وقيل : سمّاه روحا ؛ لأنه كان يحيي الموتى ، كما سمّى القرآن روحا من حيث إن فيه حياة الناس في أمر دينهم ، قال الله تعالى (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا)(١) فصرف أهل الزيغ قوله تعالى (وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) إلى مذاهبهم الفاسدة طلب الكفر والضّلال ، ولم يردّوا هذا اللفظ الذي اشتبه عليهم وشبّهوه على أنفسهم إلى الآية المحكمة ؛ وهو قوله عزوجل : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ)(٢) فعلى هذا يكون : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) أي ما يعلم تأويل جميع المتشابه حتى يستوعب علم المتشابهات إلّا الله.
واختلف أهل العلم في معنى هذه الآية ، فقال قوم (الواو) في قوله تعالى : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) ، واو العطف ، يعني أن تأويل المتشابه يعلمه الله ويعلمه الراسخون في العلم ، وهم مع علمهم : (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) (٧) ؛ والمعنى والثابتون في العلم يعلمون تأويل ما نصب الله لهم الدلالة عليه إلى المتشابه وبعلمهم يقولون : ربّنا آمنّا به (٣) ، فروي عن أبن عبّاس : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) يعلمونه قائلين : آمنّا به). ومنهم من جعل تمام الكلام عند قوله (إِلَّا اللهُ). وفي قراءة ابن مسعود آمنّا (يقول الرّاسخون في العلم آمنّا به) وهو مرويّ أيضا عن ابن عبّاس.
ولا يبعد أن يكون للقرآن تأويل ليستأثر الله بعلمه دون خلقه ؛ لأنّا لا نعلم مراد الله وحكمته في جميع أوامره ونواهيه ؛ غير أنه ألزمنا العمل بما أنزله ولم يطالبنا بما لا سبيل لنا إلى معرفته ، ولم يخف عنّا علم ما غاب عنّا ، مثل قيام الساعة وغير ذلك إلّا لما فيه من المصلحة لنا وما هو خير لنا في ديننا ودنيانا ، وما علّمناه فلم يعلّمناه إلّا لمصلحتنا ونفعنا فنعرف بصحّة جميع ما أنزل الله ؛ والتصديق بذلك كله ما علمنا منه وما لم نعلم.
__________________
(١) آل عمران / ٥٩.
(٢) أخرجه الطبري في جامع البيان : النص (٥٢٠٣ و٥٢٠٩) عن مجاهد.