قال : « يا شقيق ، اتل ( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى ) ، (١) » ثمّ تركني ومضى حتّى غاب ، فقلت : إنّ هذا الفتى لمن الأبدال ، لقد تكلّم على سرّي مرّتين.
فلمّا نزلنا زبالة (٢) إذا بالفتى قائم على البئر وبيده ركوة (٣) يريد أن يستقي ماء ، فسقطت الركوة من يده في البئر وأنا أنظر إليه ، فرأيته قد رمق السماء وسمعته يقول :
أنت ربّي إذا ظمئت إلى الماء |
|
وقوتي إذا أردت الطعاما |
اللهمّ يا سيّدي ما لي غيرها فلا تعدمنيها |
قال شقيق : فو الله رأيت البئر قد ارتفع ماؤها فمدّ يده وأخذ الركوة وملأها ماء فتوضّأ وصلّى أربع ركعات ، ثمّ مال إلى كثيب رمل فجعل يقبض بيده ويطرحه في الركوة ويحرّكه ويشرب. فأقبلت إليه وسلّمت عليه فردّ عليّ السّلام ، فقلت : أطعمني من فضل ما أنعم الله عليك ، فقال : « يا شقيق ، لم تزل نعمة الله علينا ظاهرة وباطنة فأحسن ظنّك بربّك » ، ثمّ ناولني الركوة فشربت منها فإذا هو سويق وسكّر ، فو الله ما شربت قطّ ألذّ منه ولا أطيب ريحا ، فشبعت ورويت وأقمت أيّاما لا أشتهي طعاما ولا شرابا.
ثمّ لم أره حتّى دخلنا مكّة فرأيته ليلة إلى جنب قبّة الشراب في نصف الليل قائما يصلّي بخشوع وأنين وبكاء ، فلم يزل كذلك حتّى ذهب الليل ، فلمّا رأى الفجر جلس في مصلاّه يسبّح ، ثمّ قام فصلّى الغداة وطاف بالبيت أسبوعا وخرج ، فتبعته وإذا له غاشية وموال وهو على خلاف ما رأيته في الطريق ، ودار به الناس من حوله يسلّمون عليه ، فقلت لبعض من رأيته يقرب منه : من هذا الفتى؟
فقال : هذا موسى بن جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن
__________________
(١) طه (٢٠) : ٨٢.
(٢) زبالة : منزلة من منازل طريق مكّة.
(٣) الركوة : تكون من أدم يسقى فيها ويحلب ويتوضّأ ، والجمع : الركوات والرّكاء. كتاب « العين » ١ : ٩ ، ( ر ك و).