والجواب الثاني : أن العرب تلف الكلامين بعضهما ببعض اتكالا على علم المخاطب ، وأنه يردّ كل واحد منهما إلى ما يشاكله ، قال امرؤ القيس (١) :
كأنّي لم أركب جوادا للذّة |
|
ولم أتبطن كاعبا ذات خلخال |
ولم أسبأ الزقّ الرّويّ ولم أقل |
|
لخيلي كرّي كرّة بعد إجفال |
وكان حقه أن يقول : كأنّي لم أركب جوادا للذة ، ولم أقل لخيلي كرّي ، ولم أسبأ الزقّ الروي ، ولم أتبطن كاعبا. كما قال عبد يغوث :
كأنّي لم أركب جوادا ولم أقل |
|
لخيلي كرّي نفّسي عن رجاليا (٢) |
ولم أسبأ الزقّ الرويّ ولم أقل |
|
لأيسار صدق أظهروا ضوء ناريا |
[٥٧ / ظ] وقد تأول قول امرئ القيس على الجواب الأول ، وذلك أنّه جمع في البيت الأول بين ركوبين : ركوب الجواد وركوب الكاعب ، وجمع في الثاني بين سباء الخمر والإغارة لأنّهما يتجانسان.
فصل :
وممّا يسأل عنه أن يقال : لم جاز أن تعمل (إنّ) في (أنّ) بفصل ، ولم يجز من غير فصل؟
والجواب : أنهم امتنعوا عن ذلك كراهة للتعقيد بمداخلة المعاني المتقاربة ، فأمّا المتباعدة فلا يقع فيها تعقيد بالاتصال ؛ لأنها مباينة مع الاتصال لألفاظها ، فلذلك جاز (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (١١٨) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى) [طه : ١١٧ ـ ١١٨] ، ولم يجز : إن إنّك لا تظمأ فيها ؛ لأنّه بغير فصل (٣).
وقرأ نافع وعاصم من طريقة أبي بكر وَأنكَ لا تَظْمَؤُا فِيها بالكسر ، وقرأ الباقون بالفتح (٤).
فمن كسر عطف على (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ) [طه : ١١٨] ، ومن فتح فيجوز فيه وجهان :
أحدهما : أن يكون في موضع نصب عطفا على اسم (إنّ).
__________________
(١) ديوانه : ٥٠ ، وهو من شواهد الجوهري في الصحاح : ٥ / ٢٠٨٠ (بطن).
(٢) الأبيات من شواهد الطبرسي في مجمع البيان : ٧ / ٦٣.
(٣) ينظر معاني القرآن للفراء : ٢ / ١٩٤ ، وجامع البيان : ١٦ / ٢٧٦.
(٤) السبعة : ٤٢٤ ، والمبسوط : ٢٩٨.