فهذا هو الذي يوجبه البحث الساذج في معنى هذه النسب على ما يراه جمهور المفسرين لكن التدبر في كلامه تعالى يعطي لهذه النسب معنى أرق وألطف من ذلك ، وذلك أن أمثال قوله تعالى : ( والله هو الغني ) الفاطر ـ ١٥ ، وقوله تعالى : ( العزيز الوهاب ) ص ـ ٩ ، وقوله تعالى ( اعطى كل شيء خلقه ثم هدى ) طه ـ ٥٠ ، تفيد أنه تعالى واجد لما يعطيه من الخلقة وشؤونها وأطوارها ، ملئ بما يهبه ويجود به وان كانت أفهامنا من جهة اعتيادها بالمادة وأحكامها الجسمانية يصعب عليها تصور كيفية اتصافه تعالى ببعض ما يفيض على خلقه من الصفات ونسبته إليه تعالى ، لكن هذه المعاني إذا جردت عن قيود المادة واوصاف الحدثان لم يكن في نسبته إليه تعالى محذور فالنقص والحاجة هو الملاك في سلب معنى من المعاني عنه تعالى ، فإذا لم يصاحب المعنى نقصا وحاجة لتجريده عنه صح اسناده إليه تعالى بل وجب ذلك لان كل ما يقع عليه اسم شيء فهو منه تعالى بوجه على ما يليق بكبريائه وعظمته.
فالمجئ والاتيان الذي هو عندنا قطع الجسم مسافة بينه وبين جسم آخر بالحركة واقترابه منه إذا جرد عن خصوصيه المادة كان هو حصول القرب ، وارتفاع المانع والحاجز بين شيئين من جهة من الجهات ، وحينئذ صح إسناده إليه تعالى حقيقة من غير مجاز : فإتيانه تعالى إليهم ارتفاع الموانع بينهم وبين قضائه فيهم ، وهذه من الحقائق القرآنية التي لم يوفق الابحاث البرهانية لنيله إلا بعد إمعان في السير ، وركوبها كل سهل ووعر ، وإثبات التشكيك في الحقيقة الوجودية الاصيلة.
وكيف كان فهذه الآية تتضمن الوعيد الذي ينبئ عنه قوله سبحانه في الآية السابقة : إن الله عزيز حكيم ، ومن الممكن أن يكون وعيدا بما سيستقبل القوم في الآخرة يوم القيامة كما هو ظاهر قوله تعالى في نظير الآية : ( هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك ) النحل ـ ٣٣ ، ومن الممكن أن يكون وعيد بأمر متوقع الحصول في الدنيا كما يظهر بالرجوع إلى ما في سورة يونس بعد قوله تعالى : ( ولكل أمة رسول) يونس ـ ٤٧ ، وما في سورة الروم بعد قوله تعالى : ( وأقم وجهك للدين حنيفا ) الروم ـ ٣٠ ، وما في سورة الانبياء وغيرها على أن الآخرة آجلة هذه العاجلة وظهور تام لما في هذه الدنيا ، ومن الممكن أيضا أن يكون وعيدا بما سيقع في الدنيا والآخرة معا ، وكيف كان فقوله في ظلل من الغمام يشتمل من المعنى على ما يناسب مورده.