مصابيح الظلام - ج ٥

محمّد باقر الوحيد البهبهاني

مصابيح الظلام - ج ٥

المؤلف:

محمّد باقر الوحيد البهبهاني


المحقق: مؤسسة العلامة المجدّد الوحيد البهبهاني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة العلامة المجدّد الوحيد البهبهاني
الطبعة: ١
ISBN: 964-94422-5-1
ISBN الدورة:
964-94422-0-0

الصفحات: ٥٤٨

الكلب» (١).

والجواب أنّ الأوّل عامي لا يعارض ما مرّ ، والثاني محمول على الاستحباب ، جمعا بينها وبين ما دلّ على الثلاث في الخمر ، كما مرّ (٢).

فكيف يعارض ما مرّ؟ فيحمل الأوّل أيضا على الاستحباب جمعا ومسامحة ، وهو أحوط أيضا.

وينبغي التنبيه على امور :

الأوّل : عن الصدوقين : أنّه إن وقع كلب في إناء ماء ، أو شرب منه. اهريق الماء ، وغسل الإناء ثلاث مرّات ، مرّة بالتراب ومرّتين بالماء (٣) ، ومستندهما عبارة «الفقه الرضوي» حيث قال : «فإن وقع في الماء وزغ اهريق ذلك الماء ـ أي ماء الإناء ـ وإن وقع كلب أو شرب منه ، اهريق الماء وغسل الإناء ثلاث مرّات ، مرّة بالتراب ومرّتين بالماء ، ثمّ يجفف» (٤).

الثاني : نقل عن العلّامة رحمه‌الله في «النهاية» أنّه قوّى إلحاق اللعاب الحاصل بغير الولوغ به ، واستقرب ذلك في عرقه وسائر رطوباته وأجزائه وفضلاته ، محتجّا بأنّ فمه أنظف من غيره ، ولهذا كانت نكهته أطيب من غيره من الحيوانات (٥).

وفيه ما فيه ، ولذا نقل عنه أنّه رجع فيه أيضا إلى القول بما هو المشهور ، وهو

__________________

(١) لم نعثر عليه في كتب الأخبار ، لكن نقل في مدارك الأحكام : ٢ / ٣٩١.

(٢) راجع! الصفحة : ٧٥ من هذا الكتاب.

(٣) نقل عن والد الصدوق في منتهى المطلب : ٣ / ٣٣٤ ، المقنع : ٣٧.

(٤) الفقه المنسوب للإمام الرضا عليه‌السلام : ٩٣.

(٥) نهاية الإحكام : ١ / ٢٩٤.

٨١

قصر الحكم على الولوغ واللطع (١).

أمّا الأوّل ، فللنص.

وأمّا الثاني ، فبطريق أولى ، لأنّ لسانه في الأوّل أصاب الماء لا الإناء ، ومع هذا يجب غسل الإناء ثلاثا اولاهن بالتراب ، فكيف إذا أصاب نفس الإناء؟ ويظهر من هذا أنّه لو أصابه من غير لطع أو ولوغ ، يكون الحكم كذلك ، وكذا لو ولغ في الماء المضاف والدهن وأمثاله ، لأنّ هذه الامور أقوى وأشدّ انفعالا من الماء ، ولا شكّ في كون جميع ما ذكر أحوط. بل لا يخلو عن قوّة ، لأنّ الظاهر أنّ أهل العرف يفهمونه من النص بالدلالة الالتزامية ، فلاحظ وتأمّل.

الثالث : ماء الولوغ لو أصاب الثوب أو الجسد ، يكون حكمه حكم سائر النجاسات غير البول وقد ظهر.

وإذا أصاب الإناء ، فهل يكون حكمه حكم سائر النجاسات غير الخمر والمسكر والميتة والولوغ أم يكون حكمه حكم الولوغ؟ اختار المحقّق الأوّل ، لعدم الدليل على أزيد منه (٢). والعلّامة في «النهاية» الثاني ، معللا بوجود الرطوبة اللعابية (٣) ، يعني لا فرق في مماسّة لسانه بذلك الماء بين كونه أوّلا في الإناء ثمّ مسه ، أو مسه وصار في الإناء ، إذ يصدق على هذا الماء أنّه ماء ولغ فيه الكلب.

وفي صحيحة البقباق السابقة وقع السؤال عن فضل الحيوانات ، فقال : «لا بأس» إلى أن انتهى إلى الكلب ـ يعني فضل الكلب وسؤره ـ فقال : «رجس نجس» (٤). إلى آخره ، يعني ذلك الفضل والسؤر.

__________________

(١) مختلف الشيعة : ١ / ٤٩٦.

(٢) المعتبر : ١ / ٤٦٠.

(٣) نهاية الإحكام : ١ / ٢٩٥.

(٤) وسائل الشيعة : ١ / ٢٢٦ الحديث ٥٧٤.

٨٢

فالحكم دائر معه ، سيّما إذا صبّ جميع الماء الذي لاقاه في الإناء الأوّل في الإناء الثاني ، إذ مدخليّة كونه في الإناء الأوّل في الحكم المذكور مع كون الحكم لنفس الفضلة والسؤر فيه ما فيه ، فتأمّل جدّا!

الرابع : غسالة الولوغ هل يكون حكمها حكم الولوغ على القول بنجاسته أم لا؟ فيه تأمّل ظاهر.

وفرّق المحقّق الشيخ علي رحمه‌الله بين الصورة التي وقع التعفير أوّلا ثمّ بعده الغسل ، أو وقع الغسل قبل التعفير والغسالة من ذلك الغسل ، بأنّها في الصورة الاولى حكمها حكم سائر النجاسات ، لوقوع التعفير ، بخلاف الصورة الثانية (١).

ووافقه في ذلك بعض العامّة ، فأوجب غسله ستّا (٢) ، بناء على قولهم بوجوب غسله سبعا ، مثل ما قال ابن الجنيد (٣) رحمه‌الله ، ومن الثانية خمسا ، ومن الثالثة أربعا وهكذا ، وفيه ما فيه.

الخامس : هل يكون التعفير بالتراب فقط ، بأن يدلك الإناء به ، أو يمزجه بالماء إلى أن يحصل شبه الغسل؟ ظاهر المشهور والنصّ هو الأوّل (٤) ، واختار جمع الثاني ، منهم ابن إدريس والراوندي (٥) ، ومال إليه في «المنتهى» (٦).

حجّة الأوّل : أنّ لفظ «التراب» حقيقة في التراب لا الممزوج بالماء.

وحجّة الثاني : أنّ في النص : «اغسله بالتراب» ، والغسل لا يتحقّق إلّا

__________________

(١) جامع المقاصد : ١ / ١٩٠.

(٢) المغني لابن قدامة : ١ / ٤٦.

(٣) نقل عنه العلّامة في مختلف الشيعة : ١ / ٤٩٥.

(٤) النهاية للشيخ الطوسي : ٥٣ ، مختلف الشيعة : ١ / ٤٩٧ ، ذكرى الشيعة : ١ / ١٢٥.

(٥) السرائر : ١ / ٩١ ، نقل عن الراوندي في ذكرى الشيعة : ١ / ١٢٥.

(٦) منتهى المطلب : ٣ / ٣٣٩.

٨٣

في المائع ، والمائع وإن لم يكن ترابا ، إلّا أنّه إذا تعذّرت الحقيقة فأقرب المجازات حجّة.

وفيه ، أنّ الغسل بالتراب لا يمكن حقيقة ، فإمّا أن يكون المراد شبه الغسل وهو الدلك ، ويكون التراب مستعملا في معناه الحقيقي ، أو يرتكب المجاز في التراب ، وفي الغسل به أيضا.

والأوّل أولى ، لأصالة الحقيقة إلّا فيما ثبت خلافه ، والشهيد الثاني اعتبر في الإجزاء مع المزج عدم خروج التراب بذلك عن اسمه (١) ، فالتراب الحقيقي عنده أعم من الممزوج بالماء وغيره.

وفيه خروج عن المتبادر من لفظ «التراب» ، وعن أقرب المجاز إلى الغسل الحقيقي جميعا.

ولا ريب في أنّ الاحتياط في الجمع ، بل ربّما يشكل حصول العلم بالطهارة بغيره.

السادس : إذا ولغ فيه كلاب يتداخل ولوغها ، ويكفي ثلاثة أغسال اولاهن بالتراب ، وكذا إذا ولغ كلب ولوغا متعدّدا.

وكذا إذا ولغ وأصابه نجاسة اخرى غير الخمر وولوغ الخنزير وما ماثلهما.

السابع : لا بدّ أن يكون الغسل بالماء الحقيقي ، ولا يضرّه مزج ما لا يخرجه عن الحقيقة.

أمّا الماء المجازي فلا يجزي ، لكون الماء المذكور في الصحيحة (٢) حقيقة في الحقيقي ، وإن قلنا بصحّة غسل النجاسة بغيره أيضا.

__________________

(١) مسالك الأفهام : ١ / ١٣٣.

(٢) تهذيب الأحكام : ١ / ٢٢٥ الحديث ٦٤٦ ، وسائل الشيعة : ١ / ٢٢٦ الحديث ٥٧٤.

٨٤

الثامن : الغسل الأوّل لا بدّ أن يكون بالتراب ، كما ورد النص (١) ، وأفتى به الأصحاب (٢).

ونقل عن ابن الجنيد رحمه‌الله تجويزه بغير التراب ممّا قام مقامه أيضا (٣). ولم نر له وجها ، ولعلّه قال به للقياس ، وفيه ما فيه.

التاسع : نقل عن الشيخ رحمه‌الله في «المبسوط» أنّه قال : لو لم يوجد التراب أجزأ مكانه الإشنان وما يجري مجراه (٤). ولم نعلم مأخذه ، بل إذا لم يوجد نوقف تطهيره إلى أن يوجد.

وربّما وجّه بأنّ الإشنان وما يجري مجراه أبلغ في التنظيف (٥). وفيه ما فيه ، لأنّ الطهارة الشرعيّة حكم شرعي يتوقّف على النص منه ، والمنصوص هو التراب.

مع أنّه لو تمّ ما ذكره لجاز بالأشنان وغيره مع وجود التراب أيضا ، وفيه ما فيه.

العاشر : ذكر الصدوقان والمفيد بعد الحكم بغسل الإناء من الولوغ أنّه يجفّف (٦) ، ووجهه لم يظهر علينا ، الظاهر مستندهم «الفقه الرضوي» (٧).

الحادي عشر : اشترط جمع من الأصحاب طهارة التراب الذي يعفّر به ، بناء

__________________

(١) وسائل الشيعة : ٣ / ٥١٦ الحديث ٤٣٣٣.

(٢) النهاية للشيخ الطوسي : ٥٣ ، مختلف الشيعة : ١ / ٤٩٧ ، ذكرى الشيعة : ١ / ١٢٥.

(٣) نقل عنه العلّامة في مختلف الشيعة : ١ / ٤٩٧.

(٤) المبسوط : ١ / ١٤.

(٥) لاحظ! المعتبر : ١ / ٤٥٩.

(٦) نقل عن والد الصدوق في الحدائق الناضرة : ٥ / ٤٧٤ ، المقنع : ٣٧ ، من لا يحضره الفقيه : ١ / ٨ ذيل الحديث ١٠ ، المقنعة : ٦٥.

(٧) الفقه المنسوب للإمام الرضا عليه‌السلام : ٩٣.

٨٥

على أنّ النجس لا يطهر ، بل يزيده نجاسة (١).

وفي «الذخيرة» (٢) مال إلى عدم الاشتراط ، لإطلاق النص (٣) ، وفيه نظر ، لأن الإطلاق لا عموم فيه.

والمتبادر من السياق منه هو الطاهر ، لأنّ المراد من الماء هنا هو الطاهر جزما ، ولما علّل به المشترطون ، ولاستصحاب النجاسة حتّى يحصل اليقين بزوالها ، لقولهم عليهم‌السلام : «لا تنقض اليقين إلّا باليقين» (٤) ، وغيره من أدلّة الاستصحاب ، وكون شغل الذمّة اليقيني يستدعي البراءة اليقينية.

الثاني عشر : مقتضى النص (٥) ، ظاهر فتوى المشهور تقديم التراب على الغسل بالماء ، والمفيد رحمه‌الله في «المقنعة» جعله متوسّطا بين الغسلتين بالماء (٦) ، ولم نعرف مأخذه.

وقال جمع : يغسل ثلاثا إحداهن بالتراب من دون تعيين تقديم (٧) ، ولعلّ مرادهم ما هو المشهور ، إلّا أنّ المقام كان مقام الإجمال.

الثالث عشر : لو خيف فساد المحلّ بالتعفير ، فهو كما لو فقد التراب باق على نجاسته ، لفقد ما عدّه الشارع مطهّرا له ، واختاره العلّامة رحمه‌الله وجماعة (٨) ، وكذلك الحال لو كان ضيقا لا يقبل التعفير.

__________________

(١) الدروس الشرعيّة : ١ / ١٢٥ ، جامع المقاصد : ١ / ١٩١ ، روض الجنان : ١٧٢.

(٢) ذخيرة المعاد : ١٧٧.

(٣) وسائل الشيعة : ٣ / ٥١٦ الباب ٧٠ من أبواب النجاسات.

(٤) تهذيب الأحكام : ١ / ٨ الحديث ١١ ، وسائل الشيعة : ١ / ٢٤٥ الحديث ٦٣١ مع اختلاف يسير.

(٥) وسائل الشيعة : ٣ / ٥١٦ الحديث ٤٣٣٣.

(٦) المقنعة : ٦٥.

(٧) من لا يحضره الفقيه : ١ / ٨ ذيل الحديث ١٠ ، الانتصار : ٩ ، الخلاف : ١ / ١٧٥ المسألة ١٣٠.

(٨) منتهى المطلب : ٣ / ٣٣٨ ، الروضة البهية : ١ / ٦٣ ، الحدائق الناضرة : ٥ / ٤٨٤ ، ذخيرة المعاد : ١٧٨.

٨٦

وقيل : إن كان خوف الفساد من جهة الضيق وعدم تأتّي التعفير إلّا بكسره وأمكن مزج التراب بالماء وإنزاله إليها ، وجب وأجزأ ، وإن كان باعتبار نفاسة الإناء أو غيرها بحيث يترتّب الفساد على أصل الاستعمال اكتفي بالماء ، وكذا إذا امتنع إنزاله ممزوجا في صورة الضيق (١).

مع أنّ هذا القائل في صورة فقد التراب اختار البقاء على النجاسة ، بناء على أنّ العذر فيه مرجوّ الزوال بخلاف المقام ، فلو كان يبقى على النجاسة يلزم التعطيل والتضييع. وفيه ما فيه.

الرابع عشر : لو أدخل يده أو رجله أو غيرهما من أعضائه ، فحكمه حكم سائر النجاسات على المشهور.

وقيل : يكون ذلك مثل الولوغ (٢) ، والظاهر أنّه استنباط العلّة ، وهي كون حكم الولوغ من نجاسة الكلب. وفيه ما فيه.

قوله : (وأمّا الخنزير). إلى آخره.

المشهور بين المتأخّرين وجوب غسل الإناء من ولوغ الخنزير سبعا بالماء (٣) ، لصحيحة علي بن جعفر ، عن أخيه موسى عليه‌السلام عن خنزير شرب من إناء كيف يصنع به؟ قال : «يغسل سبع مرّات» (٤).

وعند الشيخ رحمه‌الله أنّ حكمه حكم الكلب (٥) ، والمحقّق رحمه‌الله جعله كغيره من

__________________

(١) الحدائق الناضرة : ٥ / ٤٨٤.

(٢) لاحظ! المعتبر : ١ / ٤٥٩.

(٣) ذكرى الشيعة : ١ / ١٢٦ ، مدارك الأحكام : ١ / ٣٩٤ ، كفاية الأحكام : ١٤.

(٤) تهذيب الأحكام : ١ / ٢٦١ الحديث ٧٦٠ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٤١٧ الحديث ٤٠٣٦.

(٥) الخلاف : ١ / ١٨٦ المسألة ١٤٣.

٨٧

النجاسات (١).

احتجّ الشيخ رحمه‌الله بأنّ الخنزير يسمّى كلبا في اللغة ، وبأنّ الإناء يغسل من النجاسات ثلاثا ومنها الخنزير (٢). واجيب بعدم ثبوت صدق الكلب عليه حقيقة في اللغة (٣).

قلت : بل الظاهر كونه مجازا ، لوجود أماراته.

وأمّا دليله الثاني ، فهو مقتضى كون غسل الإناء من ولوغه ثلاثا ، لا كونه مثل الكلب ، وحمل المحقّق رحمه‌الله الصحيحة المذكورة على الاستحباب (٤).

ولعلّه لمّا لم يجد قائلا بمضمونها فعل كذلك ، أو لأنّ العامّة اتّفقوا على السبع في الولوغ (٥).

وكيف كان ، لا شبهة في كونه أحوط ، بل كون العمل مقصورا عليه ، بل الفتوى أيضا ، لكون الحديث صحيحا (٦) ، ولم يظهر مانع من العمل بها. لا شذوذها ، ولا كونها على وفق العامة ، وكون النجاسة يقينيّة لا تزول إلّا باليقين.

__________________

(١) المعتبر : ١ / ٤٥٩.

(٢) الخلاف : ١ / ١٨٦ مسألة ١٤٣.

(٣) ذخيرة المعاد : ١٧٨.

(٤) المعتبر : ١ / ٤٦٠.

(٥) المجموع للنووي : ٢ / ٥٨٥ و ٥٨٦.

(٦) وسائل الشيعة : ٣ / ٤١٧ الحديث ٤٠٣٦.

٨٨

٨٤ ـ مفتاح

[عدم تنجيس المتنجّس]

إنّما يجب غسل ما لاقى عين النجاسة ، وأمّا ما لاقى الملاقي لها بعد ما ازيل عنه العين بالتمسّح ونحوه ، بحيث لا يبقى فيه شي‌ء منها فلا يجب غسله ، كما يستفاد من المعتبرة (١). على أنّا لا نحتاج إلى دليل في ذلك ، فإنّ عدم الدليل على وجوب الغسل دليل على عدم الوجوب ، إذ لا تكليف إلّا بعد البيان ، ولا حكم إلّا بالبرهان ، إلّا أنّ هذا الحكم ممّا يكبر في صدور الذين غلب عليهم التقليد من أصحاب الوسواس الذين يكفرون بنعمة الله ولا يشكرون سعة رحمة الله.

وفي الحديث : «إنّ الخوارج ضيّقوا على أنفسهم بجهالتهم ، وإنّ الدين أوسع من ذلك» (٢).

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١ / ٢٨٤ الحديث ٧٥٠.

(٢) تهذيب الأحكام : ٢ / ٣٦٨ الحديث ١٥٢٩ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٤٩١ الحديث ٤٢٦٢.

٨٩
٩٠

قوله : (وأمّا ما لاقى الملاقي لها). إلى آخره.

الظاهر اتّفاق الأصحاب ، بل إجماعهم على وجوب غسله أيضا (١).

بل هو ضروري الدين ، والحكم بالعدم من منفردات المصنّف ، لم يوافقه أحد ، ولم يظهر له وجه أصلا ، كما ستعرفه.

وعرفت ممّا سبق أنّ نجاسة شي‌ء من النجاسات لم يثبت من آية أو حديث ، إذ القدر الثابت إعادة الصلاة منه.

وعرفت أنّ الحرير والذهب والسمور وأمثالها يعاد الصلاة منها وليست بنجسة ، أو عدم جواز الوضوء ممّا وقع فيه ، ومن المعلوم عدم جوازه من المضاف ، أو عدم جواز الشرب ممّا وقع فيه.

ومن المعلوم عدم جواز الشرب ممّا وقع فيه السمّ وأمثال ذلك ، ولا يسمّى شي‌ء ممّا ذكر نجسا ، وكثير منها يثبت نجاسته بالأمر بغسل الثوب منه.

ومعلوم أنّ الأمر حقيقة في الوجوب لنفسه ، فلا مانع من الصلاة معه أو أكله أو أكل ما لاقاه ، ومع ذلك ورد الأمر بغسل الثوب خاصّة منه ، إلى غير ذلك ممّا لا يناسب النجاسة ، فضلا عن أن يكون دليلا عليها.

فلو لا الإجماع لم يثبت نجاسة شي‌ء منها ، كما عرفت سابقا ، وواضح على من له أدنى تأمّل.

فكما أنّه بمجرّد الأمر بغسل الثوب خاصّة يفهم كون الوجوب لغيره لا لنفسه ، وكون ذلك الوجوب الغيري شرطيّا لا شرعيّا ، وكونه شرطا لصحّة الصلاة وما ماثلها ، وصحّة الأكل وما ماثله ، وصحّة أكل الملاقي برطوبة ، وأنّه لو لا

__________________

(١) الخلاف : ١ / ١٨١ المسألة ١٣٦ ، المعتبر : ١ / ٤٦٠ ، ذخيرة المعاد : ١٧٨.

٩١

الغسل المزبور لم يصحّ شي‌ء ممّا ذكر ، وأنّه وإن اختصّ بالثوب إلّا أنّه يشمل الجسد وغيره ، إلى غير ذلك ممّا يفهم من الإجماع ، كذلك يفهم من ذلك الإجماع وجوب غسل ما يلاقي الملاقي برطوبة ، وهكذا ، كما مرّ سابقا (١).

وكما أنّ الأحكام التي سلّم المصنّف ثبوتها من مجرّد لفظ «اغسل الثوب» خاصّة ، مثل غسل الجسد وكلّ جسم جامد ، ونجاسة كلّ جسم مائع سوى الماء ، وأمّا الماء ففي صورة تغيّره لونا أو طعما أو رائحة ، وكذا وجوب إعادة الصلاة وغيرها ممّا ماثلها.

وكذلك الحال في حرمة الأكل والشرب وغير ذلك من الأحكام الكثيرة التي لا تحصى ، وسلّم المصنّف ثبوتها من مجرّد عبارة «اغسل الثوب منه». مع أنّه بحسب لغة العرب لا يدلّ على أزيد من إزالة ذلك الشي‌ء من الثوب بشي‌ء مائع ، فكذلك الحال في وجوب غسل ما يلاقي الملاقي برطوبة ، إذ عرفت أنّ منشأ الدلالة على ما زاد عن الموضوع له في لغة العرب هو الإجماع ، والإجماع إنّما هو في كلام الفقهاء ، وطريقة المسلمين في الأعصار والأمصار ، وهما بالنظر إلى ما سلّمه المصنّف وما أنكره واحد.

أمّا طريقة المسلمين ففي غاية الوضوح. وأمّا طريقة الفقهاء فيظهر بتتبّع كلماتهم ، حتّى أنّهم شنّعوا على ابن إدريس رحمه‌الله في قوله بأنّه إذا لاقى جسد الميّت إناء وجب غسله ، ولو لاقى ذلك الإناء مائعا لم ينجس ذلك المائع ، لأنّه لم يلاق جسد الميّت وحمله على ذلك قياس ، لأنّ هذه نجاسات حكميّات وليس بعينيات (٢).

وشرع في إثبات كونها حكميّات لا عينيّات ، وصرّح بأنّها لو كانت عينيّات

__________________

(١) راجع! الصفحة : ٦٤ من هذا الكتاب.

(٢) السرائر : ١ / ١٦٣.

٩٢

لنجس ما يلاقيها برطوبة أيضا (١).

ومع ذلك يشنّعون عليه بتجويزه ذلك في النجاسة الحكميّة.

ومن جملة ذلك ما شنّع عليه المحقّق رحمه‌الله بأنّ الأصحاب اجتمعوا على نجاسة الملاقي للميّت ، وأجمعوا على نجاسة المائع إذا وقع فيه نجاسة ، فلزم من الإجماعين نجاسة ذلك المائع (٢) ، وأطال في الاعتراض عليه.

بل طعنوا على العلّامة رحمه‌الله أيضا في قوله بحصول النجاسة بمسّ الميتة بغير الرطوبة ، وأنّها نجاسة حكميّة لا يتعدّى إلى غير الماسّ ، وإن كانت الملاقاة معه برطوبة (٣) ، إلى غير ذلك ممّا يظهر من كلامهم من حكمهم بعدم الفرق بين الملاقي وملاقي الملاقي.

وأيضا ملاحظة كلماتهم في مقام الفتاوى يكشف عمّا ذكر ، مثل ما قالوا في أواني المشركين ، وأنّها طاهرة ما لم يحصل العلم بمباشرتها رطبا ، وما قالوا في اشتراط طهارة مواضع الوضوء والغسل والتيمّم.

وكذا مواضع إصابة الأعضاء والثوب في الصلاة أو جفافها وجفاف ما يصيبها ، ومثل مسألة الولوغ أنّه لو لم يوجد التراب أو لم يمكن تعفيره بالتراب ، أنّه يبقى على النجاسة ، والتضييع والتعطيل ، إلى غير ذلك من المسائل ، حتّى يظهر لك.

وكذا ما ذكروه في المعتبرة التي استدلّ بها المصنف ، وما ذكروه في كلّ خبر من الأخبار المتواترة التي سنشير إليها ، فإن كل واحد منها واضح الدلالة على كون المتنجّس منجّسا.

__________________

(١) السرائر : ١ / ١٦٣.

(٢) المعتبر : ١ / ٣٥٠.

(٣) منتهى المطلب : ٢ / ٤٥٩.

٩٣

وما ذكره الفقهاء فيه ينادي بكون ذلك مسلّما عندهم مفروغا عنه ، بحيث لا يحتاج إلى الاستدلال إليه ، ولا يصادمه حديث أو غيره.

وبالجملة ، لا يرضى أحد من الفقهاء ولا سائر الناس ـ حتّى النساء والأطفال ـ بأن يزيل عين النجاسة من إناء أو فرش أو غيره بالتنشيف بثوب أو غيره ، أو بتركه من ملاقاة البول وأمثاله ، حتّى يصير يابسا بالمرّة ، بحيث لا يبقى من عين النجاسة شي‌ء أصلا ، ثمّ يستعمله في الشرب ، أو أكل الأشياء الرطبة فيه ، إلى غير ذلك ، بل إذا ارتكب أحد ذلك يكون عندهم كتارك الصلاة ، وأمثاله ممّا هو حرام بالضرورة.

ويدلّ على ذلك بعد الإجماع بل الضرورة الأخبار الكثيرة ، لو لم نقل متواترة ، مثل صحيحة علي بن مهزيار قال : كتب إليه سليمان بن رشيد يخبره أنّه بال في ظلمة الليل ، ولم يشك في أنّه أصابه نقطة من بوله ، وأنّه مسحه بخرقة ونسي أن يغسله وتمسح بدهن ، فمسح كفيه ووجهه ورأسه وتوضّأ للصلاة ، فأجاب : «ما توهمت ممّا أصاب يدك فليس بشي‌ء إلّا ما تحقّق ، فإن حقّقت ذلك كنت حقيقا أن تعيد الصلوات» (١) الحديث.

وموثّقة عمّار عن الصادق عليه‌السلام عن الموضع القذر يكون في البيت أو غيره فلا تصيبه الشمس ، ولكنّه قد يبس الموضع القذر ، قال : «لا يصلّي عليه ، وأعلم موضعه حتّى تغسله» ، وعن الشمس هل تطهّر الأرض؟ (٢). إلى آخره.

وسيجي‌ء في مطهريّة الشمس بقيّة هذا الحديث ، وتلك البقيّة صريحة في المطلوب كبقيّة الحديث السابق ، مع اعتراف المصنّف بذلك.

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ١ / ٤٢٦ الحديث ١٣٥٥ ، الاستبصار : ١ / ١٨٤ الحديث ٦٤٣ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٤٧٩ الحديث ٤٢٢٨ نقل بالمعنى.

(٢) تهذيب الأحكام : ٢ / ٣٧٢ الحديث ١٥٤٨ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٤٥٢ الحديث ٤١٤٩.

٩٤

والصحاح الكثيرة الواردة في أنّ اليد لا تدخل في الماء القليل ، إلّا إذا كانت طاهرة ، وإلّا يصب ذلك الماء ويكون نجسا (١) ، كما سيجي‌ء ، والصحاح الواردة في السطح الذي يصيبه البول وأصابه المطر أنّه لا بأس إذا جرى المطر ، أو لا بأس بأنّ ما أصابه الماء أكثر (٢) ، إلى غير ذلك من أمثال ما ذكر من الأحكام المتعلّقة بما أصابه البول وشبهه ، أعم من أن تكون عينه زائلة منه ، كما هو الأغلب أم لا.

وموثّقة ابن بكير المقبولة عند الكلّ فيمن بال وليس عنده ماء فيمسح ذكره بالحائط أنّ : «كلّ يابس ذكي» (٣) ، والمراد من الذكي في اليابس عدم تعدّي نجاسته ، فهذه صريحة في المنجسية حال الرطوبة كسائر النجاسات اليابسة.

وصحيحة الأحول فيمن وطأ الأرض التي ليست بطاهرة ثمّ وطأت الطاهرة منها أنّه : «لا بأس إذا كان خمسة عشر ذراعا» (٤) ، إلى غير ذلك ممّا لا تحصى.

منها الأخبار المستفيضة الواردة في الأمر بتطهير الأواني من الخمر والمسكر والميتة وولوغ الكلب والخنزير ، وأمثال ذلك (٥).

مع أنّ نجس العين في الولوغين والميتة وأمثالها لا يلاقي سوى الماء ، وهو لا ينفعل عند المصنّف ، فبأيّ جهة أمروا بغسل إناء ذلك الماء بعنوان الوجوب العيني لا التخييري بينه وبين زوال العين بنحو آخر؟ مع أنّك عرفت أنّه ليس هاهنا عين يزال بالغسل.

__________________

(١) انظر! وسائل الشيعة : ١ / ١٥٢ الحديث ٣٧٨ ، ١٥٤ الحديث ٣٨٤ و ٣٨٥.

(٢) لاحظ! وسائل الشيعة : ١ / ١٤٤ الباب ٦ من أبواب الماء المطلق.

(٣) تهذيب الأحكام : ١ / ٤٩ الحديث ١٤١ ، الاستبصار : ١ / ٥٧ الحديث ١٦٧ ، وسائل الشيعة : ١ / ٣٥١ الحديث ٩٣٠.

(٤) الكافي : ٣ / ٣٨ الحديث ١ ، وسائل الشيعة : ٣ / ٤٥٧ الحديث ٤١٦٥.

(٥) راجع! وسائل الشيعة : ٣ / ٤٩٤ الباب ٥١ ، ٤٩٦ الباب ٥٣ ، ٥١٦ الباب ٧٠ من أبواب النجاسات.

٩٥

والمستفيضة الواردة في وجوب غسل الفرش والبسط ونحوهما متى تنجّس شي‌ء منها (١) ، إذ من المعلوم أنّ الأمر بغسلها ليس أنّه إلّا لمنع تعدّي نجاستها إلى ما يلاقيها برطوبة ، ممّا يشترط فيه الطهارة.

ولو كان مجرّد زوال العين كافيا في جواز استعمال تلك الأشياء لما كان للأمر بغسلها فائدة ، بل كان عبثا محضا ، لأنّ تلك الأشياء بأنفسها لا تستعمل فيما يشترط فيه الطهارة كالصلاة ونحوها ، حتّى يقال : إنّ الأمر بغسلها لذلك.

مع أنّه على تقدير الاستعمال في الصلاة ونحوها أيضا لا يضرّ ، لعدم كونها ثوبا يتمّ الصلاة فيه ، كما سيجي‌ء.

بل لو كان زوال العين كافيا لكان الواجب الأمر به مطلقا لا بخصوص الغسل ، لأنّه يظهر منه خلاف المقصود ، كما فهم الفقهاء من أنّ الاستعمال بعنوان الرطوبة يتوقّف على الغسل.

فلو لم يكن الأمر على ما فهموه ولم يتوقّف عليه لزم من أمر المعصوم عليه‌السلام بخصوص الغسل تضييع الأواني وتعطيلها في مدّة مديدة على حسب ما عرفت ، مع لزوم تضييع الماء والعمر في الغسل ، مضافا إلى لزوم الإغراء بالجهل.

بل لا يخفى على المتأمّل أنّ الغسل بالنحو الذي ذكر فيها ليس إلّا لصحّة استعمالها مطلقا أو غالبا ، لأنّ الغالب سراية النجاسة لو كانت الأواني نجسة وكذا الحال في الفرش ونحوها.

ولهم أيضا المعتبرة التي تمسّك بها المصنّف ، وصدر صحيحة العيص بن القاسم (٢) ، وستقف على وجه دلالتهما عليه ، وأنّه لا دلالة لهما على ما ذكره المصنّف.

__________________

(١) لاحظ! وسائل الشيعة : ٣ / ٤٠٠ الباب ٥ من أبواب النجاسات.

(٢) تهذيب الأحكام : ١ / ٤٢١ الحديث ١٣٣٣ ، وسائل الشيعة : ١ / ٣٥٠ الحديث ٩٢٧.

٩٦

قوله : (يستفاد من المعتبرة).

هي موثّقة حنان بن سدير قال : سمعت رجلا يسأل أبا عبد الله عليه‌السلام فقال : إنّي ربّما بلت فلا أقدر على الماء ، ويشتدّ ذلك علي؟ فقال : «إذا بلت وتمسحت فامسح ذكرك بريقك ، فإن وجدت شيئا فقل : هذا من ذاك» (١).

وهذه بالدلالة على خلافه أقرب بل ومتعيّن ، لأنّ السائل شكا إليه عليه‌السلام أنّه ربّما بال وليس معه ماء ، ويشتدّ ذلك عليه ، بسبب عرق ذكره ، أو بلل يخرج من ذكره ، فيلاقي مخرج البول فيتنجّس به ثوبه وبدنه ، فأمره عليه‌السلام لذلك بحيلة شرعية يتخلّص بها من ذلك ، وهو أن يمسح غير المخرج من الذكر ، أعني المواضع الطاهرة القريبة منه ، بعد ما ينشّف المخرج بشي‌ء حتّى لو وجد بللا بعد ذلك ، يقدّر في نفسه أنّه يجوز أن يكون من بلل ريقه الذي وضعه ، وليس من العرق ولا من المخرج ، فلم يتيقّن النجاسة من ذلك البلل.

وما احتمله المصنّف في «الوافي» من كون الشكاية من انتقاض الوضوء (٢) ، مردود من وجوه :

الأوّل : لا دلالة في الخبر على هذا الوضوء الذي بنى عليه المباني المتعسّفة.

الثاني : أنّه لو كان كذلك لكان اللازم الأمر بالاستبراء بعد البول ، كما أمروا عليهم‌السلام في الأخبار (٣) ، واتّفق عليه الفتاوى ، حتّى فتوى المصنّف.

فلو لم يستبرئ لكان الخارج ناقضا البتة ، من دون فائدة في الريق المذكور. ولو استبرأ وجفف المخرج لم يحتج إلى الريق المذكور على رأي المصنّف من كون

__________________

(١) الكافي : ٣ / ٢٠ الحديث ٤ ، من لا يحضره الفقيه : ١ / ٤١ الحديث ١٦٠ ، تهذيب الأحكام : ١ / ٣٤٨ الحديث ١٠٢٢ ، وسائل الشيعة : ١ / ٢٨٤ الحديث ٧٥٠.

(٢) الوافي : ٦ / ١٤٩ ذيل الحديث ٣٩٧٦.

(٣) لاحظ! وسائل الشيعة : ١ / ٣٢٠ الباب ١١ من أبواب أحكام الخلوة.

٩٧

المتنجّس لا ينجّس ، فتعيّن فساده ، لكون النفع في الريق والحيلة المذكورة فقط صريحا في الخبر المذكور ، لا في الاستبراء بعد البول.

مع أنّ قضيّة الاستبراء البناء على طهارة ما يخرج بعده ، وعدم نقضه الوضوء.

الثالث : أنّه لو كانت الحكمة في الأمر بوضع الريق على مخرج البول إنّما هي عدم انتقاض الطهارة ، بأن ينسب ذلك البلل الذي يجده إلى الريق ، ليكون غير ناقض ، ولا ينسبه إلى الخروج فيكون ناقضا ، فأيّ فائدة في ذلك بين الحكم بكون المتنجّس منجّسا أم لا؟ فإنّ وجه الحكمة ـ وهو خوف نقض الوضوء ـ يحصل على كلا التقديرين ، فكيف يستدلّ به؟

والعجب في دعواه صراحة هذه الأخبار فيما يدّعيه في «الوافي» حيث قال فيه ـ بعد نقلها وما ضاهاها ـ : لا يخفى على من فكّ رقبته عن ربقة التقليد أنّ هذه الأخبار وما جرى مجراها صريحة في عدم تعدّي النجاسة من المتنجّس إلى شي‌ء قبل تطهيره وإن كان رطبا ، إذا ازيل عنه عين النجاسة بالتمسّح ونحوه ، وإنّما المتنجّس هو عين النجاسة لا غير (١) ، انتهى.

مع أنّه احتمل كون المراد من هذا الحديث هو الذي ظهر منه ، وذكرناه ، لكن جعل احتماله أوفق بأخبار الاستبراء.

مع أنّك عرفت أنّها مضادّة لأخبار الاستبراء على هذا الاحتمال ، ومخالف لفتواه وفتوى جميع الفقهاء ، لأنّه إن بنى على كون الأمر بالريق بعد الاستبراء ، فقد عرفت أنّ الاستبراء يوجب عدم الانتقاض ، لا هذا الريق ، وإن بنى على عدم الاستبراء ، فقد عرفت أنّه خلاف جميع أخبار الاستبراء ، وجميع فتاوى الجميع حتّى نفسه.

__________________

(١) الوافي : ٦ / ١٥٠ ذيل الحديث ٣٩٧٧.

٩٨

وكيف كان ، هو مضادّ لأخبار الاستبراء فضلا عن الفتاوى ، فكيف يكون أوفق؟

وأعجب من هذا كون مراده من قوله في «الوافي» : هذه الأخبار ، الرواية المذكورة (١) وموثّقة ابن بكير التي ذكرناها ، مع صراحتها في كون المتنجّس منجّسا (٢) ، كما عرفت.

وصحيحة العيص بن القاسم قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل بال في موضع ليس فيه ماء فمسح ذكره بحجر وعرق ذكره وفخذاه؟ فقال : «يغسل ذكره وفخذيه» ، وعمّن مسح ذكره بيده ثمّ عرقت [يده] فأصاب ثوبه يغسل ثوبه؟ قال : «لا» (٣).

وظاهر أنّ الحكم الأوّل صريح في كون المتنجّس منجّسا ، لأنّ الفخذ لم يلاق عين النجاسة ، لأنّ مسح الذكر بالحجر عقيب البول بلا مهلة ، لمكان الفاء وللقرينة.

مع أنّه لم يقل في السؤال إنّ فخذيه أصابا البول ، أو رطوبته ، مع أنّه على هذا لا وجه لذكر العرق أصلا.

وأمّا الثاني ، فلعدم حصول اليقين بتنجّس يده في مسح ذكره ، فإنّه اعترف بذلك في «الوافي» حيث قال ـ بعد توجيهه رواية حكم بن حكيم الآتية أوّلا بعدم كون المتنجّس منجّسا ـ : الثاني ، أنّه لم يتيقّن إصابة البول جميع أجزاء اليد ، ولا وصول جميع أجزاء اليد إلى الوجه أو الجسد أو الثوب ، ولا شمول العرق كلّ اليد ، فلا يخرج شي‌ء من الثلاثة عمّا كان عليه من الطهارة ، باحتمال ملاقاة البول ، فإنّ

__________________

(١) مرّ آنفا.

(٢) راجع! الصفحة : ٩٥ من هذا الكتاب.

(٣) تهذيب الأحكام : ١ / ٤٢١ الحديث ١٣٣٣ ، وسائل الشيعة : ١ / ٣٥٠ الحديث ٩٢٧ ، ٣ / ٤٠١ الحديث ٣٩٧٦.

٩٩

اليقين لا ينقض إلّا بيقين مثله (١) ، انتهى.

أقول : قد عرفت فيما سبق أنّه لا ينقض الطهارة بشهادة العدلين ، فضلا عن غيرها ، فتعيّن هذا الاحتمال ، ووافق صدر الحديث ، ولم يكن بينهما منافاة.

فلا وجه لاحتمال الأوّل ، لما عرفت ، ولحصول المنافاة ، وانتقاض القاعدة الشرعيّة الثابتة المسلّمة عنده ، على أنّ الظاهر أنّ السؤال الثاني ليس عن حال من سأل عن حاله أوّلا ، وإلّا لقال : وعنه إذا مسح ذكره. إلى آخره ، أو مثل هذه العبارة ، بل سأل عن رجل مسح ذكره ، أيّ رجل كان ، وأيّ ذكر كان. والاستبعاد بأنّ مثل هذا كيف يسأل عنه؟ فاسد ، لما عرفت من تفاوت الأزمنة والأشخاص في البديهيّات.

ألا ترى أنّ في موثّقة ابن بكير وقع السؤال عن ملاقاة اليابس لليابس ، فأجاب عليه‌السلام بأنّ «كل يابس ذكي» (٢).

ولعلّ المراد في المقام أيضا أنّه مسح الذكر الخالي عن العرق باليد الخالية عنه ، ثمّ عرقت ، يومي إلى ذلك قوله : «ثمّ عرقت اليد» وفي الأوّل قال : «وعرق ذكره وفخذاه» فتأمّل جدّا!

ويحتمل أن يكون المصنّف لم يرد من قوله : «هذه الأخبار» هذه الصحيحة أيضا.

نعم ، لا تأمّل في أنّه أراد منها رواية سماعة أيضا ، قال : قلت لأبي الحسن موسى عليه‌السلام : إنّي أبول ثمّ أتمسّح بالأحجار فيجي‌ء منّي البلل ما يفسد سراويلي ، قال : «لا بأس» (٣).

__________________

(١) الوافي : ٦ / ١٤٥ ذيل الحديث ٣٩٦٦.

(٢) وسائل الشيعة : ١ / ٣٥١ الحديث ٩٣٠.

(٣) تهذيب الأحكام : ١ / ٥١ الحديث ١٥٠ ، الاستبصار : ١ / ٥٦ الحديث ١٦٥ ، وسائل الشيعة : ١ / ٢٨٣ الحديث ٧٤٧ مع اختلاف يسير.

١٠٠