(إِنَّ اللهَ لا
يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ
آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ
كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً
وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ)
(٢٦)
الذي لا ينقطع ،
وفيه بطلان قول الجهميّة ، فإنّهم يقولون بفناء الجنّة وأهلها لأنّه تعالى وصف
بأنّه الأول الآخر وتحقيق وصف الأولية بسبقه على الخلق أجمع فيجب تحقيق وصف
الآخرية بالتأخر عن سائر المخلوقات ، وذا إنّما يتحقق بعد فناء الكلّ فوجب القول
به ضرورة ، ولأنّه تعالى باق وأوصافه باقية فلو كانت الجنة باقية مع أهلها لوقع
التشابه بين الخالق والمخلوق وذا محال. قلنا الأول في حقه هو الذي لا ابتداء
لوجوده ، والآخر هو الذي لا انتهاء له ، وفي حقنا الأول هو الفرد السابق والآخر هو
الفرد اللاحق ، واتصافه بهما لبيان صفة الكمال ونفي النقيصة والزوال ، وذا في
تنزيهه عن احتمال الحدوث والفناء لا فيما قالوه ، وأنى يقع التشابه في البقاء وهو
تعالى باق لذاته وبقاؤه واجب الوجود ، وبقاء الخلق به وهو جائز الوجود.
لمّا ذكر الله
تعالى الذباب والعنكبوت في كتابه وضرب به مثلا ضحكت اليهود وقالوا ما يشبه هذا
كلام الله فنزل :
٢٦ ـ (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ
يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً) أي لا يترك ضرب المثل بالبعوضة ترك من يستحي أن يتمثل بها لحقارتها ، وأصل الحياء تغير وانكسار
يعتري الإنسان من تخوّف ما يعاب به ويذمّ ، ولا يجوز على القديم التغيّر والخوف
والذّمّ ، ولكن الترك لما كان من لوازمه عبّر عنه به ، ويجوز أن
تقع هذه العبارة في كلام الكفرة فقالوا : أما يستحي ربّ محمد أن يضرب مثلا بالذباب
والعنكبوت ، فجاءت على سبيل المقابلة وإطباق الجواب على السؤال ، وهو فن من كلامهم
بديع ، وفيه لغتان ، التعدي بنفسه وبالجار ، يقال استحييته واستحييت منه ، وهما
محتملتان هنا ، وضرب المثل صنعة من ضرب اللّبن وضرب الخاتم ، وما هذه إبهامية وهي
التي إذا اقترنت باسم نكرة أبهمته إبهاما وزادته عموما ، كقولك : أعطني كتابا ما
تريد أي كتاب كان ، أو صلة للتأكيد كالتي في قوله تعالى : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ) كأنّه قال لا يستحي أن يضرب مثلا البتة. وبعوضة عطف بيان
لمثلا ، أو مفعول ليضرب ومثلا حال من
__________________