(فِي بَيَانِ الْحُكُومَةِ بَيْنَ الفَقْرِ وَالْغِنَى)
فَالْتَفَتَتِ القُوَّةُ المُتَخيِّلَةُ(١) إِلَيهِمَا ؛ وَقَالَتْ : قَدْ وَعَيْتُ مَا أَمْلَيْتُمَا ، وَفَهِمْتُ الذِي قُلْتُما ، وَكُلُّ وَاحِد مِنْكُمَا أَتَى بِمَا مَيَّزَ نَفْسَهُ وَأَتْبَاعَهُ والمُلازِمِينَ لَهُ بِصِفَات لاَ يُشَارِكُهُ فِيهَا الآخَرُ ، وَلاَ مُلازِمُوهُ وَالمُتَّصِفُونَ بِهِ ؛ وَأَنَا لاَ أَتَصَدَّى لِلْحُكُومَةِ وَرَفْعِ المُخَاصَمَةِ بَيْنَكُمَا حَقَيقَةً ؛ لأنَّنِي وَإِنْ أَدْرَكْتُ المِيزَةَ بَيْنَكُمَا وَالتَّبايُنَ فِي حَقَيقَتِكُمَا(٢) ؛ لأنَّ الغِنَى هُوَ رَفْعُ حَاجَةِ الشَّخْصِ عَنْ مِثْلِهِ ، وَسُمِّيَ الغَنِيُّ بِهِ ؛ لأنَّهُ لَمْ يَحْتَجْ بِوَاسِطَتِهِ إِلَى أَمْثَالِهِ ، وَالفَقْرُ هُوَ الاحْتِيَاجُ ، وبِهِ سُمِّيَ الفَقِيرُ لاحْتِيَاجِهِ إِلَى مِثْلِهِ(٣) غَالِباً ، وَلَكِنْ حَيْثُ أَنَا وَحُكُومَتِي لاَ أَبْرُزُ إِلَى عَالَمِ الوُجُودِ الخَارِجىِّ ؛ بَلْ غَايَةُ الأَمْرِ إِنِّي أُسمَّى خَيَالاً فِي خَيَال ؛ بَلِ الوَاجِبُ عَلىَّ أَنْ أَرْفَعَ قِصَّتَكُمَا وَأُوْصِلَ أَمْرَكُمَا وَشَأْنَكُمَا ، وَأُمْلِي مَا أَبْدَيْتُمَاهُ لِي إِلَى الْحَاكِمِ العَدْلِ الذِي قَوْلُهُ الفَصْلُ ، وَلَيْسَ الهَزْلَ ، وَهُوَ العَقْلُ ؛ وَأَعْنِي بِهِ العَقْلَ الفِطْرِيَّ الخَالِيَ عَنْ شَوَائِبِ الأَوْهَامِ ، وَهُوَ الحُجَّةُ الكَامِلَةُ مِنْ حُجَجِ المَلِكِ العَلاَّمِ ؛ فَهُوَ الذِي إِذَا حَكَمَ بِشَيء وَأَبْرَزَهُ تَلقَّتْهُ بالقَبُولِ جَمِيعُ الأَنَامِ ، وَارْتَفَعَتْ بِهِ الخُصُومَةُ عَنِ حَوْمَةِ الخِصَامِ عِنْدَ جَمِيعِ الخَاصِّ والعَامِّ.
__________________
(١) قال الحكماء القوّة المتخيّلة أو المتصرّفة إن كان تصرّفهما بتدبير العقل سمّيت مفكّرة وإن كان بتدبير الوهم سمّيت متخيّلة. شرح أصول الكافي ١/١٤٢.
(٢) كذا ، والصواب أن يقال : حقيقتيكما ، لأنّ التباين نسبةٌ بين شيئين أو أكثر وهذا يقتضي التعدّد ، كما أنّ الحال هما حقيقتان لا حقيقة واحدة.
(٣) مثله يكون مساوياً له ، فيكون الاحتياج إلى الغير ، إلاّ اللهمّ يقصد به المثلية الإنسانية.