ودراستنا هذه تحتوى على طائفة كبيرة من تلك الأمثلة . ويدخل ضمن تلك الأساليب تصرف آخر توضحه الحادثة الطريفة التالية أوضح تمثيل .
« دخل اياس بن معاوية الشام وهو غلام . فقدم خصما ـ إلى باب القاضي ـ في أيام عبد الملك بن مروان . فقال له القاضي أما تستحي تخاصم ـ وأنت غلام ـ شيخا كبيراً ؟
فقال الغلام : الحق أكبر منه . فقال القاضي اسكت ويحك ! ! فقال الغلام فمن ينطق بحجتي ؟ .
فقام القاضي ودخل على عبد الملك وأخبره . فقال له عبد الملك : إقض حاجته وأخرجه من الشام لكيلا يفسد علينا الناس (١) » .
« وخطب معاوية فقال له رجل كذبت . فنزل مغضبا . فدخل منزله ثم خرج عليهم تقطر لحيته ماء . فصعد المنبر فقال أيها الناس إن الغضب من الشيطان وأن الشيطان من النار . فإذا غضب أحدكم فليطفئه بالماء (٢) .
وقد بدا معاوية ـ في هذا المثال ـ على جانب كبير من المرونة وضبط النفس . كما بدا الشخص الذي رماه بالكذب متثبتاً من قوله . ولو استطاع معاوية أن يثبت عكس ذلك لناقشه على الأقل أو لأمر به فنال ما يستحقه من عقاب لتطاوله على الخليفة .
وقد تجلت أيضاً براعة معاوية في الإلتواء ، وبرز دهاؤه ( في التملص من المآزق الحرجة ) في إشغاله السامعين بالتحدث عن وسائل إزالة الغضب بدلا من التحدث عن أصل المشكلة التي كان يتحدث عنها فرمى بالكذب من أجلها .
ومن أطرف ما عثرنا عليه أثناء البحث في هذا الجانب من جواب الموضوع
__________________
١ ـ ابن أبي الحديد ، « شرح نهج البلاغة » ٤ / ١٣٣ .
٢ ـ ابن قتيبة ، « عيون الأخبار » ١ / ٢٩٠ .