(اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (١٥)
المؤمنين بالجملة الفعلية وشياطينهم بالاسمية محقّقة بإنّ لأنّهم في خطابهم مع المؤمنين في ادعاء حدوث الإيمان منهم لا في ادعاء أنّهم أوحديّون في الإيمان ، إمّا لأنّ أنفسهم لا تساعدهم عليه إذ ليس لهم من عقائدهم باعث ومحرك ، وإمّا لأنّه لا يروّج عنهم لو قالوه على لفظ التأكيد والمبالغة ، وكيف يطمعون في رواجه وهم بين ظهراني المهاجرين والأنصار ، وأمّا خطابهم مع إخوانهم فقد كان عن رغبة وقد كان متقبّلا منهم رائجا عنهم ، فكان مظنّة للتحقيق ومئنّة للتأكيد ، وقوله : (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) تأكيد لقوله إنّا معكم لأنّ معناه الثبات على اليهودية ، وقوله إنّما نحن مستهزئون ردّ للإسلام ودفع له منهم ، لأنّ المستهزئ بالشيء المستخف به منكر له ودافع لكونه معتدا به ، ودفع نقيض الشيء تأكيد لثباته ، أو استئناف كأنّهم اعترضوا عليهم بقولهم حين قالوا لهم إنّا معكم إن كنتم معنا فلم توافقون المؤمنين؟ فقالوا إنّما نحن مستهزئون ، والاستهزاء : السخرية والاستخفاف ، وأصل الباب الخفة من الهزء وهو القتل السريع ، وهزأ يهزأ مات على المكان.
١٥ ـ (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) أي يجازيهم على استهزائهم ، فسمّى جزاء الاستهزاء باسمه ، كقوله تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) (١) (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ) (٢) فسمّى جزاء السيئة سيئة وجزاء الاعتداء اعتداء وإن لم يكن الجزاء سيئة واعتداء ، وهذا لأنّ الاستهزاء لا يجوز على الله تعالى من حيث الحقيقة ، لأنّه من باب العبث وتعالى عنه ، قال الزّجّاج : هو الوجه المختار ، واستئناف قوله تعالى (٣) (اللهُ (٤) يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) بغير (٥) عطف في غاية الجزالة والفخامة ، وفيه أنّ الله تعالى هو الذي يستهزئ بهم الاستهزاء الأبلغ الذي ليس استهزاؤهم إليه باستهزاء لما ينزل بهم من النّكال والذّلّ والهوان ، ولمّا كانت نكايات الله وبلاياه تنزل عليهم ساعة فساعة قيل الله يستهزئ بهم ولم يقل الله مستهزئ بهم ليكون طبقا لقوله إنّما نحن مستهزئون (وَيَمُدُّهُمْ) أي يمهلهم عن الزّجّاج (فِي طُغْيانِهِمْ) في غلوّهم في كفرهم (يَعْمَهُونَ) حال أي يتحيّرون ويتردّدون ، وهذه الآية حجة على المعتزلة في مسألة الأصلح.
__________________
(١) الشورى ، ٤٢ / ٤٠.
(٢) البقرة ، ٢ / ١٩٤.
(٣) ليست في (ز).
(٤) ليست في (ظ).
(٥) في (ظ) و(ز) من غير.