الأسلوب البياني ، فهو في الأول نفسه في الوسط والآخر ، ومع كثرة الأحداث وتعدد المسؤوليات في بيان الأحكام ، وتدارك النوازل ، واستيعاب المشكلات ، لم يبد فيه ـ ولو مرة واحدة ـ أي اختلاف وتناقض ، ولو كان من كلام البشر ، لحصل فيه التفاوت والتناقض معا ، وصدق الله تعالى حيث يقول : ( وَلَوْ كانَ من عندِ غيرِ اللهِ لوجودُوا فيه اختلافاً كثيراً ) (١).
الثانية : أن قليل هذا التنزيل وكثيره ، هو الدليل المتعاقب ـ مرة بعد مرة ـ على نبوة محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم لأن مراعاة المناسبة ، والعقل في الأمر الجلل ، والتحدث عن الغيب المطلق ، كل ذلك بتحديد قاطع ، وحجة لا تقبل جدلاً ، لا يمكن أن يكون إلا من قبل الله تعالى ، لأن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أمي يفقد أدنى ما يمكن أن يتمتع به غيره من الناس الاعتياديين في القراءة والكتابة ، فكيف إذن بمسائل التشريع ، وأخبار الغيب ، وقضايا الساعة ، ومختلف الأحكام ، ولم يسبق له أن مارس قبل بعثته أي نوع من أنواع الثقافة والمعرفة ، التي تتناسب مع هذا العطاء المتواصل من الوحي ، وفي هذه القضية الخارجة عن مقدرة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم تأكيد لقوله تعالى : ( ولو تقوَّلَ علينا بعضَ الأقاويلِ (٤٤) لأخذنا منه باليمينِ (٤٥) ثم لقطعنا منه الوتينَ (٤٦) فما منكم من أحدٍ عنه حاجزينَ (٤٧) ) (٢).
* * *
وكان نتيجة هذا التدرج في النزول أن استوعب نزول القرآن الكريم حياة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في الرسالة ، وكانت رسالته قد اتخذت مرحلتين : مرحلة الفترة المكية قبل الهجرة ، ومرحلة الفترة المدنية بعد الهجرة ؛ وفي هذا الضوء اقتضى أن ينقسم القرآن الكريم الى مرحلتين تبعا لمرحلتي الرسالة ، لاستمراره بالنزول فيهما ، وهما المرحلة المكية ، والمرحلة المدنية ، وهو تقسيم روعي فيه النظر إلى الزمان والمكان ، وللباحثين فيه ثلاثة إصطلاحات :
__________________
(١) النساء : ٨٢.
(٢) الحاقة : ٤٤ ـ ٤٧.