ذلك مثل ما وصفته يا مولاي ؟ قال عليهالسلام : ذلك للتأديب والموعظة لمن يحلّ ذلك به ولغيره بسببه ، كما قد يؤدِّب الملوك الناس للتنكيل (١) والموعظة فلا ينكر ذلك عليهم بل يحمد من رأيهم ويصوَّب من تدبيرهم ، ثمَّ للّذين ينزل بهم هذه البلايا من الثواب بعد الموت إن شكروا وأنابوا ما يستصغرون معه ما ينالهم منها حتّى أنّهم لو خيَّروا بعد الموت لاختاروا أن يردُّوا إلى البلايا ليزدادوا من الثواب .
فكّر يا مفضّل في الأعضاء الّتي خلقت أفراداً وأزواجاً ، وما في ذلك من الحكمة والتقدير ، والصواب في التدبير ، فالرأس ممّا خلق فرداً ولم يكن للإنسان صلاح في أن يكون أكثر من واحد ، ألا ترى إنّه لو اُضيف إلى رأس الإنسان رأس آخر لكان ثقلاً عليه من غير حاجة إليه ، لأنَّ الحواسَّ الّتي يحتاج إليها مجتمعةٌ في رأس واحد ، ثمَّ كان الإنسان ينقسم قسمين لو كان له رأسان فإن تكلّم من أحدهما كان الآخر معطّلاً لا إرب فيه ولا حاجة إليه ، وإن تكلّم منهما جميعاً بكلام واحد كان أحدهما فضلاً لا يحتاج إليه ، وإن تكلّم بأحدهما بغير الّذي تكلّم به من الآخر لم يدر السامع بأيّ ذلك يأخذ ، و أشباه هذا من الأخلاط ، واليدان ممّا خلق أزواجاً ولم يكن للإنسان خير في أن يكون له يد واحدةٌ لأنَّ ذلك كان يخلُّ به فيما يحتاج إلى معالجته من الأشياء ألا ترى أنَّ النجّار والبنّاء لو شلّت إحدى يديه لا يستطيع أن يعالج صناعته ، وإن تكلّف ذلك لم يحكمه ولم يبلغ منه ما يبلغه إذا كانت له يدان يتعاونان على العمل .
أطل الفكر يا مفضّل في الصوت والكلام وتهيئة آلاته في الإنسان ، فالحنجرة كالاُنبوبة (٢) لخروج الصوت ، واللّسان والشفتان والأسنان لصياغة الحروف والنغم ، ألا ترى أنَّ من سقطت أسنانه لم يقم السين ، ومن سقطت شفته لم يصحّح الفاء ، ومن ثقل لسانه لم يفصح الراء ، وأشبه شيء بذلك المزمار الأعظم ، فالحنجرة يشبة قصبة المزمار والرية يشبه الزقَّ الّذي ينفخ فيه لتدخل بالريح ، والعضلات الّتي تقبض على الرية ليخرجَ الصوت كالأصابع الّتي تقبض على الزقّ حتّى تجري الريح في المزمار ، والشفتان
________________________
(١) نكّل به : صنع به صنيعاً يحذّر غيره ويجعله عبرة له .
(٢) وزان ارجوزة : ما بين العقدتين من القصب .