الصراع مفكّري الحضارات الأولى ، فسقراط الذي جاء بالفكرة في معرفة الذات الإنسانية وسبر غور تصرّفاتها ووضع للأخلاق لُبنتها الأولى وحارب السفسطة فاتّهمه خصومه بالزندقة فتجرّع السمّ في سجنهم ليثأر للكلمة وأخلاقيّاتها ، وإفلاطون في جمهوريّته كان يسعى إلى المدينة الفاضلة فاصطدم بهم.
وإنّ الصراع الفكري الكنسي في العصور الوسطى كان من أكثر المظاهر التي تجلّت فيها مصادرة الكلمة وإقصاء الرأي الآخر ، حتى وصل الأمر إلى إصدار الأحكام الكنسية بإحراق مخالفي الكثلكة أحياءً أمام الملأ ، فتمخّض الصراع عن ولادة الرأي الآخر الذي تمثّل في البروتستانتية التي تبلورت على يد مارتن لوثر الذي قام بحركته الإصلاحية المعروفة في شأن الغفرانيّات ، والأُرثوذوكسية التي انفصلت عن الكنيسة الكاثوليكية فأنشأت لها الكنيسة الشرقية البيزنطية.
وقبل العصور المظلمة بقرون كان الصراع الفكري على أشدّه بين المذاهب الإسلامية ومدارسها ، حيث كانت كلّ مدرسة تسعى للاستحواذ على بلاط السلطان ليكون لها السطوة واليد الطولى لخنق أصوات الرأي الآخر ، ولم يسلم من تلك الدوّامة مذهب ولا مدرسة ، وراح ضحيّة تلك الحقبة أئمة ومفكّرون ، وأهدرت دماء وسجن العديد من أصحاب الرأي ، وأُسكتت أصوات كانت امتداداً لصدى الرفض الأوّل الذي أطلقه جندب بن جنادة الربذي أبو ذرّ الغفاري.
ومرّت قرون طوت معها مراحل تطوّر الوعي الإنساني ، وبدا بصيص من الأمل يلوح في الأفق لينبئ عن عصر جديد ، وكان البحث عن الحقيقة يستنهض رجالا طالما أقضّ مضاجعهم صراعات القرون الأولى ، فنهض