تأمل يا مفضّل ما أنعم الله تقدّست أسماؤه به على الانسان من هذه النطق الّذي يعبِّر به عمّا في ضميره ، وما يخطر بقلبه ، ونتيجة فكره ، وبه يفهم عن غيره ما في نفسه ، ولولا ذلك كان بمنزلة البهائم المهملة الّتي لا تخبر عن نفسها بشيء ، ولا تفهم عن مخبر شيئاً ، وكذلك الكتابة الّتي بها تقيّد أخبار الماضين للباقين ، وأخبار الباقين للآتين ، وبها تخلد الكتب في العلوم والآداب وغيرها ، وبها يحفظ الإنسان ذكر ما يجري بينه وبين غيره من المعاملات والحساب ، ولولاه لانقطع أخبار بعض الأزمنة عن بعض ، وأخبار الغائبين عن أوطانهم ، ودرست العلوم ، (١) وضاعت الآداب ، وعظم ما يدخل على الناس من الخلل في اُمورهم ومعاملاتهم ، وما يحتاجون إلى النظر فيه من أمر دينهم ، وما روي لهم ممّا لا يسعهم جهله ، ولعلّك تظنُّ أنّها مما يخلص إليه بالحيلة والفطنة ، وليست ممّا اُعطيه الإنسان من خلقه وطباعه ؛ وكذلك الكلام إنّما هو شيءٌ يصطلح عليه الناس فيجرى بينهم ، ولهذا صار يختلف في الاُمم المختلفة بألسن مختلفة ؛ وكذلك الكتابة ككتابة العربيّ والسريانيّ والعبرانيّ والروميّ وغيرها من سائر الكتابة الّتي هي متفرّقة في الاُمم ، إنّما اصطلحوا عليها كما اصطلحوا على الكلام ، فيقال لمن ادّعى ذلك ، إنّ الإنسان وإن كان له في الأمرين جميعاً فعل أو حيلة فإنّ الشيء الّذي يبلغ به ذلك الفعل والحيلة عطيّةٌ وهبةٌ من الله عزَّ وجلَّ في خلقه (٢) فإنّه لو لم يكن له لسان مهيّؤٌ للكلام وذهن يهتدي به للاُمور لم يكن ليتكلّم أبداً ، ولو لم يكن له كفّ مهيّاة وأصابع للكتابة لم يكن ليكتب أبداً ، واعتبر ذلك من البهائم الّتي لا كلام لها ولا كتابة ، فأصل ذلك فطرة الباري جلَّ وعزَّ وما تفضّل به على خلقه ، فمن شكر اُثيب ومن كفر فإنَّ الله غنيٌّ عن العالمين .
بيان : كلامه ههنا مشعر بأنَّ واضع اللّغات البشر فتدبَّر . (٣)
ذكّر يا مفضّل (٤) فيما اُعطي الإنسان علمه وما منع فإنّه اُعطي علم جميع ما فيه
________________________
(١) أي ذهب أثرها وانمحى .
(٢) وفي نسخة : في خلقته .
(٣) وأهم منه دلالته على كون الاوضاع تعينية لا تعيينية ، وكذا إشعاره بأن هذه وأمثالها اصطلاحات واعتبارات تضطر إليها البشر . ط
(٤) وفي نسخة فكر يا مفضل .