لكن الذي يظهر من المقالة في مقام التفرقة بين القول بجعل المماثل والقول بالجري العملي شيء آخر ، وحاصله : أنّ الملازمة بين الحرمة والغليان وإن لم تكن مجعولة شرعاً إلاّ أنّها منتزعة من جعل الشارع الحرمة على تقدير الغليان ، وبهذا الاعتبار يجري فيها الاستصحاب ، فحينئذ بناءً على جعل المماثل تكون نتيجة الاستصحاب هو جعل تلك الملازمة ولو بجعل ما هو منشأ انتزاعها ، ومن المعلوم أنّ لازم تلك الملازمة المجعولة ـ أعمّ من الواقعية والظاهرية ـ فعلية وجود الملزوم الذي هو الحرمة عند وجود اللازم الذي هو الغليان ، وينتهي ببركته إلى حكم العقل بوجوب الامتثال في مقام العمل.
أمّا بناءً على أنّ مفاد دليل الاستصحاب هو الأمر بمعاملة المتيقّن السابق معاملة الواقع ، ومرجعه إلى ادّعاء وجود المتيقّن بلحاظ ما يترتّب عليه من العمل لا إلى جعل مماثله ، فلا مجال لاستصحاب الملازمة حينئذ ، لأنّ مرجعه إلى تنزيل الملازمة الواقعية منزلة الموجود بلحاظ ما يترتّب عليه من العمل ، بلا جعل ملازمة في مرحلة الظاهر ، ومع فرض أنّه لم يكن جعل في الملازمة بين الحرمة والغليان لا يتسنّى للعقل أن يحكم بالحرمة عند وجود الغليان ، وهذا هو محصّل قوله : ومن البديهي أنّ العقل لا يحكم ـ إلى قوله ـ كما هو ظاهر (١) ، إذ لا ملازمة بين تنزيل الملازمة منزلة الموجود من حيث العمل ، وبين وجود الملزوم تعبّداً ـ الذي هو الحرمة عند وجود اللازم الذي هو الغليان ـ ولا حقيقة.
وبعبارة أُخرى : أنّ تنزيل الملازمة بين الحرمة والغليان لا يترتّب عليه وجود الحرمة عند الغليان لا حقيقة ولا تعبّداً ، فيبقى التنزيل المزبور منفرداً عن وجود لازمه حقيقة أو ادّعاء ، ومن البديهي أنّ هذا لا ينتهي إلى أثر عملي أصلاً ،
__________________
(١) مقالات الأُصول ٢ : ٣٩٩ ـ ٤٠٠.