الذي ، وما استفهاما فيكون كلمتين ، وأن تكون ذا مركبة مع ما مجعولتين اسما واحدا للاستفهام فيكون كلمة واحدة ، فما على الأول رفع بالابتداء وخبره ذا مع صلته أي أراد والعائد محذوف ، وعلى الثاني منصوب المحل بأراد والتقدير أي شيء أراد الله ، والإرادة مصدر أردت الشيء إذا طلبته نفسك ومال إليه قلبك ، وهي عند المتكلمين معنى يقتضي تخصيص المفعولات بوجه دون وجه ، والله تعالى موصوف بالإرادة على الحقيقة عند أهل السّنّة ، وقال معتزلة بغداد : إنّه تعالى لا يوصف بالإرادة على الحقيقة. فإذا قيل أراد الله كذا فإن كان فعله فمعناه أنّه فعل وهو غير ساه ولا مكره عليه ، وإن كان فعل غيره فمعناه أنّه أمر به : (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) جار مجرى التفسير والبيان للجملتين المصدرتين بأمّا ، وأنّ فريق العالمين بأنّه الحق وفريق الجاهلين المستهزئين به كلاهما موصوف بالكثرة ، وأنّ العلم بكونه حقا من باب الهدى ، وأنّ الجهل بحسن مورده من باب الضلالة. وأهل الهدى كثير في أنفسهم وإنّما يوصفون بالقلة بالقياس إلى أهل الضلال ، ولأنّ القليل من المهتدين كثير في الحقيقة وإن قلّوا في الصورة :
إنّ الكرام كثير في البلاد وإن |
|
قلّوا كما غيرهم قلّ وإن كثروا (١) |
والإضلال : خلق فعل الضلال في العبد ، والهداية : خلق فعل الاهتداء ، هذا هو الحقيقة عند أهل السّنّة ، وسياق الآية لبيان أنّ ما استنكره الجهلة من الكفار واستغربوه من أن تكون المحقرات من الأشياء مضروبا بها المثل ليس بموضع الاستنكار والاستغراب ، لأنّ التمثيل إنّما يصار إليه لما فيه من كشف المعنى وإدناء المتوهم من المشاهد ، فإن كان المتمثّل له عظيما كان المتمثّل به مثله (٢) ، وإن كان حقيرا كان المتمثّل به كذلك ، ألا ترى أنّ الحقّ لمّا كان واضحا جليا تمثّل له بالضياء والنور ، وأنّ الباطل لمّا كان بضد صفته تمثّل له بالظلمة ، ولما كانت حال (٣) الآلهة التي جعلها الكفار أندادا لله لا حال أحقر منها وأقلّ ـ ولذلك جعل بيت العنكبوت مثلها في الضعف والوهن وجعلت أقلّ من الذباب وضربت لها البعوضة فالذي دونها مثلا ـ لم يستنكر ولم يستبدع ولم يقل للمتمثّل استحى من تمثيلها بالبعوضة ، لأنّه مصيب في تمثيله محق في قوله ، سائق للمثل على قضية مضربه ، ولبيان أنّ المؤمنين الذين عادتهم الإنصاف والنظر في الأمور بناظر العقل إذا سمعوا بهذا التمثيل علموا أنّه
__________________
(١) لم أصل إلى أصله.
(٢) في (ز) كذلك.
(٣) في (ظ) حالة.