بل كان يكون بمنزلة من قد فنى ماله أو قارب الفناء فقد استشعر الفقر والوجل من فناء ماله وخوف الفقر ، على أنَّ الّذي يدخل على الإنسان من فناء العمر أعظم ممّا يدخل عليه من فناء المال لأنّ من يقلّ ماله يأمل أن يستخلف منه فيسكن إلى ذلك ، ومن أيقن بفناء العمر استحكم عليه اليأس وإن كان طويل العمر ، ثمّ عرف ذلك وثق بالبقاء (١) وانهمك في اللّذات والمعاصي وعمل ، على أنّه يبلغ من ذلك شهوته ثمَّ يتوب في آخر عمره ، وهذا مذهب لا يرضاه الله من عباده ولا يقبله .
ألا ترى لو أنَّ عبداً لك عمل على أنّه يسخطك سنةً ويرضيك يوماً أو شهراً لم تقبل ذلك منه ، ولم يحلّ عندك محلَّ العبد الصالح دون أن يضمر طاعتك ونصحك في كلّ الاُمور وفي كلّ الأوقات على تصرف الحالات . (٢)
فإن قلت : أوليس قد يقيم الإنسان على المعصية حيناً ثمَّ يتوب فتقبل توبته ؟ قلنا : إنَّ ذلك شيءٌ يكون من الإنسان لغلبة الشهوات وتركه مخالفتها من غير أن يقدّرها في نفسه ويبني عليه أمره فيصفح الله عنه ويتفضّل عليه بالمغفرة ، فأمّا من قدّر أمره على أن يعصي ما بدا له ثمَّ يتوب آخر ذلك فإنّما يحاول خديعة من لا يخادع بأن يتسلّف التلذّذ في العاجل ويعد ويمنّي نفسه التوبة في الآجل ، ولأنّه لا يفي بما يعد من ذلك فانَّ النزوع من الترفُّه والتلذّذ (٣) ومعاناة التوبة ولا سيّما عند الكبر وضعف البدن أمر صعب ، ولا يؤمن على الإنسان مع مدافعته بالتوبة أن يرهقه الموت فيخرج من الدنيا غير تائب ؛ كما قد يكون على الواحد دين إلى أجلا وقد يقدر على قضائه فلا يزال يدافع بذلك حتّى يحلَّ الأجل وقد نفد المال فيبقى الدين قائماً عليه ، فكان خير الأشياء للإنسان أن يستر عنه مبلغ عمره فيكون طول عمره يترقّب الموت فيترك المعاصي ويؤثر العمل الصالح .
فإن قلت : وها هو الآن قد ستر عنه مقدار حياته وصار يترقّب الموت في كلّ ساعة يقارف (٤) الفواحش وينتهك المحارم ، قلنا : إنّ وجه التدبير في هذا الباب هو الّذي جرى
________________________
(١) كذا في النسخ والظاهر : ثم لو عرف ذلك وثق بالبقاء .
(٢) وفي نسخة : على تصرف الايات .
(٣) أي الكف من التنعّم والتلذّذ .
(٤) أي يكتسب .