الذرّة في المشرق و هو بالمغرب و لا يدرك الجبل العظيم الحاضر عنده و لا مانع من رؤيته.
و أيضا ذهبوا إلى انتفاء صدور المسبّبات عن أسبابها، و نفوا العلّيّة مطلقا بين العلّة و المعلول، فقالوا: الإنسان إذا نزل في الثلج إلى حدّ رأسه قد لا يحصل له البرد، بل يكون حاله هناك كحاله إذا وقع في تنّور مسعّر قد اشتعل فيه الخشب العظيم مدّة أيّام، و أن يكون حاله إذا وقع في ذلك التنّور بمنزلة ما إذا وقع في بحر الثلج بحيث يحسّ في الثلج بالحرّ المفرط و في التنّور المسعّر بالبرد المفرط، و إنّ الضرب ليس سببا في الألم، بل قد يضرب الإنسان أشدّ الضرب بأقوى الآلات المؤلمة و لا يحصل له ألم ألبتّة، بل قد يحصل له اللّذّة العظيمة التي يدركها عند مباشرته لأحسن الصّور حالة الوقاع، و بالعكس.
و هؤلاء في الحقيقة أعظم سفسطة من السوفسطائيّة؛ لأنّ جماعة من الحكماء لمّا عجزوا عن مجادلة منكري البديهيّات من السوفسطائيّة التجأوا إلى ضربهم بالخشب و إحراقهم بالنار بحيث يدركون الألم الشديد و يفرّقون بين حالهم عند الضرب و الإحراق و حالهم عند الخلوّ عنهما، و إذا فرّقوا بين الإحساس و عدمه حصل الفرق بالعقل بين المعلوم بالضرورة و ما لا يعلم بالضرورة، و هؤلاء اعترفوا على أنفسهم بأنّه قد يحصل لهم عند الضرب العظيم و الإحراق بالنيران الكثيرة ضدّ الألم، و هو اللّذّة العظيمة، فصاروا بهذا الاعتبار أشدّ عنادا للحقّ من السوفسطائيّة.
و قالوا: إنّ المدلول لا يحصل من سببه، و هو الدليل، بل قد يحصل من خلافه، أو يحصل ضدّه، فإذا قال الإنسان: العالم متغيّر و كلّ متغيّر
محدث، لا يلزم حصول اعتقاد أنّ العالم محدث، بل قد يحصل أنّ العالم قديم، أو يحصل أنّ الإنسان جسم مثلا، و إذا اعتقد أنّ الإنسان حيوان و أنّ كلّ حيوان جسم لا يحصل أنّ الإنسان جسم، بل قد يحصل أنّ الإنسان عرض أو أنّ العالم محدث، و أيّ جهل أعظم من ذلك ؟
و أيضا قالوا: إنّ اللّه تعالى هو الخالق(١) لأفعال العباد بأسرها خيرها و شرّها، حسنها و قبيحها، و قد خالفوا الضرورة في ذلك، فإنّ كلّ عاقل يجزم جزما ضروريّا بأنّه الفاعل لأفعال نفسه بحسب اختياره و إرادته، و أنّ الضرورة فرّقت بين وقوع الإنسان من سطح الدار و نزوله بالدرج، و نعلم بعدم اختياره في الأوّل، و أنّه مختار في الثاني.
قال أبو الهذيل العلاّف: حمار بشر أعقل من بشر؛ لأنّ حمار بشر إذا أتيت به إلى جدول صغير و حملته على طفره طفره، و لو أتيت به إلى جدول كبير و حملته على طفره لم يطفره، و لو بالغت في ضربه عدل يمينا و شمالا، و لم يطعك على طفره؛ لأنّه فرّق بين ما يقدر عليه و ما لا يقدر عليه، و بشر لم يفرّق بينهما(٢).
و لزمهم من ذلك ارتكاب محالات:
أحدها: نسبة اللّه تعالى إلى الظلم، حيث يعذّب الكافر أشدّ العذاب من غير صدور ذنب منه؛ إذ لا فرق بين فعله و شكله، فجوّزوا تعذيب الكافر على لونه و طوله و قصره و غير ذلك من الأفعال التي فعلها اللّه تعالى فيه، كما يعذّبه على الذنوب.
و ثانيها: أنّه تعالى كلّف العبد ما لا قدرة له عليه، و أمره و نهاه بما٢.
١- في «ل» و الطبعة الحجريّة: «الخلاّق» بدل «الخالق».
٢- الفائق في أصول الدين: ٢٤٢.