) ، فـ «البراغيث» فاعل «أكلونى» و «ملائكة» فاعل «يتعاقبون» هكذا زعم المصنف.

* * *

ويرفع الفاعل فعل أضمرا

كمثل «زيد» فى جواب «من قرا»؟ (٢)

__________________

(١) قد استشهد ابن مالك على هذه اللغة بهذا الحديث ، وذلك على اعتبار أن الواو فى «يتعاقبون» علامة جمع الذكور ، و «ملائكة» وهو الفاعل مذكور بعد الفعل المتصل بالواو ، وقد تكلم على هذا الاستدلال قوم ، من المؤلفين ، وقالوا : إن هذه الجملة قطعة من حديث مطول ، وقد روى هذه القطعة مالك رضى الله عنه فى الموطأ ، وأصله «إن لله ملائكة يتعاقبون فيكم : ملائكة بالليل ، وملائكة بالنهار» فإذا نظرت إلى الحديث المطول كانت الواو فى «يتعاقبون» ليست علامة على جمع الذكور ، ولكنها ضمير جماعة الذكور ، وهى فاعل ، وجملة الفعل وفاعله صفة لملائكة الوافع اسم إن ، و «ملائكة» المرفوع بعده ليس فاعلا ، ولكنه من جملة مستأنفة القصد منها تفصيل ما أجمل أولا ، فهو خبر مبتدأ محذوف ، ولورود هذا الكلام على هذا الاستدلال تجد الشارح يقول فى آخر تقريره : «هكذا زعم المصنف» يريد أن يبرأ من تبعته ، ولقائل أن يقول : إن الاستدلال بالقطعة التى رواها مالك بن أنس فى الموطأ ، بدون التفات إلى الحديث المطول المروى فى رواية أخرى.

(٢) «ويرفع» فعل مضارع «الفاعل» مفعول به ليرفع «فعل» فاعل يرفع «أضمرا» فعل ماض مبنى للمجهول ، ونائب الفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى فعل ، والجملة من أضمر ونائب فاعله فى محل رفع صفة لفعل «كمثل» الكاف

٤٧٣

إذا دلّ دليل على الفعل جاز حذفه ، وإبقاء فاعله ، كما إذا قيل لك : «من قرأ»؟ فتقول : «زيد» التقدير : «قرأ زيد» وقد يحذف الفعل وجوبا ، كقوله تعالى : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ) فـ «أحد» فاعل بفعل محذوف وجوبا ، والتقدير «وإن استجارك [أحد استجارك]» ، وكذلك كل اسم مرفوع وقع بعد «إن» أو «إذا» فإنه مرفوع بفعل محذوف وجوبا ، ومثال ذلك فى «إذا» قوله تعالى : (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) فـ «السماء» فاعل بفعل محذوف ، والتقدير «إذا انشقّت السّماء انشقّت» وهذا مذهب جمهور النحويين (١) ، وسيأتى الكلام على هذه المسألة فى باب الاشتغال ، إن شاء الله تعالى.

* * *

__________________

زائدة ، مثل : خبر لمبتدأ محذوف «زيد» فاعل بفعل محذوف ، والتقدير : قرأ زيد «فى جواب» جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من زيد «من» اسم استفهام مبتدأ «قرا» فعل ماض ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى من الاستفهامية الواقعة مبتدأ ، والجملة فى محل رفع خبر المبتدأ.

(١) خلاصة القول فى هذه المسألة أن فيها ثلاثة مذاهب :

أولها : مذهب جمهور البصريين ، وحاصله أن الاسم المرفوع بعد إن وإذا الشرطيتين فاعل بفعل محذوف وجوبا يفسره الفعل المذكور بعده ، وهو الذى قرره الشارح.

والمذهب الثانى : مذهب جمهور النحاة الكوفيين ، وحاصله أن هذا الاسم المرفوع بعد إن وإذا الشرطيتين فاعل بنفس الفعل المذكور بعده ، وليس فى الكلام محذوف يفسره.

المذهب الثالث : مذهب أبى الحسن الأخفش ، وحاصله أن الاسم المرفوع بعد إن وإذا الشرطيتين مبتدأ ، وأن الفعل المذكور بعده مسند إلى ضمير عائد على ذلك الاسم ، والجملة من ذلك الفعل وفاعله المضمر فيه فى محل رفع خبر المبتدأ ، فلا حذف ولا تقديم ولا تأخير.

٤٧٤

وتاء تأنيث تلى الماضى ، إذا

كان لأنثى ، كـ «أبت هند الأذى» (١)

__________________

فأما سبب هذا الاختلاف فيرجع إلى أمرين :

الأمر الأول : هل يجوز أن تقع الجملة الاسمية بعد أدوات الشرط ؛ فالجمهور من الكوفيين والبصريين على أنه لا يجوز ذلك ، ولو وقع فى الكلام ما ظاهره ذلك فهو مؤول بتقدير الفعل متصلا بالأداة ، غير أن البصريين قالوا : الفعل المقدر اتصاله بالأداة ، فعل محذوف يرشد إليه الفعل المذكور ، وأما الكوفيون فقالوا : الفعل المقدر اتصاله بالأداة هو نفس الفعل المذكور بعد الاسم. وذهب أبو الحسن الأخفش إلى أنه يجوز فى إن وإذا خاصة ـ من دون سائر أدوات الشرط ـ أن تقع بعدهما الجمل الاسمية ، وعلى هذا لسنا فى حاجة إلى تقدير محذوف ، ولا إلى جعل الكلام على التقديم والتأخير.

والأمر الثانى : هل يجوز أن يتقدم الفاعل على فعله؟ فذهب الكوفيون إلى جواز ذلك ؛ ولهذا جعلوا الاسم المرفوع بعد الأداتين فاعلا بذلك الفعل المتأخر ، وذهب جمهور البصريين إلى أن الفاعل لا يجوز أن يتقدم على رافعه ـ فعلا كان هذا الرافع أو غير فعل ـ فلهذا اضطروا إلى تقدير فعل محذوف يفسره الفعل المذكور ليرتفع به ذلك الاسم.

وقد نسب جماعة من متأخرى المؤلفين ـ كالعلامة الصبان ـ مذهب الأخفش إلى الكوفيين. والصواب ما قدمنا ذكره

وبعد ، فانظر ما يأتى لنا تحقيقه فى شرح الشاهد ١٥٧

(١) «وتاء» مبتدأ ، وتاء مضاف ، و «تأنيث» مضاف إليه «تلى» فعل مضارع ، والفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هى يعود إلى تاء تأنيث ، والجملة فى محل رفع خبر المبتدأ «الماضى» مفعول به لتلى «إذا» ظرف تضمن معنى الشرط «كان» فعل ماض ، واسمه ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى الماضى ، وخبره محذوف «لأنثى» جار ومجرور متعلق بخبر «كان» المحذوف ، أى إذا كان مسندا لأنثى «كأبت هند الأذى» الكاف جارة لقول محذوف ، والجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف : أى وذلك كاتن كقولك ؛ وما بعد الكاف فعل وفاعل ومفعول به ، والجملة فى محل نصب بذلك المقول المحذوف.

٤٧٥

إذا أسند الفعل الماضى إلى مؤنّث لحقته تاء ساكنة تدلّ على كون الفاعل مؤنثا ، ولا فرق فى ذلك بين الحقيقىّ والمجازىّ ، نحو «قامت هند ، وطلعت الشمس» ، لكن لها حالتان : حالة لزوم ، وحالة جواز ، وسيأتى الكلام على ذلك.

* * *

وإنّما تلزم فعل مضمر

متّصل ، أو مفهم ذات حر (١)

تلزم تاء التأنيث الساكنة الفعل الماضى فى موضعين :

أحدهما : أن يسند الفعل إلى ضمير مؤنث متصل ، ولا فرق فى ذلك بين المؤنث الحقيقىّ والمجازىّ ؛ فتقول : «هند قامت ، والشّمس طلعت» ، ولا تقول : «قام» ولا «طلع» فإن كان الضمير منفصلا لم يؤت بالتاء ، نحو «هند ما قام الّا هى».

الثانى : أن يكون الفاعل ظاهرا حقيقى التأنيث ، نحو «قامت هند» وهو المراد بقوله «أو مفهم ذات حر» وأصل حر حرح ، فحذفت لام الكلمة.

وفهم من كلامه أن التاء لا تلزم فى غير هذين الموضعين ؛ فلا تلزم فى المؤنث

__________________

(١) «وإنما» حرف دال على الحصر «تلزم» فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هى يعود على تاء التأنيث «فعل» مفعول به لتلزم ، وفعل مضاف ، و «مضمر» مضاف إليه «متصل» نعت لمضمر «أو مفهم» معطوف على مضمر ، وفاعل مفهم ضمير مستتر فيه ؛ لأنه اسم فاعل «ذات» مفعول به لمفهم ، وذات مضاف ، و «حر» مضاف إليه.

٤٧٦

المجازىّ الظاهر ؛ فتقول : «طلع الشمس ، وطلعت الشمس» ولا فى الجمع ، على ما سيأتى تفصيله.

* * *

وقد يبيح الفصل ترك التّاء ، فى

نحو «أتى القاضى بنت الواقف» (١)

إذا فصل بين الفعل وفاعله المؤنث الحقيقى بغير «إلا» جاز إثبات التاء وحذفها ، والأجود الإثبات ؛ فتقول : «أتى القاضى بنت الواقف» والأجود «أتت» وتقول : «قام اليوم هند» والأجود «قامت».

* * *

والحذف مع فصل بإلّا فضّلا ،

كـ «ما زكا إلّا فتاة ابن العلا» (٢)

وإذا فصل بين الفعل والفاعل المؤنث بـ «إلّا» لم يجز إثبات التاء عند الجمهور ؛ فتقول : «ما قام إلّا هند ، وما طلع إلا الشّمس» ولا يجوز

__________________

(١) «وقد» حرف تقليل «يبيح» فعل مضارع «الفصل» فاعل يبيح «ترك» مفعول به ليبيح ، وترك مضاف ، و «التاء» مضاف إليه «فى نحو» جار ومجرور متعلق بيبيح «أتى» فعل ماض «القاضى» مفعول به مقدم على الفاعل «بنت» فاعل أتى مؤخر عن المفعول ، وبنت مضاف ، «الواقف» مضاف إليه ، وجملة الفعل وفاعله ومفعوله فى محل جر بإضافة نحو إليها.

(٢) «والحذف» مبتدأ «مع» ظرف متعلق بمحذوف حال من الضمير المستتر فى «فضلا» الآتى ، ومع مضاف ، و «فصل» مضاف إليه «بإلا» جار ومجرور متعلق بفصل «فضلا» فضل : فعل ماض مبنى للمجهول ، ونائب الفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى الحذف ، والجملة فى محل رفع خبر المبتدأ «كما» الكاف جارة لقول محذوف ، وما : نافية «ره» فعل ماض «إلا» أداة استثناء ملغاة «فتاة» فاعل زكا وفتاة مضاف و «ابن» مضاف إليه. وابن مضاف ، و «العلا» مضاف إليه.

٤٧٧

«ما قامت إلّا هند» ، ولا «ما طلعت إلّا الشّمس» ، وقد جاء فى الشعر كقوله :

(١٤٥) ـ

* وما بقيت إلّا الضّلوع الجراشع*

__________________

١٤٥ ـ هذا عجز بيت لذى الرمة ـ غيلان بن عقبة ـ وصدره :

* طوى النّحز والأجراز ما فى غروضها*

وهذا البيت من قصيدة له طويلة ، أولها قوله :

أمنزلتى مىّ ، سلام عليكما!

هل الأزمن الّلائى مضين رواجع؟

وهل يرجع التّسليم أو يكشف العمى

ثلاث الأثافى والدّيار البلاقع؟

اللغة : «النحز» ـ بفتح فسكون ـ الدفع ، والنخس ، والسوق الشديد «والأجراز» جمع : جرز ـ بزنة سبب أو عنق ـ وهى الأرض اليابسة لا نبات فيها «غروضها» جمع غرض ـ بفتح أوله ـ وهو للرحل بمنزلة الحزام للسرج ، والبطان للقتب ، وأراد هنا ما تحته ، وهو بطن الناقة وما حوله ، بعلاقة المجاورة «الجراشع» جمع جرشع ـ بزنة قنفذ ـ وهو المنتفخ.

المعنى : يصف ناقته بالكلال والضمور والهزال مما أصابها من توالى السوق ، والسير فى الأرض الصلبة ، حتى دق ما تحت غرضها ، ولم يبق إلا ضلوعها المنتفخة ، فكأنه يقول : أصاب هذه الناقة الضمور والهزال والطوى بسبب شيئين : أولهما استحثائى لها على السير بدفعها وتخسها ، والثانى أنها تركض فى أرض يابسة صلبة ليس بها نبات ، وهى مما يشق السير فيه.

الإعراب : «طوى» فعل ماض «النحز» فاعل «والأجراز» معطوف على الفاعل «ما» اسم موصول : مبنى على السكون فى محل نصب مفعول به لطوى «فى غروضها» الجار والمجرور متعلق بمحذوف صلة الموصول ، وغروض مضاف ، وها :

ضمير عائد إلى الناقة مضاف إليه «فما» نافية «بقيت» بقى : فعل ماض ، والتاء للتأنيث «إلا» أداة استثناء ملغاة «الضلوع» فاعل بقيت «الجراشع» صفة للضلوع.

الشاهد فيه : قوله «فما بقيت إلا الضلوع» حيث أدخل تاء التأنيث على الفعل ؛

٤٧٨

فقول المصنف : «إن الحذف مفضّل على الإثبات» يشعر بأن الإثبات ـ أيضا ـ جائز ، وليس كذلك (١) ؛ لأنه إن أراد به أنه مفضّل عليه باعتبار أنه ثابت فى النثر والنظم ، وأن الإثبات إنما جاء فى الشعر ؛ فصحيح ، وإن أراد أن الحذف أكثر من الإثبات فغير صحيح ؛ لأن الإثبات قليل جدا.

* * *

ولحذف قد يأتى بلا فصل ، ومع

ضمير ذى المجاز فى شعر وقع (٢)

__________________

لأن فاعله مؤنث ، مع كونه قد فصل بين الفعل والفاعل بإلا ، وذلك ـ عند الجمهور ـ مما لا يجوز فى غير الشعر. ومثل هذا الشاهد قول الراجز :

ما برئت من ريبة وذمّ

فى حربنا إلا بنات العمّ

(١) إن الذى ذكره الشارح تجن على الناظم ، وإلزام له بمذهب معين قد لا يكون ذهب إليه فى هذا الكتاب ، وذلك بأن هذه المسألة خلافية بين علماء النحو ، فمنهم من ذهب إلى أن لحاق تاء التأنيث وعدم لحاقها جائزان إذا فصل بين الفعل وفاعله المؤنث بإلا ، ومع جواز الأمرين حذف التاء أفضل. وهذا هو الذى يصح أن يحمل عليه كلام الناظم ؛ لأنه صريح الدلالة عليه. ومن العلماء من ذهب إلى أن حذف التاء فى هذه الحالة أمر واجب لا يجوز العدول عنه إلا فى ضرورة الشعر ؛ من أجل أن الفاعل على التحقيق ليس هو الاسم الواقع بعد إلا ، ولكنه اسم مذكر محذوف ، وهو المستثنى منه ؛ فإذا قلت «لم يزرنى إلا هند» فإن أصل الكلام : لم يزرنى أحد إلا هند ، وأنت لو صرحت بهذا المحذوف على هذا التقدير لم يكن لك إلا حذف التاء ؛ لأن الفاعل مذكر ، وهذا هو الذى يريد الشارح أن يلزم به الناظم ؛ لأنه مذهب الجمهور ، وهو إلزام ما لا يلزم ، على أن لنا فى هذا التعليل وفى ترتيب الحكم عليه كلاما لا تتسع له هذه العجالة.

(٢) «والحذف» مبتدأ ، وجملة «قد يأتى» وفاعله فى محل رفع خبر المبتدأ «بلا فصل» جار ومجرور متعلق بيأتى «ومع» الواو عاطفة أو للاستئناف ، مع ظرف متعلق بوقع الآتى ، ومع مضاف ، و «ضمه» مضاف إليه. وضمير مضاف و «ذى» بمعنى صاحب : مضاف إليه ، وذى مضاف و «المجاز» مضاف إليه «فى شعر» جار ومجرور متعلق بوقع الآتى «وقع» فعل ماض ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود

٤٧٩

قد تحذف التاء من الفعل المسند إلى مؤنث حقيقى من غير فصل ، وهو قليل جدا ، حكى سيبويه : «قال فلانة» ، وقد تحذف التاء من الفعل المسند إلى ضمير المؤنث المجازىّ ، وهو مخصوص بالشعر ، كقوله :

(١٤٦) ـ

فلا مزنة ودقت ودقها

ولا أرض أبقل إبقالها

* * *

__________________

إلى الحذف ، وتقدير البيت : وحذف تاء التأنيث من الفعل المسند إلى مؤنث قد يجىء فى كلام العرب من غير فصل بين الفعل وفاعله ، وقد وقع ذلك الحذف فى الشعر مع كون الفاعل ضميرا عائدا إلى مؤنث مجازى التأنيث.

١٤٦ ـ البيت لعامر بن جوين الطائى ، كما نسب فى كتاب سيبويه (١ ـ ٢٤٠) وفى شرح شواهده للأعلم الشنتمرى.

اللغة : «المزنة» السحابة المثقلة بالماء «الودق» المطر ، وفى القرآن الكريم (فترى الودق يخرج من خلاله) «أبقل» أنبت البقل ، وهو النبات.

الإعراب : «فلا» نافية تعمل عمل ليس «مزنة» اسمها ، وجملة «ودقت» وفاعله المستتر العائد إلى مزنة فى محل نصب خبر لا «ودقها» ودق : منصوب على المفعولية المطلقة ، وودق مضاف وها : مضاف إليه «ولا» الواو عاطفة لجملة على جملة ، ولا : نافية للجنس تعمل عمل إن «أرض» اسم لا ، وجملة «أبقل» وفاعله المستتر فيه فى محل رفع خبرها «إبقالها» إبقال : مفعول مطلق ، وإبقال مضاف وضمير الغائبة فى محل جر مضاف إليه.

الشاهد فيه : قوله «ولا أرض أبقل» حيث حذف تاء التأنيث من الفعل المسند إلى ضمير المؤنث ، وهذا الفعل هو «أبقل» وهو مسند إلى ضمير مستتر يعود إلى الأرض ، وهى مؤنثة مجازية التأنيث ، ويروى :

* ولا أرض أبقلت أبقالها*

بنقل حركة الهمزة من «إبقالها» إلى التاء فى «أبقلت» وحينئذ لا شاهد فيه.

ومثل هذا البيت قول الأعشى ميمون بن قيس :

فإمّا ترينى ولى لمّة

فإنّ الحوادث أودى بها

٤٨٠