شرح ابن عقيل - ج ١

محمّد محيى الدين عبد الحميد

شرح ابن عقيل - ج ١

المؤلف:

محمّد محيى الدين عبد الحميد


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار العلوم الحديثة
الطبعة: ١٤
الصفحات: ٦٨٦
الجزء ١ الجزء ٢

والناصب له إما مذكور كما مثّل ، أو محذوف : جوازا ، نحو أن يقال : «متى جئت؟» فتقول : «يوم الجمعة» ، و «كم سرت؟» فنقول : «فرسخين» ، والتقدير «جئت يوم الجمعة ، وسرت فرسخين» أو وجوبا ، كما إذا وقع الظرف صفة ، نحو : «مررت برجل عندك» أو صلة ، نحو : «جاء الذى عندك» أو حالا ، نحو : «مررت بزيد عندك» أو خبرا فى الحال أو فى الأصل ، نحو «زيد عندك ، وظننت زيدا عندك» ؛ فالعامل فى هذه الظروف محذوف وجوبا فى هذه المواضع كلها ، والتقدير فى غير الصلة «استقرّ» أو «مستقر» وفى الصلة «استقرّ» ؛ لأن الصلة لا تكون إلا جملة ، والفعل مع فاعله جملة ، واسم الفاعل مع فاعله ليس بجملة (١) ، والله أعلم.

* * *

__________________

فالجلوس ـ وهو الحدث ـ هو الذى وقع أمامك ، وكذلك إذا قلت «أنا جالس أمامك» وكذلك إذا قلت «كان جلوسى أمامك» واعلم أيضا أن المصدر يدل على الحدث بدلالة المطابقة ؛ لأن كل معناه هو الحدث ، والفعل والصفة يدلان على الحدث بدلالة التضمن ؛ لأن الفعل معناه الحدث والزمان ، والصفة معناها الذات والحدث القائم بها أو الواقع منها أو عليها أو الثابت لها ، والناظم لم يصرح بأنه أراد أن الذى ينصب الظرف هو اللفظ الدال على الحدث بالمطابقة ، بل كلامه يصح أن يحمل على ما يدل بالمطابقة أو بالتضمن ، فيكون شاملا للمصدر والفعل والوصف ، وعلى هذا لا يرد اعتراض الشارح أصلا.

(١) ذكر الشارح أربعة مواضع يجب فيها حذف العامل فى الظرف ، وهى : أن يكون صفة ، أو صلة ، أو خبرا ، أو حالا ؛ وبقى عليه موضعان آخران : (الأول) أن يكون الظرف مشغولا عنه ، كقولك : يوم الجمعة سافرت فيه. والتقدير : سافرت يوم الجمعة سافرت فيه ، ولا يجوز إظهار هذا العامل ؛ لأن المتأخر عوض عنه ، ولا يجمع بين العوض والمعوض فى الكلام (الثانى) أن يكون الكلام قد سمع بحذف العامل ، نحو

٥٨١

وكلّ وقت قابل ذاك ، وما

يقبله المكان إلّا مبهما (١)

نحو الجهات ، والمقادير ، وما

صيغ من الفعل كمرمى من رمى (٢)

يعنى أن اسم الزمان يقبل النصب على الظرفية (٣) : مبهما كان ، نحو «سرت

__________________

قولك لمن يذكر أمرا قد قدم عليه العهد : حينئذ الآن ، وتقدير الكلام : قد حدث ما تذكر حين إذ كان كذا واسمع الآن ؛ فناصب «حين» عامل ، وناصب «الآن» عامل آخر ؛ فهما من جملتين لا من جملة واحدة ، والمقصود نهى المخاطب عن الخوض فيما يذكره ، وأمره بالاستماع إلى جديد.

(١) «وكل» مبتدأ ، وكل مضاف ، و «وقت» مضاف إليه «قابل» خبر المبتدأ ، وهو اسم فاعل يعمل عمل الفعل ، وفاعله ضمير مستتر فيه «ذاك» ذا : اسم إشارة مفعول به لقابل ، والكاف حرف خطاب «وما» نافية «يقبله» يقبل : فعل مضارع ، والهاء مفعول به ليقبل «المكان» فاعل يقبل «إلا» حرف استثناء دال على الحصر «مبهما» حال ، والتقدير : لا يقبل النصب على الظرفية اسم المكان فى حال من الأحوال إلا فى حال كونه مبهما.

(٢) «نحو» خبر لمبتدأ محذوف ، أى وذلك نحو ، ونحو مضاف ، و «الجهات» مضاف إليه «والمقادير» معطوف على الجهات «وما» الواو عاطفة ، ما : اسم موصول معطوف على الجهات «صيغ» فعل ماض مبنى للمجهول ، ونائب الفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى ما ، والجملة من الفعل ونائب الفاعل لا محل لها صلة «من الفعل» جار ومجرور متعلق بصيغ «كمرمى» جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف «من رمى» جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من مرمى ، وتقدير الكلام : وذلك كائن كمرمى حال كونه مأخوذا من مصدر رمى.

(٣) أنت تعلم أن الفعل يدل بالوضع على شيئين ، أحدهما الحدث ، وثانيهما الزمن ، ويدل على المكان بدلالة الالتزام ؛ لأن كل حدث يقع فى الخارج لا بد أن يكون وقوعه فى مكان ما ، فلما كانت دلالة الفعل على الزمان لأنه أحد جزءى معناه الوضعى قوى على نصب ظرف الزمان بنوعيه المبهم والمختص ، ولما كانت دلالته على المكان بالالتزام لا بالوضع لم يقو على نصب جميع الأسماء الدالة على المكان ، بل تعدى إلى المبهم منه لكونه دالا عليه فى الجملة ، وإلى اسم المكان المأخوذ من مادته ، لكونه بالنظر إلى المادة قوى الدلالة على هذا النوع.

٥٨٢

لحظة ، وساعة» أو مختصا : إما بإضافة ، نحو «سرت يوم الجمعة» ، أو بوصف نحو «سرت يوما طويلا» أو بعدد ، نحو «سرت يومين».

وأما اسم المكان فلا يقبل النصب منه إلا نوعان ؛ أحدهما : المبهم ، والثانى : ما صيغ من المصدر بشرطه الذى سنذكره ، والمبهم كالجهات [السّتّ] ، نحو : «فوق ، وتحت ، [ويمين ، وشمال] وأمام ، وخلف» ونحو هذا ، كالمقادير ، نحو «غلوة ، وميل ، وفرسخ ، وبريد» (١) تقول : «جلست فوق الدّار ، وسرت غلوة» فتنصبهما على الظرفية.

وأما ما صيغ من المصدر ، نحو «مجلس زيد ، ومقعده» فشرط نصبه ـ قياسا ـ أن يكون عامله من لفظه ، نحو «قعدت مقعد زيد ، وجلست مجلس عمرو» فلو كان عامله من غير لفظه تعين جرّه بفى ، نحو : «جلست فى مرمى زيد» ؛ فلا تقول : «جلست مرمى زيد» إلا شذوذا.

ومما ورد من ذلك قولهم : «هو منّى مقعد القابلة ، ومزجر الكلب ، ومناط الثريّا» (٢) أى : كائن مقعد القابلة ، وفى مزجر الكلب ، ومناط الثريا ، والقياس «هو منّى فى مقعد القابلة ، وفى مزجر الكلب ، وفى مناط الثريا» ولكن نصب شذوذا ، ولا يقاس عليه ، خلافا للكسائى ، وإلى هذا أشار بقوله :

__________________

(١) الغلوة ـ بفتح الغين المعجمة وسكون اللام ـ فسرها المتقدمون بالباع مائة باع ، والباع : مقدار ما بين أصابع يديك إذا مددتهما محاذيتين لصدرك ، ومنهم من قدر الغلوة برمية سهم ، ومنهم من قدرها بثلثمائة ذراع ، والميل : عشر غلوات ، فهو ألف باع ، والفرسخ : ثلاثة أميال ، والبريد : أربعة فراسخ.

(٢) يقول العرب «فلان منى مقعد القابلة» يريدون أنه قريب كقرب مكان قعود القابلة عند ولادة المرأة من المرأة. ويقولون «فلان منى مزجر الكلب» يريدون أنه بعيد كبعد المكان الذى تزجر إليه الكلب. ويراد بهذا الذم ، ويقولون «فلان منى مناط الثريا» يريدون أنه فى مكان بعيد كبعد الثريا عمن يروم أن يتصل بها ، وهذا كناية عن عدم إدراكه فى الشرف والرفعة ، يعنى أنه فريد فى شرفه ورفعة قدره.

٥٨٣

وشرط كون ذا مقيسا أن يقع

ظرفا لما فى أصله معه اجتمع (١)

أى : وشرط كون نصب ما اشتقّ من المصدر مقيسا : أن يقع ظرفا لما اجتمع معه فى أصله ، أى : أن ينتصب بما يجامعه فى الاشتقاق من أصل واحد ، كمجامعة «جلست» بـ «مجلس» فى الاشتقاق من الجلوس ؛ فأصلهما واحد ، وهو «الجلوس».

وظاهر كلام المصنف أن المقادير وما صيغ من المصدر مبهمان ؛ أما المقادير فمذهب الجمهور أنها من الظروف المبهمة ؛ لأنها ـ وإن كانت معلومة المقدار ـ فهى مجهولة الصفة ، وذهب الأستاذ أبو على الشلوبين إلى أنها ليست من [الظروف] المبهمة ؛ لأنها معلومة المقدار ، وأما ما صيغ من المصدر فيكون مبهما ، نحو «جلست مجلسا» ومختصّا ، نحو «جلست مجلس زيد».

وظاهر كلامه أيضا أن «مرمى» مشتق من رمى ، وليس هذا على مذهب البصريين ؛ فإن مذهبهم أنه مشتق من المصدر ، لا من الفعل.

وإذا تقرر أن المكان المختص ـ وهو : ما له أقطار تحويه ـ لا ينتصب ظرفا ، فاعلم أنّه سمع نصب كلّ مكان مختص مع «دخل ، وسكن» ونصب

__________________

(١) «وشرط» مبتدأ ، وشرط مضاف ، و «كون» مضاف إليه ، وكون مضاف ، و «ذا» مضاف إليه ، من إضافة المصدر الناقص إلى اسمه «مقيسا» خبر الكون الناقص «أن» مصدرية «يقع» فعل مضارع منصوب بأن ، وسكنه للوقف ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى ذا الذى هو إشارة للمأخوذ من مصدر الفعل ، و «أن» ومنصوبها فى تأويل مصدر خبر المبتدأ «ظرفا» حال من فاعل يقع المستتر فيه «لما» جار ومجرور متعلق بقوله «ظرفا» أو بمحذوف صفة له «فى أصله ، معه» جار ومجرور وظرف ، متعلقان باجتمع الآتى «اجتمع» فعل ماض ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى ما الموصولة ، والجملة من اجتمع وفاعله لا محل لها صلة «ما» المجرور محلا باللام.

٥٨٤

«الشأم» مع «ذهب» ، نحو «دخلت البيت ، وسكنت الدار ، وذهبت الشأم» واختلف الناس فى ذلك ؛ فقيل : هى منصوبة على الظرفية شذوذا ، وقيل : منصوبة على إسقاط حرف الجر ، والأصل «دخلت فى الدار» فحذف حرف الجر ؛ فانتصب الدار ، نحو «مررت زيدا» وقيل : منصوبة على التشبيه بالمفعول به (١).

* * *

__________________

(١) فى هذه المسألة أربعة أقوال للنحاة ذكر الشارح منها ثلاثة :

(الأول) أن هذه الظروف المختصة منصوبة على الظرفية كما انتصب الظرف المكانى المبهم عليها ، إلا أن ذلك شاذ لا يقاس عليه ، وهو مذهب المحققين من النحاة ، ونسبه الشلوبين للجمهور ، وصححه ابن الحاجب

(الثانى) أن هذه الأسماء منصوبة على إسقاط حرف الجر ، يعنى على الحذف والإيصال ، كما انتصب «الطريق» فى قول الشاعر (وانظر الشاهد رقم ١٥٩) :

لدن بهزّ الكفّ يعسل متنه

فيه كما عسل الطّريق الثّعلب

وهذا مذهب الفارسى ، ومن العلماء من ينسبه إلى سيبويه ، وقد اختاره ابن مالك.

(الثالث) أن هذه الأسماء منصوبة على التشبيه بالمفعول به ، وذلك لأنهم شبهوا الفعل القاصر بالفعل المتعدى ، كما نصبوا الاسم بعد الصفة المشبهة التى لا تؤخذ إلا من مصدر الفعل القاصر ، وهذا إنما يتم لو أن الأفعال التى تنصب بعدها هذه الأسماء كانت كلها قاصرة.

(الرابع) أن هذه الأسماء منصوبة على أنها مفعول به حقيقة ، وعللوا هذا القول بأن نحو «دخل» يتعدى بنفسه تارة وبحرف الجر تارة أخرى ، وكثرة الأمرين فيه تدل على أن كل واحد منهما أصل ، وهذا أيضا يتجه لو أن جميع الأفعال التى تنصب بعدها هذه الأسماء كانت من هذا النوع ؛ إلا أن يخص هذا القول بنحو «دخل» مما له حالتان تساوتا فى كثرة الورود ، بخلاف نحو «ذهب».

٥٨٥

وما يرى ظرفا وغير ظرف

فذاك ذو تصرّف فى العرف (١)

وغير ذى التّصرّف : الّذى لزم

ظرفيّة أو شبهها من الكلم (٢)

ينقسم اسم الزمان واسم المكان إلى : متصرف ، وغير متصرف ؛ فالمتصرف من ظرف الزمان أو المكان : ما استعمل ظرفا وغير ظرف ، كـ «يوم ، ومكان»

__________________

(١) «وما» اسم موصول مبتدأ أول «يرى» فعل مضارع مبنى للمجهول ، ونائب الفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى ما ، وهو المفعول الأول «ظرفا» مفعول ثان ليرى ، والجملة لا محل لها صلة الموصول «وغير» معطوف على قوله «ظرفا» «السابق» وغير مضاف ، و «ظرف» مضاف إليه «فذاك» الفاء زائدة ، واسم الإشارة مبتدأ ثان «ذو» خبر المبتدأ الثانى ، والجملة من المبتدأ الثانى وخبره فى محل رفع خبر المبتدأ الأول ، وزيدت الفاء فى جملة الخبر لأن المبتدأ موصول يشبه الشرط فى عمومه ، وذو مضاف ، و «تصرف» مضاف إليه «فى العرف» جار ومجرور متعلق بتصرف.

(٢) «وغير» مبتدأ ، وغير مضاف ، و «ذى» مضاف إليه ، وذى مضاف ، و «التصرف» مضاف إليه «الذى» اسم موصول : خبر المبتدأ «لزم» فعل ماض ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى الذى ، والجملة من لزم وفاعله لا محل لها صلة الذى «ظرفية» مفعول به للزم «أو شبهها» معطوف على مفعول لفعل محذوف تقديره : أو لزم ظرفية أو شبهها ، وليس يجوز أن يكون معطوفا على قوله «ظرفية» المذكور فى البيت ؛ إذ يصير حاصل المعنى أن من الظرف ما يلزم الظرفية وحدها ، ومنه الذى لزم شبه الظرفية وحدها ، والقسم الأول صحيح ، والقسم الثانى على هذا الذى يفيده ظاهر البيت غير صحيح ، وإنما الصحيح أن الظرف ينقسم إلى قسمين ؛ أحدهما : الذى يلزم الظرفية وحدها ولا يفارقها ؛ وهو نوع من غير المتصرف ، وثانيهما : الذى يلزم الأمرين الظرفية وشبهها ، نعنى أنه إذا فارق الظرفية لم يفارق شبهها ، وهو النوع الآخر من غير المتصرف «من الكلم» جار ومجرور متعلق بلزم أو بشبه أو بمحذوف حال من «غير ذى التصرف».

٥٨٦

فإن كل واحد منهما يستعمل ظرفا ، نحو «سرت يوما وجلست مكانا» ، ويستعمل مبتدأ ، نحو «يوم الجمعة يوم مبارك ، ومكانك حسن» وفاعلا ، نحو «جاء يوم الجمعة ، وارتفع مكانك».

وغير المتصرف هو : ما لا يستعمل إلا ظرفا أو شبهه نحو «سحر» إذا أردته من يوم بعينه (١) ، فإن لم ترده من يوم بعينه فهو متصرّف ، كقوله تعالى : (إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ) و «فوق» نحو «جلست فوق الدار» فكل واحد من «سحر : وفوق» لا يكون إلا ظرفا (٢).

والذى لزم الظرفية أو شبهها «عند [ولدن]» والمراد بشبه الظرفية أنه لا يخرج عن الظرفية إلا باستعماله مجرورا بـ «من» ، نحو «خرجت من عند زيد» ولا تجرّ «عند» إلا بـ «من» فلا يقال «خرجت إلى عنده» ، وقول العامة : «خرجت إلى عنده» خطأ (٣).

__________________

(١) مثل الشارح للظرف الذى لا يفارق النصب على الظرفية بمثالين : أحدهما «سحر» إذا أردت به سحر يوم معين ، وهذا صحيح ، وثانيهما «فوق» والتمثيل به لهذا النوع من الظرف غير صحيح ، بل الصواب أنه من النوع الثانى الذى لزم الظرفية أو شبهها ، بدليل مجيئه مجرورا بمن فى قوله تعالى : (فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ) وفى آيات أخر.

ومن الظروف التى لا تفارق النصب على الظرفية «قط» و «عوض» ظرفين للزمان أولهما للماضى وثانيهما للمستقبل ، وهما خاصان بالوقوع بعد النفى أو شبهه ، ومنها أيضا «بدل» إذا استعملته بمعنى مكان ، كما تقول : خذ هذا بدل هذا ، ومنها أيضا الظروف المركبة كقولك : أنا أزورك صباح مساء ، ومنزلتك عندنا بين بين ، ومنها أيضا «بينا» و «بينما» ومنها «مذ ، ومنذ» إذا رفعت ما بعدهما وجعلتهما خبرين عنه ، فهما مبنيان على الضم أو السكون فى محل نصب كقط وعوض.

(٢) قد قال العرب الموثوق بعربيتهم : «حتى متى» فأدخلوا حتى على ظرف

٥٨٧

وقد ينوب عن مكان مصدر

وذاك فى ظرف الزّمان يكثر (١)

ينوب المصدر عن ظرف المكان قليلا ، كقولك «جلست قرب زيد» أى : مكان قرب زيد ، فحذف المضاف وهو «مكان» وأقيم المضاف إليه مقامه ، فأعرب بإعرابه ، وهو النّصب على الظرفية ، ولا ينقاس ذلك ؛ فلا تقول «آتيك جلوس زيد» تريد مكان جلوسه.

ويكثر إقامة المصدر مقام ظرف الزمان ، نحو «آتيك طلوع الشمس ، وقدوم الحاجّ ، وخروج زيد» والأصل : وقت طلوع الشمس ، ووقت قدوم الحاج ، ووقت خروج زيد ؛ فحذف المضاف ، وأعرب المضاف إليه بإعرابه وهو مقيس فى كل مصدر (٢).

__________________

الزمان وقالوا : «إلى أين» و «إلى متى» فأدخلوا «إلى» الجارة على ظرف الزمان والمكان ، وهذا شاذ من جهة القياس ، ومعنى هذا أنه يصح لنا إدخال «حتى» الجارة على لفظ «متى» من بين أسماء الزمان ، وإدخال «إلى» الجارة على لفظ «متى» ولفظ «أين» من بين جميع الظروف ، اتباعا لهم ، ولا يجوز القياس على شىء من ذلك.

(١) «وقد» حرف تقليل «ينوب» فعل مضارع «عن مكان» جار ومجرور متعلق بينوب «مصدر» فاعل ينوب «وذاك» الواو للاستئناف ، واسم الإشارة مبتدأ ، والكاف حرف خطاب «فى ظرف» جار ومجرور متعلق بيكثر الآتى ، وظرف مضاف ، و «الزمان» مضاف إليه «يكثر» فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى ذاك ، الجملة من يكثر وفاعله فى محل رفع خبر المبتدأ.

(٢) ذكر الشارح ـ تبعا للناظم ـ واحدا مما ينوب عن الظرف ، وهو المصدر ، بين أن نيابة المصدر عن ظرف الزمان مقيسة ـ بحيث يجوز لك أن تنيب ما شئت من المصادر عن ظرف الزمان ـ وأن نيابته عن ظرف المكان سماعية يجب ألا تستعمل منه إلا ورد عن العرب ، وقد بقى عليه أشياء تنوب عن الظرف زمانيا أو مكانيا :

٥٨٨

..................................................................................

__________________

الأول : لفظ «بعض» ولفظ «كل» مضافين إلى الظرف ، نحو «بحثت عنك كل مكان ، وسرت كل اليوم» وذلك من جهة أن كلمتى بعض وكل بحسب ما تضافان إليه ، وقد مضى ـ فى باب المفعول المطلق ـ أنهما ينوبان عن المصدر فى المفعولية المطلقة.

الثانى : صفة الظرف ، نحو «سرت طويلا شرقى القاهرة».

الثالث : اسم العدد المميز بالظرف ، نحو «صمت ثلاثة أيام ، وسرت ثلاثة عشر فرسخا».

الرابع : ألفاظ معينة تنوب عن اسم الزمان ، نحو «أحقا» فى قول الشاعر :

أحقّا عباد الله أن لست صادرا

ولا واردا إلّا علىّ رقيب

وفى نحو قول الآخر :

أحقّا أن جيرتنا استقلّوا

فنيّتنا ونيّتهم فريق

وفى نحو قول الآخر :

أحقّا بنى أبناء سلمى بن جندل

تهدّدكم إيّاى وسط المجالس

وفى نحو قول الآخر :

أحقّا أن أخطلكم هجانى

* * *

٥٨٩

المفعول معه

ينصب تالى الواو مفعولا معه

فى نحو «سيرى والطّريق مسرعه» (١)

بما من الفعل وشبهه سبق

ذا النّصب ، لا بالواو فى القول الأحقّ (٢)

المفعول معه هو : الاسم ، المنتصب ، بعد واو بمعنى مع.

والناصب له ما تقدمه : من الفعل ، أو شبهه.

فمثال الفعل «سيرى والطريق مسرعة» أى : سيرى مع الطريق ، فالطريق منصوب بسيرى.

ومثال شبه الفعل «زيد سائر والطريق» ، و «أعجبنى سيرك والطّريق» فالطريق : منصوب بسائر وسيرك.

وزعم قوم أن الناصب للمفعول معه الواو ، وهو غير صحيح ؛ لأن كل حرف اختصّ

__________________

(١) «ينصب» فعل مضارع مبنى للمجهول «تالى» نائب فاعل ينصب ، وتالى مضاف و «الواو» مضاف إليه «مفعولا» حال من نائب الفاعل «معه» مع : ظرف متعلق بقوله «مفعولا» ومع مضاف والضمير مضاف إليه «فى نحو» جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف ، والتقدير : وذلك كائن فى نحو «سيرى» فعل أمر ، وياء المخاطبة فاعل ، والجملة فى محل جر بإضافة نحو إليها «والطريق» مفعول معه «مسرعة» حال من ياء المخاطبة فى قوله سيرى.

(٢) «بما» جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم «من الفعل» جار ومجرور متعلق بقوله سبق الآتى «وشبهه» الواو عاطفة ، وشبه : معطوف على الفعل ، وشبه مضاف والضمير مضاف إليه «سبق» فعل ماض ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى ما الموصولة ، والجملة لا محل لها صلة «ما» المجرورة محلا بالباء «ذا» اسم إشارة مبتدأ مؤخر «النصب» بدل أو عطف بيان أو نعت لاسم الإشارة «لا» حرف عطف «بالواو» جار ومجرور معطوف على بما «فى القول» جار ومجرور متعلق بقوله النصب السابق «الأحق» نعت للقول.

٥٩٠

بالاسم ولم يكن كالجزء منه ؛ لم يعمل إلا الجرّ ، كحروف الجر ، وإنما قيل «ولم يكن كالجزء منه» احترازا من الألف واللام ؛ فإنها اختصت بالاسم ولم تعمل فيه شيئا ؛ لكونها كالجزء منه ، بدليل تخطّى العامل لها ، نحو «مررت بالغلام»

ويستفاد من قول المصنف «فى نحو سيرى والطريق مسرعة» أن المفعول معه مقيس فيما كان مثل ذلك ، وهو : كل اسم وقع بعد واو بمعنى مع ، وتقدّمه فعل أو شبهه ، و [هذا] هو الصحيح من قول النحويين (١).

وكذلك بفهم من قوله : «بما من الفعل وشبهه سبق» أن عامله لا بدّ أن يتقدّم عليه ؛ فلا تقول : «والنيل سرت» وهذا باتفاق ، أمّا تقدّمه على مصاحبه ـ نحو «سار والنيل زيد» ـ ففيه خلاف ، والصحيح منعه (٢).

__________________

(١) يريد الشارح بالمماثلة فى قوله «مقيس فيما كان مثل ذلك ـ إلخ» المشابهة فيما ذكر ، وفى كون الاسم الذى بعد الواو مما لا يصح عطفه على ما قبل الواو.

وقد اختلف النحاة فى هذه المسألة ؛ فذهب الجمهور إلى أن كل اسم وقع بعد واو المعية وسبقته جملة ذات فعل أو شبهه ، ولم يصح عطفه على ما قبله ، فإنه يكون مفعولا معه ، وذهب ابن جنى إلى أنه لا يجوز أن يكون مفعولا معه إلا إذا كان بحيث يصح عطفه على ما قبله من جهه المعنى ، والصحيح ما ذهب إليه الجمهور ؛ لأنه قد ورد عنهم ما لا يحصى من الشواهد نثرا ونظما ، وقولهم : سرت والطريق ، واستوى الماء والخشبة ـ بمعنى ارتفع الماء حتى صار الماء مع الخشبة فى مستوى واحد ـ من غير ضرورة ولا ملجىء ما ، يقطع بذلك.

(٢) اختلف النحاة فى تقديم المفعول معه على مصاحبه : أيجوز أم لا يجوز؟ فذهب ابن جنى إلى أن ذلك جائز ، والذى يؤخذ من كلامه فى كتابه «الخصائص» وغيره أنه استدل على جوازه بأمرين ، أولهما أن المفعول معه يشبه المعطوف بالواو ، والمعطوف بالواو يجوز تقديمه على المعطوف عليه ؛ فتقول : جاء وزيد عمرو ، كما قال الشاعر :

ألا يا نخلة من ذات عرق

عليك ـ ورحمة الله ـ السّلام

٥٩١

وبعد «ما» استفهام أو «كيف» نصب

بفعل كون مضمر بعض العرب (١)

حقّ المفعول [معه] أن يسبقه فعل أو شبهه ، كما تقدّم تمثيله ، وسمع من كلام العرب نصبه بعد «ما» و «كيف» الاستفهاميتين من غير أن يلفظ بفعل ،

__________________

والشىء إذا أشبه الشىء أخذ حكمه ، وثانى الاستدلالين أنه ورد عن العرب المحتج بكلامهم تقديم المفعول معه على مصاحبه كما فى قول يزيد بن الحكم الثقفى من قصيدة يعاتب فيها ابن عمه :

جمعت وفحشا غيبة ونميمة

ثلاث خصال لست عنها بمرعوى

فزعم أن الواو فى قوله «وفحشا» واو المعية ، والاسم بعده منصوب على أنه مفعول معه ، ومن ذلك أيضا قول بعض الفزاريين ، وهو من شعراء الحماسة :

أكنيه حين أناديه لأكرمه

ولا ألقّبه والسّوءة اللّقبا

فزعم أن الواو فى قوله «والسوءة» واو المعية ، والاسم بعدها منصوب على أنه مفعول معه تقدم على مصاحبه وهو قوله «اللقبا» وأصل الكلام عنده : ولا ألقبه اللقبا والسوءة.

وليس ما ذهب إليه ابن جنى بسديد ، ولا ما استدل به صحيح ، أما تشبيه المفعول معه بالمعطوف فلئن سلمنا له شبهه به لم نسلم أن المعطوف يجوز أن يتقدم على المعطوف عليه ، بل كونه تابعا ينادى بأن ذلك ممتنع ، فأما البيت الذى أنشده شاهدا على تقديم المعطوف فضرورة أو مؤول ، وأما البيتان اللذان أنشدهما على جواز تقديم المفعول معه على مصاحبه فبعد تسليم صحة الرواية يجوز أن تكون الواو فيهما للعطف وقدم المعطوف ضرورة.

(١) «وبعد» ظرف متعلق بقوله «نصب» الآتى ، وبعد مضاف ، و «ما» قصد لفظه : مضاف إليه ، وما مضاف و «استفهام» مضاف إليه من إضافة الدال إلى المدلول «أو» عاطفة «كيف» معطوف على «ما» السابق «نصب» فعل ماض بفعل» جار ومجرور متعلق بنصب ، وفعل مضاف ، و «كون» مضاف إليه مضمر» نعت لفعل «بعض» فاعل نصب ، وبعض مضاف ، و «العرب» مضاف إليه.

٥٩٢

نحو «ما أنت وزيدا (١)» و «كيف أنت وقصعة من ثريد» فخرجه النحويون على أنه منصوب بفعل مضمر مشتقّ من الكون ، والتقدير : ما تكون وزيدا ، وكيف تكون وقصعة من ثريد ، فزيدا وقصعة : منصوبان بـ «تكون» المضمرة.

* * *

والعطف إن يمكن بلا ضعف أحقّ

والنّصب مختار لدى ضعف النّسق (٢)

__________________

(١) ومن ذلك قول أسامة بن الحارث بن حبيب الهذلى :

ما أنت والسّبر فى متلف

يبرّح بالذّكر الضّابط

الشاهد فى قوله «ما أنت والسير» حيث نصب «السير» على أنه مفعول معه من غير أن يتقدمه فعل ، ومن ذلك قول الآخر ، وهو من شواهد سيبويه :

أتوعدنى بقومك يابن حجل

أشابات يخالون العبادا

بما جمّعت من حضن وعمرو

وما حضن وعمرو والجيادا؟

الشاهد فى قوله «وما حضن والجيادا» حيث نصب «الجياد» على أنه مفعول معه من غير أن يتقدم عليه فعل أو شبهه.

ومع ورود ذلك فى كلام العرب المحتج به فإنه قليل ، والكثير فى مثل ذلك رفع ما بعد الواو على أنه معطوف على ما قبله ، كما قال زياد الأعجم :

تكلّفنى سويق التّمر جرم

وما جرم وما ذاك السّويق؟

وكما قال أوس بن حجر :

عددت رجالا من قعين تفجّسا

فما ابن لبينى والتّفجّس والفخر؟

وكما قال المخبل يهجو الزبرقان بن بدر :

يا زبرقان أخابنى خلف

ما أنت ـ ويب أبيك ـ والفخر؟

(٢) «والعطف» مبتدأ «إن» شرطية «يمكن» فعل مضارع فعل الشرط ،

٥٩٣

والنّصب إن لم يجز العطف يجب

أو اعتقد إضمار عامل تصب (١)

الاسم الواقع بعد هذه الواو : إما أن يمكن عطفه على ما قبله ، أولا ، فإن أمكن عطفه فإما أن يكون بضعف ، أو بلا ضعف.

فإن أمكن عطفه بلا ضعف فهو أحقّ من النصب ، نحو «كنت أنا وزيد كالأخوين» فرفع «زيد» عطفا على المضمر المتصل أولى من نصبه مفعولا معه ؛ لأن العطف ممكن للفصل ، والتشريك أولى من عدم التشريك ، ومثله «سار زيد وعمرو» فرفع «عمرو» أولى من نصبه.

وإن أمكن العطف بضعف فالنصب على المعية أولى من التشريك (٢) ؛

__________________

وجواب الشرط محذوف «بلا ضعف» الباء حرف جر ، ولا : اسم بمعنى غير مجرور بالباء ، وقد ظهر إعرابه على ما بعده بطريق العارية ، ولا مضاف وضعف : مضاف إليه مجرور بكسرة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة العارية ، والجار والمجرور متعلق بيمكن «أحق» خبر المبتدأ ، وجملة الشرط وجوابه معترضة بين المبتدأ وخبره «والنصب مختار» مبتدأ وخبره «لدى» ظرف متعلق بمختار ، ولدى مضاف و «ضعف» مضاف إليه ، وضعف مضاف ، و «النسق» مضاف إليه.

(١) «النصب» مبتدأ «إن» شرطية «لم» نافية جازمة «يجز» فعل مضارع فعل الشرط «العطف» فاعل يجز ، وجواب الشرط محذوف «يجب» فعل مضارع وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى النصب. والجملة فى محل رفع خبر المبتدأ «أو اعتقد» أو : عاطفة ، اعتقد : فعل أمر ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت «إضمار» مفعول به لاعتقد ، وإضمار مضاف و «عامل» مضاف إليه «تصب» فعل مضارع مجزوم فى جواب الأمر الذى هو اعتقد ، ويجوز أن يكون يجب جواب الشرط ، وتكون جملة الشرط وجوابه ـ على هذا ـ فى محل رفع خبر المبتدأ.

(٢) الضعف الذى لا يتأتى معه العطف إما أن يكون لفظيا : أى عائدا إلى اللفظ بحسب ما تقتضيه صناعة الإعراب ، وإما أن يكون معنويا. وقد مثل الشارح للضعف اللفظى ، ولم يمثل للضعف المعنوى : أى الذى يرجع إلى ما يريد المتكلم من المعنى ، ومن أمثلته قولهم «لو تركت الناقة وفصيلها لرضعها» وبيانه أنك لو عطفت الفصيل

٥٩٤

لسلامته من الضعف ، نحو «سرت وزيدا» ؛ فنصب «زيد» أولى من رفعه ؛ لضعف العطف على المضمر المرفوع المتصل بلا فاصل.

وإن لم يمكن عطفه تعيّن النصب : على المعيّة ، أو على إضمار فعل [يليق به] ، كقوله :

(١٦٦) ـ

*علفتها تبنا وماء باردا*

__________________

على الناقة لصار المعنى أن رضاع الفصيل للناقة متسبب عن مجرد تركك إياهما ، وليس كذلك ، فيلزمك أن تجعل التقدير على العطف : لو تركت الناقة وتركت فصيلها يرضعها ـ تعنى يتمكن من رضاعها ـ لرضعها ، فأما نصب هذا على أنه مفعول معه فيصير به المعنى : لو تركت الناقة مع فصيلها لرضعها ، وهذا صحيح مؤد إلى المقصود ؛ لأن المعية يراد بها المعبة حسا ومعنى ؛ فالتكلف الذى استوجبه العطف لتصحيح المعنى هو الذى جعله ضعيفا ، ومثله قول الشاعر :

إذا أعجبتك الدّهر حال من امرىء

فدعه وواكل أمره واللّياليا

إذ لو عطفت «الليالى» على «أمره» لكنت محتاجا إلى تقدير : واكل أمره لليالى وواكل الليالى لأمره ، فأما جعل الواو بمعنى مع ونصب الاسم على أنه مفعول معه فلا يحوج إلى شىء.

١٦٦ ـ هذا البيت من الشواهد التى لم يذكر العلماء نسبتها إلى قائل معين ، وقد اختلفوا فى تتمته ؛ فيذكر بعضهم أن الشاهد صدر بيت ، وأن تمامه :

*حتّى شتت همّالة عيناها*

ويرويه العلامة الشيرازى عجز بيت ، ويروى له صدرا هكذا :

*لمّا حططت الرّحل عنها واردا*

اللغة : «شتت» يروى فى مكانه «بدت» وهما بمعنى واحد «همالة» اسم مبالغة من هملت العين ؛ إذا انهمرت بالدموع.

الإعراب : «علفتها» فعل وفاعل ومفعول أول «تبنا» مفعول ثان «وماء» ظاهره أنه معطوف على ما قبله ، وستعرف ما فيه «باردا» صفة للمعطوف.

٥٩٥

فماء : منصوب على المعية ، أو على إضمار فعل يليق به ، والتقدير «وسقيتها ماء باردا» وكقوله تعالى : (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ) فقوله «وشركاءكم» لا يجوز عطفه على «أمركم» ؛ لأن العطف على نية تكرار العامل ؛ إذ لا يصح أن يقال «أجمعت شركائى» وإنما يقال «أجمعت أمرى ، وجمعت شركائى» فشركائى : منصوب على المعية ، والتقدير ـ والله أعلم ـ فأجمعوا أمركم مع شركائكم ، أو منصوب بفعل يليق به ، والتقدير «فأجمعوا أمركم ، واجمعوا شركاءكم».

* * *

__________________

الشاهد فيه : قوله «وماء» فإنه لا يمكن عطفه على ما قبله ، لكون العامل فى المعطوف عليه لا يتسلط على المعطوف ، إذ لا يقال «علفتها ماء» ومن أجل ذلك كان نصبه على أحد ثلاثه أوجه : إما بالنصب على المعية ، وإما على تقدير فعل يعطف على «علفتها» والتقدير : علفتها تبنا وسقيتها ماء ، وإما على أن تضمن «علفتها» معنى «أنلتها» أو «قدمت لها» ونحو ذلك ليستقيم الكلام ، وقد ذكر الشارح فى البيت والآية الكريمة وجهين من هذه الثلاثة.

وسيأتى لهذا نظائر نذكرها مع شرح الشاهد (رقم ٢٩٩) فى مباحث عطف النسق ، إن شاء الله تعالى.

٥٩٦

الاستثناء

ما استثنت «الّا» مع تمام ينتصب

وبعد نفى أو كنفى انتخب (١)

إتباع ما اتّصل ، وانصب ما انقطع

وعن تميم فيه إبدال وقع (٢)

حكم المستثنى بـ «إلّا» النّصب ، إن وقع بعد تمام الكلام لموجب ، سواء كان متصلا أو منقطعا ، نحو «قام القوم إلا زيدا ، وضربت القوم إلا زيدا ، ومررت بالقوم إلا زيدا ، وقام القوم إلا حمارا ، وضربت القوم إلا حمارا ،

__________________

(١) «ما» اسم موصول مبتدأ «استثتت» استثنى : فعل ماض ، والتاء للتأنيث «إلا» قصد لفظه : فاعل استثنت ، والجملة من استثنت وفاعله لا محل لها صلة ، والعائد إلى الموصول محذوف ، والتقدير : ما استثنته إلا «مع» ظرف متعلق باستثنت ، ومع مضاف و «تمام» مضاف إليه «ينتصب» فعل مضارع ، وفاعله ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى ما الموصولة الواقعة مبتدأ ، والجملة من ينتصب وفاعله فى محل رفع خبر المبتدأ «وبعد» ظرف متعلق بقوله «انتخب» الآتى ، وبعد مضاف ، و «نفى» مضاف إليه «أو» حرف عطف «كنفى» الكاف اسم بمعنى مثل معطوف على نفى ، والكاف مضاف ونفى مضاف إليه «انتخب» فعل ماض مبنى للمجهول.

(٢) «إتباع» نائب فاعل لانتخب فى آخر البيت السابق ، وإتباع مضاف ، و «ما» اسم موصول : مضاف إليه ، وجملة «اتصل» وفاعله المستتر العائد إلى ما لا محل لها صلة «وانصب» فعل أمر ، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت «ما» اسم موصول : مفعول به لا نصب ، وجملة «انقطع» وفاعله المستتر فيه العائد إلى ما لا محل لها صلة «وعن تميم» جار ومجرور متعلق بقوله «وقع» الآتى «فيه» جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم «إبدال» مبتدأ مؤخر ، وجملة «وقع» من الفعل الماضى وفاعله المستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى إبدال فى محل رفع نعت لإبدال ، والتقدير : إبدال كائن فى المنقطع وقع عن تميم ، ويجوز أن تجعل جملة «وقع» وفاعله المستتر فيه العائد إلى إبدال خبرا عن المبتدأ ، وعلى هذا يكون قوله «عن تميم» وقوله «فيه» جار بن ومجرورين يتعلق كل منهما بوقع ، والتقدير : وإبدال واقع فى المنقطع عن تميم.

٥٩٧

ومررت بالقوم إلا حمارا» فـ «زيدا» فى هذه المثل منصوب على الاستثناء ، وكذلك «حمارا».

والصحيح من مذاهب النحويين أن الناصب له ما قبله بواسطة «إلا» ، واختار المصنف ـ فى غير هذا الكتاب ـ أن الناصب له «إلّا» وزعم أنه مذهب سيبويه (١) وهذا معنى قوله «ما استثنت إلا مع تمام ينتصب» أى : أنه ينتصب الذى استثنته «إلا» مع تمام الكلام ، إذا كان موجبا.

__________________

(١) للنحاة فى ناصب الاسم الواقع بعد «إلا» خلاف طويل ، غير أن أشهر مذاهبهم فى ذلك تتلخص فى أربعة أقوال :

الأول : أن الناصب له هو الفعل الواقع فى الكلام السابق على «إلا» بواسطتها ، فيكون عمل «إلا» هو تعدية ما قبلها إلى ما بعدها ، كحرف الجر الذى يعدى الفعل إلى الاسم ، غير أن هذه التعدية بالنظر إلى المعنى ، وهذا مذهب السيرافى ، ونسبه قوم منهم ابن عصفور وغيره إلى سيبويه ، وقال الشلوبين : إنه مذهب المحققين.

الثانى : أن الناصب له هو نفس «إلا» وهو مذهب ابن مالك الذى صرح به فى غير هذا الكتاب ، وعبارته فى الألفية تشير إليه ، أفلا ترى أنه يقول فى مطلع الباب «ما استئنت إلا» ثم يقول بعد أبيات «وألغ إلا» وهى عبارة يدل ظاهرها على أن لمراد إلغاؤها عن العمل

الثالث : أن الناصب له هو الفعل الواقع قبل «إلا» باستقلاله ، لا بواسطتها كالمذهب الأول

الرابع : أن الناصب له فعل محذوف تدل عليه «إلا» والتقدير : أستثنى زيدا ، مثلا

ويرد على المذهبين الأول والثالث أنه قد لا يكون فى الكلام المتقدم على «إلا» ما يصلح لعمل النصب من فعل أو نحوه ، تقول : إن القوم إخوتك إلا زيدا ، فكيف تقول : إن العامل الذى قبل «إلا» هو الناصب لما بعدها؟ سواء أقلنا : إنه ناصبه على الاستقلال أم قلنا : إنه ناصبه بواسطة «إلا».

ويمكن أن يجاب على ذلك بأننا فى هذا المثال وما أشبهه نلتزم تأويل ما قبل «إلا» بما يصلح لعمل النصب ، وهذا الجواب ـ مع إمكانه ـ ضعيف ، للتكلف الذى يلزمه.

٥٩٨

فإن وقع بعد تمام الكلام الذى ليس بموجب ـ وهو المشتمل على النفى ، أو شبهه ، والمراد بشبه النفى : النهى ، والاستفهام ـ فإما أن يكون الاستثناء متصلا ، أو منقطعا ، والمراد بالمتصل : أن يكون المستثنى بعضا مما قبله ، وبالمنقطع : ألا يكون بعضا مما قبله.

فإن كان متصلا ، جاز نصبه على الاستثناء ، وجاز إتباعه لما قبله فى الإعراب ، وهو المختار (١) ، والمشهور أنه بدل من متبوعه ، وذلك نحو «ما قام أحد إلا زيد ، وإلّا زيدا ، ولا يقم أحد إلا زيد وإلّا زيدا ، وهل قام أحد إلا زيد؟ وإلا زيدا ، وما ضربت أحدا إلا زيدا ، ولا تضرب أحدا إلا زيدا ، وهل ضربت أحدا إلا زيدا؟» ؛ فيجوز فى «زيدا» أن يكون منصوبا على الاستثناء ، وأن يكون منصوبا على البدلية من «أحد» ، وهذا هو المختار ،

__________________

(١) أطلق الشارح ـ رحمه الله! ـ اختيار إتباع المستثنى منه إذا كان الكلام تاما منفيا ، وليس هذا الإطلاق بسديد ؛ بل قد يختار النصب على الاستثناء ، ولذلك ثلاثة مواضع :

الأول ، وسيأتى فى كلامه : أن يتقدم المستثنى على المستثنى منه ، نحو قولك : مازارنى إلا زيدا أحد ؛ فالنصب على الاستثناء هنا أرجح من الرفع على البدلية ؛ لئلا يلزم تقدم التابع على المتبوع ، أو تغير الحال ؛ فيصير التابع متبوعا ، والمتبوع تابعا.

الثانى : أن يفصل بين المستثنى والمستثنى منه بفاصل طويل ، نحو أن تقول : لم يزرنى أحد أثناء مرضى مع انقضاء زمن طويل إلا زيدا ، واختيار النصب على الاستثناء فى هذا الموضع لأن الإتباع إنما يختار للتشاكل بين التابع والمتبوع ، وهذا التشاكل لا يظهر مع طول الفصل بينهما ، ونازع فى هذا أبو حيان.

الثالث : أن يكون الكلام جوابا لمن أتى بكلام آخر يجب فيه نصب المستثنى ، وذلك كأن يقول لك قائل : نجح التلاميذ إلا عليا ، فتقول له «ما نجحوا إلا عليا» وإنما اختير النصب على الاستثناء ههنا ليتم به التشاكل بين الكلام الأول وما يراد الجواب به عنه.

٥٩٩

وتقول : «ما مررت بأحد إلّا زيد ، وإلا زيدا ، ولا تمرر بأحد إلا زيد ، وإلّا زيدا ، وهل مررت بأحد إلا زيد؟ وإلا زيدا».

وهذا معنى قوله : «وبعد نفى أو كنفى انتخب إتباع ما اتصل» أى : اختير إتباع الاستثناء المتصل ، إن وقع بعد نفى أو شبه نفى.

وإن كان الاستثناء منقطعا تعيّن النصب عند جمهور العرب ؛ فتقول : «ما قام القوم إلا حمارا» ، ولا يجوز الإتباع ، وأجازه بنو تميم ؛ فتقول : «ما قام القوم إلا حمار ، وما ضربت القوم إلا حمارا ، وما مررت بالقوم إلا حمار».

وهذا هو المراد بقوله : «وانصب ما انقطع» أى : انصب الاستثناء المنقطع إذا وقع بعد نفى أو شبهه عند غير بنى تميم ، وأما بنو تميم فيجيزون إتباعه.

فمعنى البيتين أن الذى استثنى بـ «إلّا» ينتصب ، إن كان الكلام موجبا ووقع بعد تمامه ، وقد نبّه على هذا التقييد بذكره حكم النفى بعد ذلك ، وإطلاق كلامه يدلّ على أنه ينتصب ، سواء كان متصلا أو منقطعا.

وإن كان غير موجب ـ وهو الذى فيه نفى أو شبه نفى ـ انتخب ـ أى : اختير ـ إتباع ما اتصل ، ووجب نصب ما انقطع عند غير بنى تميم ، وأما بنو تميم فيجيزون إتباع المنقطع.

* * *

وغير نصب سابق فى النّفى قد

يأتى ، ولكن نصبه اختر إن ورد (١)

__________________

(١) «وغير» مبتدأ ، وغير مضاف و «نصب» مضاف إليه ، ونصب مضاف و «سابق» مضاف إليه «فى النفى» جار ومجرور متعلق بقوله «يأتى» الآتى «قد» حرف دال على التقليل ، وجملة «يأتى» وفاعله المستتر فيه جوازا تقديره هو يعود إلى

٦٠٠