الضوابط الأخرى ناظرة في الأسلوب أو العرض أو الموضوع ، أو القصر أو الطول ، أو الشدة أو اللين ، يستضاء بها ويسترشد إلى تمييز المكي من المدني وبالعكس.
وسواء أكانت هذه الضوابط نقلية أم اجتهادية فإن لها استثناءات في حدود ، وتماثلا بين القسيمين في بعض الوجوه. وعليه فلا طريق لنا إلى القطع بالمكي أو المدني ، إلا الرواية الصحيحة الثابتة ، أو الأحداث التأريخية المتناولة لها سورة ما ، وتقتضي التعيين الزماني أو التحديد المكاني ، أو معرفة أسباب النزول بأشخاصه وأماكنه ووقائعه ، لا دواعيه ومماثلاته ولوازمه ، وبذلك يكون التدوين التأريخي لقسيمي القرآن مكية ومدنية ، أمثل ترتيبا ، وأكثر صحة.
على أن تلك الضوابط ـ ولا ننكر أهميتها ـ تشير إلى خصائص قيمة في مسيرة الوحي القرآني من الإجمال إلى التفصيل ، ومن العموميات إلى الجزئيات ، ومن الإشارة إلى التصريح ، وهي بالأخير تنبه إلى الإيمان بالمرحلية الزمانية والمكانية في التشريع والقوانين والأنظمة ، وتبرهن على تطور أساليب الرسالة ومقتضياتها.
وبديهي أن النزول إما أن يكون ابتدائياً ، أو على أثر سؤال أو حادث أو استفتاء ، فما كان منه ابتدائياً فيمكن اعتباره الأصل الأولي في الدين ، والأساس في أركان التشريع العامة ، وحجر الزاوية في تنظيم العالم من قبل الله تفضلاً منه وتحننا ورحمة ، وما جاء عقب واقعة فأما أن يكون حكماً جديداً لا عهد لهم به ، أو نبأ مجهولاً عند السائلين ، أو تفصيلاً في حدود وفرائض أجملت من ذي قبل ، وفيه تتجلى حكمة التشريع وبواعث الحكم ، وعنه نشأ علم أسباب النزول ، والعلم بالسبب يورث العلم بالمسبب ، واستفيد منه إنسانية القرآن ، وعالمية دعوته ، وشمولية أحكامه ، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، ويعرف به الناسخ من المنسوخ في بعض الحالات ، وفيه تعيين تأريخي للأحداث ، وتقويم عام للمشكلات ، وطريقه الأمثل هو النقل الصحيح القطعي.
قال الواحدي : « لا يحل القول في أسباب نزول الكتاب إلا بالرواية