أن النصارى كانوا يرون العفو دون القصاص وإِن كان سائر الطوائف من المليين وغيرهم يرون القصاص .
قوله تعالى : كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم اه ، الكتابة معروفة المعنى ويكنى به عن الفرض والعزيمة والقضاء الحتم كقوله : « كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي » المجادلة ـ ٢١ ، وقوله تعالى : « وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ » يس ـ ١٢ وقوله تعالى : « وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ » المائدة ـ ٤٥ ، والصيام والصوم في اللغة مصدر ان بمعنى الكف عن الفعل : كالصيام عن الأكل والشرب والمباشرة والكلام والمشي وغير ذلك ، وربما يقال : انه الكف عما تشتهيه النفس وتتوق اليه خاصة ثم غلب استعماله في الشرع في الكف عن امور مخصوصة ، من طلوع الفجر إِلى المغرب بالنية ، والمراد بالذين من قبلكم الامم الماضية ممن سبق ظهور الاسلام من امم الانبياء كامة موسى وعيسى وغيرهم ، فإن هذا المعنى هو المعهود من اطلاق هذه الكلمة في القرآن أينما اطلقت ، وليس قوله : كما كتب على الذين من قبلكم ، في مقام الاطلاق من حيث الاشخاص ولا من حيث التنظير فلا يدل على أن جميع امم الانبياء كان مكتوباً عليهم الصوم من غير استثناء ولا على أن الصوم المكتوب عليهم هو الصوم الذي كتب علينا من حيث الوقت والخصوصيات والأوصاف ، فالتنظير في الآية إنما هو من حيث اصل الصوم والكف لا من حيث خصوصياته .
والمراد بالذين من قبلكم ، الامم السابقة من المليين في الجملة ، ولم يعين القرآن من هم ، غير أن ظاهر قوله : كما كتب ، أن هؤلاء من أهل الملة وقد فرض عليهم ذلك ، ولا يوجد في التوراة والانجيل الموجودين عند اليهود والنصارى ما يدل على وجوب الصوم وفرضه ، بل الكتابان إنما يمدحانه ويعظمان أمره ، لكنهم يصومون أياماً معدودة في السنة إلى اليوم بأشكال مختلفة : كالصوم عن اللحم والصوم عن اللبن والصوم عن الأكل والشرب ، وفي القرآن قصة صوم زكريا عن الكلام وكذا صوم مريم عن الكلام .
بل الصوم عبادة مأثورة عن غير المليين
كما ينقل عن مصر القديم ويونان القديم والرومانيين ، والوثنيون من الهند يصومون حتى اليوم ، بل كونه عبادة قربية مما
يهتدي