بالمجانسة ، وكأنّه خاطبه ثانيا من عندانيّة روحه التي هي درجة الاستناد في الإيهام والاتحاد ، فقال : أردنا ، وذلك لاستدراج المستمع إلى المقصود ، وكأنّه خاطبه ثالثا من عند الآنيّة التي لا أينية لها ، وهي عين التوحيد ، وحقيقة التفريد ، ثمّ كأنّه ردّ إلى موقف الحجاب بقوله : (وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً)، وأنما ردّه إلى موقف الحجاب للإبقاء عليه حتى يبلغ الكتاب أجله.
٨٣ ـ (وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ) : عن عقبة بن عامر (١) قال : كنت أخدم رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فخرجت من عنده ، فوجدت ناسا من أهل الكتاب معهم كتب ومصاحف ، قالوا : استأذن لنا على محمد رسول الله ، قال : فدخلت ، فأخبرته بمكانهم ، قال : «ما لي ولهم يسألونني عمّا لا أعلم ، وإنّما أنا عبد لا أعلم شيئا إلّا ما علّمني ربّي ، أبغني وضوءا» ، فتوضّأ ، ثمّ دخل في مصلّى بيته ، فصلّى ركعتين ، فلم ينصرف حتى رأيت البشر في وجهه ، فقال : «اخرج إليهم ، فأذن لهم ، وانظر من كان بالباب من أصحابي ، فأدخله» ، فلمّا دخلوا قال : «إن شئتم أنبأتكم بالذي جئتم له ، وإن شئتم سألتموني فأخبركم» ، قالوا : بل أخبرنا لأيّ شيء جئنا؟ وعن أيّ شيء نسألك؟ قال : «جئتموني تسألونني عن ذي القرنين ، وكيف كان أوّل شأنه؟ فقال : وسأخبركم (٢) ما تجدونه في كتابكم إن شاء الله ، إنّه غلام من الروم ، فأتى ساحلا من سواحل مصر ، فبنى له مدينة ، يقال لها : الاسكندرية ، فلمّا فرغ من بنائه بعث الله إليه ملكا ، فرفعه إلى السماء ، فقال له : انظر ما ترى؟ فقال : أرى مدينتي قد اختلطت في المدائن ، قال : ثم رفعه (٣) ، فقال : انظر ما ترى؟ قال : أرى مدينتي وحدها ، ولا أرى غيرها ، قال : هذه التي ترى الدنيا ، والمدير بها البحر الأخضر ، قيل له : فاذهب فحدّث العالم ، وعلم الجاهل ، قد جعل الله لك سلطانا ، فانطلق حتى أتى مغرب الشمس ، وأتى مطلعها ، وأتى الدين ، وهو جبلان زلقان يزلّ عنهما كلّ شيء ، فبناهما ، ثمّ أتى يأجوج ومأجوج (٤) ، ثمّ جاوزهما ، فأتى على قوم قصار يقاتلون يأجوج ومأجوج ، ثمّ جاوزهم ، فوجد أمّة من الغرانيق (٥) يقاتلون القوم الذي وجوههم على وجوه الكلاب ، ثمّ جاوزهم ، فوجد أمّة من الحيّات ، الحيّة الواحدة تلتقم الصخرة العظيمة ، ثمّ جاوزها حتى انتهى إلى البحر المستدير بالدنيا. فقالوا : نشهد (٢٠٤ و) أنّا نجده هكذا. (٦)
__________________
(١) أبو حماد عقبة بن عامر بن عبس الجهني ، الإمام المقرئ ، صاحب رسول الله عليهالسلام ، توفي سنة ه. ينظر : الطبقات الكبرى ٤ / ٣٤٣ ، والاستيعاب ٣ / ١٠٧٣ ، وتكملة الإكمال ٢ / ٦٧٨.
(٢) أ : ما خبركم.
(٣) (فقال له : انظر ... ثم رفعه) ، ساقطة من ك.
(٤) (ثم جاوزهما ... يأجوج ومأجوج) ، ساقطة من ع.
(٥) الغرانيق جوع غرنوق وهو طائر أسود من طير الماء طويل العنق. لسان العرب ١٠ / ٢٨٧.
(٦) ينظر : دلائل النبوة للبيهقي ٦ / ٢٩٥ ـ ٢٩٦ ، والخصائص الكبرى ٢ / ١٠١.