واختلف النحويون في (مِنْ) الثانية والثالثة :
فجعل بعضهم الثانية زائدة ، فعلى هذا المعنى يكون التّقدير : ينزل من السماء جبالا فيها من برد ، و (مِنْ) في قوله : (مِنْ بَرَدٍ) لبيان الجنس ، كما قال تعالى : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) [الحج : ٣٠]. وقال بعضهم : الثالثة زائدة ، والمعنى على هذا : وينزل من السماء من جبال فيها بردا ، أي : وينزل من السماء بردا من جبال فيها ، فهذا يدل على أنّ في السماء جبال برد ، و (مِنْ) الثانية على هذا القول لابتداء الغاية ، وهي مع (جِبالٍ) بدل من قوله : (مِنَ السَّماءِ) بإعادة الجار ، كما قال تعالى : (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ) [الأعراف : ٧٥] ، وهو بدل الاشتمال ؛ لأنّ السّماء تشتمل على الجبال ، كما تقول : يعجبني شعبان الصّوم فيه ، أي : يعجبني الصوم في شعبان (١).
قوله تعالى : (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [النور : ٥٧].
الحسبان والظن سواء ، يقال : حسب يحسب بكسر السين وفتحها (٢) ، يروى أنّ الفتح لغة النبي صلىاللهعليهوسلم.
وقرأ حمزة وابن عامر : ولا يحسبن بالياء وفتح السين ، ف (الَّذِينَ كَفَرُوا) على هذا فاعلون ، والمفعول الأول ليحسبن محذوف ، والتقدير : ولا يحسبن الذين كفروا أنفسهم معجزين أو إياهم معجزين ، وحسن حذف المفعول الأول لأنّه هو الذي كان مبتدأ ، وحذف المبتدأ جائز لدلالة الخبر عليه ، نحو قوله تعالى : (وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ) [البقرة : ٥٨] أي : أمرنا حطّة أو طلبتنا حطّة ، وكذلك : (طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) [محمد : ٢١] أي : طلبتنا طاعة.
وقرأ الباقون بالتاء وكسر السين ، فلا حذف على هذه القراءة ؛ لأنّ الفاعل مضمر ،
__________________
(١) فصّل القول في هذه المسألة : الفراء في معاني القرآن : ٢ / ٢٥٦ ، والأخفش في معاني القرآن : ١ / ٢٥٤ ، والزجاج في معاني القرآن وإعرابه : ٤ / ٣٩ ، والنحاس في إعرابه : ٢ / ٤٤٧ ، والفارسي في البغداديات : ٢٤١ ـ ٢٤٤ ، ومكي في مشكل إعراب القرآن : ٢ / ٥١٣ ، والهروي في الأزهية : ٢٢٧.
(٢) ينظر الفروق اللغوية : ٣٤٣.