أهل اللسان في خطابهم إذا أوردوا جملة مصرحة وعطفوا عليها بكلام محتمل لما تقدم التصريح به ولغيره لم يجز أن يريدوا بالمحتمل إلا المعنى الاول (١) ، يبين صحة ما ذكرناه أن أحدهم إذا قال مقبلا على جماعة مفهما وله عدة عبيد : « ألستم عارفين بعبدي فلان؟ » ثم قال عاطفا على كلامه : « فاشهدوا أن عبدي حر لوجه الله » لم يجز أن يريد بقوله : « عبدي » بعد أن قدم ما قدمه إلا العبد الذي سماه في أول كلامه دون غيره من سائر عبيده ، ومتى أراد سواه كان عندهم لغوا خارجا من طريق البيان.
ثم اعترض بأن ما ذكرتم من المثال إنما يقبح أن يريد غير ما مهده سابقا من العبيد (٢) لانه حينئذ تكون المقدمة لغوا لا فائدة فيها ، وليس الامر في خبر الغدير كذلك ، لانه يمكن أن يكون المعنى : إذا كنت أولى بكم وكانت طاعتي واجبة عليكم فافعلوا كذا وكذا ، فإنه من جملة ما آمركم فيه بطاعتي ، وهذه عادة الحكماء فيما يلزمونه من يجب عليه طاعتهم ، فافترق الامران ، ثم أجاب بأنه لو كان الامر على ما ذكرت لوجب أن يكون متى حصل في المثال الذي أوردناه فائدة لمقدمته وإن قلت أن يحسن ما حكمناه بقبحه ووافقتنا عليه ، ونحن نعلم أن القائل إذا أقبل على جماعة فقال : « ألستم تعرفون صديقي زيدا الذي كنت ابتعت منه عبدي فلانا الذي صفته كذا وكذا وأشهدناكم على أنفسنا بالمبايعة؟ فاشهدوا أني قد وهبت له عبدي أو قد رددت إليه عبدي » لم يجز أن يريد بالكلام الثاني إلا لعبد الذي سماه وعينه في صلب الكلام (٣)
____________________
(١) المصرح به.
(٢) متعلق بقوله « يريد » وقد ذكر في المصدر قبل هذا الاعتراض اعتراضا آخر ، وحاصله أن لفظة « أولى » لم تتكرر في الحديث كما تكررت لفظة « عبد » في المثال ، نعم لو قال في الحديث ايضا ثانيا « فمن كنت أولى به من نفسه فهذا أولى به من نفسه » لتم الاستدلال ، ولكن قال فيه « فمن كنت مولاه فهذا مولاه » فيمكن أن يريد به غير ما أراد من الجملة الاولى ، بخلاف المثال فانه لا يمكن فيه ذلك لتكرر اللفظ بعينه ، فافترق الامران. واجاب عن هذا الاعتراض بما حاصله أن الفرق غير حاصل بين الامرين ، فان في المثال ايضا قد ذكرت لفظة « عبد » أولا موصولة بقوله « فلان » وموصوفة بصفة لم تذكر هذه الصفة ثانية ، فصارت كأنها لفظة اخرى يحتمل ما تقدم ويحتمل غيره ، وجرت مجرى لفظة « مولى » من خبر الغدير في احتمالها لما تقدم ولغيره ، فلا فرق بين الامرين.
(٣) في المصدر : في صدر الكلام.