(وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ) ، الإدلاء مأخوذ من أدلى الدلو إذا أرسلها في البئر للاستسقاء. قال الله تعالى : (فَأَدْلى دَلْوَهُ) [يوسف : ١٩] ثمّ جعل كلّ إلقاء قول أو فعل إدلاء. ومنه قيل للمحتج أدلى بحجته ، كأنّه أرسلها ليحصل على مطلوبه ، كمن ألقى دلوه في البئر.
والذي هنا من هذا المعنى ، كأنه قيل : ولا تلقوا بالأموال إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون. وهو يشمل وجهين :
تقديم الأموال رشوة للحكام ، ليقضوا لهم بأكل أموال الناس بالإثم ، ورفع القضايا للحاكم ارتكانا على الحجة الداحضة ، وذرابة اللسان ، وشهادة الزور ، وما شاكل ذلك من وجوه الباطل ، وكل ذلك محرم بالآية الكريمة. فإنها تقضي بتحريم كل ما يرفع إلى الحاكم فيحكم به في الظاهر ليحلها ، مع علم المحكوم له أنه غير مستحق له.
وفي المعنى الثاني ـ وهو رفع الأموال للحاكم ليقضي فيها ارتكانا على الحجة الداحضة ـ جاء في الحديث الذي روي عن أم سلمة رضي الله عنها قالت : «كنت عند رسول الله صلىاللهعليهوسلم فجاء رجلان يختصمان في مواريث وأشياء قد درست». فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إنّما أقضي بينكما برأيي فيما لم ينزل عليّ فيه ، فمن قضيت له بحجة أراها فاقتطع بها قطعة ظلما ، فإنما يقتطع قطعة من النار ..» (١) وجاء في معنى هذا الحديث الآخر «إنّما أنا بشر ، وإنّكم تختصمون إليّ ، ولعلّ أحدكم يكون ألحن بحجّته ..» (٢) الحديث.
وقد اتفقت الأئمة على هذا الحكم فيمن ادّعى حقا في يد رجل ؛ وأقام بيّنة ؛ فقضي له بها ، حيث قالوا : إنه لا يجوز له أخذه ، وإنّ حكم الحاكم لا يبيح له ما كان قبل محظورا عليه.
واختلفوا في حكم الحاكم بعقد ؛ أو فسخ عقد ، بشهادة شهود إذا علم المحكوم له أنهم شهود زور. فقال أبو حنيفة : إذا حكم الحاكم ببينة بعقد ، أو فسخ عقد مما يصح أن يبتدأ ، فهو نافذ ، ويكون كعقد عقداه ابتداء بينهما ، وإن كان الشهود شهود زور.
وقال أبو يوسف ، ومحمد ، والشافعي ، وغيرهم : ينفذ الحكم ظاهرا ، ولا ينفذ باطنا ، على معنى أنّ حكم الحاكم يمضي ظاهرا ، ولا يسع من يعلم بطلانه أن يعمل به ، وقال أبو يوسف : إذا قضى الحاكم بفرقة على هذا الوجه بين الزوجين لم يحل
__________________
(١) رواه أبو داود في السنن (٣ / ٢٩٢) ، كتاب الأقضية ، باب في قضاء القاضي حديث رقم (٣٥٨٣).
(٢) رواه البخاري في الصحيح (٣ / ٢١٦) ، ٥٢ ـ كتاب الشهادات ، ٢٧ ـ باب من أقام البينة حديث رقم (٢٦٨٠) ومسلم في الصحيح (٣ / ١٣٣٧) ، ٣٠ ـ كتاب الأقضية ، ٣ ـ باب الحكم بالظاهر حديث رقم (٤ / ١٧١٣) ،