والثاني : أنه لمّا كثر منه ذلك أقام المصدر مقام اسم الفاعل ، كما قالت الخنساء (١) :
ترتع ما رتعت حتّى إذا ادّكرت |
|
فإنّما هي إقبال وإدبار |
ومن كلام العرب : إنّما أنت أكل وشرب (٢).
وقد روي عن ابن عبّاس ومجاهد وإبراهيم أن المعنى : إن سؤالك هذا عمل غير صالح (٣) ، فعلى هذا الوجه لا يكون في الكلام حذف [٣٩ / و].
قوله تعالى (٤) : (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [هود : ٤٤].
يقال : أقلع السّحاب إذا ارتفع (٥) ، وغاض الماء إذا غاب في الأرض (٦) ، والجوديّ : جبل بناحية آمد (٧).
قال أمية (٨) :
سبحانه ثمّ سبحانا يعود له |
|
وقبلنا سبّح الجوديّ والجمد |
ومعنى (قُضِيَ الْأَمْرُ) وقع إهلاك قوم نوح (٩).
ونصب (بُعْداً) على المصدر وفيه معنى الدّعاء ، ويجوز أن يكون من قول الله تعالى ، ويجوز أن يكون من قول المؤمنين (١٠).
وقد جمعت هذه الآية من عجيب البلاغة أشياء :
__________________
(١) ديوانها : ٧٨ ، وهو من شواهد سيبويه في الكتاب : ١ / ١٦٩ ، والزّجاج في معاني القرآن وإعرابه : ٣ / ٤٦ ، والمرتضى في أماليه : ٥٠٤.
(٢) ينظر الكتاب : ١ / ١٦٩ ، والمقتضب : ٣ / ٢٣٠ ، ومجالس العلماء : ٢٦٠ ، والخصائص : ٢ / ٢٠٣.
(٣) ينظر تفسير ابن عبّاس : ٢٨٥ ، ومعالم التنزيل : ٤ / ١٨٠.
(٤) جاء ترتيب هذه الآية قبل الآية السابقة لها.
(٥) اللسان : ٨ / ٢٩١ (قلع).
(٦) الصحاح : ٣ / ١٠٩٦ (غيض).
(٧) ذكر ذلك الزّجاج في معاني القرآن وإعرابه : ٣ / ٤٥. وآمد : من الثغور المعروفة على ضفاف نهر دجلة ، ينسب إليها علماء أشهرهم أبو القاسم الآمدي (ت ٢٧٠ ه). ينظر معجم البلدان : ١ / ٥٦.
(٨) ديوان أمية بن أبي الصّلت : ٣٠ ، وهو من شواهد سيبويه في الكتاب : ١ / ١٦٤ ، وأبي عبيدة في مجاز القرآن : ١ / ٢٩٠ ، والمبرد في المقتضب : ٣ / ٢١٧.
(٩) معاني القرآن وإعرابه : ٣ / ٤٥ ، وينظر تأويل مشكل القرآن : ٥١٤.
(١٠) ينظر المحرر الوجيز : ٣ / ١٧٦ ، ومجمع البيان : ٥ / ٢٨٢ ، والمجيد (تحقيق : طلعت) : ٣٤.