و كذا جوّزوا أن يكون صحيح السمع في الغاية لا يسمع الأصوات الهائلة التي هي أقوى من أشدّ الصواعق صوتا و لا حائل بينه و بينها، و يخفى عليه ذلك و لا صمم بأذنه، ثمّ يسمع الأصمّ الذي لا يسمع شيئا ألبتّة من أوّل عمره و هو على طرف قطر المشرق أدنى مشاورة بين اثنين لا يسمع ثالث عندهما و هما على طرف قطر المغرب.
و جوّزوا أن تكون البريّة الخالية من البشر، التي قدرها طولا و عرضا مائة فرسخ - مثلا - قد امتلأت ألوفا من الخلائق التي لا حصر لعددهم و هم في غاية المحاربة و المسابقة و المراماة بالمناجيق و المصاولة بالحراب و السيوف و الخيول التي يركبونها و لا حصر لها و الإنسان السائر في تلك البريّة طولا و عرضا و مستقيما و معوجا و على خطّ مستقيم و مستدير و يحيط تلك البريّة و يجول فيها بفرسه و لا يسمع لأولئك حسيسا، و لا يدرك لهم صورة، و لا يصدم منهم إنسانا و لا دابّة، بل تتوارى(١) عنه و تنحرف يمينا و شمالا و في جميع المسامتات تبعد عنه.
و جوّزوا أنّ الواحد منّا يرى جوع غيره و شبعه و يدرك ذلك منه و كذا يدرك لذّة الغير و ألمه و فرحه و غمّه و سروره و يرى علمه و ظنّه و وهمه و شكّه و خوفه و اعتقاده و إحساسه و جميع الكيفيّات النفسانيّة التي للغير و لا يشاهد لون بشرته و لا يرى أنّها سوداء أو بيضاء مع عدم الحاجب عنها و وقوع الضوء عليها، و بالجملة يشاهد ما وقع بينه و بينه حجاب عرضه ألف ذراع من الحديد - مثلا - في اللّيلة الظلماء و لا ضوء هناك و لا يشاهد ما هو إلى جانبه و لا حاجب له و نور الشمس مشرق عليه و هو ملوّن، و كذا يشاهد».
١- في «ر، ص»: «تنزوي» بدل «تتوارى».