وقد استشكل قوله بعد ذلك : (فَلا تَقْرَبُوها) ، لأن الأشياء التي ترجع إليها الإشارة في قوله : (تِلْكَ) بعضها مباح ، وبعضها محظور ، فكيف جمعها في قوله : (فَلا تَقْرَبُوها)؟
قيل في الجواب : المراد : لا تتعرّضوا لها بالتغيير ، وقيل في الجواب : إنّ من كان في طاعة الله وعمل بشرائعه فهو متصرّف في حيّز الحق ، فنهي عن أن يتعدّاه ، لأنّ من تعدّاه وقع في حيز الضلال ، ثم بولغ في ذلك. فنهي أن يقرب الحد الذي هو الحاجز بين حيز الحق وحيز الضلال ، لئلا يداني الباطل فيقع فيه ، فطلب منه أن يكون بعيدا عن الطرف ، فهو على حد قوله عليه الصلاة والسلام : «إنّ لكلّ ملك حمى ، وإنّ حمى الله محارمه ، فمن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه» (١).
(كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) أي مثل هذا البيان الشافي يبيّن الله آياته ويوضحها ؛ ليتقي الناس الوقوع في خلافها ، أو ليتقوا الله ؛ فيعملوا على حسب البيان الذي جاءهم.
قال الله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٨)).
الباطل : الزائل الذاهب ، والمراد منه غير وجه الحق.
المعنى : لا يأكل بعضكم أموال بعض بغير وجه مشروع.
وأكل المال بالباطل ينتظم وجهين :
أحدهما : أخذه على وجه الظلم ؛ والسرقة ؛ والغصب ، وما جرى مجراه. والآخر : أخذه من جهة محظورة كالقمار ؛ وأجر الغناء ، وسائر الوجوه التي حرّمها الشارع.
وقد انتظمت الآية تحريم كلّ هذه الوجوه ، وهي كلّها داخلة تحت قوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ).
وقد كرّر الله هذا النهي في مواضع من القرآن ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً) [النساء : ٢٩] ، وقال : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً) [النساء : ١٠] إلخ.
وليس المراد النهي عن خصوص الأكل ، لأنّ غير الأكل من التصرفات كالأكل في هذا ، ولكن لمّا كان المقصود الأعظم من المال هو الأكل ؛ ووقع التعارف فيمن ينفق ماله أنه أكله ، فمن ثمّ عبّر الله عنه بالأكل.
__________________
(١) سبق تخريجه.